الإحسانُ
أريد بالإحسان التصدق على الفقراء، ومعونة الضعفاء والمرضى، ولست أرى لفظًا أدل على هذا المعنى من الإحسان، وإن لم يرضه المتشددون في الألفاظ.
ربما كانت فضيلة الإحسان من أكثر الفضائل تقلبًا مع الزمان، وتغيرًا في أفهام الناس، فكم بين ما كان يفهمه حاتم الطائي من نحر الجزور وإنهابها الناس، وبين ما وضع من النظم الحديثة للإحسان من فروق ومباينات!
فنظام المعيشة من قديم ينتج غنيًّا مفرط الغنى، وفقيرًا مفرط الفقر.
ولم يخلق للآن نظام يعدم هذه الفروق أو يقللها من غير أن يستتبع خطرًا أعظم، وداء أعضل.
فاهتدى الناس لتلطيف هذه الفروق إلى المناداة بالكرم والفخر به، ولست أدري أكان أول من نادى به الأغنياء اتقاءً لخطر الفقر، أم الفقراء تعطيفًا لقلوب الأغنياء.
وأتت الأديان تدعو إلى الأخُوَّة، وخاصة بين أهل الدين الواحد، وتجعل من مستلزمات هذه الأخوة عطف الغني على الفقير وإشراكه في جزء من ماله، واستتبع ذلك وجود الأديار في النصرانية والتكايا في الإسلام.
وكما أنتجت النظم معونة للفقراء وسدًّا لحاجات المعوزين أنتجت عند بعض الناس تراخيًا في العمل، وميلًا إلى الكسل واتخاذ الاستجداء حرفة، والتكدي صناعة.
وكثرت جيوش الفقراء، فلم تكف النزعات الدينية لسد حاجاتهم، فتدخلت الحكومات تحمل بعض العبء، فبنت المستشفيات وأنشأت الملاجئ وما إلى ذلك. وأتت المدنية الحديثة فأخذت تقوّم الفضائل من جديد، واستخدمت العلم في هذا التقويم كما استخدمته في كل شيء، وكان مما نظمته طرق الإحسان، بل جاء قوم من الفلاسفة متأثرين بمذهب النشوء والارتقاء، وبنظرية الانتخاب الطبيعي وعلى رأسهم «هربرت سبنسر» يطبقون هذا الإحسان ويرون أنه رذيلة لا فضيلة، وأن العجزة ومن إليهم لا يستحقون هذه العناية، إنما العناية يجب أن تتجه إلى الأقوياء وإلى خير العناصر، ويجب أن ينتخب من المجتمع خيره وأقواه، فنوجه إليه العناية ونأخذ بيده، وبعد أجيال سيفنى الضعفاء ويبقى الأقوياء فيسعد مجتمعهم، نفعل في ذلك ما نفعل بالزهور والأشجار، نهمل الذابل والضعيف فيفنى، ونستولد القوي الجيد فيبقى — إلى آخر ما قالوا. ومن حسن الحظ أنْ لم تلق نظريته هو وأمثاله نجاحًا، فإنها نظرية تقضي على خير ما في الإنسان من عاطفة نبيلة نحو الناس. وكيف يقضي على العجزة والفقراء ونظامُ الحياة يخلق منهم كل يوم خلقًا جديدًا وجيشًا كبيرًا، لو لم يُعْن به لاكتسح الأغنياء، ولثار ثورة لا يعلم مداها إلا الله.
إنما كتب النجاح لقومٍ آخرين من الأدباء والعلماء، لم يحاولوا أن يمنعوا الإحسان، ولكن حاولوا أن ينظموه، لم يشكّوا في قيمته، ولكنهم آمنوا بضرر فوضاه، واستعانوا بما وصل إليه العلم كما استعانوا بمنهاج البحث الجديد، فدرسوا الفقر وأسبابه، وطرق الإحسان وما يتلاقى منه مع أسباب الفقر وما لا يتلاقى، ووقفوا في ذلك إلى حد كبير وإن لم يصلوا إلى الغاية؛ وعلى ضوء هذه الدراسة سنت القوانين وأنشئت النظم، وظلت القوانين تنظم والنظم تعدَّل، حسب مقتضيات الأحوال إلى اليوم.
فمن أشهر القوانين القانون الإنجليزي للفقراء الذي وضع سنة ١٦٠١ ونقح سنة ١٨٣٤ والتزمت فيه الحكومة بمساعدة الفقراء والعاطلين.
