أدب الروح وأدب المعدة
هذا اصطلاح جديد أضعه لنوعين من الأدب، يتميزان كل التميز، ويختلفان كل الاختلاف، لعل في وضعه فائدة في تقويم الأدب وصحة تقديره.
وأعني بأدب الروح الأدب الذي يتصل بالعواطف السامية عند الإنسان فيهذبها ويرقيها ويغذيها.
فالقرآن «أدب الروح»؛ لأنه يسمو بالإنسان عن عالم المادة، ويأخذ بيده إلى السماء لينظر إلى الأرض، نظرة تريه الحق حقًّا والباطل باطلًا.
وباب الحماسة في «ديوان الحماسة» — مثلًا — «أدب الروح»؛ لأنه صادر عن نفوس قوية، وباعث لمشاعر قوية، وداع لمواجهة هذا العالم وما فيه بنفوس أبية، في غير خضوع ولا استخذاء.
وغزلٌ جميل وكثَير والعباس بن الأحنف «أدب روح»؛ لأنه يصهر النفس ويطهرها، ويجعل من آلامها وآمالها مبعثًا لفيض الحنان والرحمة والعطف على العالم وعلى الإنسانية كلها.
وأدب الطبيعة «أدب روح»؛ لأنه شعور بالجمال مجردًا عن الرغبة، وتقدير للحسن منزهًا عن الأَثَرة، ومزيج من شعور بجمال وجلال يحد من كبرياء الإنسان، ويقفه من هذا العالم حيث ينبغي أن يقف.
وعلى الجملة فكل هذه الأنواع من الأدب تنبعث عن عواطف نبيلة، وتبعث أيضًا على أعمال نبيلة، تنبع من عواطف سامية، وتدفع إلى أعمال سامية، وهي أليق ما تكون بالإنسان الراقي المهذب.
•••
أما أدب المعدة فنريد به ذلك الأدب الذي يدور حول سد الرمق، وملء المعدة، واستدرار المال، وتحصيل القوت.
فأدب المديح «أدب معدة»؛ لأن مبعثه الاحتيال على الممدوح حتى يستخرج منه ما في يده، والغاية منه تحصيل المال ليملأ به معدته، أو يدخره ليملأ به معدته عند الحاجة إليه.
والغزَل الفاجر «أدب معدة» وتعليل ذلك واضح بقليل من إعمال الفكر.
والتهاني بالأعياد والمواسم «أدب معدة»، إذ كان غايته التقرب من المهنأ به، حتى يستجلب عطفه ويستنزل رفده.
ومقالات «الكاتب» التي باعثها الأول ملء أعمدة من الصحف والمجلات، والاستيلاء بعدُ على «الأجرة»، فإذا لم يؤجر لم يكتب، ولا تحركه عاطفة ما للكتابة «أدب معدة».
ولعلك تعجب إذا أنا عددت كثيرًا من شعر الزهد أيضًا «أدب معدة»؛ لأنه يدور حول المعدة وإن كان سلبيًّا؛ فكما نعد مواقف الهجوم والدفاع مواقف حرب، ونعد ما يفتح الشهية وما يصدها صنوفًا من صنوف المائدة، ونعد «كُلْ» و«لا تأكل» حديث طعام، كذلك يصح أن نسمي — أيضًا — الأدب الذي يثير شهوة الطعام والذي يحارب تلك الشهوة «أدب معدة».
•••
وأظن القارئ الكريم يستطيع أن يحدد بعد ذلك كل ما يعرض عليه من أدب إن كان أدب روح أو أدب معدة.
الفرق بين أدب الروح وأدب المعدة هو بعينه الفرق الذي أبنته في مقالي السابق بين الدين الحق والدين الصناعي.
فأدب الروح أدب ينبعث عن النفس، كما ينبعث صوت البلبل عن نفسه، ويدل على صاحبه كدلالة ضحك الطفل البريء وبكائه على ما في نفسه من سرور أو حزن، فلا غش ولا رياء.
أديب الروح لا بد أن يُغنِّي بما نفسه ولو لم يُغَنِّ لانفجر، يغني بما في نفسه كوفئ أم عوقب، وسواء قُرِّب أم شُرِّد، وسواء أعجب أم لم يعجب.
أما أديب المعدة فهو يغني للمضيف لا لنفسه، يتحسس المعاني التي تسر صاحب الموائد حتى يُخرج له شهي الطعام ومختلف الألوان، يبيع ذوقه لذوقه وفنه لفنه.
فإن اختلفت الموائد فأدبه لأشهاها طعومًا، وأدسمها صنوفًا، يقاد بأنفه لا بنفسه.
أدب الروح جار على نسق واحد ونمط واحد. أما أدب المعدة فله ألوان كألوان الطعام: مديح إن أُعطي، وهجاء إن حُرم، هو تبع للمائدة، إن تكدس أكلها تكدس مدحه، وإن قلَّ أكلها قل مدحه، فإن طويت طوى مديحه وبسط هجاءه؛ لذلك ترى الشاعر يمدح الرجل ويذمه، ويطريه ويهجوه، والرجل هو هو في قيمته، ولكن لم يكن هو هو في مائدته.
