شاعر لكل العصور
كان شاعرًا عظيمًا … هو بالقطع أهم شعراء مصر بعد أحمد شوقي، وهو بالتأكيد الذي مهَّد الطريق لظهور الأجيال الجديدة من الشعراء … لقد كان الجسر الذي عبر بالشعر من مرحلة الألفاظ إلى مرحلة الأحاسيس، ولكنَّه — رغم موته، واختفاء الخلافات والنزاعات معه وحوله — لم يحصل على حقه بعد، ولم يحتل مكانته التي يستحقها عن جدارة … لقد ضيعناه حيًّا وأهملناه ميتًا … وهي جريمة أدبية كبرى.
خاصمت شاعر «قهوة عبد الله»، قبل أن أراه … السبب أنَّني كنت صديق زكريا الحجاوي، وكان رأي الحجاوي في الشاعر ليس على ما يُرام. ولم يكن رأي زكريا في شعر الشاعر، ولكن في الرجل نفسه كإنسان.
كان يصفه بالشرير، وكان يُلقِّبه أحيانًا بالعفريت، وسمعت نفس الرأي من آخرين غير زكريا، فأعلنت الحرب على الرجل قبل أن أراه! وحدث ذات يوم أن نشر الأستاذ عزيز أحمد فهمي، وهو واحد من أعظم الكتاب الساخرين الذين ظهروا في هذا القرن العشرين، ولكنَّه ضاع في أزقة التاريخ بسبب ظروف سياسية صغيرة، وظروف شخصية قاسية ليس هنا مجال ذكرها. على أيَّة حال، أقول: نشر عزيز سلسلة مقالات في جريدة المصري بعنوان: «يوميات الرجل الذئب»، وكانت صورًا قلمية شديدة القسوة عن رجل يرتدي ثيابًا آدمية ويحمل بين جوانحه نفسية ذئب مفترس هوايته الوحيدة افتراس بني الإنسان، وعندما سألت عزيز فهمي عمَّن يقصده بهذه المقالات المثيرة قال إنَّه يقصد شاعر «قهوة عبد الله»، وراح يقص على مسامعي عشرات القصص عن الشاعر وعن المآسي التي تسبب فيها لعزيز ولغيره من الكتاب، ولذلك تعاملت مع الرجل بحذر عندما جمعتنا الظروف معًا في قهوة عبد الله، وتطاولت أحيانًا محاولًا استفزازه، ولكنَّه واجه محاولاتي بهدوء، وببرود أحيانًا! وعندما قرأت له أول ديوان شعري … لم أنَم ليلتها على الإطلاق. قرأت شعرًا حقيقيًّا منحوتًا من نفس صاحبه ومكتوبًا بمداد من دم الشاعر، لم يكن من نوع الشعر إياه الذي تقرأه فتنساه! كان أشبه شيء بشعر المتنبي؛ لا يُمكن أن يصدر إلَّا عن رجل له أحاسيس ومشاعر خاصة، ودنيا له وحده ومختلفة عن دنيا الناس، كانت تعابيره غريبة ورؤيته فريدة وعبارته الشعرية وحيدة غير مسبوقة ولا مطروقة. واحترت في أمر الرجل وارتبَكَت علاقتي به؛ فأنا أحبه كشاعر وأكرهه كإنسان، وإن كانت علاقتي به كإنسان لا تدعو إلى هذه الكراهية على الإطلاق.
ولكن ذات مساء قُدِّر لي أن أشهد حادثة كانت هي السبب في اقترابي من الرجل وتوثيق علاقتي به، فأصبحت أكثر تفهمًا له وأكثر حبًّا وإشفاقًا عليه.
كنا جلوسًا على المقهى وقت الغروب، حين اقترب منَّا رجل يرتدي جلبابًا وطاقية، وله شارب كثيف أخفى نصف وجهه، سلَّم على الشاعر وجلس على حرف المقعد وسلَّمه لفافة صغيرة مغلفة بورق سوليفان، ودسَّ الشاعر يده في جيبه وأخرج جنيهين أعطاهما للرجل الذي تناولهما في هدوء ثمَّ انصرف. وفتح الشاعر اللفافة وتناول جزءًا مِمَّا فيها دسَّه في فمه، ثم راح يلوكه على مهل وقد سرح في الفضاء.
