زواج الدكتور!
كان اسمه الشيخ، لم يكن هذا اسمه بالضبط، ولكن كان اسم عائلته، أمَّا اسمه الأول فقد نسيته، وكان لقبه الدكتور، فقد كان طبيبًا بيطريًّا، وكان عمله في معالجة الحيوانات يستغرقه طول العام، ولكنَّه كان حريصًا على الوجود في قهوة محمد عبد الله كل مساء، فقد كان على صلة وثيقة بزكريا الحجاوي، وكان زكريا حريصًا على التردد على عيادة الدكتور الشيخ للكشف والعلاج، وكان يُفضِّله على غيره من الأطباء، وكانت فلسفة زكريا الحجاوي تتلخَّص في أنَّ الدكتور الشيخ الذي تفوَّق في معالجة الحيوانات التي لا تنطق ولا تشكو، قادر أيضًا على علاج الإنسان الذي ينطق ويشكو ويعرف موطن الداء.
وكان الشيخ من أسرة كبيرة اشتهرت بإنجاب عدد من مشاهير الفنانين. وكان الدكتور الشيخ شديد الحرص على اقتناء عدد من أعمال هؤلاء الفنانين في منزله، وكان حرصه أشد على الطواف بأصدقائه الذين يتردَّدون على منزله لمشاهدة هذه الأعمال، وكان يسهب في شرح تفاصيل هذه الأعمال، والمعنى الذي تحمله، والهدف الذي يرمي إليه الفنان. وفي هذه الساعات التي كان يطوف فيها بأصدقائه للفرجة على هذه الأعمال الفنية، كان يُثرثر كثيرًا، ويخوض في موضوعات تتعلَّق بهذه الأعمال، وتتعلَّق بغيرها أيضًا، وكان يبدو سعيدًا ومرحًا ومنطلقًا على سجيته تمامًا في تلك اللحظات؛ ولكنَّه إذا جاء إلى قهوة عبد الله واحتلَّ مكانه المختار، لم يكن يفتح فمه إلَّا نادرًا، وأحيانًا يقضي السهرة دون أن يتفوَّه بكلمة واحدة، وأحيانًا كان زكريا الحجاوي يستفزه ليُجبره على الكلام، ولكنَّه كان يكتفي بابتسامة ويهز رأسه ثم يرفع أصبعه السبابة ويُقرِّبها من شفتيه علامة أنَّه صائم عن الكلام! ولكنَّه في بعض الليالي إذا احتدم النقاش وثار الجدل حول الإنسانية وبدايتها وتطوُّرها، كان ينبري للكلام، ولكنَّه كان لا ينطق أكثر من عبارة واحدة «هذا الموضوع يحتاج إلى جلسة طويلة، وأنا مستعد لحضور هذه الجلسة والاشتراك في النقاش» ولكن هذه الجلسة لم تُعقد أبدًا، ولم يتَح لأحد أن يشترك في نقاش من أي نوع مع الدكتور الشيخ.
ولكن هذا الصامت الزاهد في الكلام، كان قارئًا ممتازًا، قرأ الأدب اليوناني باللغة اللاتينية التي كان يُجيدها، وأطلع على حضارة الهند وفارس، وكان واسع الإلمام بتاريخ العرب في الجاهلية وبعد الإسلام … وكان يتردَّد أحيانًا على المسرح، وكان لا يفتح الراديو إلَّا للاستماع إلى نشرة الأخبار، ولكنَّه كان حريصًا على الاستماع إلى حفلة أم كلثوم أول كل شهر، وكان يقرأ إنتاج أدباء قهوة محمد عبد الله، فإذا أعجبه شيء منه، اكتفى بإبداء رأيه بكلمة واحدة هي «برافو»، وإذا لم يعجبه إنتاج أديب من الأدباء ادَّعى أنَّه لم يقرأه لانشغاله في عمله.
