المأساة الأسوانية
كان عباس الأسواني — يرحمه الله — أحد نجوم قهوة عبد الله. وعندما التقيت به أول مرة كان طالبًا بكلية الحقوق، وموظفًا بنادي السيارات، ومُحرِّرًا بمجلة مصر الفتاة، وعضوًا نشيطًا في الحزب الذي كان يحمل نفس الاسم. وكان حزب مصر الفتاة الذي اختاره الأسواني ليُمارس نشاطه فيه، حزبًا غوغائيًّا يؤمن بالأسلوب الهتلري في حكم البلاد. كان الحزب يحلم بحكم مصر على نفس الأُسس التي قامت عليها تركيا في عهد مصطفى كمال أتاتورك! ولذلك ناصب الحزب مصطفى النَّحاس العداء؛ وسلك كل الطرق لهدم زعامة النحاس والنيل من شعبية حزب الوفد؛ ولذلك لفت عباس الأسواني نظري في أول لقاء.
وازدادت دهشتي لموقفه عندما توثقت الصلة بيني وبينه؛ فقد كان ساخرًا إلى أقصى حد، فنانًا بكل معنى الكلمة، محبًّا للحرية وللانطلاق، وكان يخرج من بيته في الصباح فلا يعود إليه إلَّا قبل الفجر! وكان ينتقل من قهوة إلى مطعم إلى رصيف إلى أي مكان، شرط ألَّا يكون بين أربعة جدران، وكان يقضي سهرته المفضلة في منزل أمين المهدي، وهو فنان عبقري كان أعظم عازف عود في زمانه! وكان قد اعتزل العمل العام منذ فترة طويلة وتفرَّغ لسهراته مع أصدقائه، يستمع إلى إنتاجهم الفني ويشنف آذانهم آخر السهرة بالعزف على العود!
ولكن آمال عباس الأسواني في حزبه انهارت فجأة بعد حريق القاهرة. فقد أُلقي القبض عليه مع غيره من أعضاء الحزب بتهمة إحراق القاهرة، ووجد عباس الأسواني نفسه حبیس زنزانة ضيقة في سجن مصر، وكانت التهمة هي الاشتراك في مؤامرة لإحراق القاهرة، والعقوبة المنتظرة هي الإعدام! وقضى عباس في الزنزانة ثمانية أشهر، ولم يُخلِّصه منها إلَّا ثورة يوليو وجمال عبد الناصر، ولو تأجَّلت الثورة أو فشلت لقضى عباس بقية عمره حبيس الجدران!
وخرج عباس من الزنزانة وقد اتخذ قرارًا حاسمًا ألَّا يعود إليها! وكان هذا القرار هو حجر الزاوية في مأساة عباس الأسواني، ولم يكره شيئًا في حياته مثل السجن، وهو شيء طبيعي؛ ولكن الشيء الذي يحتاج إلى تفسير هو كراهيته لثورة ٢٣ يوليو التي كانت السبب الوحيد في إنقاذه! لعل السبب هو أنَّ الثورة أنقذته من السجن ولكنَّها قضت على حزب مصر الفتاة، وقضت أيضًا على نفوذ الطبقة التي كانت تتمحور في نادي السيارات الذي كان والده يعمل فيه، وهي الطبقة التي كانت تحكم مصر، وكان لها الفضل في تعليم عباس، الذي كان ابنًا لموظف بسيط للغاية يعمل ضمن حاشية النادي. لعل تلك هي الأسباب التي دفعت بعباس إلى اتخاذ هذا الموقف من ثورة ٢٣ يوليو. موقف العداء منها دون استفزازها، والعمل في ظلها دون ولاء ودون عداء ظاهر أيضًا. واستطاع أن يتلاءم عليها عندما فشل في التلاؤم معها، ولمَّا كانت ثورة ٢٣ يوليو لم تشغل نفسها بهذا الطراز من الأعداء، فقد أفسحت له صدرها، فلمع في ظلها، وأصبح كاتبًا إذاعيًّا وكاتبًا صحفيًّا، وكاتبًا مسرحيًّا، وصدرت له كتب، وعُقدت له ندوات، وأفسحت سهرات القاهرة مكانًا له، وصار عباس الأسواني واحدًا من مشاهير المرحلة! ولم يُفصح عباس الأسواني عن حقيقة مشاعره إلَّا بعد وفاة عبد الناصر، فإذا به واحد من أشد أعداء ثورة ٢٣ يوليو وأكثرهم عداءً.
