أدباء ضاعوا في الزحام
لماذا يوقد الحظ الشموع لأديب ويطفئها حول أديب آخر؟ لا جواب! فمصائر بني آدم تتحكَّم فيها ظروف وملابسات وأسباب، ولا أحد يستطيع أن يُحدِّد السبب أو يكشف السر، ولذلك تبقى كل الأسئلة في هذا المجال بلا أجوبة. وتكون النتيجة: أديب يشتهر، وأديب يختفي، وربما كانت موهبة الاثنين من نفس القماش، وقدرتهما على نفس المستوى! وهذا القانون طبَّقته الحياة أيضًا على أدباء قهوة محمد عبد الله؛ البعض لمع، والبعض انطفأ، والبعض ذاع وشاع أمره بين الناس، والبعض ضاع في الزحام!
وبين أدباء قهوة عبد الله أربعة من أبرز هذا النوع من الأدباء الذين وقف الحظ في مسيرتهم، وحال بينهم وبين الظهور والاستمرار، والأربعة هم: أنور فتح الله، وكمال منصور، وهاشم السمَّان، ومحمد إبراهيم، ولقد امتاز الأربعة بالطيبة وعدم الرغبة في الصراع.
كان أنور فتح الله من نفس جيل زكريا الحجاوي وأنور المعداوي ومحمود حسن إسماعيل، وكان يكتب مقالات في النقد، وقد قرأت له أول مرة في مجلة «الميزان» التي أصدرها زكريا الحجاوي في الأربعينيات ولم تُصادف رواجًا واضطرت للاحتجاب بعد حين. ثمَّ أهمل الأدب تمامًا وانشغل بالحصول على ليسانس الحقوق بعد أعوام طويلة انقطع فيها عن الدراسة، وقنع بالعمل موظفًا حكوميًّا بشهادة البكالوريا، واختفى من قهوة محمد عبد الله ولم يعد يظهر فيها إلَّا مساء الخميس، وكان يسهر ليلتها إلى ساعة متأخرة، ثمَّ يعود إلى الاختفاء بقية أيام الأسبوع.
ولم أرَه في حياتي مُتحمِّسًا لشيء قدر حماسه للحصول على ليسانس الحقوق، وكان يرى أنَّ الحياة غابة، وأنَّ السلاح الوحيد الفعال هو الشهادة، خصوصًا في بلد (بتاع شهادات). وعاد أنور فتح الله إلى قهوة عبد الله وفي جيبه السلاح الوحيد الفعال في غابة البلد (بتاع الشهادات)، وبدا سعيدًا، فقد حصل على بوليصة التأمين ضد كل المخاطر والأهوال! ولكن حنينه للأدب دفع به إلى الاشتراك في تحرير بعض المجلات الأدبية قليلة الانتشار والتأثير، ولكنَّه كان يبذل جهدًا لا بأس به في كتابة بحوث أدبية وآراء نقدية ومحاورات مع بعض النُّقَّاد والأدباء. وفي أواخر الخمسينيات اتجه إلى المسرح يقتبس روايات من الأدب الفرنسي ويمصرها، حتى جاءت الستينيات وأصبح واحدًا من أبرز مؤلفي مسارح التليفزيون، واستحدث بالاشتراك مع السيدة أمينة الصاوي لونًا جديدًا في المسرح، بإعداد مسرحيات مأخوذة من روايات مصرية لأشهر الكُتَّاب، وعلى الأخص روايات نجيب محفوظ، وكان يبدو شديد النشاط في تلك الأيام وسعيدًا على نحو ما، وفخورًا بما يقدمه للمسرح من أعمال. وفجأة، وبلا أسباب — وربما لأسباب لا ندريها — خفت صوته، وشحب نوره، وانسحب إلى الظل وإلى الظلام. ومنذ أكثر من خمسة عشر عامًا لم أسمع بأنور فتح الله ولم أسمع عنه شيئًا، ولا أدري إذا كان حيًّا يرزق، ولا أعلم إذا كان مُقيمًا في مصر أو رحل عنها إلى غيرها من البلاد!