كان الدكتور الشيخ أعزب يملك وقته كله، ولم يتردَّد حوله أي كلام يُشير من قريب أو بعيد إلى أنَّه على علاقة بأحد من الجنس الآخر؛ بل كانت حياته تمضي على وتيرة واحدة، يعود إلى منزله في منتصف الليل، ويستيقظ مبكرًا، ويخرج إلى عمله في وزارة الزراعة، ثمَّ يعود إلى منزله لينام بعض الوقت، ثمَّ يذهب إلى عيادته ويقضي فيها عدة ساعات، ثمَّ يأتي إلى قهوة محمد عبد الله ليسهر فيها حتَّى منتصف الليل، ولم يُشاهَد الدكتور الشيخ خارج هذه الدائرة أبدًا، ولم يترك القاهرة إلى غيرها من البلاد، بالرغم من حبه للريف، وشغفه بالبحر، وكان يعشق نهر النيل ويعتبره مصدر الحياة في مصر. وكان حريصًا على أن يشرب من مياه النهر مباشرة طوال شهر طوبة، وكان يدعو كل من حوله إلى الشرب من النهر مباشرة خلال هذا الشهر، فقد كانت هذه هي عادة المصريين القدامى في فجر التاريخ.
ولكن الدكتور الشيخ الذي كان أشبه بقطار سكة حديد يسلك طرقًا معروفة وخطوطًا مرسومة، انقلبت حياته رأسًا على عقب، فقد مات أحد أقربائه، وآلت إليه ثروة طائلة، واختفى الدكتور الشيخ من قهوة عبد الله، وبرَّر البعض سر اختفائه بأنَّه حزين، وزعم البعض أنَّه مشغول بإحياء ما آل إليه من أموال طائلة وعقارات كثيرة وأراضٍ شاسعة؛ ولكن الدكتور الشيخ ظهر بعد عام وقد تغيَّرت أحواله، فقد اقتني سيارة وهجر البيت الذي كان يسكنه على أطراف الصحراء بالقرب من الهرم، واستأجر شقة فاخرة على النيل الذي يعشقه، وفتح أبواب بيته للأصدقاء.
وكانت دائرة أصدقائه قد اتسعت ولم تعُد مقصورة على شلة قهوة عبد الله، ودخلت في دائرة أصدقائه طوائف جديدة: ضباط شرطة كبار، وأطباء مشهورون، وفنانون، ورجال أعمال. وذات مساء دعا أدباء قهوة عبد الله إلى وليمة في شقته، ولم يكف عن الكلام طوال السهرة، ولم يسمح لأحد — حتَّى ولا لزكريا الحجاوي — بأن ينطق حرفًا واحدًا خلال السهرة، ولكنَّه اضطر إلى ذلك حين أعلن للجميع عن رغبته في هجر العيادة والاستقالة من الوظيفة والتفرغ لمباشرة أعماله التي آلت إليه بالميراث، ولكن زكريا الحجاوي الذي استحسن الفكرة، اقترح عليه أن يُؤسِّس دارًا للنشر، وراح زكريا يشرح ميزة دار النشر، خصوصًا إذا كان صاحبها مثقَّفًا من طراز الدكتور الشيخ، وأضاف زكريا أنَّ لديه كتابًا جديدًا بعنوان بجماليون، ووصف الكتاب بأنَّه إضافة جديدة إلى الأسطورة التي تناولها عدد من مشاهير الأدباء عبر التاريخ، واقترح زكريا عدة كتب لأنور المعداوي، وديوان شعر لمحمود حسن إسماعيل، واقترح أيضًا نشر قصة ألف ليلة وليلة الجديدة لعبد الرحمن الخميسي، وأكَّد أنَّ بداية من هذا النوع كفيلة بتدعيم دار النشر الجديدة، وإفساح الطريق أمامها للنمو لتصبح دار نشر من نوع جديد، وتكون في خدمة القُرَّاء والأدباء، وخصوصًا وأنَّ صاحب الدار غني بفضل الله، ولا يحتاج إلى مزيد. وسكت الدكتور الشيخ ولم يُعلِّق على اقتراح زكريا الحجاوي. وانتهت السهرة بدون الوصول إلى حل أو تحديد الطريق الذي سيسلكه الدكتور الشيخ.