وكشف عباس عن حقيقته فإذا به أقرب إلى العهد الذي ولَّى — عهد الباشوات ونادي السيارات — من العهد الذي لمع فيه وانتشر بفضله؛ ولكن عباس — بالرغم من كل شيء — كان فنانًا وكان حساسًا. ولعله أدرك المأزق الذي حشر نفسه فيه، لعله لمح رأي الناس الذين أحبوه في نظراتهم، ولذلك سقط صريع المرض في نهاية حياته، ولزم الفراش وهو لم يبلغ الستين بعد؛ لقد أصيب بالفالج وراح يتوكأ على عصا، ثمَّ عجز في آخر الأمر عن النهوض من الفراش، ومات فجأة وذهب قبل الأوان!
وإذا كانت هذه هي مأساة عباس السياسية، فإنَّ مأساته الفنية أكبر، فهو أعظم محدث ساخر عرفه تاريخ مصر، ولا أعتقد أنَّ عباس الأسواني كان له نظير كنديم من قبل! كان حديثه يقطر سخرية وفكاهة في نفس الوقت، وكان يروي قصصًا قصيرة وهو يحكي لو كتبها عباس بنفس الطريقة التي يحكي بها لكان أفضل بكثير من مارك توين! والغريب أنَّه في الكتابة لم تكن له موهبته في الكلام، وجرَّب كل ألوان الكتابة؛ كتب القصة القصيرة، والرواية، والمسرحية، والمقال؛ ولكن موهبته الحقيقية لم تظهر إلَّا في المقامات؛ كتب المقامات الأسوانية، ولو اهتم بها لكانت أفضل من مقامات الحريري وبديع الزمان، أقول لو اهتم بها؛ لأنَّه انشغل عنها بعاملين هامين؛ العامل الأول: هو حياته الشخصية، فقد كانت لديه أمور لا يمكن التنازل عنها تحت أي ظرف: الجلوس في قهوة ريش وقت الظهيرة والحديث مع الأصدقاء، وقضاء السهرة في أي مكان شرط أن يكون وسط مجموعة من الناس يودون الاستماع إليه! والعامل الآخر: هو أنَّه لم يهتم في مقاماته بمشاكل مصر الحقيقية، لم يهتم بقضية الحكم والحاكم، ولم يُعنَ بالمشاكل الحقيقية التي تواجه البشر العاديين! وأغمض عينيه عن كل المشاكل، واهتم بمشكلة واحدة، هي أن يكون باستطاعته أن يعمل ويكسب ويسهر وينشر إنتاجه ويحصل على الأجر الذي يريد! ولذلك ضحك الناس على الصياغة ولم يتوقَّفوا عند المضمون! فلم يكن هناك مضمون حقيقي، ولكنَّها التفاتات ذكية من رجل ساخر له وجهة نظر في اختناقات المرور وأزمات السجاير واللحوم! هل كان عباس الأسواني لا يرى المشاكل الحقيقية؟
بالطبع كان يراها … ولكنَّه يتعمَّد الابتعاد عنها؟
ولعل ذلك هو السبب الذي جعله — وهو المتكلم العظيم — يبتعد قدر الإمكان عن حلقة المتكلمين العظام مثله.
فقد ابتعد خلال السنوات العشر الأخيرة عن الحلقات التي كانت تضم زكريا الحجاوي، وعبد الحميد قطامش، وحسن فؤاد، وكامل زهيري! والسبب أنَّ هذه الحلقات كانت تبدأ الحديث بالفن أو بالأدب أو بالكلام الفارغ، ولكنَّها تنتهي حتمًا إلى السياسة. ولمَّا كان عباس قد اختار مكانه السياسي إلى جانب حزب مصر الفتاة، فقد آثر الابتعاد حتَّى لا يتورَّط ضد الجانب الذي اختاره ولو بالسماع! ولعل ذلك هو السبب في جفاف نهر فنه في النهاية. فالمجالات التي كان يرتادها في النهاية لم تكن قادرة على إعطائه أي شيء، ولكنَّها كانت تأخذ منه كل شيء!
