الظرف والظرفاء
لما بلغت الحضارة الإسلامية أوجَها، في العصر العباسي، وامتزج العرب بالفرس والهنود والأتراك وغريهم من الأمم، وكثرت الأموال وكثر الفراغ، تأنق الناس في مأكلهم ومشربهم وملبسهم وحديثهم وطريق حياتهم، وتبع ذلك وجود عادات وتقاليد للطبقة المهذبة، من تمسك بها عد ظريفًا، ومن خرج عنها عُد ثقيلًا. ورأينا الناس في تلك العصور يلتفتون إلى الظريف ويهتمون به ويبالغون في تقديره والحفاوة به. وكتب الأدب تروي نوادر الظرفاء في أحاديثهم وأفعالهم، وذلك من أكبر ما يدل على رقة الذوق وسموه.
ومن أطرف ما في ذلك الباب كتاب معروف اسمه «المُوَشَّى» ألفه أديب اسمه أبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيى الوَشَّاء، عاش في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وفي أوائل الرابع، ولم نعرف حياته بالتفصيل، ولكنا نعلم أنه كان نحويًّا، واخذ النحو عن مشاهير النحويين أمثال ثعلب والمبرِّد، وأنه كان معلمًا في كتاب ببغداد، وألف كتبًا كثيرة في النحو واللغة والأدب.
ولعل أفضل كتبه كتاب «الموشى» هذا، وقيمته الكبرى جاءت من أنه حاول فيه أن يضع قوانين للظرف والظرفاء، وأن يبين عادات ظرفهم في نواحي حياتهم؛ وكان غريبًا على نحوِيٍّ، وعلى معلم كتّاب، أن يتجه هذا الاتجاه، فقلّ أن يتجه إليه إلا أرستقراطي في نزعته، غني في بيئته، متصل بالطبقة الراقية، واقف على عادتها؛ ولكنا نجد في تاريخ حياته أنه كان يعلّم بعض حظايا الخلفاء، فهم يذكرون أن «مُنية» إحدى جواري «المعتمد على الله» كانت من تلاميذه، وأنه كان يعلّم في قصور الخلفاء. فلعل هذه النزعة جاءت من هذا الاتصال بالبلاط العباسي، وناهيك بما كان فيه من ترف ونعيم، وظرافة ولباقة.
في هذا الكتاب الصغير ثروة كبيرة من الذوق، وفيه يحاول أن يضع قوانين للظرف، وفي هذا مشقة كبيرة، إذ أن هذا العمل يتطلب اطلاعًا واسعًا على معيشة ظراف الناس، وطرقهم في الحياة، يتطلب دقة في الملاحظة وسموًّا في الذوق؛ وفوق ذلك فإن الذوق من قديم صعبٌ تعليله، وصعب شرحه، وصعب ضبطه. ولكنه تغلب على هذه الصعوبات جميعها، ونجح في عمله نجاحًا كبيرًا.
ففيه فصل طريف عنوانه «شرائع المروءة وصفتها»، ينقل فيه أنظار الناس إلى ما هي المروءة، فيذكر أن بعض حكماء الفرس سئل: أي شيء أشد تهجينًا للمروءة؟ فقال: «للملوك صغر الهمة، وللعلماء الصلف، وللفقهاء الهوى، وللنساء قلة الحياء، وللعامة الكذب». ورَوَى عن ابن عمر أنه قال: «ما حمل رجل حملًا أثقل من المروءة»! فقال له أصحابه: صف لنا ذلك. فقال: «ما له عندي حد أعرفه، إلا أني ما استحييت من شيء قط علانية إلا استحييت منه سرًّا». وكان أيوب السجستاني يقول: «لا ينبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان: العفة عن الناس والتجاوز عنهم».
وهكذا ظل يروي آراء الناس من فرس وعرب وغيرهم في المروءة، ثم استخلص قوانينها.
