بلاد سورية في القرن الثاني عشر وفقًا لرواية ابن جبير
تعريف رحلة ابن جبير
ولا نتعقب آثار المؤلف في كل رحلته بل نكتفي بما كتبه عن سورية التي عليها مدار كلامنا، ووصفه لها يشغل في الكتاب نحو٧٠ صفحة، ونحن نقصر درسنا على هذا القسم فقط، فنبين خواصه وفرائده، وقد صرفنا إليه نظرنا بعد المقدسي؛ لأن بين الكاتبين بونًا عظيمًا في كلامهما عن سورية، لا يكاد يجمعهما غير وحدة الموضوع، وكان الأول كما سبق القول وطنيًّا، وكان ابن جبير أجنبيًّا غريبًا، كتب المقدسي بصفة جغرافي مدقق، أما ابن جبير فإنه يكتب كتابة الرحالة الذي يدون كل يوم ملحوظاته في محفظته، كما أثَّرت فيه وعملت في قلبه، وقد اختلف أيضًا الكاتبان في أسلوبهما وغايتهما؛ ولذلك تجد تعريفهما لبلاد الشام متباينًا وبينهما نحو القرنين، فإن المقدسي يقصد قَبل كلٍّ من كتابته الإفادةَ والتعليمَ، أما ابن جبير فإنه يتوخى من كتابته بهجة القراء وترويح ألبابهم، وكذلك تجد الأول كثير التدقيق محبًّا للضبط والإيجاز، على خلاف الثاني الذي يطلق العنان إلى قلمه فلا يحصر نفسه في قالب أو يقضي عليها بخطة معلومة، فتراه يمزج تفاصيل رحلته بما يعاينه ويسمعه، وربما أدمج وصفة بالأخبار والماجريات التي جرت إبان رحلته أو نقلها عن الرواة، كما فعل بذكر صلاح الدين (ص٣٠٠-٣٠١)، فإنه يروي عنه أمورًا بلغته عن ذلك الملك العظيم الذي كان يحاصر حينئذ حصن الأكراد.
وكلا الكاتبين يدَّعي مع ذلك أنه لا يروي غير ما شهده بالعيان على أن المقدسي يشمل في وصفه كل أنحاء سورية، بينما يقتصر ابن جبير على ذكر الأمكنة التي احتلها في سفرته، وإن كانت تلك الأمكنة ليست قليلة؛ لأن الرحالة تفقد معظم مدن سورية الشهيرة في زمانه، اللهم إلا جهات فلسطين، وربما زاد في أوصافه لمدن الشام أمورًا وفوائد جغرافية فاتت المقدسي، أو ضرب عنها صفحًا.
ومما نبهنا إليه الخواطر في كتاب المقدسي فانتقدناه عليه استعماله أحيانًا للسجع في أوصافه، لكن المقدسي في ذلك لا يتجاوز حدود كَتَبَة زمانه، ولا يبالغ كثيرًا، أما ابن جبير فإن السجع يغلب على إنشاءه فيواصله في صفحات متتالية، ومن المعلوم أن السجع يؤدي بصاحبه إلى حشو الكلام، وإلى استعمال الغريب وإلى التصنع، فيبتعد الكاتب عن طرائق الكتابة الساذجة المألوفة، ويبدلها بالمعاني المستغلقة والتعابير المستبهمة، وكان السجع قليلًا في عهد الجاهلية وفي قرون الإسلام الأولى، ثم تكاثر بانحطاط فنون الكتابة، وما نقوله بالإجمال يصح في سجع ابن جبير، ألا ترى مثلًا كيف وصف مدينة حلب بما يُشَنِّف إذن السامع دون أن يجديه نفعًا كبيرًا في معرفتها، قال (ص٢٥٠): «بلدة قدرها خطير، وذكرها في كل زمان يطير، خطا بها من ملوك كثير، ومحلها من النفوس أثير، فكم هاجت من كفاح، وسلَّت عليها من بيض الصِّفَاح، لها قلعة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، معدومة الشبه والنظير في القلاع، تنزهت حصانة أن تُرام أو تُسطاع، قاعدة كبيرة، ومائدة من الأرض مستديرة.»