ويبقى السؤال، لماذا سكت أنور فتح الله؟ ولماذا ابتعد عن النور وآثر الظلام؟ وكيف انتهت الحياة بهذا الرجل؟ الذي كان ضخم الجثة، كبير القلب، المتفائل دائمًا، الهادئ الأعصاب في كل الأوقات. لا أعتقد أنَّني أستطيع الإجابة على هذه الأسئلة، ولا أعتقد أنَّ أحدًا آخر يستطيع الإجابة! ولكن النتيجة أنَّ أنور فتح الله كفَّ عن مواصلة الفن الذي أحبه، وعفَّ عن الشهرة، ولزم مكانه في الظل، لعله عثر هناك على السعادة التي كان يبحث عنها بعيدًا عن صخب الشهرة وزحام الأضواء!
وكان كمال منصور زميلًا لأنور المعداوي في كلية الآداب، واشتغلا معًا بالتدريس، وكان أيضًا من رُوَّاد قهوة محمد عبد الله، وكان شاعرًا رقيقًا وحالمًا، وكان شعره قريبًا من شعر صالح جودت؛ ولذلك استخدمته إحدى المجلات الأدبية الشهيرة ليكتب لها أربعة أبيات من الشعر كل عدد كتعليق على صورة من رسوم واحد من الفنانين العظام، ولكن كمال منصور تخلَّص من هذه المهمة واتجه إلى الأغاني، وكتب منها عددًا لا بأس به تغنى بها بعض المشاهير من المطربات والمطربين، ولحَّنها كبار الملحنين. ولكن فجأة اختفى كمال منصور من قهوة محمد عبد الله، وانسحب من الوسط الفني، وكان قد انسحب من الوسط الأدبي قبل ذلك وتفرَّغ للوظيفة، والأكيد أنَّه حقَّق فيها نجاحًا كبيرًا؛ لأنَّه وصل فيها إلى آخر السلم، وحصل على درجة وكيل وزارة للتربية والتعليم.
والأكيد أيضًا أنَّ اختفاء كمال منصور يختلف في أسبابه عن اختفاء أنور فتح الله، وأغلب الظن أنَّ كمال منصور الذي كان زميلًا لأنور المعداوي ومُعجبًا به على نحو ما قد تأثر لنهاية أنور المعداوي المأساوية، ومصيره الذي كان غاية في الظلم الصارخ والألم الشديد عندما طُرد أنور المعداوي من إدارة الثقافة بوزارة التربية والتعليم وأُطيح به من مكتبه العالي إلى وظيفة مدرس في مدرسة السلحدار الابتدائية، ثمَّ ثورة أنور المعداوي على هذا الوضع بعد ذلك، واستقالته من العمل الحكومي، وبقاؤه فترة طويلة بلا عمل وبلا مرتب، ثمَّ مرضه الشديد بعد ذلك ووفاته آخر الأمر.
ربما كان هذا الحادث المؤسف هو سبب قرف كمال منصور، وابتعاده عن الأضواء، وأيًّا كانت الأسباب، فقد خسرنا شاعرًا رومانسيًّا رقيقًا ينتمي إلى نفس مدرسة علي محمود طه، وصالح جودت، وكامل الشناوي، وأحمد فتحي، مع اختلاف درجات الموهبة والاستعداد.
أمَّا ثالث الفرسان فكان هاشم السمَّان، وكان موظفًا في مصلحة الاستعلامات، ويُمارس في أوقات فراغه هواية نظم الزجل بالعامية المصرية، وكان زجله من النوع الطيب مثل صاحبه، ويُنبئ عن نفسية إصلاحية ترى أنَّ الحياة يمكن أن تمتلئ بالخير لو انصلحت أحوال الناس واعتنوا بترقية أخلاقهم، وحافظوا على العمل الطيب وسلوك الطريق المستقيم.
وكان هاشم السمَّان الزجال يرى أنَّ الشر ينبع من نفس الإنسان وليس لظروف حوله، وأنَّ الجوع والمرض والفقر هي نتيجة إهمال الناس وعدم إيمانهم؛ ولذلك كانت أزجاله كلها تلف وتدور حول فوائد الزواج المبكر، وضرورة التردد على المساجد، وهجر أماكن الفساد، والابتعاد عن صحبة السوء، والحذر من الحاسدين واللئام، وكان يرى الحياة وردية، لولا الفاسدين من الناس، وأنَّ الظروف كلها متاحة، والأمور كلها سهلة لولا الأحقاد والبغضاء! وكانت أزجاله تُقابَل أحيانًا بثورة عارمة من جانب الشباب المثقف الذين يترددون على قهوة عبد الله، ولكنَّه لم يكن يُقيم وزنًا لمثل هذه الأصوات، وكان يعتقد في نفس الوقت أنَّه لو أُتيحت له فرصة ليذيع أزجاله على الناس من خلال جهاز الإذاعة، فمن المؤكد أنَّ الأحوال كلها ستنصلح … أحوال البلاد والعباد!