ومن أشهر النظم المعروفة نظام «همبرج» الذي وضع للفقراء والعاطلين، وهو يتلخص في تأسيس مكتب رئيسي في المدينة للنظر في شئون الفقراء وتنظيم الإحسان وتقسيم المدينة إلى أقسام، وتعيين مشرف على الفقراء في كل قسم، وظيفته إعانة العاطلين على وجود عمل لهم، ودراسة أسباب الفقر في الأسر ووصف العلاج لها، وإنشاء مدارس صناعية لأولاد الفقراء ومستشفيات لمرضاهم، ويقضي بمنع الإحسان يدًا بيد إلى الفقراء، إنما يعطى الإحسان لهذه الجمعية، فهي أدرى بطرق إنفاقه — وكان من أثر هذا النظام قلة عدد الفقراء وتنظيم معيشتهم، وقد أدخلت عليه تعديلات قليلة ثم عمم في مدن كثيرة في أوروبا.
ونشأت في أمريكا جمعيات على هذا النظام وسَّعت بعض أغراضها؛ من ذلك أنها رأت أن أكبر مساعدة ليس إعطاء المال للفقراء، ولكن إيجاد العمل لهم، كما جعلت من أهم أغراضها ترقية المعيشة الاجتماعية في منازل الفقراء والعناية بحالتهم الصحية، وبتعويدهم العادات الصالحة للعيش، ووجهت أكبرهما إلى العناية بأطفال الفقراء حتى لا ينشئوا كآبائهم؛ فكان لدى الجمعيات سجل للفقراء والعاطلين في كل حي، ومجمل عن سبب فقر كل أسرة وحالتها وما بذل من العناية لها، والاتجاه الذي اتجهوه في معالجتها، وبذلك أسس الإحسان على الأسس العلمية.
لعل أهم ما حدث من الانقلاب في تصور الإحسان أنه كان يكفي في عده فضيلة أن يخرج الإنسان عن شيء من ماله أو جهده ابتغاء ثواب الله، لا يبالي بعد ذلك أين وقع ماله: أعلى غني وقع أم على فقير، أكان فيه إصلاح للفقير أم إفساد له؟ فيكفي أن يجود بقرش ليحسب له عند الله عشرة أو مائة، فجاءت الدعوة الحديثة تطلب أن ينظر في الإحسان إلى المحسَن إليه لا إلى المحسن، فليس من العمل الصالح في شيء أن تعطي حسبما اتفق، بل يجب أن يكون عطاؤك لإصلاح الهيئة الاجتماعية التي أنت فيها، ولا يكون ثوابًا عند الله إلا إذا نظر فيه هذا النظر، ولا يعد فضيلة حتى يكون القرش الذي يعطى بقصد رفع مستوى الأمة؛ فإذا كان الإحسان يزيد حال الأمة سوءًا عد رذيلة لا فضيلة، وعد من أتى به مجرمًا لا محسنًا. وبعبارة أخرى: أن هذا النظر الحديث يتطلب أن يشعر المحسن بالتبعة أو المسئولية، فمسئولية المحسن أن يعطي الفقراء وأن يتساءل عن إعطائه: هل أفاد من أحسن إليه؟ وهل أفاد الأمة بعمله أو لم يفد؟
كان لهذا النظر نتائج لها قيمتها: منها تحريم الإحسان الفردي، وهو أن تكون علاقة المحسن بالفقير علاقة مباشرة، وإنما يجب أن تتوسط في ذلك الجمعيات والهيئات التي عرفت حالة الفقراء ودرست شئونهم، واهتدت عن طريق دراستها إلى نوع ما يصلح لهم؛ فمن شاء الإحسان فعليه أن يتبرع لهذه الجمعيات وهي التي تتولى الإنفاق. ومنها تحريم التسول في الشوارع والطرق؛ لأن المتسول لم يثبت للجمعيات صحة دعواه وعلة فقره إن كان، وليس التسول حرفة مشروعة؛ ولكن إذا أثبت عدم صلاحيته للعمل وعجزه عن العيش وجب على الأمة إعانته، والجمعيات أقدر على تعرُّف هذا؛ وكان من مقتضى هذا النظر أيضًا أن الهيئات التي وكل إليها هذا الأمر لا يصح أن تكتفي بإعطاء المال إلى الفقراء، بل يجب أن تعالج الأمر بشتى الوسائل حسب حالة كل فقير. فمن كان سبب فقره أن لا عمل له مع قدرته سعت له في إيجاد عمل، ومن كان سبب فقره مرضه عالجته، ومن كان سبب فقره إدمان مخدرات أو سوء عادات نظرت في وسائل إصلاحه؛ كذلك أهم عمل تعمله أن ترعى أبناء الفقراء حتى لا يكونوا فقراء المستقبل، فتنشئ لهم المدارس لا ليتعلموا فيها تعلمًا نظريًّا لا يسمن ولا يغني من جوع، ولكن تعلمًا صناعيًّا يبعث فيهم روح الاعتماد على النفس، ويفتح لهم السبل لتحصيل العيش؛ بهذا وأمثاله عولج الفقر في أوروبا وأمريكا، فإن كان بعد ذلك عاطلون لم يكن سبب عطلهم راجعًا إليهم — وإنما يعود على نظام العمل والعمال وسوء الحالة العامة — وجب أن تضمن الحكومات لهم ما يقيم أوَدَهم حتى يعودوا إلى عملهم. ونحن إذا نظرنا — في ضوء هذه النظريات وكيف طبقت — إلى حالة الشرق وجدنا عجبًا، وجدناه لا يزال على حالته الأولية، سواء في ذلك أغراض المحسنين أو تطبيق الإحسان.
