وحي البحر …
على صخرة مشرفة على البحر في «المكس» جلست وحدي.
وقد تؤنس الوحدةُ ما لا يؤنس الجمع، ولكن هذا لا يكون حتى تتخذ من نفسك صديقًا؛ وليس ذلك بالأمر اليسير؛ فكثيرٌ من الناس اتخذوا من أنفسهم عدوًّا، يتناولونها دائمًا بالنقد والتجريح، ويصغّرون ما تأتي به من أعمال، ويحقّرون ما يصدر عنها من آراء، وينظرون إليها نظرة ذلة وحقارة؛ فإذا هم وأنفسهم أعداء، يهرُبون منها كما يهربون من خصومهم، ولا يستطيعون أن ينفردوا بها طويلًا، كما لا يستطيعون أن يجالسوا أعداءهم طويلًا، فيلجئون إلى الأصحاب، فإن أعوزهم الأصحاب لجئوا إلى كتاب، فإن لم يجدوا كتابًا فإلى أي شيء إلا أنفسهم.
مصيبة كبرى ألا يصادق الإنسان نفسه؛ لأن نفسك هي الشيء الوحيد في العالم الذي لا تستطيع أن تهرب منه، فقد تستطيع أن تهرب من زوجك، ومن ابنك وبنتك، ولكن لا تستطيع بحال أن تهرب من نفسك ولا بالموت؛ فإذا كانت النفس عدوًّا كانت شر الأعداء، وأثقل الأعداء؛ لأنها عدو ملازم أثقل من الغريم الملازم.
وشعور الإنسان بحقارة نفسه وضعتها سمٌّ قاتل، لا ينجح معه عمل، ولا يرجى من صاحبه خير.
والغرور والأنانية شر، ولكن شرٌّ منه احتقار النفس وعداؤها والإشفاق عليها، وتعذيبها الدائم بتأنيبها. وخير من هذا وذاك أن تقف منها موقف الصديق، تشجعه إن أحسن، وتعتب عليه في رفق إن أساء.
•••
إن صادقت نفسك لذِذْت الوحدة، ووجدت فيها متعة أية متعة.
والأنس بالوحدة فنٌّ كسائر الفنون، يحتاج إلى مرانٍ طويل ومنهجٍ شاق.
في أول ممارستها يشعر الإنسان بضيق أي ضيق، ويحاول الهرب منها إلى كتابٍ أو صديق، ثم لا يرى في العالم شيئًا يُقرأ ولا في نفسه معنى يُبحث، وقد تعرض له أثناء ذلك خيالات مفزعة، وتصورات محزنة؛ ولكنه إذا صبر على الألم وكرر التجربة تجلى له العالم، وأُوحي إليه بمعان جديدة قيمة. إذ ذاك يجد لذة في كل تفكير، وعمقًا في كل معنى، وإذ ذاك يعرف نفسه، ويجد ربه، وإذ ذاك تتجرد النفس من غرورها وكبريائها، ويتبين لها جهلها، فتخلص النية في أن تعرف فتعرف، وإذ ذاك أيضًا لا تشغلها ضوضاء العالم، ولا تزيغ بصرها المناظر الزائفة، فيظهر لها الحق في جلاء ووضوح؛ وإذ ذاك تشعر بنوع من اللذة يفوق لذة تحصيل العلم من معلم أو من كتاب، وتشعر بأن الفرق بين النوعين كالفرق بين أن تنعم بمالك وأن تنعم بمال غيرك، أو كالفرق بين من يجمع المال ومن يستخدمه في إسعاده.
•••
ثم ماذا؟
هذا هو البحر بجماله وجلاله، وديع حتى ليلعب به طفل، جبار حتى ليرتعد منه أسطول، صورة صادقة من صور الزمان في إقباله وتجهمه، وابتسامه وعبوسه، ومده وجزره، ولينه وشدته. ما جلست أمامه يومًا إلا شعرت بلذة أليمة أو ألم لذيذ؛ أما اللذة فلجماله، وكل جميل يبعث السرور، ويحيي الأمل، وينعش النفس؛ وأما الألم فلجلاله، وأمام الجليل تتخاذل النفس، وتشعر بضعتها في جانب عظمته، وتفاهتها بجانب جبروته، وحقارتها بجانب جلالته، وفنائها بجانب أبديته.
فأمام الانبساط لجماله، والانقباض لجلاله، تكون اللذة الأليمة أو الألم اللذيذ.
صبور لا ييأس، مُجدّ لا يَمَل، يحارب الصخور الصماء فيغلبها بصبره، وينال من قسوتها وصلابتها مع رقته وسلاسته، ويذيبها في نفسه، فإذا هي لا شيء، وإذا هو كل شيء.
من قديم والإنسان يُعمل عقله في دفع أذاه واتقاء جبروته، وكلما اخترع شيئًا استخدمه في صَدَّ غاراته، وتنكب نكباته، وهو هو رابض في مَجثمه، معتزٌّ بقوته، يتحرك من حين إلى حين، فيختار أقوى ما أعده الإنسان، وجهزه بأحدث الآلات، وأمده بأحسن المخترعات، فيضربه الضربة السريعة الحاسمة، تأتي عليه في لمح البصر وسرعة البرق، فإذا هو لا شيء، سواء في ذلك أساطيله ومدرعاته، وطياراته وغواصاته.