ولكن هاشم السمَّان الذي كان مؤمنًا إلى أقصى حد بأزجاله وأفكاره، اختفى فجأة، وانسحب إلى الظل وإلى الظلام، لماذا؟ لا أستطيع أن أجيب على هذا السؤال، ولا أعتقد أنَّ هناك شخصًا يستطيع الإجابة؛ ولكن، النتيجة أنَّنا خسرنا زجَّالًا إصلاحيًّا طيبًا، بينما اشتهر غيره من الزجَّالين كانت لهم نفس موهبته، وربما نفس وجهة نظره في الحياة!
أمَّا رابع الفرسان فهو محمد إبراهيم، الذي كان واحدًا من أبناء الصعيد الجواني، وقد شدَّه بلدياته الصحفي الكبير محمد علي غريب إلى الصحافة والكتابة، وصار محمد إبراهيم بعد فترة، واحدًا من نجوم المجالس الأدبية في مصر؛ فقد كان خفيف الدم، وكانت لهجته الصعيدية التي حرص عليها تُضفي عليه مسحة من الغرابة والقبول!
واشتهر محمد إبراهيم عندما كتب عن نوادر الأدباء القدامى ومساجلاتهم الظريفة، ومعاملة السلاطين والولاة للشعراء والأدباء في سالف الزمان، وكان يرى الجانب الظريف في الحياة، ويؤمن بأنَّ مهمة الأديب هي تجميل الحياة، ومدح السلطان العادل، وتقديم الحكمة والمثل العليا لعامة الناس؛ ولكنَّه رغم ظرفه ونجاح إنتاجه الذي كان يكتبه وينشره على الناس لم يُقْدِم على ترك وظيفته، ورفض بإصرار احتراف الأدب أو الاشتغال بالصحافة، بالرغم من كونه عضوًا في جدول المشتغلين بنقابة الصحفيين، ولكنَّه حافظ على صِلاته الواهية بالصحف، وتمسَّك بتردده على مجالس الأدب، وظلَّ على عهده حتَّى وقعت الضربة الكبرى التي أطاحت بمئات من المثقفين والصحفيين والفنانين، وجرجرتهم إلى المنافي والسجون بعد أن احتدم الخلاف بين عبد الناصر وعبد الكريم قاسم في بغداد. وإذا كان هؤلاء المثقفون والكُتَّاب والصحفيون قد اختفوا خلف الأسوار لمدد تتفاوت بين عامين وخمسة أعوام، فقد اختفى محمد إبراهيم نهائيًّا، ليس لأنَّه كان ضمن المسجونين والمعتقلين، ولكن لأنَّه آثر الانسحاب إلى الوظيفة، وكفَّ نهائيًّا عن النشر، وانقطع تمامًا عن المجالس الأدبية، ووصل إلى درجة وكيل الوزارة، ثمَّ إلى المعاش. لماذا اختفى محمد إبراهيم الظريف الممتلئ حيوية، الرقيق الحجم والملامح؟ كلها أسئلة لن تجد لها أجوبة، لا عندي ولا عند الآخرين! وكانت النتيجة أنَّنا خسرنا أديبًا ظريفًا ومُحدِّثًا لبقًا ودارسًا للأدب العربي القديم، وكان يُمكنه مع ضربة حظ، أن يُصبح مثل الشيخ عبد العزيز البشري، أو يحل محل الشيخ أحمد العسكري على الأقل.
