عبادة بن الناطق
كان عبادة في نظر البعض متسولًا، وفي نظر البعض الآخر معتوهًا!
فهو متسول لا يسأل الناس ولكنَّه لا يرفض ما يُقدَّم إليه، وكان مجنونًا، ولكن جنونه كان من هذا النوع الهادئ الذي يلمع ويتوهَّج لحظات قليلة، ثمَّ لا يلبث أن يعود عبادة إلى وعيه وكأنَّه لم يكن منذ لحظات يجدف أو يخطرف أو يهذي بكلمات لا يفهمها إلَّا قلة قليلة من الذين كانوا يعرفون عبادة عن قرب!
أمَّا أصل عبادة وفصله فلا أحد يعرف عنهما شيئًا كثيرًا، لا أحد يعرف؛ لأنَّه لا أحد اهتم، فهو في تلك الأيام المبكرة من حقبة الأربعينيات لم يكن في مصر من يشغل باله بأمر العقلاء، فما بالك بأمر المجانين؟! كما أنَّ عبادة كان له شبيه في كل قرية مصرية تقريبًا، وأكثر من شبيه في كل حي من أحياء القاهرة، والذين اعتادوا الجلوس على مقهى محمد عبد الله في الجيزة في تلك السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأخيرة وصاحبتها فوجئوا بوجود عبادة في المقهى ثمَّ اعتادوا على رؤيته فيها حتَّى صار جزءًا لا يتجزأ منها، شأنه شأن المقاعد والمناضد والجدران، ولم يكن عبادة عاملًا في المقهى بمعنى كلمة العامل كما نفهمها هذه الأيام؛ ولكنَّه مجرد صعلوك ينام في المقهى فقط ويحتمي به، ولم يكن يرتدي ملابس ولكن هرابيد تكشف عن جسده أكثر مِمَّا تُخفي، وكانت رائحته كريهة ونفاذة وتفوح من بعيد، والأكيد أنَّ الماء لم يلمس جسمه منذ أن غادر قريته في أقاصي الصعيد، ولم يكن يأكل كما يأكل «البني آدمين» فلم أرَه في حياتي جالسًا يأكل؛ ولكنَّه كان يتناول وجبته وهو يذرع الرصيف أمام المقهى جيئةً وذهابًا في خطوات عسكرية أشبه بمشية الإوزة الألمانية الشهيرة، وكان يتوقَّف أحيانًا ليُلقي — وفمه محشو بالطعام — كلمات صارخة وغامضة وغالبًا بلا معنى، ثمَّ يستأنف خطوة الإوزة والأكل من جديد، وكان يُدخِّن بلذة؛ ولكنَّه لم يكن يُدخِّن أكثر من خمس سجائر في اليوم، ربما لضيق ذات اليد، وربما لحكمة نجهلها نحن العقلاء ويدركها ذلك المعتوه.
كان أنور المعداوي أكثر زبائن قهوة محمد عبد الله اهتمامًا واحتفالًا بعبادة، وكان يعتقد اعتقادًا لا شك فيه أنَّ وراء عبادة سرًّا. وكان يستدعيه أحيانًا — خصوصًا ساعة العصاري — ويسأله أنور المعداوي عدة أسئلة عن الأحوال الخاصة والعامة على حد سواء، وكان عبادة يستمع ويضحك ثمَّ يفر هاربًا ويختفي لحظات، ثمَّ يعود ليظهر في مشيته العسكرية المعهودة ووجهه نحو السماء ويصرخ بكلام، وكان أنور المعداوي ينصت إليه باهتمام مؤمنًا بأنَّ ما نطق به عبادة له علاقة بالأسئلة التي طرحها عليه. وعندما اشتدت الحرب العالمية ارتدى عبادة غطاء رأس لمارشال إنجليزي. وكان كلما رأى وهو على رصيف المقهى جنديًّا من جنود الحلفاء تحرَّش به، وكلما مضت سيارة عسكرية من الميدان بصق عليها عبادة في زهو واستعلاء. ولم يشعر عبادة بأزمات الحرب العالمية، لم يشعر بأزمة التموين، ولم يشعر بأزمة السجائر، ولم يشعر بأزمة الدقيق، فقد كان بحالة من انعدام الوزن والرغبة والحاجة.