لدى الشرق أموال كثيرة تبرع بها أهلها للخير، لدينا أموال الأوقاف الخيرية، ولدينا أموال النذور، ولدينا تبرعات المحسنين، إلى كثير من أمثال ذلك، ولكن أكثرها لا يقع موقعًا حسنًا عند الله وعند الأمة، وكأنه يصب في البحر صبًّا أو يدفن في الأرض دفنًا، على أن المال الذي يُدفن أو يُلقى في البحر ليس له من الضرر أكثر من فقده، ولكن ضرر الإنفاق على غير مستحق يزيد الأمم بلاءً والحال سوءًا.
وأهم ما استوجب هذه الحالة الأسيفة في نظري شيئان: أولهما — احترام إرادة الواقف والمتبرع. فالفقهاء يرون أن شرط الواقف كنص الشارع، والواقف لا يعلم تطور الأمة ولا مطالبها ولا حاجاتها التي تختلف باختلاف الزمان؛ قد كان كثير من الواقفين لا يفهمون من وجوه البر إلا الوقف على الحرمين والمساجد والتكايا والتصدق بالخبز على المقابر، فأصبح الناس اليوم يفهمون أن من وجوه البر كذلك إنشاء المستشفيات والمدارس والملاجئ، وسيفهمون قريبًا أن من وجوه البر إعانة جمعيات التأليف وإعانة الفلاحين ليحصلوا على الماء النقي؛ وليستضيئوا بالنور الكهربائي، وسيجدّ غير ذلك من ضروب الخير، وسيرون أن الوقف على مسجد — إذا كان المسجد قد وُقف عليه من قبل ما يكفيه — ليس وجهًا من وجوه الخير، وسيرون أن أموال النذور تلقى في صناديق الأضرحة ليست تنفق على المعوزين والمحتاجين، فليس التبرع بها إحسانًا.
كان الواجب من عهد بعيد أن تحترم إرادة الواقف والمتبرع في رغبته في الخير فقط، ولكنا لا نحترمها في وجوه الخير التي يراها هو إذا رأينا أنها ضارة أو رأينا الأمة أحوج إلى الصرف في وجوه أخرى.
رحم الله حسن باشا عاصم، فقد كان له موقف في ذلك جميل — تبرع محسن ببناء مدرسة، ووقف عليها الأوقاف التي تلزمها، وأتبعها للجمعية الخيرية الإسلامية، وكان حسن عاصم مديرًا لمدارسها، ثم أراد الواقف أن يدخل ابنه في المدرسة، وكانت سنه تزيد على السن المقررة شهورًا، فأبى عليه ذلك وقال: إنه تبرع بمدرسة له الشكر، ووقف عليها أوقافًا فله من الله الأجر، ولكنه يريد أن يبطل قوانيننا فليس له في ذلك حق.
قد يكون من المعقول أن نقبل إرادة الواقف في أوقافه الأهلية. أما الخيرية فيجب أن تخضع كل الخضوع لمصلحة الأمة. لا أظن الواقفين إذا بعثوا من قبورهم ورأوا تطورات الأمم إلا مؤيدينا في رأينا وراجعين عن رأيهم.
والأمر الثاني وهو متصل بالأول، أن أموال الخير تصرف حسبما اتفق، لا خضوعًا لدراسة اجتماعية ولا تحريًا لوجه الإنفاق ولا للمنفق عليهم، فكثيرًا ما يحرم البائس المحتاج، ويعطي الغني المبذر، وكثيرًا ما يحرم العائل لا يجد قوته وعياله، ويعطي المدمن ينفقها في كيوفه.
إن فوضى الإحسان في الشرق من أسباب شقائه، ولو نظم لكان من أكبر العوامل في نهوضه وصلاحه.
لا أمل في هذا الإصلاح حتى ينشط رجال الأمة وشبانها للخدمة العامة، وأن يمتلئوا عقيدة بضرورة المساهمة في الإحسان بالمال وبالنشاط، وأن يطالبوا مطالبة حارة بتنظيم الإحسان حتى يؤدي غرضه على أكمل وجه مستطاع، إذًا لرأينا البؤس في الأمة يتضاءل إلى حد كبير، ويحل محله كثير من الرخاء، ولرأينا المال — الذي يضيع في الشرق سدى — وقد أصبح دعامة للإصلاح، وسببًا من أكبر أسباب النهضة الحديثة.