الناقد … القط!
كان الدكتور عبد القادر القط أحد مؤسسي ندوة «قهوة عبد الله» … وكان لقبه العلمي — بالإضافة إلى منصبه كأستاذ بجامعة القاهرة — يُضفي عليه سحرًا خاصًّا. وكان — بالإضافة إلى وسامته، وعنايته بهندامه — أطيب أعضاء الندوة قلبًا، وأقلهم طموحًا، وأكثرهم تواضعًا ورغبة في مساعدة الآخرين. وكان يقضي بعض الوقت في مناقشة الأدباء الموجودين، ثمَّ يستغرقه لعب الطاولة بعد ذلك، كما أنَّه — على عكس أنور المعداوي وزكريا الحجاوي — كان من هواة لعبة كرة القدم، وكان حريصًا على مشاهدة مبارياتها! ولو أنَّ عبد القادر القط كان حريصًا على دخول سوق الأدب لكان له شأن آخر، فقد كان في وقت من الأوقات أحد ثلاثة نقاد مسموعي الكلمة في مصر بعد الدكتور مندور والدكتور لويس عوض، ولكن بعض النقاد الموسميين مثل الناقد «…» الذي استطاع أن يحتل مساحة في تاريخ النقد العربي أكبر من حجمه، وهو لم يصل إلى هذه المكانة بموهبته الأدبية، ولكن بقوة حنجرته؛ ففي العصر الاشتراكي، كان هو «بابا» الاشتراكية، وهو مفتي الواقعية الاشتراكية، واحتلَّ مناصب قيادية عُليا في الدولة، فلما سقطت دولة الاشتراكية، آثر الرحيل إلى الخارج، ونحَّى النقد جانبًا، وأصبح الآن واحدًا من «المبسوطين» في مصر!
ولكن عبد القادر القط، الصادق مع نفسه ومع الناس، آثر أن يختفي في زمن الجعجعة؛ بينما تصدر المرحلة عشرات من النصابين! وظلَّ وفيًّا لندوة «قهوة عبد الله» ولمنصبه كأستاذ في الجامعة، وظلَّ خفيض الصوت، يتكلَّم نادرًا، وحتَّى في هذه المرات النادرة، كان يتكلَّم على استحياء! ولم تكن له نزوات خاصة أو شطحات من أي لون.
كان بيته في الدقي ومجلسه في قهوة عبد الله هما كل دنياه. وكان بسيطًا وزاهدًا على نحوٍ ما. وحتَّى في أيام «نعمة» الإذاعة والتليفزيون ومسرح الدكتور حاتم بقِيَ في الظل مع كُتبه ومحاضراته. وحتَّى عندما فتحت دار النشر أبوابها لاستقبال إنتاج جمال الدين الرمادي، لم يُسارع الدكتور القط كغيره إلى هذه الأماكن، مع أنَّه لو فعل لقدَّم للناس إنتاجًا عظيمًا وباهرًا ومُشرِّفًا له ولمصر! وكان يُكن احترامًا عظيمًا لأنور المعداوي، ولكن نظرته إليه كانت تحمل شيئًا من الرثاء، باعتبار أنَّ المعداوي كان رجلًا شديد المثالية في عصر لا مثالية فيه! عصر أصبح فيه أحمد عبد العاطي صحفيًّا يُشار إليه بالبنان، وإسماعيل عبد الجبار مُؤلِّفًا يتردَّد اسمه عبر الإذاعات! ولم تكن نظرته لِما يجري حوله تحمل شعور المرارة الذي كان يحمله أنور المعداوي، كما أنَّه لم يُناصب المجتمع العداءَ كما فعل غيره؛ ولكنَّه أخذ الأمور بهدوء، وعلى أنَّ ما كان سيكون! وعلى الرغم من ذلك كان يحتفل بأيَّة موهبة جديدة، وبأيَّة حركة تُبشِّر بخير، وهو الذي قدَّم كتابي الأول «السماء السوداء»، وحرَّض طلبته في كلية الآداب على قراءته باعتباره نموذجًا من الإنتاج الأدبي الجديد. وهو الذي احتفل بإنتاج صلاح عبد الصبور المُبكِّر، وبقصص يوسف إدريس التي نُشرت في السنوات المُبكِّرة في الخمسينيات. وكان يُحب زكريا الحجاوي حُبًّا شديدًا، ويعتبره عبقريًّا حقًّا، ولكن سوء حظ مصر أنَّ هذا العبقري أهدر إنتاجه في «الكلام»، فجاءت أعماله الخالدة مجرد طلقات طائشة في الهواء! وكان يحمل للشيخ عبد الحميد قطامش هوى خاصًّا في نفسه، ويعتبره نموذجًا للعبقريات التي أهدرتها ظروف المجتمع السيئة … فلو أنَّ عبد الحميد قطامش وُجد في