بداية ونهاية
قهوة محمد عبد الله كانت تتوسَّط ميدان الجيزة في عصره الذهبي الذي كان، كان الميدان وقتئذٍ فسيحًا تتناثر على جانبيه مساحات من الأرض الفضاء قامت عليها ناطحات السحاب وأطبقت على الميدان وخنقت أنفاسه، وكانت القهوة تحتل ناصية هامة للغاية، ويتفرع على جانبيها شارعان من أهم شوارع الجيزة وأقدمها: شارع سعد، وشارع عباس، وكان للقهوة ثلاثة أبواب فسيحة مفتوحة على الميدان، وباب جانبي مفتوح على شارع عباس، وكانت كراسي القهوة تتناثر على رصيف الميدان وتطل عليه، وتصبح الجلسة على رصيف المقهى جزءًا من جغرافية الميدان، وكان المعلم محمد عبد الله يتخذ لنفسه محلًّا مختارًا داخل المقهى وإلى جوار «النصبة» حيث يتم إعداد الشاي والقهوة وغيرهما من الطلبات، وكان اختياره للمكان نتيجة دراسة جدوى؛ لأنَّه كان من مجلسه يُراقب عامل المقهى، كما أنَّ المارة في الميدان كان باستطاعتهم أن يُشاهدوا المعلم محمد عبد الله ومن أي زاوية من زوايا الميدان، كان المعلم محمد عبد الله رجلًا سمينًا ممتلئًا، ليس بالقصير ولا بالطويل؛ ولكن أكتافه كانت عريضة، وصدره بارزًا، وشاربه يُغطي مساحة كبيرة من وجهه، وكان مُتجِّهمًا على الدوام، لم أضبطه مرة واحدة في حالة ابتسام، وكان في حالة استنفار على الدوام، إذا تسلل إلى المقهى مواطن عطشان يريد أن يشرب ماءً مثلجًا نهره المعلم بالحسنى أولًا، ثمَّ بطريقة أخرى إذا لزم الأمر، أمَّا إذا تهجم بائع سرِّيح أو صباغ أحذية ودخل المقهى فليس أمام المعلم إلَّا طريقة واحدة للتعامل مع هؤلاء، فقد كان يقذفهم بما يتيسر من أدوات تحت يده: كوب شاي ساخن، أو فردة حذاء! ولذلك كانت قهوة عبد الله آمنة تمامًا، وحدودها محترمة. ولم يُشَاهَد أحد من غير زبائنها يشرب من مياهها، ولم يُسْمَح لأحد من صبَّاغي الأحذية باختراق حدودها إلَّا الولد «بحبح»، فهو الوحيد الذي كان مسموحًا له بهذا الشرف الرفيع!
وكان «بحبح» شهيرًا في الجيزة، فقد كان في مواجهة قهوة عبد الله استوديو للتصوير السينمائي، هو استوديو «توجو مزراحي»، وهو يهودي مصري اشتغل بالإخراج السينمائي وأخرج خمسين فيلمًا مصريًّا على الأقل، ثمَّ هرب من مصر بعد حرب فلسطين ولم يسمع عنه أحد شيئًا بعد ذلك. وكان «بحبح» يقوم أحيانًا بأدوار ثانوية صغيرة في الأفلام، وفي فيلم «علي بابا والأربعين حرامي» قام بدور حرامي، واستغرق ظهوره على الشاشة دقيقة كاملة، ومن يومها اعتبر «بحبح» نفسه نجمًا سينمائيًّا، وكان يتعامل مع الجميع على هذا الأساس!
وكان للمعلم محمد عبد الله أبناء كثيرون، كلهم لهم نفس الهيئة ونفس السحنة ونفس التكشيرة التي تُخيف الطير السارح في فضاء الله؛ ولكن حسن كان أضخم من والده وأقوى، وكان محترف خناقات، ولكن في غيبة أبيه! وكان أحمد هو الابن الأكبر للمعلم محمد عبد الله، وكان أقصر من أبيه، وإن كان يتمتع بكل صفاته الأخرى: النظرة الميتة، والقبضة الحديدية، وعدم الاهتمام بأي شيء في الحياة إلَّا القهوة والزبائن والطلبات.