ويبقى بعد ذلك سؤال هام تطرحه هذه النهايات التي انتهى إليها كل من أنور فتح الله، وكمال منصور، وهاشم السمَّان، ومحمد إبراهيم: لماذا تجف بعض الأعواد الخضراء، وتموت قبل الأوان؟ ولماذا يشحب ضوء بعض المصابيح، مع أنَّ الزيت موجود فيها والفتيلة لا تزال رافعة رأسها، وإن كانت بلا ضوء! إنَّها مسألة عجيبة وتحتاج إلى دراسة، ليس لهؤلاء الأدباء، ولكن للمجتمع الذي عاشوا فيه وللظروف التي أحاطت بهم، وهي دراسة طويلة وتحتاج إلى جهد شديد، ولكنَّنا في أشد الحاجة إليها، ومهما كلفتنا من وقت وجهد ومال، إلَّا أنَّ مضمونها سيكون مُجزيًا إذا استطعنا أن نُحافظ على تلك العيدان الرقيقة التي انسحقت بلا هوادة تحت أقدام الزمان … وهي نهاية غير عادلة لهؤلاء الذين كانت لديهم الموهبة والاستعداد والرغبة الشديدة في الإبداع، ولكن خارت قواهم فجأة فتخلَّفوا على الطريق، مع أنَّهم كانوا أصحاب مواهب حقيقية، وربما تقدَّمتهم مواهب مزيفة، ونفوس شريرة لا تعرف الخجل وتُجيد لعبة النفاق والخنوع ومسح الجوخ، ولكن … هكذا الحياة!
•••
دخل الأستاذ «ع» قهوة عبد الله وخرج منها دون أن يترك أثرًا لا بالسلب ولا بالإيجاب. كان أنيقًا وسط شلة الأدباء، يرتدي «بِدلًا» من الصوف الإنجليزي غالية الثمن، وينتقي أربطة العنق الثمينة، وحذاؤه الإنجليزي الصنع كان يلمع دائمًا، وكان سمينًا تطفح الحمرة من وجنتيه، ومنظره عمومًا كان يدل على البيئة التي عاشها في طفولته، فهو ابن أسرة مستورة من أسر الريف، ولا بد أنَّه كان ينحدر من صلب جراكسة أو صقالبة أو أروام، والذين حكموا مصر دهرًا طويلًا في العصور الوسيطة، وكان الأستاذ «ع» نتاج اختلاط هذه الطبقة بالفلاحين المصريين عندما اضطروا إلى ذلك بعد تدحرجهم من قمة الهرم الاجتماعي بفعل غزاة آخرين. ولم يكن الأستاذ «ع» علمًا على شيء أو نابهًا في شيء؛ ولكنَّه كان يُلِم بأشياء كثيرة، وكان يشترك في النقاش الذي يحتدم أحيانًا بين شلة الأدباء، ولكنَّه كان يشترك بالإيماءة وهزة الرأس، وأحيانًا بكلمات قليلة وعبارات قصيرة كان يُتقن نطقها: في الواقع أنا مش موافق … أو: لعل وعسى … أو: … يعني … المسألة مش كده بالضبط … لكن …! ولم تكن هذه العبارات التلغرافية الشفرية تُنبئ عن الرأي الذي يتبناه أو الجانب الذي يؤيده؛ ولكنَّها كانت كافية لكي يثبت الأستاذ «ع» وجوده بين شلة الأدباء، وأيضًا كانت كفيلة بإدخال السرور إلى قلبه، وإحساسه بأنَّه أدى ما عليه. وأحيانًا كان يبدو شديد السعادة عندما يخلو ركن الأدباء إلَّا من بعض الشبان الذين يترددون أحيانًا على المقهى، عندئذ كان الأستاذ «ع» ينتفش ويبدو كأنَّه شخص آخر.