ولكن عندما انتصر الإنجليز على الألمان في معركة العلمين نزع عبادة غطاء رأسه المارشالي وراح يُردِّد شعارًا واحدًا لا غير «سعد باشا قال: مفيش فايدة»، وظلَّ يُردِّد هذا الشعار سنوات طويلة ولم يتخلَّ عنه إلَّا عندما قامت حرب فلسطين في عام ١٩٤٨م. فجأة انتاب عبادة نشاط لم نعهده فيه من قبل، واشترى نموذج بندقية خشبية راح يحملها على كتفه وهو يخطو خطوة الإوزة على رصيف المقهى، وكانت معسكرات التطوع أمام الشباب الراغبين في الاشتراك في حرب فلسطين قد بدأت العمل على قدم وساق! وبدأت تظهر طوابير المتطوعين عقب صلاة الفجر تجتاز شوارع الجيزة مرددين شعارات الله أكبر ولله الحمد، الذي أصبح شعار عبادة هو الآخر. وعندما انتهت الحرب بهزيمة الجيوش العربية ألقى عبادة سلاحه هو الآخر وعاد إلى شعاره القديم «سعد باشا قال: مفيش فايدة». ولكن بمرور الوقت تطوَّر جنون عبادة، فأصبح من النوع الخطير؛ فقد كان يصرخ بشدة وينتابه هياج أشد، ولم يحفل أحد بأفعال عبادة باعتباره مجنونًا وفاقد الأهلية وعديم التربية والأصل!
المهم أنَّ عبادة كان أول من أيَّد ثورة ٢٣ يوليو بحماس، وارتكب من أجل ذلك عملًا كلَّفه عدة كفوف هوت على صدغيه من يد المعلم عبد الله الذي كان أقرب إلى الوحش منه إلى «البني آدمين»؛ ولكن هذه الكفوف الساخنة لم تمنع عبادة من القيام بعمل آخر لتأييد ثورة ٢٣ يوليو؛ ولكنَّه تكلف في المرة الثانية عدة أسنان سقطت من فمه. وأصل الحكاية أنَّ عبادة كان يقوم بتنظيف المقهى وترتيب المقاعد والطاولات في الصباح الباكر، وكان يفتح الراديو ليستمع إلى القرآن الكريم وهو يؤدي عمله المرهق، هكذا تعوَّد منذ أن وُجِد بالمقهى وإلى آخر يوم في حياته؛ ولكن في ذلك الصباح من يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢م استمع عبادة بعد القرآن مباشرة إلى بيان يُذيع أخبار حركة قام بها عدد من ضباط الجيش، وهو البيان الأول الذي أذاعته ثورة يوليو، وهو غير البيان الذي أذاعه أنور السادات في الساعة التاسعة صباحًا. استمع عبادة إلى البيان الأول الذي لم يكن مفهومًا بدرجة كافية، ولم يكن صريحًا إلى الدرجة التي تكشف عن وجود ثورة في البلاد، ثمَّ انقطع الإرسال فجأة؛ ولكن يبدو أنَّ عبادة وحده هو الذي فهم الرسالة؛ فقد ترك عمله على الفور واختطف صورة «فاروق» المعلقة على الجدار وحطَّمها، وراح في مشيته العسكرية المعهودة على الرصيف يسب ويلعن بصوت صارخ في هذا الوقت المبكر من الصباح فاجتمع حوله بعض المارة، وجذبت الضجة بعض عساكر الشرطة، واكتشف أحدهم أنَّ صورة «فاروق» ممزقة وإطارها مُحطَّم، فنظر إليها وإلى عبادة في بلاهة ظنًّا منه أنَّها نوبة من نوبات جنونه؛ ولكن الضجة أيقظت المعلم عبد الله صاحب المقهى من نومه، وعندما اكتشف ما جرى انتابه غضب شديد وهوى بعنف وبضراوة على وجه عبادة حتى أسال الدم من أنفه، والغريب أنَّ عسكري الشرطة تدخل لحماية عبادة من غضب المعلم عبد الله. لم يكن المعلم عبد الله يعلم شيئًا مِمَّا حدث ولا عسكري الشرطة أيضًا! وربما لم يكن أحد آخر من الذين توافدوا على الضجة يعلم شيئًا، المهم أنَّ الضجة انتهت والناس تفرقت، وجلس عبادة على الأرض يمسح دمه ويشرب كوبًا من الشاي وينظر إلى الميدان في بلاهة وفي هدوء، ولم يستمع إلى نداءات المعلم عبد الله ولم يهتم بها، فقد أعلن الإضراب عن العمل! وعندما أُذيع بيان الثورة الثاني الذي أذاعه أنور السادات هاج الناس في الشوارع فرحًا فترة قصيرة، ثمَّ لزموا الصمت؛ لأنَّ البيان حذَّر من القيام بأي أعمال شغب وهدَّد المتظاهرين بأنَّهم سيلقون مصير الخائن؛ ولذلك خيَّم الصمت على الشوارع والتزم الناس الهدوء واكتفوا باختلاس النظرات إلى سيارات الجيش وهي تجوب الشوارع وقد صوَّب الجنود بنادقهم إلى صدور المارة.
