امتحان …
قام في نفسي أن أجمع ثلاثة من أولادي في مراحل التعليم المختلفة، وألقي عليهم سؤالًا طريفًا، لأتبين عقليتهم وأخبر تفكيرهم، فسألتهم على التوالي: لماذا تذهب إلى المدرسة؟
فأما أصغرهم، وهو في «روضة الأطفال» فقال: أذهب إلى المدرسة لأتعلم لغة عربية، وحسابًا، وخطًّا، وأشغالًا.
وأما الذي في السنة الرابعة الابتدائية فقال: أتعلم لآخذ الشهادة هذا العام وأدخل المدرسة الثانوية.
وأما كبيرهم وهو في مدرسة الهندسة فقال: لأتمم دراستي، وأحصل على الشهادة، وأوظف.
وأردتُ أن أعمل عمل المدرس، فأزن الإجابة وأعطي درجات عليها، فرأيت أني لو دققتُ في التصحيح لأسقطتهم جميعًا، فما شيء من ذلك يستحق أن يكون إجابة صحيحة، ولا شبه صحيحة.
عيب هذه الإجابات أنها تركّز أغراض التعليم في ثلاثة أشياء: حشو الذهن بالمعلومات، ونيل الشهادة، والحصول على «الوظيفة». وليس شيء من هذا هو غرض المدرسة الحقيقي في نظري.
أظهرت عدم الرضا لأبنائي عن إجابتهم. فقال أكبرهم: إذًا نغير الموقف، فأكون أنا السائل وأنت المجيب، فقد قال القائل:
قلت: لك ذلك.
إن أهم «وظيفة» للمدرسة أنها تعلمنا كيف ننتفع بتراث السابقين، فمنذ كان الإنسان على ظهر الأرض وهو يجرب ويتعلم، ويتبين الخطأ والصواب، ويصل إلى نتائج بعضها يبقى على مر الزمان لصحته، وبعضها يذهب مع الريح لفساده. وقد قام بهذه التجارب ملايين الناس، واشتغلت بتحقيقها ملايين العقول، وضحيت في سبيل فحصها وامتحانها ملايين النفس. وكان العالم كله في هذه الزمان كلها عبارة عن «معمل» تشتغل فيه كل هذه الملايين على التعاقب، «فيحللون» و«يبحثون»، ويرصدون نتائج بحثهم. وكثيرًا ما كانوا يخفقون في تجاربهم وتحليلهم، فيبدءون العمل من جديد بفرض جديد، حتى يصلوا إلى النتائج الصغيرة بعد العناء الكبير. وهم لا يصلون إلى هذه النتائج إلا على جسور من رءوس الضحايا.
وقد قُدّمت هذه القضايا التي أنتجتها الأجيال السابقة للأجيال الحاضرة في شيء اسمه «كتاب». ولو أخذنا أي كتاب مدرسي، مهما صغر حجمه، في أي موضوع من موضوعات العلم والأدب، سواء كان طبيعة أو كيمياء أو بلاغة، أو نحوًا وصرفًا، أو هندسة، أو جغرافيا؛ وأردنا أن نعرف تاريخ كل قضية فيه، لعجزنا عن عدد الذين ذهبوا ضحيتها في البحث والتجربة، وإعمال الذهن، وسهر الليالي، وتكبد الأسفار، ومعاناة التحقيق. فما أكثر الضحايا الذين ذهبوا حتى وصلنا إلى أن «الأجسام تتمدد بالحرارة»! وما أكثر من ذهبوا في سبيل تدوين أحكام «الفاعل ونائب الفاعل»! وما أكثر عدد العقول والنفوس التي ذهبت في سبيل تحقيق أن «الأرض تدور حول الشمس»! وهكذا.
ولعل النظر على الكتب على ضوء هذا البيان يفيدك — يا بني — في تعرف أي الكتب المدرسية صالحة للبقاء وأيها صالحة للإعدام؛ فما لم يحمل إلينا من الكتب تجارب الأقدمين ويُنِرْ لنا السبل في حياتنا الحاضرة لا يستحق البقاء؛ بل هذا أيضًا يعينك على أن تحكم على منهاج الكتب ومبلغ رقيها في فن التأليف؛ فما لم تبعث فيك روح النهوض واستخدام ما فيها في هذه الحياة واستحثاثك على إصلاح حياتك وحياة غيرك وتقديمك الحياة خطوة عمن سبقك فلا قيمة لها.
إن أكبر فارق بين الإنسان والحيوان — يا بني — أن الحيوان يستفيد جيلُه الحاضر من تجارب أجياله السابقة؛ فالنحل يعمل ما كان يعمله أيام آدم، لم يتقدم في نوع معيشته ولا في قرص عسله ولا في بناء مسكنه، وكذلك شأن كل حيوان، ولكن كم من الفروق بين عيشة الإنسان الأول والإنسان الآخر، والإنسان في الكهوف والإنسان في القصور! وعلى الجملة فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يعيش كل جيل منه على أكتاف من سبقه. ويبني كل جيل طابقًا جديدًا في قصر الإنسانية.