ولعلَّ هذا الاتجاه الخاطئ في حياة الشاعر كان السبب في كل ما تعرَّض له من مشاكل أدبية وإنسانية.
وقد علمت أنَّ الشاعر مُدمن على هذا الصنف، وأنَّه وسيلته للانفصال عمَّا حوله من مشاكل ومتاعب وزحام. كان يجلس بالساعات على المقهى لا يتكلَّم، مُكتفيًا بالتحديق في لاشيء مُستغرقًا في التأمل. وكان في بعض الأحيان يُصدر أصواتًا خافتة، وأتصوَّر أنَّه يُخاطبني، ثمَّ أكتشف أنَّه يُخاطب نفسه! وكان يُطلق على زكريا الحجاوي لقب «جوَّاب الآفاق»، وعلى أنور المعداوي وصف «العمدة»، وعلى عبد الحميد قطامش وصف «المختال»! وكان رزقه محدودًا، ولكنَّه كان في الوقت نفسه قليل السعي لزيادة هذا الرزق على عكس الآخرين. ولذلك كان وقته محصورًا بين بيته وقهوة عبد الله ومكتبه في الوزارة، ونادرًا ما شُوهد في مكان عام أو حفل رسمي أو بعيدًا عن هذه الأماكن الثلاثة! حتَّى عندما قامت ثورة ١٩٥٢م لم يُبالغ في تأييدها، صحيح أنَّه أعلن تأييده لها، ولكن على مهل وبصوت خافت. فقد كان عازفًا عن الشهرة واحتلال مكان في الصدارة. كان همه كله أن يعيش في هدوء، مكتفيًا بالبحلقة في الفراغ، والتأمل في الفضاء والتحدث إلى نفسه بين الحين والآخر!
وعندما توطَّدت الصداقة بيني وبينه سألته عن سر كراهية أبناء جيله له فأجاب ببساطة وشبح ابتسامة تلوح على شفتيه: لأنَّني جحش! ولمَّا سألته تفسيرًا أوسع قال: كان لي رأي في إنتاج كل منهم وصارحتهم برأیي، ولو أنَّني كتمته لصرت فرخة بكشك عند الجميع! كان مثلًا يرى أنَّ عزيز أحمد فهمي هو أوسكار وايلد العرب. ولكنَّه بدلًا من اهتمامه بفنه، اهتم بخدمة بعض الجهات، فاستأجروه للسخرية من الزعيم الوطني مصطفى النَّحاس، وكتب ضده ما لو كُتِبَ في موضعه لحقق له الخلود. وكانت النتيجة ضياعه بسبب مؤامرة حُبكت ضده، وساعد هو نفسه على تحقيقها. وكان رأيه في زكريا الحجاوي أنَّه واحد من أعمدة القصة المصرية القصيرة. وأنَّه كتب القصة القصيرة قبل يوسف إدريس، وأنَّه هو ومحمود البدوي، ويحيى حقي، وطاهر لاشين الآباء الروحيون لهذا الفن العظيم، ولكن زكريا — لقلة صبره وشدة ضعفه لنزواته — ترك فنه الحقيقي واشتغل بالصحافة، مع أنَّها أبعد ما تكون عن طبيعة زكريا وموهبته. ثمَّ ترك الصحافة واهتم بالفن الشعبي. ولو بذل نصف هذا الاهتمام بفنه الحقيقي لصار له شأن آخر!
ولكن هذا السبب لم يكن وحده هو سر كراهية أبناء جيله له، لقد ذكر لي الشاعر نصف الحقيقة وأهمل النصف الآخر. فلم يكن الشاعر يُصارح أصدقاءه برأيه، ولكنَّه كان يقول هذا الرأي نفسه لو سأله أحد آخر. مثلًا سأله صاحب جريدة الشاعر عن رأيه في عزيز أحمد فهمي، وكان عزيز قد تقدَّم طالبًا عملًا في الجريدة، فقال الشاعر رأيه الصريح لصاحب الجريدة فامتنع الرجل عن تشغيل عزيز! وسُئل الشاعر مرة عن زكريا الحجاوي، وكان مُرشحًا لعضوية لجنة من اللجان، فأجاب بأنَّ زكريا لا علاقة له بعمل هذه اللجنة، وأنَّه مجرد كاتب قصة كبير! فاستبعدوا زكريا من عضوية اللجنة. وعندما صارحته بما أعلم قال: طيب ودي فيها إيه؟ لقد قلت رأيي الحقيقي وصارحتهم بما أعتقده، وكان ذلك لمصلحة العُمَّال ولمصلحة أصحابي أيضًا!
