الفلَّاح
إذا كان أنور المعداوي هو النموذج الأفضل في قهوة عبد الله، وزكريا الحجاوي هو الفنان، وقطامش هو المتكلم، وعبد القادر القط هو الطيب، فالأستاذ محمود شعبان هو الفلاح. هو فلاح حقيقي وأصيل وبدون ادعاء، وهو الوحيد الذي كان يعرف العيب، ويتمسَّك حقًّا بأخلاق القرية! ومحمود شعبان في الأدب ربما لم يترك الأثر الذي سيخلد على مر الزمان، ولكنَّه كنموذج إنساني سيحتل مكانه في الصدارة وسيكون مثلًا ينبغي أن يُحتذى. وقصة محمود شعبان هي تطبيق للمثل المصري الشعبي «الدنيا متديش عايز»، ولمَّا كان محمود شعبان «مش عايز» أي شيء، فقد أعطته الدنيا كل شيء. أصبح أديبًا ولم يكن يُريد ذلك، وحصل على الشهرة ولم يكن يسعى إليها، وأصبح يملك المال ولم يكن في لهفة إليه! وهو أصبح ثريًّا عن طريق لم يتعمَّده، ففي الخمسينيات من هذا القرن؛ كتب محمود شعبان قصة طويلة بعنوان «زهرة من الجزائر»، لم يلتفت إليها النُّقاد ولم يكتب عنها أحد. ولكن وزارة التربية والتعليم رأت أنَّها قصة ممتازة، وأنَّها تستحق أن تُعمَّم على طلبة الثانوية العامة. واشترت الوزارة حق طبع عدة ملايين من قصة محمود شعبان ليصبح شعبان ثريًّا خلال أربع سنوات. واشترى شعبان الفلاح ضيعة صغيرة في قريته، وشيَّد بيتًا جميلًا في مصر الجديدة. واشترى أسطولًا صغيرًا من سيارات الركوب وصار له دخل محترم، وحقَّق ما يكفي لاستقراره وسعادته معًا، ولكنَّه لم يُغيِّر عادة واحدة من عاداته، ولم يتنكَّر لصديق من أصدقاء الماضي، ولم يتخلَّ عن صديق في محنة، ولم يتردَّد عن مساعدة صديق في حاجة إليه.
وموقف محمود شعبان من أنور المعداوي في محنته يجب أن يُروى، لتتعلَّم الأجيال الجديدة أنَّ الحياة في أحلك فتراتها كانت تشع بالنور رغم العتمة، وتنضح خيرًا رغم حجم الشر الذي كان يُعشش في أركانها.
فعندما أطاح «س» يومًا بالمرحوم أنور المعداوي، وفصله من وظيفته وأراد له أن يركع عن طريق التجويع، كان محمود شعبان هو السبب في صمود أنور المعداوي، وبفضله لم يستسلم أنور المعداوي ولم يركع!
فقد ظلَّ محمود شعبان يصرف مرتب أنور المعداوي كاملًا خلال السنوات الثلاث التي توقَّفت فيها وزارة التربية عن صرف مرتبه. وفي أول كل شهر كان أنور المعداوي يتسلَّم ٤٦ جنيهًا و۸۳ قرشًا بالتمام والكمال. ولم يعرف هذا التصرف إلَّا حلقة ضيقة من الأصدقاء. ولم يصل السر إلى هؤلاء الأصدقاء عن طريق شعبان، ولكن أنور المعداوي هو الذي أذاع السر لهم. ولم يكن فضل شعبان مقصورًا على صرف النقود فقط، ولكن الفضل كان في شجاعته، في وقت بدأ فيه الأصدقاء يهربون من أنور المعداوي ويتحاشون الظهور معه في مكان عام. فأنور المعداوي كان مفصولًا من السلطة ومُراقَبًا أيضًا. وكان هو نفسه شديد النقمة على الأوضاع في مصر عمومًا، وعلى الأوضاع في الحقل الأدبي على وجه الخصوص، ولم يكن يُخفي غضبه أو ثورته، وأحيانًا كان يتعمَّد إعلان رأيه عندما يشعر بأنَّ العيون تلاحقه والآذان تُحيط به في المكان الذي يجلس فيه. ولذلك آثر بعض الأصدقاء أن يبتعدوا عن