الرجل الوحيد الذي خرج عن القاعدة العامة المعمول بها في القهوة هو الجرسون؛ فقد عمل في شبابه مع خواجات من بلاد اليونان، وشرب منهم أسرار الصنعة وقلَّدهم حتَّى في النداء على الطلبات! فقد كان يطلب الشاي والقهوة بأسمائها الأفرنجية، وبشكل مختلف عمَّا اعتاده الناس في قهاوي حي الجيزة الشعبي العريق، وكانت ملابسه دائمًا نظيفة، وشعره دائمًا لامعًا، حتَّى بعد أن تآكل من الوسط ظلَّ حريصًا على تصفيفه، وتلميعه لكي يبدو في الهيئة اللائقة على الدوام! وكان يتمتع بكياسة وذوق ومشاعر رقيقة، وكأنَّه أحد شعراء العصر الفيكتوري الزاهر، وكان يعرف قدر الأدباء ويُكِن لهم احترامًا شديدًا، ولذلك كان يُلبِّي طلباتهم دون أن يُصر على تقاضي الأجر، وأحيانًا كان يُقرضهم بعض النقود إذا كانوا في حاجة إليها، وبعضهم مات دون أن يُسدِّد ديونه! وكان هذا الجرسون الطيب رغم فقره وضنكه حريصًا أشد الحرص على تعليم ابنه الأكبر، وقد حصل الولد على شهادته الجامعية وحقَّق حلم أبيه، وحقَّق الولد لنفسه وضعًا اجتماعيًّا جديدًا؛ ولكنَّه لم يمد يد المساعدة إلى والده الذي حرَّم على نفسه كل متع الحياة من أجل تعليمه، ومات الجرسون الطيب حزينًا، وعانى شظف العيش والحاجة في نهاية حياته، بينما كان ولده ينعم بحياة ميسورة في شقته بحي الدقي دون أن يُكلِّف نفسه عناء السؤال عن أحوال الوالد المريض!
ولعلَّ هذا السلوك من جانب الولد كان أحد الأسباب التي قصمت ظهر الجرسون الطيب وعجَّلت بوفاته، ولقد أسعدني الحظ بالاشتراك في جنازته، وابتهجت كثيرًا عندما لمحت بين الأعداد القليلة التي حضرت الجنازة «بحبح»، والمعلم أحمد الابن الأكبر للمعلم محمد عبد الله.
كانت هذه هي شخصيات القهوة: المعلم عبد الله، وولداه، والجرسون الطيب، وبحبح صبَّاغ الأحذية، وعبادة المجنون — وقد أفردنا له فصلًا خاصًّا به في بداية هذا الكتاب.
وقصة محمد عبد الله قصة تتكرَّر كثيرًا في حياة أبناء الصعيد، يُهاجر الواحد منهم إلى القاهرة وليس معه إلَّا ثمن تذكرة القطار، وبعضهم كان يحضر إلى القاهرة في مركب شراعي، ثمَّ يدخل السوق ليتاجر في أي شيء، وبعد دورة زمن يستقر في مكان، ويبدأ حياة جديدة وطورًا جديدًا يختلف كل الاختلاف عن المرحلة التي سبقت. كثيرون من هؤلاء حقَّقوا الكثير، ووصلوا إلى قمة السلم الاجتماعي، وأصبح بعضهم من أصحاب الملايين ومن أصحاب النفوذ أيضًا، ولكن محمد عبد الله لم يكن طموحًا إلى الحد الذي يرفعه إلى هذه المكانة، فقد كان يطمع في الستر، ولا بد أنَّه حقَّق كل أهدافه عندما صار صاحب قهوة وفي أبرز مكان في الجيزة، ولم يُحاول مرة واحدة تطوير القهوة أو حتَّى تجديدها؛ إنَّ الكراسي بقيت كما هي، فلمَّا تكسَّرت وتحطَّمت كان يكتفي بركنها داخل المقهى، حتَّى الجدران التي تشقَّقت واتسخت وتداعت بعض أجزائها لم يُفكِّر مرة واحدة في ترميمها أو طلائها، ولكنَّه ترك كل شيء يسير في طريقه حسب ما هو مُقدَّر، ووفق ما هو مكتوب له في اللوح المحفوظ، ولم يكن يعرف قدر هؤلاء الذين اختاروا قهوة عبد الله ندوة أدبية لهم؛ ولكنَّه كان يخشی نفوذهم، فهو يرى صورهم في الجرائد، ويستمع إلى أصواتهم في الراديو، وكان — أغلب الظن — يتصوَّر أنَّهم في مناصب كبری: ضباط مباحث ربما، أو مفتشون في الري، أو من رجال التموين! وذات مرة سألني: هوه أنور أفندي المعداوي بيشتغل إيه بالضبط؟ فلمَّا أجبته بأنَّه أديب، عاد يسألني: يعني بيعمل إيه؟ وقلت له: بيعمل أدب، فعاد يسأل: وإيه هوه الأدب؟ وبعد فترة صمت قصيرة قلت له: … الأدب هو كل كلام لا تفهمه …! وهزَّ عم محمد عبد الله رأسه … ولكني أعتقد أنَّه لم يفهم، فلم يكن لديه الاستعداد ولم يكن راغبًا في ذلك!