الوحيد الذي لم يلتزم ببيان الثورة هو عبادة؛ ما إن شاهد سيارة جيش تعبر الميدان حتَّى هجم عليها كالوحش وفي نيته أن يحتضن كل أفراد القوة فردًا فردًا، وأن يطبع القبلات على وجناتهم وعلى أيديهم أيضًا! ولكن عساكر الجيش لم يدركوا القصد من هجوم عبادة على السيارة، اعتقدوا أنَّه ربما كان عدوًّا من أعداء الثورة، وربما عميلًا من العملاء، وربما جاسوسًا لجهة أجنبية، فانهالوا عليه ضربًا بكعوب البنادق حتَّى سقطت عدة أسنان من فمه وسقط عبادة مُغمًى عليه، وعندما علم قائد السيارة أنَّ الرجل معتوه استقل السيارة مع جنوده ومضى.
وهكذا دخل عبادة التاريخ كأول مؤيِّد لثورة ٢٣ يوليو وأول ضحاياها. وتألَّق عبادة في بداية الثورة، وعندما انعقدت محكمة الثورة التي حاكمت زعماء الأحزاب كان يهتف بميدان الجيزة بكلمة واحدة هي «إعدام»، ولكن يبدو أنَّ ثورة يوليو لم تستمع إلى صرخات عبادة، ولذلك فتر حماسه بها وراح يُهاجمها بين الحين والآخر بالصرخات كل مساء وهو يذرع رصيف ميدان الجيزة في مشيته العسكرية الخطيرة! وكان صوته مزعجًا إلى الحد الذي يجذب انتباه الناس، وعندما صار أكثر إزعاجًا جذب انتباه المباحث فضربوه علقة في قسم الجيزة ليكف عن ترديد الشعار … ولكن عبادة لم يكف ولم يتوقَّف وظلَّ يُردِّد الشعار حتَّى حدث العدوان الثلاثي على مصر، وانتابت عبادة حالة من الجنون استغرقت وقته كله وأهمل عمله بالمقهى؛ ارتدى عبادة صحنًا على رأسه كأنَّه خوذة من التي يستعملها الجنود في الحرب، وحصل على نموذج خشبي لبندقية، وراح يتدرَّب نهاره كله على إطلاق النار، وكان كلما نهاه أحد عن الصراخ ازداد صراخًا، وكان يبكي أحيانا عقب نوبة الصراخ، وأحيانًا أخرى كان يضحك ضحكًا هستيريًّا! وفي المساء عندما يخلو الميدان من الحركة وتتوقَّف مركبات الترام ويهدأ كل شيء وينام، كان عبادة يتوسَّط الميدان مُلقيًا بأوامره إلى الفيالق الوهمية التي يقودها للتحرك في المعركة حسب الخطة المرسومة. وعندما انتصرت مصر والعرب في معركة بورسعيد خلع عبادة ملابسه ووقف يصرخ في الميدان شديد الابتهاج حتَّى أغُمِيَ عليه.