طريقه، وانشغل البعض الآخر بأعماله، أو تظاهر بالانشغال، إيثارًا للسلامة وطلبًا للأمان. ولكن شعبان الفلَّاح لم يتخلَّف يومًا عن حضور مجلس أنور المعداوي في قهوة عبد الله، ولم يتخلَّف شهرًا عن دفع مرتبه. ولم يتوانَ لحظة عن توفير احتياجات أنور المعداوي. ودون أن يذكر ذلك مرة واحدة لأحد! ونفس الموقف اتخذه مع أكثر من صديق؛ مع زكريا الحجاوي وآخرين لا داعي لذكر أسمائهم؛ لأنَّهم لا يزالون على قيد الحياة. وأغرب شيء أنَّ شعبان لم يكن له وجهة نظر محددة في السياسة، ولكنَّه كان يقف إلى جانب كل مضطهَد من أي اتجاه. كان يُساند الاشتراكي واليميني والتقدمي طالما أنَّه في محنة ويُعاني بسبب ما يعتقده من آراء. ونادرًا ما كنت ترى شعبان في فترات صفوه، ولكن المؤكَّد أنَّك ستراه إلى جانبك في لحظات الضيق. كان في الإذاعة في فترة الستينيات مخرجٌ مزعجٌ للغاية، وكان مُرتشيًا، وتدهور به الحال إلى حد فرض الإتاوات. وبالتأكيد كان شعبان أحد ضحاياه، فابتعد شعبان عن التعاون مع الإذاعة فترة، ولكن بعد أن فصلوا المخرج من عمله لم يتخلَّف شعبان عن زيارة المخرج في منزله مرة كل أسبوع حاملًا معه كل ما تستطيع يداه حمله من الطيبات. وكان يُخصِّص للمخرج المزعج إيَّاه مبلغًا مُعيَّنًا من المال كل شهر يُعينه على مواجهة أعباء الحياة! ولا يعرف غير عدد قليل من الأصدقاء أنَّ محمود شعبان أنفق مبالغ كبيرة من ماله الخاص لطبع الإنتاج الأول لكُتَّاب ناشئين لا تعترف بهم دور النشر. أذكر مرة أنَّني سخرت بقسوة من كاتب شاب يُدعى محمد أبو شنب، قدَّمه لي يوسف السباعي، وطلب مني أن أكتب له مقدمة كتابه الأول، وكان بعنوان «قصص من الحياة»، وقرأت القصص التي هي من الحياة، واكتشفت أنَّ الشاب إيَّاه كاتب من النوع الموهوم وليس من النوع الموهوب، وأنَّ علاقته بكتابة القصة كعلاقة العبد لله بلعبة الكاراتيه! وكانت القصة الأولى بعنوان «زوجتي في الحديقة»، والقصة الثانية بعنوان «يا بوليس الآداب»، والقصة الثالثة بعنوان «يا خائنة»، كان واضحًا أنَّه متأثر بيوسف وهبي، أو يوسف وهبه كما كتبها هو بالفعل في الكتاب. وحبكت معي النكتة فكتبت مقدمة للكتاب من نوع «هذا الكاتب المتقدم على الفصيلة الأولى مترنحًا على الأفق، منسابًا نحو الأعلى متضاربًا مع المجموعة الأولى في سبيل الحنجوري المتدافع في الشنجوري المتألق على قفا الشفق»! وتصوَّرت أنَّ الكاتب إيَّاه عندما يقرأ مُقدِّمتي سيُدرك أنَّني كاتب عابث بقدر ما هو كاتب هايف وسيُلقي بالمقدمة في سلة المهمَلات. ولكني فوجئت بعد أيام بالكتاب يُباع في الأسواق، وبمقدمة للأستاذ الكبير محمود الصعيدي عضو جماعة كبار الأدباء، وكنت قد انتحلت هذا الاسم لنفسي. ووقعت نسخة من الكتاب في طريق كامل الشناوي فكانت فاتحة خير للكتاب. تولَّى كامل الشناوي الدعاية للكتاب باعتباره مهزلة العصر فنفدت جميع النسخ من الأسواق في أيام. وساعد على ذلك أنَّ يوسف السباعي كتب مقالًا شرح فيه قصة الكتاب والمقدمة بعنوان «مطلوب قانون لحماية المُغفَّلين من محمود السعدني.»