ولكن الذي حدث بعد ذلك أنَّ صلة الدكتور انقطعت بشلة قهوة محمد عبد الله، وصرنا نراه أحيانًا عندما يمر ليلًا على بقالة مخالي لشراء ما يلزمه للسهرات في منزله، وفي البداية كان يعرج على القهوة ويُصافح أفراد الشلة ثمَّ يعتذر لارتباطه بموعد، ولكنه بعد ذلك كان يكتفي برفع يديه لتحيتنا من بعيد لبعيد.
وانقطعت صلتنا بالدكتور الشيخ بعد ذلك، ولم نعد نسمع عنه إلَّا قصصًا حول سهراته التي يقيمها في منزله، وعن أصدقائه الذين ازداد عددهم وارتفع قدرهم، فشملت بعض أصحاب النفوذ، وبعض المشاهير من الفنانين؛ ولكن أغلبها كان من باب الإشاعات، وبعضها كان يتضمَّن مبالغات شديدة؛ ولكنَّا كنَّا نستمع إليها ونُعلِّق عليها ثمَّ ننساها بعد ذلك. وذات مساء انتحى بي زكريا الحجاوي ركنًا وأسرَّ إليَّ بأنَّ الدكتور الشيخ يُريدنا معًا لنسهر في منزله هذه الليلة، ثمَّ انصرف على أن ألقاه عند كوبري عباس في الحادية عشرة مساءً، واستقبلنا الدكتور الشيخ بترحاب شديد، وفوجئت بأنَّ منزله كان خاليًا تمامًا إلَّا منه، وظننت أنَّ السهرة المعتادة لم تبدأ بعد؛ ولكنَّه حين جلس أبلغنا أنَّه قرر الإقلاع نهائيًّا عن السهر، وهجرة شلة الأصدقاء الذين تعرَّف عليهم بعد الثراء المفاجئ الذي هبط عليه، وقال وفي صوته رنة أسى: «لقد جربت الحياة وحيدًا وفقيرًا حتَّى بلغت الخمسين، ثمَّ جربت الغنى والحياة تحت الأضواء وفى الضجيج وبين الأصدقاء عشر سنوات كاملة، ولكني سئمت كل شيء الآن، وأريد أن أعيش حياة مختلفة كبقية عباد الله، فأتزوج وأقضي بقية عمري في جو عائلي حرمتني منه ظروف كانت أقوى مني ومن الجميع»، وسأله زكريا الحجاوي عن سعيدة الحظ، وهل وُفِّق في العثور عليها، أم أنَّه سيبدأ رحلة البحث عنها في المستقبل القريب؟ واسترخى الدكتور في مقعده، وراح يحكي عن السيدة التي تعلَّق بها قلبه، وهي سيدة في الثامنة والأربعين من عمرها، ولكنَّها جميلة بالرغم من أنَّ ابنتها الوحيدة تبلغ التاسعة والعشرين من العمر، وأنَّه اتفق معها على الزواج والعيش معه في شقته هي وابنتها، وسألنا رأينا فيما هو مُقدم عليه. ولمَّا طال الصمت بيننا، نظر إلى زكريا الحجاوي وقال متوسلًا: «ما رأيك أنت يا أبو الزيك، هل أتزوجها، أم أتوقَّف عند هذا الحد، خصوصًا وأنَّ محسوبكم سيدخل غدًا عامه الستين؟» وقال زكريا الحجاوي في جد شديد: سأسألك عشرة أسئلة، وسيتوقَّف جوابي على أجوبتك لها. وأنصت الدكتور الشيخ إلى أسئلة زكريا الحجاوي، وراح زكريا الحجاوي يُمطره بالأسئلة: هل تشك في إخلاصها لك؟
وكان الجواب: نعم، إنَّني الآن في الستين، وهي كما قلت لك في الثامنة والأربعين، وهي تبدو شابة وجميلة، بينما أبدو أنا عكس ذلك؛ شيخًا ومُحطَّمًا وعلى باب القبر. وقال زكريا: هل هناك احتمال أن تدس لك السم في الطعام؟
وكان الجواب: بالطبع، إذا سنحت فرصة فستفعل ذلك بكل تأكيد.
