عباقرة الوهم!
كانت قهوة عبد الله منطقة جذب شديدة، وقد ذاع صيتها في بداية الخمسينيات، فجلبت أبصار الكثيرين، فهرع إليها مئات، بعضهم موهوب، وبعضهم موهوم، وكان هؤلاء الموهومون أكثر! كان أشهر موهوم من هؤلاء شاب في الخامسة والثلاثين من عمره، تعثَّر في دراسته، فوصل إلى شهادة كانت موجودة آنذاك اسمها الثقافة العامة، وجرَّب الشاب حظه في مدرسة عُليا كانت تُخرِّج «كونستبلات» شرطة، وهي درجة شبيهة بأمين شرطة الآن! ولكنَّه حتَّى في مدرسة «الكونستبلات» لم يُصادف توفيقًا، فهجر الدراسة، ووُفِّقَ في عمل بإحدى الشركات الأجنبية كمدير دعاية، ويبدو أنَّه صادف نجاحًا في هذا العمل، فاستقرت أحواله المادية!
وعندما اطمأن قلبه على غده، راح يُمارس هوايته ككاتب قصة، ولأنَّه كان متأثرًا بروايات السينما المصرية، فقد كانت قصصه كلها على هذا النحو. ولقد حاولت أكثر من مرة أن أقرأ له رواية كاملة ولكني لم أُوفَّق؛ فقد كان الكاتب أصلع العقل، وكان أسلوبه رديئًا، وثقافته ضحلة، وكثيرًا ما كان يُخطئ في الإملاء. ولكنَّه استطاع بدخله الكبير أن يطبع إنتاجه الأدبي على حسابه، في كتيبات صغيرة وأنيقة، وكان يحرص على أن يضع على الغلاف صورة لامرأة جميلة، وكان يختار عناوين رواياته شبيهة بأسماء أفلام السينما: صرخة في الظلام، انتقام المدينة، لهيب الثأر.
وكان المؤلف إيَّاه يتمتَّع بصحة جيدة، وكان يُميِّزه شارب ضخم كان يحرص على دهنه كل صباح بالجوزماتيك! وكان يحمل معه دائمًا حقيبة كبيرة كحقائب تلاميذ المدارس، ولكنَّها كانت من الجلد الفاخر، وكان المؤلف إيَّاه يبدو بشاربه الضخم وحقيبته الجلدية كأنَّه حلَّاق أفرنجي في حي الزمالك! وكان من عادته كلما أصدر رواية جديدة من تأليفه، أن يُقيم حفلًا يدعو إليه عددًا من صغار الأدباء، وكان يبدو سخيًّا في هذه الحفلات؛ يُطعم المدعوين ويسقيهم، ثمَّ يُوزِّع عليهم نسخًا من كتابه الجديد، بعد أن يصف كل منهم في الإهداء: الأديب الكبير، والكاتب المطبوع!
فإذا انقضى شهر على هذا الحفل، دعا إلى حفل آخر أكبر ليُناقش مع المدعوين روايته الأخيرة، وكان يدعو مع الأدباء الصغار بعض صغار المحررين والذين يعملون في مجلات فنية خاصة، وكان يغدق عليهم الهدايا لكي ينشروا صورته مع خبر عن نشاطه الأدبي في المجلة، وكان هؤلاء يتفننون في اختلاق المناسبات التي يكتبون فيها عن الأستاذ، فأحيانًا هو في طريقه إلى رحلة ليتعرَّف على الأدباء العالميين، وأحيانًا ستُتَرجم روايته إلى اللغة البرتغالية! وكان هو يُصدِّق هذه الأخبار، ويحرص على الاحتفاظ بنسخة المجلة التي نشرت الخبر في الحقيبة، وكان يُردِّد أحيانًا — وبصوت يحمل رنة أسف: «مش عارف مين اداهم الخبر؟» ثمَّ يُخرج النسخة على الفور ويطلع عليها الآخرين!
وكنت أراه ينتحي في ركن ببعض الكُتَّاب الكبار، ثمَّ يُخرج محفظته ويدس أوراقًا في أيديهم، وكانت هذه السلَفيات غالبًا لا ترد! وكان يحلو له أحيانًا الحديث عن مشروعاته الأدبية في المستقبل، وكيف أنَّه أرسل عدة خطابات إلى الدكتور طه حسين والدكتور إبراهيم مدكور لمشاركته في هذه المشروعات.