إلى آخر ما هناك من الكلام المسجَّع (اطلب نخب المُلَح ٣: ٩٠) الذي ليس تحته كبير أمر. ومثله في وصف بساتين دمشق (ص٢٦٠): «ظل ظليل، وماء سلسبيل، تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل، ورياض يحيى النفس نسيمها العليل، تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل، وتناديهم: هلموا إلى معرَّس للحُسن ومَقيل، قد سئمت أرضها كثرة الماء، حتى اشتاقت إلى الظماء. فتكاد تناديك الصُّمُّ الصِّلاب: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، قد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر.»
ومما يستحبه القارئ في مطالعة رحلة ابن جبير، كما في أخبار الأسفار عمومًا، أن كاتبها يشير إلى خواطر نفسه، ويترجم عن أحواله الشخصية وشواعره لدى معاينته الآثار والبلاد، فمثال ذلك أنه إذا رأى بلدًا في الشام تذكَّر نظيرَه في الأندلس، وقاس ذاك بهذا لما يجد فيهما من الشبه، كما فعل بحمص التي ذكَّرته إشبيلية، قال (٢٥٨): «وتجد في هذه البلدة عند إطلالك عليها من بُعد في بسيطها ومنظرها وهيئة موضوعها بعض شبه بمدينة إشبيلية من بلاد الأندلس يقع للحين في نفسك خياله، وبهذا الاسم سُميت في القديم، وهي العلة التي أوجبت نزول الأعراب أهل حمص فيها حسبما يُذكر، وهذا التشبيه وإن لم يكن بذاته فإنه لمحة من إحدى جهاته.»
هذا وإن في إنشاء ابن جبير تعابير وألفاظًا تفرَّد بها تُشعر بأصله المغربي، وفي النصوص التي نثبتها عنه دليل على ذلك.
ومما أفادنا ابن جبير تعريفه لأحوال أهل الشام ووصفه لعاداتهم كما لحظها في تجوله بينهم، فدون ملحوظاته فيها، وبما أنه كان غريبًا تجده يتسع في بيان أمور لا ينصرف إليه نظر أهلها، ولولاه لجهلناها تمامًا، فمن ذلك عدة أشياء ذكرها في دمشق قد أخنى عليها الزمان منذ زمن طويل كالبنكام الذي رآه هناك (ص٢٦٩-٢٧٠)، وكقبَّة النسر التي وصف خصائصها (ص٢٩٣) واستغرب حجارتها فقال: «وفي الجدار حجارة كل واحد منها يزن قناطير مقنطرة، ولا تنقلها الفيلة فضلًا عن غيرها، فالعجب كل العجب من تطليعها إلى ذلك الموضع المفرط السموِّ، وكيف تمكنت القدرة البشرية، فسبحان من ألهم عباده إلى هذه الصنائع العجيبة، ومعينهم على التأتي لما ليس موجودًا في طبائعهم البشرية، ومظهر آياته على يد من يشاء.»
سورية وابن جبير
رأيت في الفصل السابق الطريقة التي توخاها ابن جبير في تسطير رحلته وما ضمنها من الفوائد، فبقي علينا أن نرافقه في سياحته في بلاد الشام، فنلتقط بصحبته بعض المعلومات عن سورية في مختتم القرن الثاني عشر، ولا غرو، فإن دليلنا فَكِهُ النفس متوقِّد الذهن، فيُبهج رفقته ويفيدهم معًا.
بعد أن اجتاز ابن جبير بلاد الجزيرة قطع الفرات، فكان أول ما لقيه في وجهه من بلاد الشام منبج، فأحس السائح بجواد قلمه يركض، فاسترسل في وصفها بالسجع كمألوف عادته (ص٢٤٨)، ولم يذكر من خواصِّها إلا النزر القليل مما لا يُشفى به العليل ولا يُروي الغليل، ثم سار من منبج إلى حلب فوصفها وصفًا طويلًا، روينا شيئًا من ألفاظه المبهرجة، وألحق هذا الوصف باشتقاق اسم حلب فقال (ص٢٥١): «كانت قديمًا في الزمان الأول ربوة يأوي إليها إبراهيم الخليل بغُنَيْمات له فيحلبها هنالك ويتصدق بلبنها، فلذلك سُمِّيت حلب، والله أعلم.»
