شاعر من بغداد
لم تكن قهوة عبد الله قهوة مصرية فحسب، ولكنَّها كانت قهوة عربية أيضًا. وقد شهدها وحضر مجالسها أدباء وشعراء وفنانون عرب من كل الأقطار: عدنان الراوي وشفيق الكمالي من العراق، ونزار قباني وأديب نحوي من سوريا، وعبد الهادي الهوني من ليبيا، ومعين بسيسو وأبو سلمى من فلسطين، والفيتوري من السودان!
كان عدنان الراوي عضوًا أصيلًا في ندوة القهوة، وكان يقضي أغلب أوقاته فيها عقب لجوئه إلى القاهرة هاربًا من طغيان نوري السعيد وعبد الكريم قاسم، وغوغائية من سمُّوا أنفسهم بالتقدميين العراقيين الذين اعتبروا العروبة والقومية رجسًا من عمل الشيطان.
وكان عدنان الراوي شاعرًا، يرى أنَّ للشعر وظيفة واحدة هي القتال ضد أعداء العروبة، ولذلك كان أول من اضطهده نظام عبد الكريم قاسم، ونظام نوري السعيد من قبله، فاضطر إلى الهرب عبر الحدود السورية ومن هناك جاء إلى القاهرة هاربًا من جحيم بغداد، ولمَّا كانت له علاقات سابقة بأنور المعداوي فقد اختار السكن في حي الدقي، وجعل من قهوة «عبد الله» مكانًا مُختارًا لتدبيج قصائد من نار ضد العصبة التي استولت على بغداد في غفلة من الزمن.
كان من عادته أن يحضر إلى المقهى في الضحى فيجلس ساهمًا يرقب حركة الميدان، ويظل على هذا الوضع ساعات، ثمَّ ينصرف في الساعة الثانية بعد الظهر ليذهب إلى شقته فيستريح بعض الوقت قبل أن يعود إلى المقهى في السادسة مساءً، فيجلس صامتًا نحو ساعتين، قبل أن يندمج في حوار ساخن حول العروبة والشعوبية والوحدة وأنصار التجزئة والانقسام! وكان يبدو في تلك الأوقات — بالرغم من ضآلة حجمه — كأنَّه بُركان تغلي في أعماقه الحمم، ولكنَّه كان يعود إلى هدوئه وصمته بعد نهاية الجلسة، ويعود إلى الحملقة في الميدان حتَّى يُغلق المقهى أبوابه، فيهب متخذًا طريقه إلى شقته سيرًا على الأقدام، وكان يسلك طريقًا واحدًا لا يُغيِّره عبر شارع المدارس حيث تقع جامعة القاهرة، ومن هناك إلى شارع الدقي حيث يُقيم. ولقد حاولت مرارًا وفي المرات القليلة التي شاركته فيها رحلة السير على الأقدام أن أسلك طريقًا آخر عبر شارع «مراد» أو شارع «النيل»، ولكنَّه كان يرفض بشدة، فقد كان يشم في شارع المدارس رائحة شوارع مشابهة أحبها في أحياء الأعظمية وصدر القناة والسبع أبكار في بغداد.
وكان عدنان الراوي يعشق بغداد بجنون، كان يتوقَّف أحيانًا كثيرة عند منظر يُصادفه في الطريق ويزفر في حسرة ويقول في هدوء وفي أسى: هذا المنظر له شبيه في سوق الغزل ببغداد، أمَّا شارع النيل فكان يُذكِّره بشارع أبي نواس على شاطئ دجلة، وكان يتردَّد كثيرًا على شارع الموسكي لأنَّه كان يُشبه شارع الرشيد.
وكان يرى أنَّ العراق هو أهم جزء في الوطن العربي وأخطره أيضًا، إنَّه أخطر من فلسطين، لأنَّ فلسطين تقع في قلب الأمة، وقد ضاعت من قبل ولكن العرب استردوها، لأنَّ العرب حولها من كل مكان، أمَّا العراق فهو نتوء خارج من جسم الوطن العربي ويُحيطه أغراب من كل جانب؛ ولذلك فالخطر عليه أكبر، لأنَّ الأعداء يُمكنهم — لو تمكَّنوا — أن يقضموا منه قطعة وراء قطعة، ولو ضاعت قطعة، فمن المستحيل أن تعود، وكان حزينًا ومهمومًا؛ لأنَّ عبد الكريم قاسم وبطانته ليسوا أُمناء على تراب العراق، لأنَّ التراب ليس له قداسة في نظرهم، إنَّما القداسة والفداء للطبقة، بغض النظر عن اللون والجنس والدين. وعندما سألته ذات مساء ببراءة متحمس لم تنضجه الأحداث بعد عن السبب في مجيئه إلى القاهرة، ولماذا لم يستقر في بيروت مثلًا وهي أقرب إلى بغداد؟ قال: هذا سؤال وجيه وإن كانت الإجابة عنه ينبغي أن تكون معلومة لديك. ولمَّا بدا على ملامحي أنَّني لم أفهم، قال: صحيح بيروت أقرب، ولكن في السياسة القُرب والبعد ليس له فضل، ولكن الفضل كله للتأثير، ولهذا السبب جئت إلى القاهرة، لأنَّها أكثر تأثيرًا على بغداد من بیروت أو غيرها من العواصم، ولأنَّ مصر هي القطر القاعدة، وعلى كل المقاتلين من أجل العروبة والحالمين بدولة الوحدة أن يحتشدوا جميعًا في القاهرة وليس في أي أرض سواها، لأنَّ الاحتشاد في مكان آخر هو مضيعة للوقت. ولعل هذا هو السبب الذي أوقع عدنان في تناقض حادٍّ مع بعض فصائل الثورة العربية التي لم تكن تؤمن بما يؤمن به عدنان، ولم تكن ترى ما يراه.