كان سميعته في النهاية من طبقة المستوردين والمصدرين، وأصدقاؤه من المؤسسين في شركات الاستثمار، وهؤلاء سرعان ما انفضُّوا من حوله عندما داهمه المرض اللعين وألزمه الفراش، ولعل هذا الموقف كان السبب في التعجيل بنهايته، فقد اكتشف بعد فوات الأوان أنَّه أخطأ الطريق، وأنَّه ابتعد كثيرًا عن الناس الذين كان من المفروض أن يُصادقهم ويكتب عنهم! وأيًّا كانت النهاية التي انتهى إليها عباس، فقد كان — يرحمه الله — مشروع فنان عظيم لم يكتمل، وكان واحدًا من أبناء الجيل، الذي لم يُمنح فرصة للنضوج، وإنَّ صدمة السجن بعد حريق القاهرة قد خلعت قلبه من مكانه وقلبت كيانه، وخوفه الشديد من ثورة ٢٣ يوليو لم يكن له مبرر، فهي التي فتحت له طريق الشهرة، ولم تسجنه يومًا، بالرغم من أنَّ كل أبناء جيله نزلوا ضيوفًا في سجونها مددًا مختلفة! وانضمامه الأخير بكل قواه إلى عصر الانفتاح لم يكن له ما يبرره؛ لأنَّه لم يستفِد شيئًا، ولم يجنِ شيئًا، وخرج من المولد بلا حمص.
حتَّى إنتاجه الأدبي لم يحفل به أحد بعد موته، حتَّى البرامج القليلة التي قدَّمها للتليفزيون، مسحوا شرائطها ليُسجِّلوا عليها ما هو أكثر أهمية، مباريات كرة القدم!
وحتَّى حقوقه الشرعية لم يحصل عليها، وقد أدمت قلبي شكوى منشورة في الصحف للسيدة الفاضلة حرمه تطلب فيها سرعة إنجاز إجراءات معاشه الشهري!
ولا أدري من هو الملوم في بداية ونهاية عباس المأساوية؟ هل هو عباس نفسه؟ هل هو الجيل الذي ينتمي إليه؟ هل هي المرحلة التي عاشها؟ أغلب الظن أنَّها كل هذه الأشياء مجتمعة؛ فهو عاش خمسين عامًا من الثلاثين إلى الثمانين، وهي فترة من أعصف وأخطر وأخصب فترات مصر؛ نشبت فيها الحرب العالمية، وبدأت فيها حروب فلسطين، ووقع فيها العدوان على مصر، وقامت الوحدة، وفشلت الوحدة، وحدثت هزيمة ٦٧، وتفكَّكت الأسرة العربية، وشهدت الأرض من طنجة إلى صنعاء كوارث ومصائب ومعارك بالسلاح بين أقطار الأمة! وإذا كان الفنان عباس الأسواني قد فقد توازنه في الزلزال فبعض اللوم يقع عليه، وأكثر اللوم يقع على الظروف المحيطة؛ لأنَّه لم يرتكب إثمًا سوى بعض أبيات من الشعر، ولعله اختار الشعر لأنَّه ليس بشاعر، كأنَّما أراد أن يحتفظ بفنه طاهرًا، وتكَسَّب بفن مجلوب! تمامًا كما فعل الشاعر كامل الشناوي حين مدح زعماء الأقلية بمقالات في الصحف، ولكن قصيدة المدح الوحيدة التي نطق بها كانت لمصطفى النحاس؛ لأنَّ كامل الشناوي شاعر والمدح بالشعر ينبغي أن يكون للزعيم فقط، أمَّا الآخرون فلهم مقالات الصحف وهي أشبه بصرخات في واد فسيح!
إنَّ المأساة الأسوانية هي جزء من مأساة مصر؛ ولكنَّها — وبالرغم من كل شيء — أقل حدة من مأساة رشدي صالح وغيره، لأنَّ عباس لم يضطر إلى ركوب منبر أو قيادة حزب يعلم هو نفسه أنَّه مزيف، ولكنَّه عاش رغم مأساته مجرد مواطن يُريد أن يعيش. صحيح يُريد أن يعيش في جاردن سيتي، وأن يركب سيارة بويك، وأن يُنفق عن سعة، وأن يقضي رحلة العمر دون زيارة لسجن طرة أو منفى الواحات، ولكنَّها على العموم كانت مطالب مشروعة، ورغبات فنان غلبان صعد من سرداب المبنى الاجتماعي وأراد أن يحتفظ لنفسه بموضع قدم فوق السطوح!