وهذا الاشتقاق في الغرابة بمكان، ذكره ياقوت في معجم البلدان (٢ : ٣٠٤) مرتابًا في صحته، وقد زاد عليه ابن بطوطة ما هو أغرب، فجعل بدلًا من الغنم بقرة شهباء قال: فكان إذا حلبها إبراهيم قيل: «حلبَ إبراهيمُ الشهباءَ»، وليس في كل هذه الاشتقاقات كما ترى ذرة من الصحة، وإنما هي مشابهات لفظية لا طائل تحتها، ومثلها إشارة ابن جبير إلى اشتقاق اسم حماة من حمى يحمي (ص٢٥٥).
ومن ملحوظات ابن جبير في مسيره من حلب إلى دمشق (ص٢٥٤) أن «خانات هذا الطريق كأنها القلاع امتناعًا وحصانة، وأبوابها حديد وهي من الوثاقة في الغاية»، وكفى بهذا دليلًا ناطقًا على أحوال بلاد الشام في عهده، وقد كرر الرحالة مثل هذا القول غير مرة؛ اطلب مثلًا قوله في خان السلطان (ص٢٥٩).
وأضاف إلى قوله ما يؤيد قول المقدسي في العبَّاد المنقطعين إلى الله في لبنان فقال: «وقلَّما يخلو من التبتيل والزهادة.»
ثم مر ابن جبير في رستن (ص٢٥٧)، فأشار إلى آثارها العظيمة، وتخريبها على يد عمر بن الخطاب، ثم قال: «ويذكر القسطنطينيون أن بها أموالًا مكنوزة، والله أعلم.» وقوله هذا صدًى لمزاعم العامة في كل زمان عن المطالب والدفائن المكنوزة في الأخربة القديمة، وهو شائع في أنحاء سورية إلى عهدنا هذا، وربما صدقة الجهال فأخربوا بسببه عدة آثار جليلة حطموها طمعًا فيما تحتها من الكنوز المرصودة على زعمهم.
ثم واصل المسافر سيره من حمص إلى دمشق، وكانت الطريق بينهما قليلة العمران كما في أيامنا، اللهم إلا ثلاثًا أو أربع قرى التي أحتلها كقارة التي لم يجد فيها غير النصارى (ص٢٥٩) والنبك، وبعد اجتيازه في خان السلطان، فثنية العُقاب، فقُصير دخل الفيحاء، فأطلق العنان لقلمه في وصفها، وقد أتسع في ذكر محاسنها وأطنب أيَّ أطناب، ولولا مبالغته في السجع لقلنا إن كلامه من أوفى ما جاء في بيان صفاتها، لا نستثني من ذلك إلا بعض الكتب الخاصة التي وُضعت في فضائل دمشق، ودونك ما روى عن بعض أبنيتها، قال (ص٢٨٣): «وبهذه البلدة نحو عشرين مدرسة وبها مارستانان، قديم وحديث، والحديث أحفلهما وأكبرهما، وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر دينارًا، وله قَوَمَةٌ بأيديهم الأزِمَّة المحتوية على أسماء المرضى، والنفقات التي يحتاجون إليها في الأدوية والأغذية وغير ذلك، والأطباء يبكِّرون إليه في كل يوم ويتفقدون المرضى، ويأمرون بإعداد ما يُصلحهم من الأدوية والأغذية حسبما يليق بكل إنسان منهم، والمارستان الآخر على هذا الاسم، لكن الاحتفال في الجديد أكثر، وهذا القديم هو غربي الجامع المكرَّم، وللمجانين المعتقلين أيضًا ضرب من العلاج، وهم في سلاسل موثقون نعوذ بالله من المحنة وسوء القدر.»
وفي كتاب زبدة كشف الممالك (ص٦٥) ما يشبه هذا الوصف في مارستانات دمشق.