ولكنه كان يتبجح في الحديث كلما انفرد بالشباب وبالأدباء، أمَّا في حضرة أنور المعداوي وعبد القادر القط فكان يلزم الصمت، وكان المعداوي يحتقره ويعتبره نبتًا شيطانيًّا، وليس له قيمة على الإطلاق، وكان يقول أحيانًا: إنَّ وجود هؤلاء من أسباب تدهور الحركة الثقافية في البلاد. وإنَّه لو كان الأمر بيده لحاكم هؤلاء على الورق الذي استهلكوه في إصدار كتبهم! وكان يشعر هو باحتقار أنور المعداوي لإنتاجه الأدبي، فكان يجلس منطويًا في حضرته، فإذا علَّق فبالاستحسان الشديد لكل كلام ينطق به أنور المعداوي.
وعندما انهدمت قهوة عبد الله، انتقل الأديب الموهوم إلى قهوة في عابدين وأنشأ فيها ندوة أطلق عليها اسمه، ودعا إلى حلقته بعض المُريدين من صغار المحررين وصغار الأدباء، ووجد فرصته في الندوة الجديدة فصار يُؤلِّف نظريات ويُطلق أحكامًا، فإذا استحسن إنتاج أحد البراعم، أشار نحوه وقال بصوت كصوت السيارة: أنت من مدرستي!
ولكن الأيام عبست للأديب الموهوم، فجرى التأميم على الشركة التي كان يعمل بها، ثمَّ طحنته الأيام، فلم يعد يُصدِر كتبًا، ولم يعد يكتب روايات جديدة، ثمَّ اختفى تمامًا في بداية الستينيات، وغاب تمامًا عن مقاهي ومحافل القاهرة! ولكنَّه قبل اختفائه كان قد أسَّس لنفسه مدرسة بالفعل، وكان أهم تلاميذها شاب ريفي حصل على شهادة التجارة المتوسطة، ثمَّ جاء إلى القاهرة ولديه أحلام عريضة عن مستقبل أدبي حافل.
كان أكثر ثقافة من أستاذه، وكان قد قرأ شيئًا من الشعر العربي، وحفظ أبياتًا للمتنبي والبُحتُري وأبي تمام! وكان على إلمام بسيط بتاريخ مصر الحديث، وكان مُتحمِّسًا للثورة، ويعتقد أنَّها قامت لتمنح الفرصة له وللكادحين من الأدباء، وكان يُفضِّل العقَّاد على طه حسين، ويُفضِّل طه حسين على توفيق الحكيم، ويُفضِّل المنفلوطي على الجميع، وكان يكتب قصصًا أشبه بقصص جوركي، وكان أبطاله كلهم من الضائعين والصياع، ولكنَّه كان يكتب قصصه بلغة فصحى، وكانت سطحية وبلا عمق وتنتهي دائمًا بخطبة عصماء عن الفقر والفقراء!
وكان هذا الشاب وآخرون مثله ضحايا حرفة الترجمة التي نشطت في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات للأدب الروسي، وقد تصوَّر عديمو المواهب أنَّ سر قوة الأدب الروسي هو اهتمامه بطبقة الفقراء والناس العاديين، وتصوَّروا أنَّ الكتابة عن هؤلاء بلا فن ولا أدب هي الطريق إلى الشهرة وإلى المجد! وكان لهؤلاء الشباب بعض العذر؛ ففي فترة الفوران السياسي الذي شهدته مصر في تلك الحقبة، كانت الجماعات اليسارية تتعصَّب لأنصارها، وكانوا يُقدِّمون هذا الأدب على غيره من الألوان الأخرى، وكانوا يحتقرون أي موهبة لا يلتفت صاحبها إلى المشكلة الاجتماعية بعيون مفتوحة.
واعتبرت هذه الجماعات كُتَّابًا مثل عبد الحليم عبد الله، وأمين يوسف غراب، وإبراهيم الورداني كوَباء يجب مكافحته، وقدَّموا كُتَّابًا من أنصارهم ينحازون للفقراء ولكنَّهم بلا مواهب؛ فقلَّدهم البعض من عديمي المواهب، وإن كانوا لا يعُون المشكلة الاجتماعية، ولا يفهمون الصراع الطبقي، وبعضهم كان يحتقر طبقة العمال. وهؤلاء الضحايا ساروا على الدرب فترة، ثمَّ فتر حماسهم، فانشغلوا بأشياء أخرى في الحياة واختفوا في زحام الناس.