وكان يُعيد على أسماع هؤلاء الشبان المناقشات التي دارت، ويشرح لهم رأيه فيما دار، وكيف أنَّه أفحم الجميع بطرحه الذي أسكت الجميع، ويظل يردد بشكل منتظم وبطريقة آلية السؤال الذي ألقاه وسط شلة الأدباء كالقنبلة، فنسف الجميع ولم يجرؤ أحد منهم على أن يرد على السؤال، في تلك اللحظة كان الأستاذ «ع» يجلس منتفخًا على الكرسي يشفط من سيجارته أنفاسًا متلاحقة، وقد وضع ساقًا على ساق، عارضًا على أنظار الأدباء الشبان الفقراء حذاءه الإنجليزي اللامع … ما هو أنا حطيت المسألة على بلاطة … السؤال بتاعي كان بسيط للغاية … هو الهدف إيه؟ وبمعنى أصح: هي العبارة إيه؟
وأحيانًا … وفي الليالي التي كان يُغادر فيها أنور المعداوي القهوة مبكرًا، يجلس الأستاذ «ع» في الصدارة مستعينًا بالشاي الذي «يرشه» على شباب الأدباء في عقد ندوة ملَّاكي يتحدَّث فيها عن آرائه في الحياة والناس. حدث في العام ١٩٥٥م عندما عرض نعمان عاشور روايته «المغماطيس» أن أدار أنور المعداوي مناقشة مفتوحة حول المسرحية، اشترك فيها الدكتور القط، وزكريا الحجاوي، ويوسف الحطاب … وفجأة سأل أنور المعداوي الأستاذ «ع» عن رأيه في المسرحية فأجاب في اختصار شديد: «ما هو یعني نعمان عاشور هو كده»! ولم يفهم أحد من الجالسين … هو كده إيه؟ كما أنَّ الأستاذ «ع» لم يهتم بأن يشرح ذلك. وبعد تلك المناقشة بأيام، اقترب مني الأستاذ «ع» وهمس في أذني بأنَّه يريد مشاهدة مسرحية نعمان عاشور وطلب مني أن أدبر له تذكرة من صديقي صلاح منصور، واكتشفت أنَّه لم يُشاهد المسرحية، وإن كان أبدى فيها رأيًا لا ينفع ولا يضر! ولقد ظلَّ الأستاذ «ع» حريصًا على حضور ندوة قهوة عبد الله حتَّى انهدت من أساسها، كما ظلَّ مواظبًا على الحضور في مواعيد مبكرة والانصراف في وقت متأخر والاشتراك في المناقشات بطريقته وبأسلوبه التلغرافي الغامض! ولكن أغرب ما في قصة الأستاذ «ع» أنَّني لم ألتقِ به قط بعد زوال قهوة عبد الله، كأنَّما انشقت الأرض وابتلعت الأستاذ «ع»، صحيح أنَّ العلاقات بين أدباء الندوة اختلفت بعد زوال القهوة عنها قبلها؛ هناك علاقات استمرت؛ كالعلاقة بين الثالوث الشهير: القط-المعداوي-شعبان، وعلاقات تقطَّعت بعض خيوطها وإن بقيت بعض خطوطها مشدودة، كالعلاقة بين عبد الحميد قطامش وزكريا الحجاوي من جهة وشلة الندوة من جهة أخرى، وبعض أدباء القهوة يتردَّدون في زيارات متباعدة وخاطفة على زملاء الندوة، ولكن الأستاذ «ع» هو الوحيد الذي اختفى تمامًا وغاب في زحام البشر. أین؟ لا أدري، ولا أعتقد أنَّ أحدًا غيري يدري أين ذهب الأستاذ «ع» بعد أن انفضَّ مجلس قهوة محمد عبد الله! ولكن زكريا الحجاوي قال بأنَّه عاد إلى قريته ليتولى منصب العمدة خلفًا لقريبه العمدة الذي مات، وأعتقد أنَّ الخبر الذي أذاعه زكريا كان تشنيعة أكثر منه خبرًا، وأنَّ تشنيعة زكريا كانت تحمل رأيه في أكثر المناصب لياقة لمواهب واستعداد الأستاذ «ع».