ومما يجدر بنا ذكره الميقاتة، أي الساعة الدقَّاقة، التي كانت على باب جيرون، أثبت المشرق سابقًا (٣ : ٩٨٥) كلامه فيها، وهي من عجائب ذلك الزمان.
ولولا ضيق المكان لأثبتنا شيئًا مما ذكره ابن جبير عن الجامع الكبير، الذي اتسع في وصف أرخامه الملونة وبلاطه المذهب المنقوش بالفصوص البديعة، وكانت الفسيفساء تزين جدرانه الخارجة، المتصلة بصحنه (ص٢٦٨)، فكانت أشعة الشمس تصيبها وتنعكس إلى كل لون منها، فيأخذ منظره بالأبصار.
ومما يزيد به انذهال القارئ وصف ابن جبير لمساجد أخرى عجيبة البنيان، بديعة النقوش والأرخام، وجدها في قرى الغوطة فأفاض في محاسنها.
ولابن جبير كلام حسن في وصف صور، نثبته هنا ليتمكن القارئ من المقابلة بينه وبين وصف المقدسي (راجع الصفحة ٦٩٠)، قال (ص٣٠٤): «أما حصانتها ومنعتها فأعجب ما يُحدَّث به، وذلك إنها راجعة إلى بابين: أحدهما في البر والآخر في البحر، وهو يحيط بها إلا من جهة واحدة، فالذي في البر يفضي إليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة، كلها في ستائر مشيدة محيطة بالباب، وأما الذي في البحر فهو مدخل بين برجين مشيدين إلى ميناء ليس في البلاد البحرية أعجب وضعًا منها، يحيط بها سور المدينة من ثلاثة جوانب، ويحدق بها من الجانب الآخر جدار معقود بالجص، فالسفن تدخل تحت السور وترسي فيها، وتعترض بين البرجين المذكورين سلسلة عظيمة تمنع عند اعتراضها الداخل والخارج، فلا مجال للمراكب إلا عند إزالتها، وعلى ذلك حُرَّاس وأُمَناء، لا يدخل الداخل ولا يخرج الخارج إلا على أعينهم، فشأن هذه الميناء شأن عجيب في حُسن الوقع، ولعكا مثلها في الوضع والصفة، لكنها لا تحمل السفن الكبار حمل تلك وإنما ترسي خارجها، والمراكب الصغار تدخل إليها، فالصورية أكبر وأجمل وأحفل.»
وكانت حياة الركاب على تلك السفن الكبيرة ذات حركة وتقلبات كأنها المدن الصغرى، تمثل كل أطوار المعيشة اليومية، ومما أثبته ابن جبير في رحلته وصف عيد أقامه النصارى على ظهر السفينة بأبهة عظيمة ورونق عجيب، قال (ص٣١٣): «وفي ليلة الخميس الرابع والعشرين لرجب — وهو أول يوم من نونير (كذا) العجمي — كان للنصارى عيد مذكور عندهم احتفلوا له في إسراج الشمع، وكاد لا يخلو أحد منهم — صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى — من شمعة في يده، وتقدم قسيسوهم للصلاة في المركب بهم، ثم قاموا واحدًا واحدًا لوعظهم وتذكيرهم بشرائع دينهم، والمركب يزهر كله أعلاه وأسفله سرجًا متقدة، وتمادينا على تلك الحالة أكثر تلك الليلة.»
وكان المركب في تلك الأثناء ابتعد عن سواحل الشام، واقترب من جزيرة صقلية، فلا حاجة أن نتعقب آثار سائحنا بعد ذلك، وإنما ندون هنا بعض الملحوظات العمومية التي تستفاد من رحلة ابن جبير بخصوص الشام، ومن أقواله ما يفيد ويروِّح الألباب معًا.