وقد رأيت بطل هذه القصة بعد ذلك بسنوات، وكان يحمل معه إيصالات ويمر على البيوت لتحصيل أجر الكهرباء! ولمَّا سألته عن نشاطه الأدبي مطَّ شفتيه وهزَّ رأسه ومضى!
والمرصفاوي كان واحدًا من الذين استهوتهم قهوة عبد الله وسعى إليها، وكان طالبًا في الأزهر ويحفظ ألفية بن مالك، ويؤلف شعرًا فخمًا وله رنين وليس له أي معني، ولا يُثير الإحساس في أي نفس، وكان يعتبر نفسه واحدًا من أُدباء هذا الزمان، وكان يُنافق كبار الأدباء؛ ولكنَّه كان يُهاجمهم بقسوة في غيبتهم! وكان دائم الشكوى من الفقر والإفلاس وغدر الزمان، ويعتقد أنَّ الحظ يُعانده، ويؤمن في الوقت نفسه بأنَّ كل صاحب موهبة منحوس ومكتوب عليه أن يعيش في شقاء! ودائمًا يحمل معه كراسة من كراسات المدارس فيها قصائد من تأليفه، وكان هذا هو ديوانه الأول، وكثيرًا ما عرضه على أصحاب المكتبات الفقيرة في شوارع الجيزة الضيقة، ولم يكن يدري أنَّ أصحاب هذه المكتبات … ربما أكثر منه فقرًا!
ولكن يبدو أنَّ شدة الحاجة أرغمت المرصفاوي على الاشتغال بالسياسة، وكانت فرصته الذهبية في انتخابات عام ١٩٤٩م، فانضمَّ إلى جانب مرشح سعدي وراح يُلقي كل مساء قصيدة عصماء في مدح المرشح، ويبدو أنَّ قصائد المرصفاوي كان لها تأثير في فقدان المرشح للتأمين، ولكنَّه مع ذلك واصل العمل كشاعر في الحزب السعدي، وظهرت نتائج هذا العمل على ملابس المرصفاوي وعلى طريقة حياته.
ويبدو أنَّه ارتاح لِمَا وصل إليه فترك الدراسة بالأزهر وتفرَّغ تمامًا للعمل السياسي! وبعد إلغاء الأحزاب وحظر نشاطها اختفى المرصفاوي تمامًا، ولم أرَه بعد ذلك إلَّا صدفة في بورسعيد، وقد لمحته يرتدي جلبابًا مُمزَّقًا، وحافي القدمين، ويركب «عجلة بسكليت» ويضع على رأسه قفص عيش بلدي، ويبدو أنَّه اشتغل عاملًا في أحد أفران المدينة!
ولكن أغرب هؤلاء الموهومين كان موظفًا في إحدى المصالح، وكان يُتقن اللغة الإنجليزية، وكان يُؤلِّف روايات جنسية ويضع لها أسماء مثيرة ويصدرها في كتب، واستطاع أن ينشر اسمه عن طريق إعلانات في الصحف اليومية ومع الإعلان صورته، وهو يضع يده تحت خده كالشاعر شوقي بالتمام والكمال.
وصادف الكاتب حظًّا في البداية فكان يحضر إلى قهوة عبد الله ويشترك أحيانًا في النقاش، وأحيانًا أخرى كان يظهر في القهوة ومعه نسخ فرنسية لروايات حديثة ظهرت هناك، ولكن لمؤلفين مغمورين، وكان على استعداد دائمًا لإعارة هذه الكتب لمن يريد! وكان يتصوَّر أنَّ إحسان عبد القدوس لا يمتاز عنه في شيء إلَّا أنَّه صاحب دار نشر، وصحفٌ تنشر إنتاجه، وآه لو أنَّه حصل على هذه الفرصة، إذن لتقدَّم المسيرة ووضع إحسان ويوسف السباعي في الخلف! وكان يعتقد بأنَّ يوسف السباعي نجح لأنَّه ضابط جيش وفي السلطة! وينسب نجاح عبد الحليم عبد الله لنفوذه في المجمع اللغوي، ويؤكِّد أنَّ نجاح يوسف جوهر مرجعه إلى أنَّه من عائلة جوهر الثرية!