الفارس الآخر الذي اختفى فجأة من قهوة عبد الله كان الأستاذ «د»، والأستاذ «د» كان ضابطًا في الجيش، ولكنَّه حوكم أمام محكمة عسكرية خلال حرب فلسطين، وطُرد من صفوف الجيش لأسباب ليس هنا مجال ذكرها، واضطر الأستاذ «د» إلى افتتاح دكان لكي وغسيل الملابس في حي العجوزة، وانتسب في الوقت نفسه لكلية الآداب وراح يشق طريقه بالرغم من الظروف التعيسة حتَّى حصل على ليسانس الآداب، وهنا ترك دكان الغسيل وعاد ليمارس حياته الجديدة كأديب، واتخذ من قهوة عبد الله مكانًا مختارًا ومحطة انتظار لاصطياد فرصة لا بد أن تسنح مهما طال الزمان! ولكن الفرصة لم تُتَح قط. وكانت غلطة الأستاذ «د» الكبرى أنَّه تصوَّر أنَّ الأدب شهادة تُعطى للإنسان من كلية الآداب، وكان يرى أنَّه أحق الناس بالشهرة والذيوع لأنَّه فوق كونه يحمل شهادة ليسانس الآداب، فهو أيضًا من أقرباء واحد من أشهر وأعظم أدباء مصر كلها في ذلك الحين، ولقد تصوَّر الأستاذ «د» أنَّ قرابته لهذا الأديب الكبير تمنحه الحق في أن يُصبح أديبًا، غير أنَّه اكتشف بالتجربة أنَّ الأسلحة التي يحملها كانت أسلحة فاسدة؛ ففي مجال الإبداع الأدبي والفني لا الشهادة تُجدي، ولا صلة القرابة بأديب عظيم تُفيد، ولذلك تذوَّق مرارة الفشل في كل التجارب التي خاضها، كتب قصصًا قصيرة لم يقبل أحد نشرها على الإطلاق، وكتب شعرًا فشل حتَّى في إقناع الأصدقاء بالإنصات إليه، ثمَّ راح يُشيع أنَّه يكتب رواية، ولكنَّه لم يبدأ في كتابة سطر واحد من هذه الرواية حتَّى مات؛ ولكنَّه فجأة اكتشف أنَّ أحد أبناء دفعته في الكلية الحربية قد صار مسئولًا كبيرًا، ولمَّا كان هذا المسئول يشتغل أيضًا بالصحافة، فقد أسندت إليه القيادة العامة مهمة الإشراف على إحدى المجلات الأسبوعية، ولذلك أسرع الأستاذ «د» إلى صديقه الذي كان عند حسن الظن به، فعيَّنه مُحرِّرًا بالمجلة التي يُشرف عليها، وأشاع الأستاذ «د»، أنَّه قد عُهِدَ إليه بالإشراف على المجلة، وأنَّه المسئول الوحيد عن توجيهها ورسم سياستها، وراح يشكو لكل معارفه من جسامة المسئولية وإرهاق العمل. واختفى الأستاذ «د» من قهوة محمد عبد الله، ولكنَّه كان لا يكف عن تكرار شكواه كلما التقى بزميل من زملاء الندوة في الطريق العام؛ ولكن كل شيء انكشف فجأة عندما حضر صديقه المسئول ذات مساء إلى القهوة ليعرف من عبد الحميد قطامش سر تغيب الأستاذ «د» مدة أسبوعين كاملين دون أن يترك رسالة لأحد؛ ولكن قطامش الذي كان يجهل هو الآخر سر غياب الأستاذ «د» برَّر غيابه بثقل المسئولية الملقاة على عاتقه، وخطورة المهمة التي يضطلع بها الأستاذ «د» في إدارة سياسة المجلة والإشراف على تحريرها، وأبدى ذلك المسئول اندهاشه الشديد لتصوُّر قطامش الخاطئ، وراح يشرح لمن كانوا يحضرون الندوة تلك الليلة كيف فشل الأستاذ «د» في كل عمل أسنده إليه، وكيف أنَّه لم ينجح في كتابة موضوع واحد يصلح للنشر، لذلك عهدوا إليه بتلقي خطابات القراء وفرزها ثمَّ توزيعها على أقسام المجلة، وأنَّ هذا العمل فقط هو مهمة الأستاذ «د» في المجلة التي يعمل بها، وعندما علم الأستاذ «د» أنَّ صديقه المسئول حضر إلى قهوة عبد الله، وأنَّه كشف سره، اختفى تمامًا وظلَّ حريصًا على أن يبقى بعيدًا عن شلة أدباء قهوة عبد الله حتَّى مات!