ولكن محمود شعبان الفلَّاح لم يجد في الكتاب مهزلة عصرية كما رأى كامل الشناوي، ولم يرَ في المؤلف الشاب مُغفَّلًا كما رأى يوسف السباعي، فقد كان يعتقد أنَّه مؤلف سيئ الحظ، وأنَّ الكتاب مجرد محاولة رديئة لكتابة القصة، وسارع بالاتصال بالمؤلف وساعده ماديًّا على إصدار كتابه الثاني والأخير! ولم يقطع شعبان جذوره بالقرية التي أنجبته، كان يُحيي ليالي المولد في القرية، ويُساهم في أفراح الفلَّاحين، ويسعى لتوظيف البعض، وفي حل مشاكل الري والزراعة والعلاج والتعليم! وعاش شعبان يسعى كمؤسسة بمفرده، وربَط خيوطه بالجميع دون أن يتأثَّر بأحد أو يتبع خطوات أحد. ولم يُحاول مرة واحدة أن يتدخَّل في شئون أحد لا بالزجر ولا بالنصيحة، وتوقَّف دوره عند حد المساعدة والتدعيم. ذات مرة اضطر أن يدفع مبلغًا كبيرًا من المال لإحدى السيدات حتَّى لا تتقدَّم بشكواها إلى جهات الاختصاص ضد أديب مشهور بنزواته الغرامية. كانت السيدة المجني عليها فقيرة وجاهلة أيضًا. وكانت تعمل في حياكة الملابس المسرحية في مسرح صغير حين التقت بالأديب إيَّاه. وبالطبع نقلها الأديب المشهور إلى عوالم أخرى جديدة وباهرة، وجُنت المرأة التي كانت في الأربعين من عمرها وتجيد صنع «المحشي» … جُنت بالكلمات السحرية التي كان يهمس بها في أذنها عن الأغوار السحيقة في عينيها، والأحلام الدافئة التي تشعها لمن يقترب منها، وعن الموسيقى التي تختلط وتنبعث من صوتها، بينما كان صوتها يُعاني من بحة على أثر برد مزمن وقديم. فطلَّقت المرأة زوجها وتخلَّت عن أولادها وباعت مصوغاتها في سبيل الفارس الجديد. ثمَّ تبخَّرت الأحلام فجأة، فإذا بالأديب فص ملح وداب، وإذا بقصة الحب الخالدة تموت بالسكتة فجأة. ولجأت المرأة إلى كل أصدقاء الأديب؛ فمنهم من نصحها بالصبر، ومنهم من وبَّخها بقاسي الكلام، ومنهم من حرَّضها على الأديب إيَّاه، ولكن شعبان رد للمرأة مصوغاتها، وكان هذا عاملًا مهمًّا في تجميد الموقف عند هذا الحد. ولمَّا سألت محمود شعبان: هل فاتح الأديب إيَّاه في الموضوع، نفى ذلك بشدة، وسألني: ولماذا أُفاتحه؟ قلت: لعله يكف عن هذا الطريق! قال شعبان في هدوء: ولماذا يكف؟ إنَّ هذه هي طبيعته، وكل مُيسَّر لِمَا خُلِق له، وهو يفعل ما يُسعده، وليس هناك فائدة تُرجى من نُصحه، فهو ليس شابًّا في بداية العمر، إنَّه رجل في نهاية الرحلة، ثمَّ ما جدوى أن يُغيِّر من عاداته السيئة الآن وقد فات الأوان؟!
منطق الريفي صاحب التقاليد والأصول، يتدخَّل للمساعدة فقط، ولستر العورات فقط، وليس للمنظرة أو الدخول في الصورة أو كسب أصوات الناخبين! ولكن الغريب في الأمر أنَّ الأديب الريفي الذي يعرف الأصول فُرضت عليه عزلة قاتلة في أيام العيب وأخلاق القرية. اختفى الأُصَلاء فاختفى معهم، وغاب المعدن الحقيقي فكان لا بد أن يغيب، وطغى على سطح الحياة شوائب ونوائب، وفي كل مجال؛ توفيق عبد الحي في عالم التجارة، والكفراوي في عالم التهليب، وأحمد عدوية في دنيا التطريب، وأصبح علي برعي هو الكاتب والأديب. ولم يجد شعبان بُدًّا من الاختفاء، احتمى بقريته في آخر الأمر، واكتفى بكتابة برامج دينية للإذاعة بين الحين والآخر. ظاهرة تُثبت أنَّ الذين رفعوا الشعارات لم يكن لهم أي صلة بها، ولم يكن لديهم إيمان بأي شيء على الإطلاق. لقد كانوا يُرددون الشعارات ويفعلون غيرها، فخلت مصر من كل قيمة، وجفَّت من كل تيار إلَّا تيار الاسترزاق، ودخلت في نفق مظلم، وفي الظلام تستوي الأشياء، ويُصبح كل شيء مثل أي شيء. واختفى من مصر زكريا الحجاوي بالموت، وأنور المعداوي بالقهر، وفتحي رضوان بالسجن، واختفى معهم أيضًا محمود شعبان، اختفى وتوارى عن الأنظار إحساسًا منه بالحزن لِمَا يجري أمامه وشعورًا منه بالأشياء التي تُلطِّخ وجه الحياة.
ولقد آن لمصر الآن أن تُلملم أبناءها وأن تضمهم تحت جناحها، وأن تنشر الدفء والضياء في كل اتجاه، وآن للطيور المهاجرة أن تعود، الذين اغتربوا في الخارج، أو الذين اغتربوا في الداخل أيضًا، وما أبشع الغربة داخل الأوطان! ما أبشع غربة محمود شعبان الأديب الفلَّاح الذي يعرف العيب وتمسَّك بأخلاق القرية!