وبعد أن انتعشت أحواله فترة، صادف المتاعب بعد ذلك، ثمَّ قام بتمثيلية انتحار حيث ترك بعض ملابسه على شاطئ النيل وخطاب إلى من يهمه الأمر، ثمَّ سرح فترة في شوارع القاهرة يستدين من أصدقاء الطفولة وزملاء الماضي، وكان قد أصدر عشرين كتابًا من هذا النوع الذي يجيد تأليفه عندما بدأ يتسكع في الشوارع! والحق أقول: إنَّ هذا الأديب الضائع وأشباهه كانوا ضحايا إحسان عبد القدوس؛ لأنَّهم تصوَّروا أنَّ نجاح إحسان محوره الكتابة عن المرأة، ونسوا أنَّ إحسان فنان موهوب، وأنَّه يستخدم أدواته بحذق ويُجيد أسرار صنعته ويُقدِّمها بفن! تصوَّروا أنَّ الكتابة عن عالم المرأة فقط تضمَن الرواج والانتشار، ولقد حقَّقوا الرواج والانتشار من البداية، ثمَّ أغراهم ذلك إلى مزيد من السقوط، فانحصرت عناوین رواياتهم في عبارات من نوع «تعالي إلى أحضاني»، أو «مذكرات بنت ليل»، إلى آخر هذه العناوين التي استهوت المراهقين فترة، ثمَّ هجروها بعد أن اكتشفوا زيفها وفقر موهبة كُتَّابها! وانتهى هذا الفريق كله نهايات رهيبة، وضاعوا جميعًا فلم يبقَ من إنتاجهم «الأدبي» أي شيء!
ولكن أغرب هؤلاء الموهومين كان مُصحِّحًا في إحدى المجلات الميتة، ولأنَّ المجلة فقيرة فكانت تُرحِّب بنشر أحاديث للمصحح يجريها عادة مع بعض ضيوف القاهرة من الأدباء والفنانين، واستطاع عن طريق أحد هؤلاء الضيوف أن يحصل على عقد عمل في مجلة تصدر في بلد شقيق، وكان ذلك في بداية الستينيات، واستطاع أن يثبت مكانه هناك بالقليل الذي كان يعرفه عن مهنة الصحافة!
وعن طريق معارفه في القاهرة استطاع أن يربط به عددًا من الأدباء المتوسطين، واستطاع أن يحصل على رضاهم بنشر إنتاجهم في المجلة التي يعمل بها، ولذلك كنت ترى اسمه أحيانًا بين الكُتَّاب الذين يستشهد بهم هؤلاء الأدباء في كتاباتهم، واستطاع أيضًا أن ينشر بعض إنتاجه الأدبي في دور نشر بالقاهرة مقابل شراء نسخ من كتبه بعملة البلد الذي يعمل فيه؛ ولكنه فجأة ترك العمل في المجلة وانضم لأحد الزعماء هناك، فلمَّا وصل الزعيم إلى الحكم جرَّه معه فصار مديرًا لمكتبِه، وحصل على جنسية البلد الشقيق وصار من رجال السلطة، ونسي الأدب، واعتبره مجرد خطوة على طريق المجد الذي وصل إليه!
ولكن مهدي كان أكثر هؤلاء الموهومين شفافية وحساسية … ولذلك انتهى النهاية التي كان لا بد أن ينتهي إليها، فقد جرَّه أحد أعلام قهوة عبد الله ذات مساء، وكان شابًّا حديث التخرج من كلية الحقوق، يمتلئ صحة وحيوية، وكان يُجيد الترجمة، ولديه قدرة على الإبداع أحيانًا؛ ولكنَّه كان بطيئًا يرى أنَّ الحياة جديرة بأن يحياها الإنسان دون أن يبذل جهدًا كبيرًا! ولذلك فصلته جميع دور النشر التي اشتغل بها؛ لأنَّه كان لا يرى سببًا واحدًا للعجلة، كما كان يؤمن بأنَّ الصبر مفتاح الفرج! ولكن صبره طال دون أن يصادف أي فرج على الإطلاق، اللهم إلَّا عم فرج صاحب المطعم الذي كان يتعامل معه على الحساب.