وعاد عبادة أيام الوحدة ليُغني مع الوحدة أحيانًا، ويُغني ضدها أحيانًا! واختلَّ عقله أكثر فأصبح يضحك ويبكي في وقت واحد. وساءت أحواله أكثر فاتسخت ملابسه أكثر، وطالت لحيته وشعر رأسه، وصار منظره أشبه بمنظر قيس الذي كان يجوب البراري، وكان زكريا الحجاوي يُداعبه أحيانًا فيسأله أسئلة في السياسة، والغريب أنَّه كان يُجيب على زكريا إجابات يقصر عنها بعض أدعياء الأدب والثقافة. وشاخ عبادة وطعن في السن، ولكن عيناه ظلتا تحملان نفس البريق الوهاج النفَّاذ القلق المشع الذي هو مزيج من الجنون والذكاء. وكانت لديه حاسة شديدة يتشمَّم بها رائحة المواهب الحقيقية، ويحتقر المنافقين والأدعياء، كان ينفر بشدة من مخرج إذاعي، فإذا جاء إلى ركن أنور المعداوي انصرف عبادة بعيدًا عن هذا الركن إلى ركن آخر! ويظل بعيدًا لا يقترب من ركن أنور المعداوي إلَّا إذا انصرف المخرج الإذاعي إيَّاه. وكان يُبدي رأيه في أحد المُدَّعين الذي كان يعتنق الفرعونية مذهبًا، وكان الأخ المُدَّعي إيَّاه عالي الصوت دائمًا، غريب المصطلحات والألفاظ أيضًا، غريب النظريات كذلك، وكان يزعم بأنَّ الهرم الأكبر مُقام في نقطة في منتصف الأرض تمامًا، وكان يزعم أيضًا أنَّه إذا دُمِّر الهرم الأكبر، فإنَّ الكرة الأرضية ستُدمَّر عن آخرها لا محالة!
وكان عبادة يحضر إلى ركن أنور المعداوي كلما جاء الأخ إيَّاه، ويظل عبادة يضحك بينما الأخ إيَّاه يتحدَّث، وربما لم يكن أحد من الجالسين يلحظ العلاقة بين ضحك عبادة وحديث الأستاذ إيَّاه إلَّا أنور المعداوي وزكريا الحجاوي. وكان عبادة يأنس إلى نعمان عاشور ويُحب مجلسه، وكان نعمان يتحدث إليه أحيانًا وكأنَّه — أي عبادة — هو رائد المسرح المصري الحديث والقديم أيضًا. وكان يعشق زكريا الحجاوي، وعبد القادر القط، ومحمود شعبان، وكان ينفر من الشيخ عبد الحميد قطامش؛ والسبب أنَّه رفع الكلفة بينه وبين قطامش ذات يوم فزجره قطامش زجرًا عنيفًا، وعبثًا حاول قطامش أن يتودَّد إليه بعد ذلك دون جدوى، اتسعت الفجوة بينهما وظلت العلاقة متوترة بين الاثنين حتَّى آخر يوم في عمر قهوة عبد الله.
ولقد وقع بصري عليه آخر مرة وهو في حالته المعهودة ذات يوم من مارس ١٩٥٩م، كان يقف على مقربة من ركن أنور المعداوي وهو يصرخ في جنون «قَرَّب» بفتح القاف وتشديد الراء، وكأنَّه يدعو شيئًا للاقتراب منه، شيئًا مجهولًا يحن إليه وينتظره، وظلَّ يُردِّد هذا الشعار طول الليل، وقبيل الفجر انصرفنا إلى منازلنا ومددت يدي إلى مصافحة عبادة، ولكنَّه لم يصافحني، وقف متخشبًا كأنَّه تمثال حجري ليس فيه من آثار الحياة إلَّا صراخه، والعجيب أنَّه كان يصرخ دون أن تختلج عضلة واحدة من وجهه، وفي تلك الليلة شاءت الأقدار ألَّا أبيت ليلتي في منزلي، وجدت رجال الأمن في انتظاري عند باب البيت، وأخذوني من يدي إلى الواحات الخارجة لأغيب هناك في بطن الصحراء الحارقة والمجهولة نحو عامين. وعندما أُفرج عني اكتشفت أنَّ قهوة عبد الله قد انهدمت، لم يعد منها شيء، وبحثت عن عبادة في كل مكان، وعندما اهتديت إليه هالني منظره! فلم يكن هذا عبادة الذي أعرفه؛ انطفأ البريق الذي كان في عينيه، وضاع الذكاء وبقيت مسحة الجنون فقط! ولم يعد يصرخ ولكنَّه كان يعوي أحيانًا مثل كلب دهسته سيارة ضخمة على الطريق، كان ينام في قهوة المعلم مُرجان، وكان روَّادها من الباعة والحرفيين، ولم يكن هناك صلة بينها وبين مقهى محمد عبد الله، كان أنور المعداوي، وعبد القادر القط، وزكريا الحجاوي، والشيخ قطامش، وعبد الرحمن الخميسي، ومحمد علي موافي، ونعمان عاشور، وعشرات من شُبان مصر النوابغ يتناقشون في المقهى ليلًا، وكان ركن أنور المعداوي كأنَّه مصر كلها مصغرة ومطهرة، وكان عبادة جزءًا من هذا الركن.