•••
وعقد في الكتاب بابًا سماه «سنن الظرف»، فحدثتا فيه أنه كان يسأل العلماء والأدباء عن رأيهم في الظرف، ويسأل «بعض متظرفات القصور» عن رأيهن في الظرف، ثم قص علينا قصصًا قصيرة لحوادث جرت للظرفاء، وكيف قالوا، وكيف تصرفوا. ويخرج من ذلك كله إلى قوله: «إن الظرف أنبل ما استعمله العلماء وصبا إليه الأدباء، وتزينوا به عند أودّائهم، وتحلوا به عند أخلائهم. وربما تكلفه قوم ليسوا من أهله، وإنه من المطبوعين أحسن منه من المتكلفين، وللمتكلف علامات تظهر في حركاته، وتَبِين في لحظاته، لا يسترها بتصنعه ولا تتغيب بتستره، وإن المطبوع على الظرف ليشهد له القلب عند معاينته بحلاوته، وتسكن النفس عند لقائه إلى مجالسته، دلائله واضحة في مشيته وزيه ولفظه». إلخ. ومن رأيه أن أكبر علامات الظرف الحب، وقد دعاه ذلك إلى أن يستعرض الحب وأنواعه، وطائفة ممن أحبوا فعفّوا، ومن أحبوا فسقطوا. وصوّر لنا صورة صادقة لبيوت القيان في بغداد في عصره، وكيف كانت تتدفق فيها الأموال، وكيف كانت تلعب القيان بعقول الشبان، ويظهرن لهم الود والحب، حتى يأتين على أموالهم، فإذا الحب ينقلب إلى صدّ وطرد. وتاريخ كل مدنية يعيد نفسه.
ثم أخذ يفصل ما أجمل، فيذكر لنا عادات الظرفاء في كل باب من أبواب الحياة.
فقص علينا أن الظرفاء يتجنبون في الملبس الألوان الزاهية، فهو يقول: «ليس يستحسن لبس الثياب الشنعة الألوان، المصبوغة بالطيب والزعفران؛ لأن ذلك من لبس النساء، ولبس القينات والإماء». ويلتفت إلى شيء دقيق جدًّا، وهو أن عادة الظرفاء مراعاة الانسجام في ألوان ما يلبسون، فيختم الباب بقوله: «وأحسن الزي ما تشاكل وانطبق، وتقارب واتفق».
وأبان عادة الظرفاء في لبس النعال وألوانها، وزيهم في الخواتيم والفصوص والتعطر والطيب، والفروق الدقيقة في ذلك كله بين الرجال والنساء.
ثم ذكر عادة الظرفاء في الطعام، فهم يصغرون اللقم، ويتحرزون من الشره، ولا يزهمون ما بين أيديهم من الرغفان، ولا يلطّعون أصابعهم، ولا يعجلون في مضغهم، ولا يجاوزون ما بين أيديهم، ولا يأكلون شيئًا من الكواميخ والمالح، ولا يتخللون على المائدة قبل أن تفرغ. إلخ.
وقد ذكر أن أحب شيء إلى الظرفاء من الأزهار الورد، ففضلوه على غيره وأطنبوا في مدحه، وأفرطوا في نعت حسنه، وشبهوه بالوجنات الحمر، وقايسوه إلى الخمر، وحيَّى بعضهم بعضًا به، فقال بعضهم:
وقال آخر:
ولا يعدل الورد عند الظرفاء في الأزهار، إلا التفاح في الأثمار، فكانوا يرون أن التفاح يهدئ أشجانهم، ويسكن أحزانهم، وليس في هداياهم ما يعادله، ولا في ألطافهم ما يشاكله، ولهم عند نظرهم إليه أنين، وعند استنشاق رائحته حنين. وقد تفننوا في إهدائه، وكتابة الأشعار ووضع الرموز عليه.