ولا أشعر بأسف قدر أسفي على إنتاج عباس الأسواني، الذي تبدَّد أغلبه في نكات حارَّة، وغمزات مريرة، وقفشات لاذعة أطلقها في سهراته وقعداته، وسجل أقلها في سطور على ورق مطبوع. ولو أنَّ الريح كانت مواتية والظروف مناسبة، لكسبت مصر فنانًا عملاقًا ليس له نظير. فقد كان صاحب موهبة في الحديث متفردة. وإذا كان زكريا الحجاوي كمتحدث يُبهرني، وقطامش يُبهجني، فإنَّ عباس الأسواني هو الوحيد الذي كان يُضحكني! ولم أضحك في حياتي من الأعماق إلَّا وأنا أستمع إلى عباس الأسواني. ولكن أغرب شيء أنَّ عباس الأسواني المقتدر المُتمكِّن كان يُصاب بالصمت إذا خرج عن نطاق الشلة؛ اشتركت معه مرة في ندوة تليفزيونية حضرها صلاح جاهين، وزكريا الحجاوي، والفنان محمد رضا، والفنان بهجت الرسام، ولم يفتح الله على عباس بكلمة، فقد أُرتِجَ عليه أمام عدسات التليفزيون! وذات محاضرة في مدينة طنطا، وكانت المناسبة هي عيد طنطا القومي، وكان فرسان المحاضرة زكريا الحجاوي، والأسواني، والعبد لله. أُرْتِج على عباس الأسواني فلم يفتح فمه بكلمة واحدة، وعجز تمامًا عن النطق عندما همَّ بالكلام! وسألني بعضهم عقب المحاضرة كيف تُشركون معكم رجلًا عاجزًا إلى هذا الحد؟ ويبدو أنَّ عبقرية عباس كانت تتفتَّح في حلقة، ضيقة وتموت عندما يتسع الميدان. وكان يتألَّق أكثر إذا اطمأن إلى جميع الجالسين، وهي صفة كان يشترك فيها مع مُتكلِّم عظيم آخر هو قطامش! وكان أسلوب عباس في الحديث يعتمد على سرد قصة مشوقة وأحداثها مثيرة، وكان يسوقها بأسلوب مشوق للغاية، وبينما كل الدلائل تُشير إلى نهاية يتوقَّعها الجميع للحكاية التي يرويها إذا به يُفاجئ الجميع بخاتمة مسرحية، خاتمة لا تتفق مع سير الأحداث وتثبت فساد علم المنطق، وكان أكثر الناس وقارًا لا يملك نفسه من الضحك حتَّى السقوط من فرط الإعياء! وكانت لديه قدرة للتحدث عدة ساعات دون كلل، ودون أن يفقد حرارته! وكان لا يستطيع الصمت ولو كان في حضرة أعظم رجال دولة الكلام. المرة الوحيدة التي رأيت فيها عباس صامتًا كانت في سهرة في بيت الحجاوي أُقيمت على شرف الفنان الكبير زكريا أحمد — يرحمه الله! وكان زكريا أحمد مُلحِّنًا عظيمًا ومتكلمًا أعظم، وكان حاسمًا جدًّا، فلا يسمح لأحد بالكلام، وكان سنه وتاريخه لا يسمحان لأحد بمقاطعته بعكس العتاولة الآخرين، وكان حديث زكريا أحمد مشوقًا ويجبرك على السماع، خصوصًا وأنَّه يحكي عن فترة لم نشهدها، ويقص أخبار عباقرة لم نكن على قيد الحياة عندما كانوا زينة المجالس والسهرات! كان يحكي عن الشيخ علي محمود، وأول مرة جاء فيها الشيخ سيد درويش إلى القاهرة، وخرجنا كلنا من السهرة في منتهى السعادة لحكايات الشيخ زكريا، وفي منتهى الغم لأنَّ أحدًا منَّا لم تُتَح له فرصة للكلام؛ ولكن أكثرنا غمًّا كان عباس الأسواني، لدرجة أنَّه بكى بدموع حقيقية في الصباح!
رحم الله عباس الأسواني، أحد عباقرة زمن الحسومات، زمن الولادة المتعسرة والمواليد المُشوَّهين، رحمه الله، فقد كان أشبه بمسدس بدون طلقات!