والحق أقول: إنَّني من خلال صداقتي لعدنان الراوي التي امتدَّت عدة سنوات، كنت أتصوَّر — ولا أدري لماذا — أنَّه يعيش سعيدًا في القاهرة، فهو لا يؤدي أي عمل، وهو يقضي نهاره كله على المقهى مع الأحبة والأصدقاء، وهو حر يقرض الشعر ويتغنَّى ببغداد ويُكافح، وهو في مأمن من الخطر. إلى أن اكتشفت العكس! ففي ذات مرة من المرات التي انفردت فيها بعدنان في المقهى، راح يحكي لي عن القلق الذي يأكله، والألم الذي يعتصر قلبه، وعن الضياع الذي يشعر به غالبًا، وعن الإهانات التي تلحق به أحيانًا من بعض صغار الموظفين «الهلافيت» الذي يعملون في أجهزة الدولة. وقال وهو يزفر بشدة: لولا المبادئ التي أعتنقها والهدف الذي أسعى إليه، لآثرت العيش في بغداد في أي وضع وتحت ظل أي نظام، ولكنَّه قدري، ولم يُولد بعد من يستطيع تغيير مسار الأقدار!
ولم أُصدق عدنان، أو بمعنى أصح لم أقتنع بما قال، ظننته يُبالغ في وصف مشاعره، ولكنِّي وبعد مرور عشرين عامًا على كلمات عدنان الراوي التي قالها لي في قهوة عبد الله ذات مساء، تذكَّرته عندما كنت مقيمًا في المنفى والغربة وقد سارت بي الأقدار إلى موقعه السابق، وأصبحت لاجئًا وقضيت تسع سنوات طويلة في هذه الغربة، وتمنَّيت في بعض الأوقات لو كان عدنان الراوي على قيد الحياة، لقلت له: صدقت يا عم عدنان، فما أبشع أن يشعر الإنسان أنَّه مثل ريشة في مهب الريح! وما أتعس لحظات الحيرة والضياع! وما أفظع أن يتحكَّم في الحُر الهارب بعض هلافيت الموظفين الذين هم لكثرتهم ووجودهم في كل الأقطار، دليل على أنَّنا أمة واحدة دون جدال!
وكلما رجعت الآن إلى تلك الأيام في أواخر حقبة الخمسينيات وأوائل حقبة الستينيات أتذكَّر كيف كان وجه عدنان مرآة لما يحدث في بغداد. عندما اندلعت ثورة الشواف في الموصل كاد يرقص طربًا وتخلَّى في تلك الليلة عن وقاره المعهود، وعندما انتكست الثورة بدا عدنان كأنَّه ميت خارج من قبره، وبعدها صار يائسًا من تغيير الأحوال، وعندما تطوَّرت الأحوال في بغداد إلى الأسوأ، وانطلق المهداوي خلف أحرار العراق وأسرف فيهم قتلًا وتشريدًا؛ أصبح عدنان يختفي من المقهى بالأيام كان يلزم شقته فلا يُغادرها، ويبتعد عن الأصدقاء، فلا يذهب لأحد، ولا يستقبل أحدًا، واعتدنا نحن رُوَّاد القهوة هذا الغياب، فلم نعد نلح في السؤال عندما يبتعد عن أعيننا، ولكن غيابه الأخير طال، فذهبنا نسأل عنه، واكتشفنا أنَّه في المستشفى. وحكى لنا وهو على سرير المرض كيف أنَّه يُعاني كحة شديدة لم يستطع التخلص منها، وقال: إنَّ الأطباء نصحوه بالإقلاع عن التدخين، وضحك في مرارة وقال: لقد أقلعت عن الوطن، والآن جاء دور الإقلاع عن الهوايات! وقال بعد صمت قصير: ماذا يبقى من الإنسان؟ وخرج عدنان من المستشفى ولكنَّه سُرعان ما عاد إليه، وأصبح يتردَّد على المستشفى بين الحين والحين، ولكنَّه ازداد نحولًا، وضربت الصفرة في وجنتيه، وذبلت عيناه وعلَّلنا مرضه إلى شدة حنينه لبغداد.