ثم نراه بعد ذلك انتقل من الظرف في الحسيات إلى الظرف في المعنويات؛ فالأدباء الظرفاء «لا يداخلون أحدًا في حديثه، ولا يتطلعون على قارئ في كتابه، ولا يقطعون على متكلم كلامه، ولا يستمعون على مُسرٍّ سره، ولا يسألون عما ووري عنهم علمه، ولا يتكلمون فيما حجب عنهم فهمه، والظرفاء لا يتثاءبون (في المجلس) ولا يتمطون ولا يوّقعون أكفهم، ولا يشبكون أصابعهم، ولا يمدون أرجلهم، ولا يحكّون أجسادهم، ولا يمسون أنوفهم … ولهم حسن التأتي فيما يريدونه، ولطف الحيل فيما يحاولونه، وخفي التلطف لما يطلبونه، حوائجهم سِرِّية، وسرائرهم مخفية، وحيلهم لطيفة، يوردون الأمور مواردها، ويصدرونها مصادرها».
ثم ذكر أنهم إذا أهدوا فهم يُهدون الشيء اللطيف الخفيف «كالتفاحة الواحدة والأترجة الواحدة والغصن من الريحان، والطاقة من النرجس، وغير ذلك من الشيء القليل، فتستحسن هداياهم وتستظرف، ويفرح بها ويستطرف … ومن ذلك كتبهم الملاح، وألفاظهم الصحاح، التي يستعطفون بها القلوب، ويسترون بها العيوب، وما يضمنونها من مليح المكاتبة، وطرائف المعاتبة، وجميل المطالبة وشكيل المداعبة».
وقد أحال «ما يجب على ظرفاء الكتاب» على كتاب له آخر وضعه لهذا الغرض سماه «فَرَج المهج» لم نعثر عليه.
غير أنه أورد في كتابنا هذا نماذج من مكاتبات الظرفاء نعرض للقارئ نموذجًا منها: كتب الحسن بن وهب إلى محمد بن عبد الملك الزيات — سروري إذا رأيتك كوحشتي لك إذا لم أرك، وحفظي لك مغيبك، كمودتي لك في مشهدك، وإني لصافي الأديم، غير نغِل ولا متغير، فامنحني من مودتك، مزن لذاذة مشرَبك، وكن لي كأنا، فوالله ما عُجبت من ناحيتك إلا وأنا محنيّ الضلوع إليك والسلام. فكتب إليه محمد — يا أخي ما زُلت عن مودتك، ولا حُلت عن أخوتك، ولا استبطأت نفسي لك، ولا استزدتها في محبتك، وإن شخصك لماثل نُصب طرْفي، ولقلما يخلو من ذكرك قلبين ولله در الذي يقول:
وكتب بعض الظرفاء إلى صديق له: «أيّدك الله بوفاء الأدب من النزوع إلى الجفاء، وجعل آخر سخطك موصولًا بأول الرضاء، والسلام».
وهكذا يمضي في استعراض نماذج للظرفاء من النثر والشعر. ثم يحكي لنا ما كان يتفنن فيه الظرفاء من نقش جمل فنية أو أشعار رقيقة على خواتيمهم وعلى تفاحهم، وما كان ينقشه ظراف الجواري على قمصانهن وأرديتهن وأكمامهن وعصائبهن ومناديلهن وزنانيرهن، وعلى نعالهن وخفافهن، وما كُنّ يكتبنه بالحنَّاء على راحهن وأقدامهن، وما كان يكتب الظرفاء من الأشعار الرقيقة على القناني والكاسات والأقداح وأواني الفضة والذهب، وعلى آلات الموسيقى من العيدان والطبول والدفوف والنايات، وما كان يتفنن به الأدباء من إهداء أقلام قد نقش عليها أبيات ظراف.
وختم كتابه بقوله: «هذه جملة مما بلغنا وفيها كفاية لمن اكتفى، وبيان لمن تبين واقتفى، وما استوعبنا كل ما انتهى إلينا، ولو قصدنا إلى تكثيره لما استصعب علينا … وقد أدينا بعض ما بلغنا، ووصفنا بعض ما استحسنا … وإلى الله نرغب في السلامة، والسلام».