هذا هو البر، قد خضع للإنسان، كما يخضع الحيوان المستوحش فيستأنس، مهَّد الإنسان طرقه، وأقام عليه مساكنه، وثبَّت فيه خطوطه الحديدية، وغيَّر جدبه خِصبًا، وجعل ترابه حقولًا ناضرة، وبساتين مثمرة، ونباتات مزهرة، وملَكَه وتحارب على ملكيته، وحدده وتنازع على حدوده، والبر — في ذلك كله — وديع كالحَمَل، مستسلم كالعبد الذليل.
أما البحر فكلاَّ، باق على وحشيته منذ خلقه الله، لم يسمح للإنسان بطريق يمهده ولا خط يمده، ولا مِلْك يمتلكه، إن ادَّعت دولة ملك جزء منه فكلام في الهواء، أو خط في الماء، أو حبر على ورق، أو معاهدة تسجل في البر. لم يستطع الإنسان — على اختلاف عصوره وتقدم علمه — أن يخضع قوته، أو يحد من نشاطه، أو يؤنسه كما آنس البر، ولم يتحمل هو من إنسان — مهما عظمت قوته، ولا من مركب مهما ضخم حجمه أو توفرت عدته — أية إهانة، أو خروج عن أدب اللياقة؛ فإن حدثته نفسه بذلك مرة لعب به كما يلعب القط بالفأر، ثم ابتلعه في هدوء من غير أن يشعر بذلك أحد، أو سلط عليه جبلًا من ثلجه، فهشمه تهشيمًا، وقطعه إربًا، ثم ابتلعه كذلك.
موقفه الآن من الإنسان وهو قوي ببخاره، وحديده وناره، وكهربائه ولا سلكيه، موقفه منه وهو ضعيف لا يعرف إلا الشراع والهواء.
ديمقراطي بطبعه، لا يخشى ملكًا لملكه، ولا غنيًّا لغناه، ولا فقيرًا لفقره، ولا بائسًا لبؤسه، من أراد أن يستمتع بمائه — كائنًا من كان — وجب أن يتقدم إليه بكل علامات الطاعة، فيتجرد من مظاهر العظمة وأكاذيب الأبهة، فيخلع حذاءه، ويكشف رأسه، ويعري جسده، وإن كان غنيًّا تساوى بالفقير في مظهره، وإلا عرف البحر كيف يؤدبه.
اعتز بقوته، فلم يسمح لمخلوق من مخلوقاته أن يعيش في البر ساعة، ولم يكن للبر مثل قوته فعاش أهله في البحر أيامًا.
كان — ولا يزال — عمقه الهائل، وموجه القوي المضطرب، وحركته الدائمة، وقوته الضخمة، مع ليونته وسلامته وجمال منظره الدائم، مبعث الحب والإجلال، ومثار الشعر والخيال.
•••
ثم ماذا؟
ثم إنَّا والبحرَ والبر والعالم وحدة واحدة، كل منا جزء منها، وكل منا جزء صغير من آلتها العظيمة، ولنا كلنا خطة واحدة وغاية واحدة، علمنا بعضها، وظننا بعضها، وجهلنا أكثرها.
وهي كلها تخضع لإرادة واحدة، يسميها الدينيون إرادة الله، والمدنيون إرادة الطبيعة، والحقيقة واحدة والاسم مختلف.
تدور هذه الآلة العجيبة في نظام وإحكام يستخرجان العجب! وما ظنك بآلة تلد نحو خمسين ألفًا من صنف الإنسان في الساعة وتميت مثلها؟ وذلك — فقط — في ذرة حقيرة من جسم العالم اسمها «الأرض».
إن عقلنا ليعجز عن إدراك كنه هذه الآلة العظيمة عجز النملة عن إدراك كرة تسير هي عليها، أو عجز أعشى عن إدراك ما في الأفق البعيد!
إن العلماء يدركون من هذه الآلة ما أدرك أن من منظر هذا البحر؛ أدرك سطحه، ولا أدرك عمقه، وأدرك جماله ودلاله، ولا أدرك كنهه، وأدرك جزءه، ولا أدرك كله.
إن لهذه الآلة قوانين حازمة صارمة، تعطف كل العطف على من وافقها، وتقسو كل القسوة على من خالفها؛ وهذه القوانين معقدة مركبة تبعًا لتعقد الآلة وتركبها، ولكل جزء من هذه الآلة قوانين ترتبط بقوانين المجموع؛ من وافقها حملته سالمًا في تيارها، ومكنت له من أن يرتع في نعيمها، ومن خالفها كان كناطح الصخرة، ينال من نفسه، ولا ينال منها.
وأكبر شقاء العالم الإنساني — أفرادًا وأممًا — أتى من أنه جهل قوانينها، أو عرفها ولم يسر عليها. ولا أمل في سعادته حتى يعلم، وحتى يعمل وفق ما يعلم.
•••
ثم ماذا؟
وجاءت موجة عالية، فلطمت الصخرة لطمة قوية، أصابني رشاشها، فتنبهت من أحلامي، وعدت من حيث أتيت!