لم يكن «الشاعر» من أبناء هذه الدنيا، ولم يكن مُسلحًا بأسلحتها اللازمة لكي يشق الإنسان طريقه في الحياة. كان شاعرًا عظيمًا، وكان يعتقد أنَّ شعره وحده هو الكفيل بوضعه في المنزلة التي يرجوها، لكن الحياة ليست شعرًا فقط. قد يكون الشعر هو مسوغات تعيين الشاعر في مكانه الطبيعي بعد الموت. ولكنَّه أثناء حياته، الشاعر والأديب والكاتب والفنان، يحتاج إلى أسلحة أخرى غير فنه لكي يُحرز مكانًا لائقًا في الحياة. ولذلك نجد الشاعر بالرغم من عبقريته الفنية فإنَّه لم يستطع أن يُحقِّق حلمه الأبدي بأن يكون له بيت مستقل إلَّا بعد جهد شديد، كان هو السبب المباشر في هلاكه قبل الأوان، لقد بدأ في بناء البيت ولم يستطع إتمامه، وراح يجري على دوائر الحكومة يطلب كميات من الحديد والأسمنت والطوب تُعطى لمن هم أقل منه شأنًا وأقل ذكرًا، ولكنَّه لم يستطع الحصول على ما يُريد. لم تكن شهرته قد وصلت إلى طبقة السادة المستوظفين، ولذلك كانوا ينظرون إليه ببلاهة، ويندهشون لمسلك هذا الأفندي الغائب عن الوعي المُتأمِّل في لا شيء، الذي يطلب حديدًا للتسليح وأسمنتًا للبناء! وشكا لي ذات مرة من أنَّه ذهب إلى رئيس مجلس مدينة الجيزة حسين الألفي فعامله مُعاملة سيئة ولطعه على الباب فترة طويلة، ثمَّ رفض طلبه معتذرًا بأنَّ كل مواد البناء مسخرة لخدمة المعركة! وقلت للشاعر الكبير الطيب الساذج البعيد عن دنيانا: وهل حدَّثته عن ديوانه الأخير؟ قال: ديوان من؟ قلت: ديوان رئيس مجلس المدينة. قال: وهل هو شاعر؟ قلت: يا سبحان الله! إنَّه شاعر فحل لم تُنجِب الجيزة مثله، وديوانه الأخير «الشمس طالعة» أحدث دويًّا في كل مكان، خصوصًا في ديوان المحافظة! ولقد ساءه أنَّ شاعرًا كبيرًا مثلك يذهب إليه يطلب حديدًا ولا يُشير من قريب أو بعيد لديوانه الجديد! قال الشاعر الكبير: وماذا في الديوان؟ قلت: قصائد كلها عن المعركة، ولا صوت يعلو فوق صوتها، ولا رأي بعد رأيها، ثمَّ هو في النهاية أشبه بديوان الحماسة لأبي تمام! قال: هل عندك نسخة؟ قلت: أعتقد أنَّ لديَّ نسخة من الديوان وسأُفتِّش عنها لك، ولكن يكفي أن تذهب إليه غدًا وتُقابله وتُحدِّثه عن ديوانه وتعده بأنَّك ستنقده نقدًا مُفصلًا عمَّا قريب، وستأخذ منه كل ما تطلبه من حصة الأسمنت والحديد! ولم يكن حسين الألفي شاعرًا، ولم يكن له ديوان. وأشهد بأنَّه كان أكفأ من تولى هذا المنصب، وأنَّه أفاد الجيزة وأهلها، وأنَّه كان نموذجًا لرئيس المدينة الحريص على مصلحة المدينة ومصالح الجماهير. واتصلت بحسين الألفي وحكيت له «المقلب» الذي دبَّرته للشاعر. وأبدى حسين الألفي أسفه لأنَّه لم يتعرَّف على الشاعر الكبير ولم يقدم له ما يرجوه!