– إذن هي تطمع في أموالك؟
– بدون شك.
– هل تتصوَّر أنَّها قد تلجأ إلى محاولة الحصول على توقيعك على بعض الأوراق لكي تنفرد بالميراث كله بعد وفاتك؟
– بالطبع ستُحاول ذلك بلا جدال.
– هل تشعر نحوها بحب؟
– طبعًا.
– وهل تشعر هي نحوك بحب؟
– لا … بكل تأكيد.
وانقطع النقاش بين زكريا الحجاوي والدكتور الشيخ وساد الصمت طويلًا، وفجأة قطع زكريا الحجاوي الصمت وقال للدكتور الشيخ في كلمات قاطعة: إذن تزوجها على بركة الله. وانقضت السهرة بعد ذلك في حوار متقطع حول بعض الأمور التافهة الشأن، ثمَّ حان الوقت لنستأذن بالانصراف، فودَّعَنا حتَّى الشارع، وعندما مدَّ يده ليصافح زكريا مُودعًا، قال له: یعني دا رأيك الأخير؟
وقال زكريا: توكَّل على الله، ومبروك مقدمًا.
وعندما رحنا نقطع شارع النيل الهادئ الصامت المظلم أنا وزكريا الحجاوي سيرًا على الأقدام صرخت في زكريا الحجاوي: ما هذا الذي فعلت؟ تنصحه بالزواج من امرأة يشك في إخلاصها، ويعتقد أنَّها ستدس له السم في الطعام، وأنَّها ستُدبِّر له مكيدة للاستيلاء على ثروته؟
وهزَّ زكريا الحجاوي رأسه وقال في صوت خفيض: إنت أصلك غبي …! إنَّه يُريد رأينا في الزواج من امرأة يؤمن أنَّها لا تُحبه ويعتقد أنَّها ستقتله، ومع ذلك يسألنا الرأي، لقد قرَّر الدكتور الشيخ يا محمود أن يتزوَّج هذه السيدة منذ فترة طويلة، ولم يكن سؤالنا إلَّا تحصيل حاصل، ولم يكن حواره معنا إلَّا حوارًا مع نفسه، وسيتزوجها الدكتور الشيخ سواء رضينا أو رفضنا، وهو على أيَّة حال سيتزوجها بعد أيام.
وظننت أنَّ زكريا الحجاوي يخرف، وأسِفت للدكتور الشيخ الذي تصوَّر أنَّه سوف ينجو عندما تعلَّق بزكريا الحجاوي فإذا به يكتشف أنَّه تعلق بقشة؛ ولكن — وهنا العجب — تزوَّج الدكتور الشيخ تلك السيدة بعد أسبوعين من هذا اللقاء وسرعان ما ظهر في المقهى من جديد بعد شهر واحد من هذا الزواج؛ ولكنَّه ظهر مُتكلِّمًا على غير عادته الأولى، وكان يستخدم يديه أحيانًا في النقاش، وبدا أنَّه غير سعيد بالمرة في هذا الزواج!
وذات مساء ظهر في المقهى واصطحب زكريا الحجاوي معه، وعلمنا بعد ذلك أنَّهما ذهبا إلى المأذون وأنَّه طلق زوجته، وعاد في المساء التالي ليُخبرنا أنَّه اتفق معها على عدم مقاضاته نظير خمسين ألفًا من الجنيهات، ثمَّ أعلن للجميع أنَّه قرَّر التفرُّغ للحياة، وأنَّه سيقوم بسياحة حول الأرض وسيزور بلادًا كثيرة ومُدنًا كان يسمع بها، وأنَّه سيعيش للعيش فقط وليس لأي شيء سواه!
ولكن الدكتور الشيخ لم يبرح مكانه في شقته بالجيزة، فقد مات ذات مساء، ولم يكتشف أحد موته إلَّا بعد ذلك بثلاثة أيام، وذهبنا خلفه نُشيِّعه … البائس الذي سلك كل الطرق، ولعب على كل الاحتمالات، ولم يُحقِّق في النهاية إلَّا الخسارة، وخرج من الحياة وحيدًا، وكما بدأ عاد!