بيئة أخرى؛ كفرنسا، لكسبت الإنسانية أديبًا عبقريًّا ليس له نظير. وكان يستمتع بمسرح نعمان عاشور ويعتبره أبًا للمسرح العربي الحديث، وكان الدكتور القط يتمنَّى لو أُتيحت له فرصة للتأليف، فهو أحيانًا كان يقرض الشعر، ولكنَّه كان يختص نفسه وأصدقاءه المُقربين بهذا الشعر! وقد حاول أن يكتب قصصًا ثمَّ أقلع عن ذلك فجأة لسببٍ لا أدريه! وعندما انهدمت قهوة عبد الله في بداية الستينيات، تشاءم الدكتور القط وانتابه هم شديد! وعندما نقل ندوته مع أنور المعداوي كان يزفر أحيانًا بلا مناسبة، ويُردِّد في حزن بالغ: «مش دي قهوة عبد الله!» وعندما هاجر أنور المعداوي إلى قريته في ريف البحيرة، أدرك أنَّ الحياة قد أصابها حادث مؤسف، وراح يتردَّد على المقهى مع محمود شعبان فترة ثمَّ غاب هو الآخر، ثمَّ اختفى تمامًا بعد موت أنور المعداوي، وكأنَّه مُتعمِّد هذا الاختفاء، تضامنًا مع المعداوي الذي اختفى بالموت، فاختفى هو الآخر بالحياة! ولكنَّه عاد يلمع من جديد في جامعة بيروت العربية، وترك هناك تلاميذ أوفياء، وحلقات أدبية شربت حتَّى ارتوت من أدبه ومن علمه. ثمَّ لمع في عهد السادات كعميد لكلية آداب عين شمس. ثمَّ عاد من جديد إلى الظل في عصر كان أهم نُقَّاده هو حسن عبده، وأعظم مواهبه الجديدة عبد السلام الأطفيحي!
والدكتور القط هو أكثر الناس شبهًا بالكاتب الكبير يحيى حقي، كأنَّما هو حريص على الابتعاد عن دائرة الضوء. وهو مع مندور ولويس عوض يشبه عبد الرحمن شكري مع المازني والعقَّاد. عاش في هدوء وذهب في هدوء، مع أنَّه كان أغزرهم علمًا وأنعمهم موهبة. وميزة عبد القادر القط أنَّه لم يلتحق بركاب أحد، ولم يمشِ في تيار، ولم يصفق لإنتاج دون إنتاج، كان مع الإنتاج الجيد من كل الألوان. وكان مع الأدباء الموهوبين من كل اتجاه. لم ينصِّب نفسه «بابا» للأدب، ولم يُوزِّع صكوك الغفران على الأدباء، وكان يحتفل بكل موهبة، ولو كانت ضئيلة. وكان يرى أنَّ الموهبة هي مصدر كل السلطات … ذات مرة كنت أجلس معه في المقهى، وكان المعداوي يقرأ لي قصة قصيرة، وعندما انتهى منها قال لي وهو يضحك ضحكته الشهيرة: «عيبك الوحيد يا محمود إنك مش مدرك قيمة ما تكتبه»! وردَّ عليه القط في هدوء: «بالعكس، لعلها ميزة محمود، لو أدرك قيمة ما يكتبه لفسد»!
وعندما قرأت عليه فصول أول مسرحية كتبتها «فيضان النبع» صمت قليلًا ثمَّ قال: «حوارك ممتاز؛ ولكن لا بد لك من دراسة قواعد المسرح»! وبعد أيام جاءني بكتاب للأستاذ دريني خشبة ونصحني بدراسته. وللأسف لم أستطع أن أستفيد من هذا الكتاب في معالجة «فيضان النبع»؛ ولكن تأثيره كان عظيمًا عندما شرعت في تأليف مسرحية «عزبة بنايوتي»! وحضر الدكتور القط المسرحية — التي أخرجها الخميسي — عدة مرات، وكتب عنها نقدًا، وفسَّرها بشكل لم يخطر على بالي قط، فقد قال: إنَّ العزبة هي مصر، وبنايوتي هو الأجنبي المُحتل. وكان التفسير هو التفسير الوحيد للمسرحية، والصحيح أيضًا، وعندما صارحته بأنَّ هذا الأمر لم يخطر لي على بالٍ قط، قال بهدوء وبالحرف الواحد: «أنت مالكش دعوة أنت تكتب وبس»! وكان هو الذي نصحني مرات بألَّا أدع العمل الصحفي يطغى على إنتاجي الأدبي. وعندما قرأ روايتي «عندما يعود القمر» نصحني بأن أكتب رواية أخرى، وبالفعل شرعت في كتابة رواية أخرى، ولكن لم أستمر، فقد استغرقني العمل الصحفي، ثمَّ العمل السياسي بعد ذلك، وكان هذا هو أكبر أخطائي في الحياة!