وعندما ذهب الشاعر في اليوم التالي استقبله حسين الألفي مُرحِّبًا، وأعطاه حصته المطلوبة، بينما كان الشاعر منهمكًا في الحديث عن ديوان «الشمس طالعة»، الذي وضعه الشاعر الكبير حسين الألفي!
وعندما أدرك بعد فترة أنَّه كان مجرد مقلب من مقالب العبد لله راح يضحك بصوت عالٍ، ويقول: ما أظرفه من مقلب؛ لأنَّه كان السبب في حل المشكلات!
ولم تهدأ نفس الشاعر إلَّا عندما خرج على المعاش وسافر إلى إحدى البلاد الخليجية وعمل هناك. لعله ذاق طعم الاستقرار لأول مرة في حياته. لعله ذاق طعم أن يكون لديه فائض من المال. وراح يُؤلِّف قصائد ويُلقيها على جمهور من عُشَّاق الشعر في أمسيات متباعدة. ولعله أيضًا في هذه الأمسيات ذاق حرارة اللقاء بين الشاعر وعُشَّاق الشعر. لعله أدرك لأول مرة في حياته فائدة الاندماج بين الشاعر وجمهور الناس. لقد عاش في مصر أغلب حياته في شرنقة نسجها حول نفسه. كان يخاف الزحام، ويخشى الجموع، ويتحاشى الاجتماعات، ولكنَّه في غربته خرج من شرنقته وسبح في تيار البشر. وعندما اجتمعنا ذات مساء وسألته أن يكتب لي مذكراته لأنشرها في جريدة السياسة على حلقات … سرح فترة ثمَّ قال: فكرة لا بأس بها لو تمكَّنت من كتابتها، لأنَّها تحتاج إلى طقوس خاصة لا أظنني قادرًا عليها الآن. وطمأنته بأنَّ كتابتها يسيرة، وما عليه إلَّا أن يبدأ ليفيض بعد ذلك نهر الذكريات. فهزَّ رأسه ولاك شيئًا في فمه وقال: سنُحاول على كل حال. في تلك الليلة تذكَّرنا زكريا الحجاوي، وعبد الحميد قطامش، وأنور المعداوي وشلة قهوة عبد الله الذين انتقلوا إلى رحمة الله. وهزَّ الشاعر رأسه وقال: رحمهم الله، سبقونا إلى دار الاستقرار وتركونا في دار القلق. قلت: وهل لا تزال تشعر بالقلق؟ وابتسم ابتسامته الشهيرة وقال: القلق لم يعد شعورًا عندي، ولكنَّه صار عضوًا من أعضائي، إذا أردت التخلُّص منه فلا بد من بتره، وإذا بترته فلا بد أن أتخلَّص «أولًا من الحياة»!
وكانت هذه الليلة هي آخر عهدي بالشاعر، فلم تمضِ أيام حتَّى سقط ميتًا بالسكتة القلبية في الكويت.
ورحل عن دُنيانا شاعر عظيم هو بالقطع أهم شعراء مصر بعد أحمد شوقي. وهو بالتأكيد الذي مهَّد الطريق لظهور صلاح عبد الصبور، وحجازي، وأمل دنقل.
لقد كان هو الجسر الذي عبر بالشعر من مرحلة الألفاظ إلى مرحلة الأحاسيس.
ولكنَّه وبالرغم من موته، واختفاء الخلافات والصراعات، لم يحصل على حقه بعد، ولم يحتل مكانته التي يستحقها عن جدارة واستحقاق!
لقد ضيَّعناه حيًّا وأهملناه ميِّتًا! وهي جريمة أدبية كُبرى؛ لأنَّه — برغم الاتجاهات والمعتقدات — كان أهم شاعر في عصرنا، وكان أعظم من غنى في سمع الوجود، وستظل أغانيه تتردَّد لتشنف آذان الأجيال إلى آخر الزمان!
رحم الله الشاعر الذي اعتزل زمانه ليُحلِّق في فضاء كل العصور.