وأصبح عدنان شديد الخوف، ليس من المرض أو الموت، ولكن خوفًا من أن يموت وهو بعيد عن مسقط الرأس، ودون أن تكتحل عيناه برؤيته من جديد.
وتهدَّمت جدران قهوة محمد عبد الله، وزالت كلها قبل أن ينهار النظام الذي كان قائمًا في بغداد، واضطر إلى مغادرة قهوة عبد الله إلى قهوة إنديانا التي كانت مقصدًا لكل اللاجئين القادمين من بغداد، ولكنَّه كان يؤثر الوحدة والصمت. وذات صباح جاءه الفرج، فقد سقط النظام الذي كان قائمًا في بغداد، وطار عدنان إلى بغداد، ولكنَّه سُرعان ما عاد ليواصل علاجه في القاهرة.
في تلك الأثناء كان الأطباء قد اكتشفوا مرضه الحقيقي، كان داء السرطان قد انتشر في صدره وكبده وتوغَّل في أمعائه، وعندما عاد إلى القاهرة كان قد فقد نصف وزنه، وافتقد حماسه وحيويته، وعندما سألته عن الأحوال في بغداد، أجاب في ابتسامة باهتة: تغيَّرت بغداد، وتغيَّرتُ أنا الآخر. ودخل المستشفى في القاهرة لعدة شهور، ولكنَّه ظلَّ متمسكًا بعادة قديمة لديه، فقد كان يكتب خطابات يومية لعدد من أصدقائه يشرح لهم مرضه وتطوراته ويُضمِّنها أبياتًا من شعره كتبها حديثًا. وكان شعره في تلك الفترة غاية في العذوبة والصفاء، وكأنَّما تحوَّل عدنان فجأة إلى صوفي يُحلِّق في ملكوت الله. واقترح عدنان في أحد خطاباته لأنور المعداوي أن يبحث له عن ناشر في القاهرة ينشر ديوان شعره، وفي خطاب آخر كتب يقول لأنور المعداوي: إذا قُدِّر لي الشفاء فسأُبادر باستكمال بناء داري التي تقع بمنطقة ساحرة على صدر القناة في بغداد. ولكن المرض اللعين كان قد أنشب أظافره في لحمه وفي عظامه، ويبدو أنَّه ملَّ طول الرقدة ومرارة الوحدة، فترك المستشفى وغادر القاهرة عائدًا إلى بغداد.
وعندما زرت بغداد بعد ثورة ١٤ رمضان ذهبت لزيارة عدنان الراوي في منزله بصدر القناة، ولكنِّي كرهت اليوم الذي ذهبت فيه إليه؛ لأنَّني لم أتعرَّف عليه إلَّا بصعوبة، وعندما رأيته أنكرته، لم يكن هذا عدنان الذي عرفته، أين الأمل والحيوية؟ أين البركان الذي كان في داخله؟ والتصميم الذي كان في عينيه؟ لقد انطفأ كل شيء فجأة وأصبح الرجل حطامًا وشبحًا، وهو بعدُ على مشارف الخامسة والأربعين. وبالرغم من ضعفه وذبوله إلَّا أنَّه استقبلني بحفاوة شديدة، وأصرَّ على أن ينهض من فراشه، وتمنى لو استرد عافيته ساعة من الزمان ليقضيها معي في حديقة منزله، وليطلعني على طريقة طهي السمك المسجوف، والذي كان يُحبه وطالما حكى لنا في قهوة عبد الله عن السمك المسجوف، وسألني عن أخبار القاهرة وأخبار الأصدقاء، واستفسر عن مرض أنور المعداوي، وعن أحوال زكريا الحجاوي، وعندما نهضتُ مُودِّعًا إيَّاه تعلَّقت يده بيدي دقائق، وقال: لقد افتقدت القاهرة ولياليها ومقاهيها، ولكنِّي سأعود إليها قريبًا لأعرض نفسي على الطبيب وأقضي أيامًا مع الأصدقاء. وعندما خرجت من بيته أدركت أنَّها آخر مرة أراه فيها، وأنَّه على وشك الانطفاء روحًا كما انطفأ جسدًا. ولقد حدث ما توقَّعته، فبعد وصولي إلى القاهرة، جاء عدنان إلى القاهرة ليدخل المستشفى مرة أخرى وأخيرة، وبعد أسابيع قليلة مات في القاهرة، وأُقيمت له جنازة كبرى، ونُقِل جثمانه إلى بغداد ليُدفن في أرضها كما تمنَّى دائمًا، ومضى واحد من جيل المثقفين العرب الذين أقلقهم مصير الوطن وأرعبهم ما يلوح على الطريق من نُذُر، وسقطوا وهم يُحاربون — في الداخل وفي الخارج معًا — أعداءً أغرابًا في الخارج، وأعداء محليين في الداخل، ولشدة ما قاتلوا في المعارك سقطوا صرعى قبل الأوان!