فمن ذلك أنه يستعمل أسماء الشهور القمرية والرومية معًا، كما رأيت في النص الأخير، ومنها ما لحظه في أهل الشام من المبالغة في اتخاذ الألقاب، والتعظيم في السلام بما لا أثر له اليوم، قال (ص٢٨٨): «ومخاطبة أهل هذه الجهات قاطبة بعضهم لبعض بالتمويل والتسويد، وبامتثال الخدمة وتعظيم الحضرة، وإذا لقي أحد منهم آخر مسلِّمًا يقول جاء المملوك أو الخادم برسم الخدمة، كناية عن السلام، فيتعاطون المحال تعاطيًا، والجد عندهم عنقاء مغرب، وصفة سلامهم إيماء للركوع أو السجود، فترى الأعناق تتلاعب بين رفع وخفض وبسط وقبض، وربما طالت بهم الحالة في ذلك فواحد ينحطُّ وآخر يقوم، وعمائمهم تهوي بينهم هويًّا، وهذه الحالة في الانعطاف الركوعي في السلام كنا عهدناه لِقَيْنَات النساء، فيا للعجب منهم إذا تعاملوا بهذه المعاملة، وانتهوا إلى هذه الغاية في الألفاظ بينهم! فبماذا يخاطبون سلاطينهم ويعاملونهم؟ لقد تساوت الأذناب عندهم والرءوس، ولم يُميز لديهم الرئيس والمرءوس …»
وقد أثنى في محل آخر على احتفاء أهل الشام بالضيوف، وحسن معاملتهم للغريب، فقال (ص٢٧٨): «فالغريب المحتاج هنا إذا كان على طريقة مصون محفوظ غير مُرِيق ماء الوجه، وسائر الغرباء ممن ليس على هذه الحال ممن عهد الخدمة والمهنة، يُسبَّب له أيضًا أسباب غريبة من الخدمة، إما بستان يكون ناطورًا فيه، أو حمام يكون عينًا على خدمته وحافظًا لأثواب داخلية، أو طاحونة يكون أمينًا عليها، أو كفالة صبيان يؤديهم إلى محاضرهم ويصرفهم إلى منازلهم، إلى غير ذلك من الوجوه الواسعة.»
ومن ثم يدعو أهل وطنه ليأتوا بلاد الشام؛ لينتجعوا خيراتها العميمة، قال (٢٨٥): «فمن شاء الفلاح من نَشَأَة مغربنا فليرحل إلى هذه البلاد، ويتغرب في طلب العلم فيجد الأمور المعِينات كثيرة، فأولها: فراغ البال من أمر المعيشة، وهو أكبر الأعوان وأهمها، فإذا كانت الهمة فقد وُجد السبيل إلى الاجتهاد، ولا عذر للمقصر إلا مَن يدين بالعجز والتسويف؛ فهذا المشرق بابه مفتوح لذلك، فادخل أيها المجتهد بسلام، وتغنَّم الفراغ والانفراد قبل علق الأهل والأولاد، ويقرع سن الندم على زمن التضييع، والله يوفق ويرشد، لا إله سواه … ولو لم يكن بهذه الجهات المشرقية كلها إلا مبادرة أهلها لإكرام الغرباء وإيثار الفقراء، ولا سيما أهل باديتها، فإنك تجد من بِدارٍ إلى بِرِّ الضيف عجبًا، كفى بذلك شرفًا لها، وربما يعرض أحدهم كِسرته على فقير فيتوقف عن قبولها، فيبكي الرجل ويقول: لو علم الله فيَّ خيرًا لأكل الفقير طعامي، لهم في ذلك سر شريف.»
وفي كل هذه الأقوال ما يدل على اعتبار ابن جبير لأهل الشام وارتياحه لسجاياهم الطيبة.
•••
وقد أبدى المسيو «دي غوي» أسفه على عدم حصوله على نسخة ثانية من الرحلة، أشار إليها المسيو سكيابارلي، وذكر وجودها في مراكش، والحق يُقال: إن هذه الرحلة لا يُعرف لها حتى الآن نسخة فريدة، فلو أمكنت مقابلتها على نسخة ثانية لاستُطِيع تحسينُها وزيادة ضبطها، وعلى كل حال نهنئ الدكتور دي غوي ونشكره على هذه الخدمة الجديدة التي ألحقها بخِدَمِه السابقة للآداب العربية، لا سيما للآثار الجغرافية، جازاه الله ألف خير، ونفع به أهل وطننا الذين يجدون في مطبوعاته معلومات لا تحصى عن بلاد الشام في غابر الأعصار.