والآن تغيَّر كل شيء، تغيَّر الزمان والمكان أيضًا؛ حلَّت محل قهوة عبد الله عمارة ضخمة، واحتلَّ مكان القهوة فرع لبنك مصر، توارى الفن قليلًا ليتصدَّر الاقتصاد، وراحت أيام المناقشة، وحلَّت أيام الحساب. المجد الآن للمهندس وللمحاسب، وعلى الناقد والأديب والشاعر والصعلوك أن يتنحَّوا جانبًا، فمصر تدخل مرحلة جديدة وهذه أول خطوة لها على الطريق.
لقد نشأ عبادة وقهوة عبد الله معًا، وذاقا الشهرة والمجد معًا، ثمَّ تنكَّرت الأيام ودارت على القهوة وعلى عبادة معًا، وعندما تحوَّلت قهوة عبد الله إلى أنقاض سقطت الأنقاض كلها على رأس عبادة، وعندما وقع بصري عليه لحظة عثرت عليه في قهوة مرجان خُيِّل إليَّ أنَّه خارج لتوه من تحت الأنقاض، ولقد أنكرني وأنكرته، انتابني الأسف إلى الحال التي وصل إليها، وانتابه الشك لأنَّه لم يعرفني، وكان عبادة على حق فلقد أصابني أنا الآخر ما أصاب قهوة عبد الله وعبادة معًا، انهدم شيء ما فينا جميعًا، انهدمت الأحجار في قهوة عبد الله، وانهدم الذكاء والجنون الذي يقترب من الإلهام في عبادة، وانهدم الإحساس بالأمن في داخل العبد لله، نظراتي أصبحت زائغة، وشعري حلقوه في الواحات، ولم يتعرَّف عبادة على شخصي وفرَّ مذعورًا من أمامي، فقد ظنَّ أنَّني أسخر منه أو أرجو إيذاءه. وتدحرج عبادة بعد ذلك وهجر القهوة وبات على الأرصفة وتشرَّد في الشوارع يلتقط غذاءه من صناديق الزبالة.
وتفرَّقت شلة قهوة عبد الله، انشغل بعضهم بالحياة، وانشغلت الحياة ببعضهم؛ بعضهم غرق في النور وبعضهم انسحب إلى الظل، وبموت أنور المعداوي لم يعد يسأل عن مصير عبادة إلَّا نعمان عاشور أحيانًا وزكريا الحجاوي بين الحين والحين. وذات صباح من يوم شديد القيظ في صيف ١٩٦٣م كنت في طريقي إلى المطار لألحق بالطائرة المتجهة إلى لندن إذا بعسكري شرطة يتمطَّى كسلانَ على الرصيف المواجه لقهوة مرجان وثلاثة من المارة وجثة مُمدَّدة على الرصيف وقد غطوها بأوراق صحف. وسألت عن الخبر وأجابني الشاويش في بلاهة: «ده واد صايع قتلته عربية ليلة إمبارح.»
ولم أعرف أنَّ القتيل الذي كان مُمدَّدًا على الرصيف تُخفيه أوراق الصحف هو عبادة إلَّا بعد ذلك بثلاثة أعوام.
وداعًا عمنا المجنون عبادة، كنت الوحيد الذي نطق بكل ما في صدره في عصرنا، كان له من جنونه حماية، ولكنَّه مات في صمت، ولم يُشيِّعه أحد، وكما جاء وحيدًا … مضى وحيدًا، وإن كانت ذكراه بقيت حية في صدور الذين عرفوه وأحبوه، وتمنوا أن يصلوا إلى ما وصل إليه عبادة من انعدام الوزن والرغبة والحاجة إلى أي أحد أو أي شيء، طبقة من السمو لم يصل إليها إلَّا قلة نادرة من الرجال في التاريخ وقبل التاريخ، ومنهم بالقطع هذا المعتوه عبادة!