ثالث الفرسان الذين اختفوا فجأة كما ظهروا فجأة هو شاعر بقي موجودًا في المجال الأدبي والفني حتَّى مات، وهذا الأديب الشاعر هو من شلة الشباب الذين يُمثِّلون الجيل الثالث في ندوة قهوة عبد الله، والتي كان من بين أعضائها الشاعر صلاح عبد الصبور، والناقد رجاء النقاش، والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي. هؤلاء حضروا إلى القهوة بعد عشر سنوات من حضور الجيل الثاني الذي كان من بين أفراده حسن فؤاد، ويوسف إدريس، وفتحي غانم، والعبد لله؛ ولكن هذا الشاعر لم يكن في شعره يُفصح عن أي اتجاه أو يُشير إلى أي موقف؛ ولكنَّه كان يقول شعرًا حديثًا عن حبيبته التي ذهبت، أو حبيبته التي ستعود! وكان أنور المعداوي قد تنبَّأ له بمستقبل طيب وسعى لنشر إنتاجه في بعض المجلات. وذات يوم من أيام شهر فبراير عام ١٩٥٩م حضر إلى القهوة مساءً وأعلن أنَّه اختير ليُسافر في بعثة إلى الاتحاد السوفيتي، وتحمَّس بعض الجالسين فعبَّروا عن سرورهم بكلمات قصيرة في تحية ذلك الشاعر، وللمستقبل الزاهر الذي يرجونه للشاعر الشاب، كان من بين الذين تكلموا في هذه المناسبة: أنور المعداوي، وزكريا الحجاوي، والدكتور القط، ومحمود شعبان، والعبد لله، وانفَعَلْتُ أكثر فنشرتُ الكلمات التي قيلت والمناسبة التي قيلت فيها في مجلة روز اليوسف، وتمنَّيت له رحلة سعيدة وإقامة طيبة في موسكو، ونجاحًا باهرًا في تحقيق الهدف الذي يرجوه. وكم كان أسفي شديدًا عندما علمت أنَّ الشاعر طاف القاهرة كلها يحمل عدد روز اليوسف صائحًا بغضب شديد مؤكِّدًا للجميع أنَّني ما قصدت بهذه السطور إلَّا الإبلاغ عنه ولفت نظر السلطات إليه ليمنعوه من السفر إلى موسكو! في تلك الفترة من حياة مصر كانت الحملة قد اشتدت على الاتحاد السوفيتي، وضد الأفكار المتطرفة، وكان عبد الكريم قاسم قد شرع في خوض معركة ضد القوميين في العراق وعلى مستوى الوطن العربي.
ونشبت معركة ضارية بين عبد الناصر وعبد الكريم قاسم، وبعد وقوع مذبحة الموصل قامت السلطة المصرية باعتقال ثلاثة آلاف شخص، وكان قرار الاعتقال يأمر بالقبض على «الشيوعيين، والمتعاطفين معهم، والذين يوجدون معهم لحظة القبض عليهم …»، وألقت السلطة القبض على لويس عوض — وكان مديرًا عامًّا لإدارة الثقافة بوزارة الثقافة — وعلى الدكتور عبد الرزاق حسن — وكان مستشارًا اقتصاديًّا برئاسة الجمهورية — وكان بين المقبوض عليهم عشرات من الفنانين والصحفيين والكُتَّاب، وبلغ عدد المقبوض عليهم من مؤسسة روز اليوسف أحد عشر شخصًا من بينهم العبد لله. وبالرغم من اتساع قرار الاعتقال إلى حد اعتقال أشخاص لم يكن لهم أدنى صلة بالحركات المتطرفة ولا بالسياسة أصلًا، إلَّا أنَّ القائمة خلت من اسم ذلك الشاعر الذي أتحدَّث عنه، ليس هذا فقط، بل إنَّه بعد حركة الاعتقالات بثلاثة أشهر كاملة سافر الشاعر إلى موسكو، في الوقت الذي كان مجرد ذكر لفظ موسكو على لسان إنسان كفيلًا بنفيه إلى الواحات الخارجة.
والعبد لله هنا يذكر حقائق ويسرد وقائع دون أن أقصد من وراء ذلك الوصول إلى نتائج أو إصدار أحكام؛ ولكنَّني فقط أردت أن أكشف عن أوهام كثيرة سادت حياتنا الثقافية والأدبية في فترة من الفترات.
ولقد اختفى الشاعر في موسكو سنوات طوالًا، وعندما عاد لم يكف عن توزيع الاتهامات هنا وهناك على كثيرين من الكُتَّاب الشرفاء … وباعتباره مندوب التقدمية الأوحد؛ ولذلك دهشت دهشة شديدة عندما مرض الشاعر مرضًا خطيرًا، وأشرف على الموت أثناء زيارة له إلى إحدى العواصم العربية، وتدخَّلت السلطات في تلك العاصمة لإيفاد الشاعر إلى موسكو للعلاج، غير أنَّ الحكومة الروسية رفضت دخوله إلى أراضيها، وبدون إبداء الأسباب! ولم أربط بالطبع بين رفض الحكومة السوفيتية لعلاجه، وسفره السابق المفاجئ إلى موسكو وسط حملة عاتية أطاحت بكل الأدباء والمثقفين، وألقت بهم إلى المنافي والسجون.
المهم أنَّ الشاعر اختفى فجأة من حياة قهوة عبد الله بسفره إلى موسكو، وعندما عاد كانت قهوة عبد الله قد اختفت من الوجود.