وإذا كانت كل نظريات علم الاجتماع تؤكد أنَّ الإنسان مدني بالطبع، إلَّا أنَّ عم محمد عبد الله أثبت فساد هذه النظرية وعدم صحتها، فلم أُشاهده مرة واحدة يتحدَّث مع أحد، ولم أسمع صوته إلَّا في مشاجرة، ولم أُشاهد له حركة إلَّا في خناقة حامية الوطيس تسيل فيها الدماء، لم يكن يكلم حتَّى أبناءه، وكان إذا اقترب من القهوة في الصباح، وقف أولاده وقفة عسكرية وقد ارتسم الذعر الشديد على وجوههم، وكانوا يؤدون أعمالًا شاقة في القهوة وبأقل أجر، فإذا أكل جلس على المائدة وحده بينما أولاده يختلسون إليه النظرات من بعيد، فإذا انتهى من طعامه ترك لهم بقاياه، وكانوا لا يستطيعون الاقتراب من المائدة إلَّا بعد أن يغسل المعلم يديه ويجلس في مكانه المعتاد لشرب الشاي، ولم يكن له مزاج خاص في المأكل أو في المشرب، فكان يشرب من نفس الشاي الذي يشرب منه الزبائن، وكان يأكل أي شيء يُقدَّم إليه، وأغلب طعامه كان جبنة قديمة وخيارًا أخضر وبعض المخللات، وكان يأكل اللحم بين الحين والحين، وعندئذ كان يختفي داخل «النصبة» حتَّى لا يراه أحد، ولم أُشاهده في حياتي يشتري شيئًا لنفسه، ولكنَّه كان أحيانًا يذهب لشراء لوازم القهوة من تاجر جملة في «بين الصورين». وكان رأسه كبيرًا وصلبًا، وكان إذا ضرب أحد الناس برأسه ألقاه على الأرض بلا حراك.
وكان أبناؤه ينظرون إليه على أنَّه بطل تاريخي، ولذلك ظلُّوا يدورون في فلكه ولم يتمكَّن أحد منهم أن يُغيِّر مساره ويتخذ لنفسه مدارًا خاصًّا به، ولقد مات ابنه حسن قتيلًا في معركة مع بعض الصعايدة الذين اتَّخذوا من رصيف القهوة مقرًّا لبيع الفواكه، ولأنَّ «حسن» كان قويًّا وكان مفتونًا بعضلاته، فقد خاض المعركة وحيدًا ضد مجموعة من أبناء «الكوامل»، وهي قبيلة عربية اشتهرت بالشجاعة والعنف، وأقامت منذ الفتح الإسلامي في أقاصي الصعيد، وبالرغم من أنَّه صمد في المعركة إلَّا أنَّه تلقَّى في النهاية عصًا غليظة على أم رأسه أفقدته النطق وأصابته بالشلل، وكانت السبب المباشر في وفاته بعد ذلك بأسابيع! ومع ذلك لم يُظْهِر عم محمد عبد الله حزنه، ولم يجعل أحدًا يشعر بأنَّه فقد شيئًا يُمكن أن يأسف عليه، وظلَّ وجهه يحمل نفس المعالم ونفس التعبيرات، وربما شعر في قرارة نفسه ببعض الارتياح؛ لأنَّ «حسن» كان قد تعوَّد في السنوات الأخيرة أن يختلس شيئًا لنفسه من إيراد القهوة!
وأخيرًا قُدِّر للقهوة أن تموت عندما هدموا العمارة، ولكنَّها كانت قد ماتت قبل ذلك، ماتت بالبلَّاجرا وسوء التأثيث وسوء الصيانة وسوء الرعاية، ولذلك لم تكن وفاتها مفاجأة إلَّا للمعلم محمد عبد الله نفسه الذي انزوى بعد ذلك في بيته، ولكن فترة الانزواء لم تدُم؛ فسرعان ما فقد شهيته للطعام، وفقد رغبته في الحياة ثمَّ أسلم الروح في هدوء … ومات! وعبثًا حاول الابن الأكبر أن يلعب دور والده دون جدوى؛ استأجر قهوة قريبة من الميدان، واتصل ببعض الأدباء ليعيد مسيرة قهوة عبد الله، ولكن القهوة ماتت بعد أشهر من افتتاحها، وعاود الكرة من جديد ولكنَّه فشل، وتكرَّر فشله بعد ذلك عدة مرات، ثمَّ ضاع في الحياة، ومات ولم يبلغ الخمسين.
رحم الله المعلم عبد الله، كان في جلسته المعتادة خلف مكتبه الحقير داخل المقهى أشبه بأسد هارب من حديقة الحيوان؛ ولم أُصادف في حياتي رجلًا استغنى عن الحياة وعن الأحياء كما محمد عبد الله، وأثبت أنَّ الإنسان يُمكن أن يكون مدنيًّا أحيانًا ووحشيًّا إذا لزم الأمر!