وكان أكولًا تراكمت عليه الديون في المطعم فتوقَّف عن إطعامه، وكان حينئذٍ يضطر إلى ترجمة بعض الكتب وبيعها لآخرين لإصدارها في دوريات شهرية بأسمائهم، وعندما كانت تلح عليه الظروف، كان يُترجم الكتاب في ساعات قليلة وهو جالس على المقهى؛ ولكنَّه كان يتوقف تمامًا عن أي عمل ما دام في جيبه شيء من النقود، ثمَّ توالت عليه المصائب إلى درجة أنَّه باع بعض ملابسه.
ثمَّ اضطر للتجوال في القاهرة ببنطلون بيجامة وجاكتة قديمة، واستأجر دكان مكوجي بالجيزة لينام فيه ليلًا وبعد انتهاء العمل، وكان يضطر للسهر على المقهى في ليالي العيد لأن المكوجي لا يغلق بابه في تلك الليلة!
ثمَّ مات مهدي فجأة بعد مرض خاطف لم يمهله إلَّا قليلًا، ولم يعرف بموته أحد إلَّا بعد دفنه بعدة أسابيع.
وكثيرون آخرون من هذا الصنف الموهوم مروا على قهوة محمد عبد الله؛ ولكن مرور الكرام، وكانوا كالطيف أو كالضيف لم يلبثوا كثيرًا، جذبتهم الأضواء فترة ثمَّ خطفتهم مشاغل الحياة فودَّعوا أحلامهم، ودفنوا طموحهم، وساروا في الطابور الطويل، وانتهى أمرهم.
ولكن لا شك أنَّ قهوة عبد الله كانت بمثابة معمل اختبار لكل النماذج التي خفق قلبها يومًا بحب الأدب، وراودتهم أحلام الشهرة والانتشار. أمَّا أصحاب المواهب الحقيقية فقد مكثوا في الأرض، أمَّا أصحاب المواهم فقد ذهبوا في القازوزة وابتلعتهم دوامة الحياة، ولكن حتَّى هؤلاء كانوا أسعد حظًّا من غيرهم من أصحاب المواهم؛ لأنَّ بعض أصحاب المواهم أدركوا بعد فترة أنَّهم يسبحون ضد التيار فأقلعوا عن السباحة ولجئوا إلى البر؛ ولكن بعضهم ركِبه العِندُ فتصوَّر أنَّ هناك مؤامرة محلية ضد موهبته، والبعض الآخر تصوَّر أنَّ هناك مؤامرة دولية لقتل هذه الموهبة؛ لأنَّ نموها وتفجُّرها كفيل بتغيير الحياة!
من هؤلاء نموذج كان والده عسكري في مصلحة السجون، وكان ثوريًّا لا يتنازل ولا يقبل أي عذر، وكان يرى أنَّ الحل الوحيد هو إشعال النار في أركان العالم الأربعة، وقتل كل أصحاب الأرض، وكل أصحاب الفلوس، وكل ذوي المرتبات العالية، وكل المشهورين في كل فن، وكل صاحب شركة أو دكان، وكان يعتبر أصحاب الدكاكين هم سبب البلاء على هذه الأرض.
أما الأدب فقد كان في رأيه أنَّه السلاح الوحيد القادر على إشعال نار الثورة؛ ولذلك كان يحتقر كل الأدباء وكل الشعراء، وكان يرى أنَّهم سبب كل المصائب والنوائب التي حلَّت بالبشر! وكان يخص أدباء قهوة عبد الله بالذات باحتقار خاص، ولكنَّه كان يُضمر هذا الشعور لاعتقاده أنَّهم كانوا عقبة على طريق النشر والوصول إلى الجماهير، وكان يرى أنَّ الأدب الحقيقي هو الأدب المباشر الذي يدعو إلى الثورة! وكان زكريا الحجاوي يصف ما يكتبه «بالمنشورات»!
ولكنه قبل أن ينشر أو يشتهر ذهب إلى السجن في حملة اعتقال طائشة عصفت بالكثيرين، وعندما خرج من السجن كانت قهوة عبد الله قد أُزيلت من مكانها، فانتقل إلى قهوة أخرى داخل حواري الجيزة، وأعلن من هناك قيام «الثورة الشاملة»! وعندما ترك كثيرون من أعضاء التنظيمات اليسارية تنظيماتهم وانضموا إلى تنظيم عبد الناصر، أعلن أنَّ هؤلاء خونة أسفروا عن وجوههم!