فالمدرسة تعلمنا تاريخ التجارب الإنسانية السابقة، وتعلمنا كيف نبني عليها طابقنا الجديد. فما لم نبن بناء جديدًا لم نستحق اسم الإنسانية.
ومدرسة تفضل مدرسة بمقدار ما تلقي من هذا الضوء وتبعث من هذا الروح وتقيم من هذا البناء؛ فالمدرسة التي تعلمك أنك تذهب إليها لتنجح في الامتحان فقط، أو تأخذ الشهادة فقط، أو توظف فقط، لا تستحق إلا أن تغلق؛ لأنها تبعث أفكارًا ميتة وتوحي آراءً جامدةً، وليس يستحق منها البقاء إلا مدرسة، تعلّم كيف كان الناس يحيون، وكيف يحيون الآن، وكيف ينبغي أن يحيوا في المستقبل. ثم هي تغرس في نفوس التلاميذ من أول روضة الأطفال هذا المبدأ بالوسائل التي تختلف بساطة وتركبًا حسب استعداد الطفل، حتى إذا سئل كل تلميذ: لِمَ يذهب إلى المدرسة؟ أجاب: إنه يذهب إليها ليتعلم كيف يكون إنسانًا يستحق اسم الإنسانية. ومهما اختلفت الإجابة حسب السن والعقلية، فلن تعدو هذا المعنى الأساسي.
وعلى هذا الأساس يمكننا أن نلخص مناهج الدراسة بأنها «تاريخ الإنسانية كلها أو جزء منها في نواحيها المختلفة أو ناحية منها حسب استعداد الطالب لتناولها»، وهذا يشمل كل فرع من فروع العلم، فكل علم في الواقع هو تاريخ الإنسانية في ناحية من نواحيها أو جزء من أجزائها، حتى النحو والصرف هو تاريخ الإنسانية في لسانها، في جزء من أجزائها.
وفائدة هذا النظر أنه يطلعك على موضع الفساد في برامجنا؛ فإذا درسنا في التاريخ تاريخ الملوك وحدهم وأهملنا جوانب الشعب كان تاريخًا ناقصًا مبتورًا؛ لأنه أطلعك على جانب صغير من جوانب الإنسانية، حيث كان في إمكانك توسيع هذه النواحي؛ وإذا كان درس البلاغة لا يمكنك من فهم بلاغة الأقدمين، ولا يعنيك على أن تكون بليغًا في حاضرك فلا قيمة له؛ لأنه ليس من تاريخ الإنسانية في شيء إلا أن يكون تاريخًا للسخف فيها، وليس موضع هذه المدرسة، وتستطيع أن تقول هذا في كل علم، وكل فرع من فروع العلم.
كذلك إذا كان منهج الدراسة يطلعك على ناحية من نواحي الإنسانية في عام، ومنهج يطلعك على الناحية نفسها في عامين، فالأول أفضل بداهة. ففضل منهج على منهج في أنه يكشف لك جانب الإنسانية الذي تريده من أقرب طريق.
ومهمة واضع البرامج ومظهر براعته أن يعرف أي نواحي الإنسانية أهم للطلبة في بيئتهم الخاصة، وأي منهج من مناهج التعليم يوصل إلى الغرض في أقل زمن ممكن.
•••
هذا — يا بني — جانب واحد من جانبي الإجابة على السؤال: «لماذا تذهب إلى المدرسة؟» وهو الجانب العقلي للموضوع، وهناك جانب آخر لا يقل عن هذا شأنًا وهو الجانب النفسي.
إنك تذهب إلى المدرسة لِتُرَبَّى نفسُك حتى تتحقق سعادتك ويسعد بك غيرك، فإنك تحمل في داخلك أنواعًا من القوى، من شهوات وإرادة وعقل. ووظيفة المدرسة الصالحة أن تعلمك كيف تخضع شهواتك لعقلك، وأن تقوى إرادتك لتكون القوة التنفيذية لحكم العقل على الرغبات والغرائز والمشاعر. إن المدرسة تكوّن في داخلها مثلًا أعلى من مجتمع صغير ليتكون من نفسه فيما بعد مثل أعلى للمجتمع الكبير. إنها تعلِّم كيف يسعد الفرد بالتعاون مع رفقائه لتعلم بعد كيف يسعد بالتعاون مع أفراد أمته. إنها تعلمك من أنت في نفسك، ومن أنت في مدرستك لتعرف بعدُ من أنت في قومك.
لهذين الغرضين تذهب إلى المدرسة.
•••
لشد ما أخشى أن يغار رجال التعليم في مصر على مدارسهم فيستمْلُوا الإجابة منها، ويطبقوا ورقة الامتحان عليها، فيعطوا إجابتي «صفرًا».