وهو بالرغم من صحته وزهده وعزلته، كان شديد المتابعة لِما يجري في الحياة. كان يسمع الإذاعة ويحضر عروض المسرح ويتردَّد على السينما، ويزور الاحتفالات الشعبية، ويقرأ الصحف اليومية، ويُتابع الإنتاج الأدبي الجديد! وعندما أذاع عبد الرحمن الخميسي «حسن ونعيمة» في حلقات، كان شغوفًا بها وحريصًا على متابعتها بانتظام، وكان يعدها عملًا أدبيًّا رائعًا، بينما كان يعدها بعض النُّقَّاد الموسميين عملًا من أعمال الاسترزاق! وكان حريصًا في شهر رمضان على الاستماع إلى مسلسلة «من قصص القرآن» ويعدها عملًا أدبيًّا دينيًّا عظيمًا، بينما كان بعض النُّقَّاد «الأرزقية»، يتعمَّدون الحط من شأنها، ويعدونها لونًا من ألوان الشعوذة والاحتيال! وعندما كان عضوًا في لجان القراءة بالمسرح، لم يرفض عملًا مسرحيًّا لأديب على الإطلاق. وكان يرى أنَّ كل جهد ينبغي أن يُقدَّر، ولكنَّه غالبًا ما كان يُشير بإجراء تعديلات على العمل المسرحي إذا كان يحتاج إلى هذه التعديلات. ولم تستطع الرقابة أن تستخدمه يومًا في قطع الطريق على مسرحية مشاغبة؛ مع أنَّها استطاعت استعمال غيره من أصحاب الأصوات التي احترفت العواء!
وكانت علاقته حسنة للغاية بالطلبة في الكلية، وعضوًا في أكثر من أُسرة طلابية. وكان يعقد الندوات لبعضهم في منزله. ويرى أنَّ العمل في الجامعة يجري على نسق العمل في المدارس الثانوية، وهو الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه الجامعات المصرية حتَّى الآن!
وبالرغم من عدم انتمائه إلى مذهب معين، أو حزب من الأحزاب، إلَّا أنَّه كان مُحترمًا من الجميع، مُهابًا بين الكل، سُمعته في الوسط الأدبي كله «أبيض من اللبن الحليب». فهو لم يسترزق أبدًا، ولم يُنصِّب نفسه داعية لمذهب ما أو شخص ما، ولم يكن في ركاب أحد، ولم يُحاول أن يجمع ثروة. ولم يمد يده طالبًا منصبًا، وظلَّ حريصًا على بقائه في الجامعة كمجرد أستاذ. وهو في المقابل احتفظ برأيه لنفسه ولم يدخل معارك عنيفة، ولم يُعرِّض نفسه للانتقام الشديد، ولم يتعقَّب «الأرزقية»، ولم يقف في طريقهم. ولذلك أسقطوه من حسابهم، وهم يخوضون معركة الحياة والموت من أجل الاسترزاق!
وظلَّ على الدوام راهبًا في دير مصر، وقد كان دائمًا مع وطنه؛ لأنَّه كان مع العدل ومع الكرامة ومع الاستقامة ومع الشرف، ولأنَّه لم يتنازل ولم يُزايد، ولم يستخدم حنجرته مطية لبلوغ الأهداف، ولذلك كان مع مصر، ولكن كان على غير المعنى الذي يُردِّده «الأرزقية»، عندما يشرعون في إغلاق باب الاجتهاد أمام المصريين! فقد كان يدعو كل الناس إلى الاجتهاد من أجل مصلحة مصر ومستقبل مصر، ولو كانت الأحوال حسنة والظروف مواتية لكان عبد القادر القط هو قاضي قضاة مصر في محكمة الأدب، وهو أصلح من يشغل منصب سكرتير عام المجلس الأعلى للفنون والآداب. ولكن بعض الظروف التي مرَّت على مصر كانت تجعل من الحياة الأدبية قطة تأكل بنيها، وخيرَهم على الأخص!
وقد نجحَتْ هذه الظروف في أن تأكل الدكتور عبد القادر القط، فانزوى أخيرًا، لا أدري أين؛ ولكن بقاءه على قيد الحياة يجعله شاهدًا على عصره، وأتمنَّى لو يتفرغ الآن لكتابة ذكرياته عن تلك الفترة المضطربة والقلقة من تاريخ مصر!
كما أنَّه قطعة حية من ندوة «قهوة عبد الله»، فهو أحد المؤسسين، وهو أيضًا أحد الأئمة الذين أشرفوا على الحياة الأدبية في مصر، وغمروها بالنور في الأربعينيات والخمسينيات وجزء من الستينيات في هذا القرن.
وإذا كان أنور المعداوي في الحياة الأدبية هو ضمير مصر، وزكريا الحجاوي كان تراب مصر، فالدكتور عبد القادر القط كان قبسًا من روح مصر الناعمة والشفافة والحانية والمُضيئة.
وإذا كان الدكتور القط قد سقط من قائمة المشاهير، فهي عادة مصرية، إذ سقط من نفس الكشف عبقريات عظيمة ومواهب فذة؛ أبرزها إبراهيم المازني، وزكي مُبارك، والشاعر إسماعيل صبري، والشاعر أحمد فتحي؛ بينما لمع في عصرهم من كانوا مثل الطين إذا سقطت عليه الشمس.
أمَّا جيلي، فقد عاش مع القط وتتلمذ عليه، وتعلم على يديه، وتشرف به! وستبقى صورة الدكتور القط تلمع دائمًا في عيون مصر!