وأصدر كُتيِّبًا صغيرًا اتهم فيه عبد الناصر بأنَّه عميل المخابرات المركزية الأمريكية، وحدَّد رقمه كعميل في إدارة المخابرات، ودعا جميع الثوريين إلى حمل السلاح لإسقاط عبد الناصر الأمريكي!
وفي نهاية الستينيات أُلقي القبض عليه في قضية سياسية، وبقي في السجن حتَّى أُفرج عنه في يوليو عام ١٩٧١م، واستطاع بعد قليل أن يجد لنفسه عملًا في إحدى المؤسسات الصحفية، وأعلن أنَّ اشتراكه في هذه المؤسسة هو إجراء تكتيكي للوصول إلى الهدف المنشود! ولكن يبدو أنَّ الأخ الثوري قد استكان للحل التكتيكي، فاختفى تمامًا من الجيزة، ولم يعد أحد من شلة القهوة يراه.
ولكنَّه سرعان ما عاد إلى الظهور من جديد، مسئولًا للدعاية عن إحدى شركات الانفتاح، وهي لم تكن شركة بالمعنى المفهوم، ولكنَّها كانت عملية تهليب انتهز أصحابها فرصة ما أسموه بالانفتاح.
ويبدو أنَّ صاحبنا الثوري قد تطوَّرت أعماله بشكل كبير، فاقتنى سيارة مرسيدس «خنزيرة» وسكن في بيت على النيل، واشترى قطعة أرض على ترعة المنصورية، واشترى عدة شقق صغيرة في شارع فيصل وشارع الهرم باعتبار (أهي تنفع)؛ ولكنَّه وسط انشغاله بعمليات البيع والشراء نشر بحثًا سياسيًّا في كتاب أعلن فيه أنَّ عبد الناصر لم يكن اشتراكيًّا؛ ولكنَّه كان مجرد دكتاتور اختفي تحت شعار كاذب هو الاشتراكية، وأنَّ السادات هو الممثل الحقيقي للطبقة الرأسمالية، ولذلك يسمح لممثلي الطبقات الأخرى بالوجود على الساحة، ودعا جميع الاشتراكيين الحقيقيين للاستفادة من فترة الانفتاح لتحقيق الثراء تحسبًا للأيام الصعبة وللجهاد المنتظر بعد فترة السادات!
ويبدو أنَّه لم يكن الوحيد الذي اقتنع بهذا المنطق، ولكن يبدو أنَّه كان أكثرهم حذقًا وشطارة، فسرعان ما استقل عن زملائه في العمل، وانفرد بشركة انفتاحية، ومدَّ نشاطه إلى إسرائيل، وكان يُعلن دائمًا في مجالسه الخاصة أنَّه على جميع الثوريين أن يُوجَدُوا في إسرائيل، ويُعمِّقوا صلاتهم بها لمعرفة ما يدور داخلها، وللوقوف على نواياها الحقيقية.
ولكنَّه بعد مقتل السادات هاجر من مصر ونقل نشاطه إلى دولة أوروبية، وافتتح لنفسه مكتبًا وبدأ التعامل مع الخليج؛ ولأنَّ كل شيء يُنسى في بلادنا بعد حين، فقد أعلن رجل الأعمال الثوري أنَّ الاشتراكية لم تستطع حل مشاكل البشر، وأنَّ الرأسمالية انتهى زمنها، وأنَّه على الثوريين الحقيقيين أن يبحثوا عن نظرية جديدة تصلح لعلاج مشكلات البشر، ثمَّ أعلن أنَّه عاكف في الوقت الحاضر على وضع أسس النظرية الجديدة، وإن كان هذا لم يمنعه من شراء عدة بيوت في ضواحي لندن، وعدة مكاتب في لندن نفسها.
وما أكثر عينات البشر التي مرَّت على قهوة عبد الله؛ لقد كانت بحق أشبه بميناء كبير يتردَّد عليه الرُّكَّاب وأصحاب المصالح والشيالون والنشالون والموَدِّعون والمستقبِلون، كلهم يلتقون على رصيف المقهى أو الميناء فترة ثمَّ يفترقون، ولكن تمتاز قهوة عبد الله عن الميناء بأنَّ الذين التقوا عليها كانوا من نوعيات خاصة، وكان لديهم أحلام وطموحات كبيرة، ولكن لأنَّ أقدارنا ليست بأيدينا يا نهر البنفسج — على رأي زكريا الحجاوي — فقد اختلفت الحظوظ والأقدار عند نهاية الطريق.