قد يعجب الناظر إلى أدب المعدة من الناحية الفنية، فيراع لصنوف البديع، ويؤخذ بجمال التشبيه، ويهتز لحسن التوليد، ولكن هذه الروعة من جنس الروعة التي تأخذه عند النظر إلى الألعاب النارية أو الحركات البهلوانية، تبهر العين، ولا شيء في اليدين، هو مادة صالحة لدراسة البلاغة اللفظية والبلاغة الشكلية، ولكنه ليس صالحًا للبلاغة النفسية.
فإن نحن نظرنا إلى الأدب من ناحية أنه خادم للهيئة الاجتماعية ووسيلة من وسائل الرقي النفسي وأداة من أدوات الإصلاح الاجتماعي، كان أدب المعدة من هذه النواحي صفرًا، بل هو كمية سلبية وعبء ثقيل.
•••
مما نأسف له أنّا إذا نظرنا إلى تاريخ الأدب العربي، وجدناه ينحدر — مع التاريخ — شيئًا فشيئًا ليكون أدب معدة.
فنرى في العصر العباسي طغيان أدب المعدة على أدب الروح؛ هذا البارودي — رحمه الله — اختار لثلاثين شاعرًا من خيرة شعراء الدولة العباسية، أمثال بشار وأبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز، واختار لهم في فنون آدابهم المختلفة، من مديح ورثاء وأدب ونسيب وهجاء وزهد، وكانت مختاراته في أربعة أجزاء كبار، فكان ما اختاره من المديح ٢٤١٨٥ بيتًا، ومن الأدب ١٦٩٧ بيتًا، ومن الغزل ٤٦١٦، ومن الهجاء ١٢٢٩، ومن الوصف ٣٩٩٣، ومن الزهد ٤٧٣ بيتًا. ونظرة واحدة إلى هذا الإحصاء تدهشنا أشد الدهش، إذ يتبين لنا طغيان أدب المعدة، وهو المديح والهجاء، على أدب الروح طغيانًا كبيرًا.
ثم انظر بعدُ إلى الفن المبتكر في العصر العباسي، وهو فن المقامات، فقد ابتدعها بديع الزمان الهمذاني، فلم يجعل محورها حبًّا ولا غرامًا كما يفعل الروائيون اليوم، ولم يجعل محورها شيئًا يتصل بأدب الروح، ولكنها كلها «أدب معدة» فأبو الفتوح الإسكندري بطل المقامات كلها رجل مكر واحتيال، يصطنع جميع المهن لابتزاز الأموال، نراه مرة قَرّادًا يسلي الناس ويضحكهم، ومرة واعظًا مزيفًا يعظ وينصح، ثم تنكشف حيلته فإذا هو مهرِّج، ومرة مشعوذًا يحتال على الناس بشعوذته ليفتحوا كيسهم ويغدقوا عليه من مالهم، وهو في كل ذلك مستَجْدٍ سئَّال محتال.
وجاء الحريري فجعل مكان أبي الفتح الإسكندري أبا زيد السروجي، وهو كصاحبه دناءة نفس وخساسة حرفة، يشخذ ثمن كفن لميت يدَّعيه، ويتعامى فتقوده امرأته إلى المسجد ليبتز أموال المصلين، ويجمّل غلامه ليوقع الوالي في شركه فيسلبه ماله وهكذا، ويتخذ الفصاحة والبلاغة وسيلة للتكدي والسؤال.
أليس هذا كله «أدب معدة»؟
وانتشر بجانب أدب المقامات نوعٌ آخر من أدب المعدة بمعناه الحقيقي، هو «أدب التطفيل» فقد انتشرت صناعة التطفل وحكايات الطفيليين وأخبارهم ونوادرهم، وألف لنا في ذلك الخطيب البغدادي كتيبًا لطيفًا سماه «التطفيل»، وهو فن يتصل بالمقامات اتصالًا وثيقًا، كلاهما مبني على التكدّي، والسؤال في حذق ومهارة، فكان هناك طفيليون أدباء ظرفاء، يروون أحاديث الأكل، ويحفظون أشعار الموائد، ويقصّون حكايات الطمع والشَّرَه؛ بدأ ذلك «أشعب» في العصر الأموي، وقفاه «بُنَان» وأضرابه في العصر العباسي، ينقش أحدهم خاتمة «ما لكم لا تأكلون»، وآخر «أكلها دائم»، وثالث «آتنا غَداءنا» ورابع «لا تبقي ولا تذر». وتواصوا بالأكل وتواصوا بتخير الأصناف، وأنشأوا لأنفسهم نقابة في البصرة هي «نقابة الطفيليين»، ووضعوا الخطط المحكمة لمعرفة أمكنة الولائم، فأقاموا رصدًا على الجزارين والطباخين حتى لا تفوتهم دعوة، وأنشأوا حول ذلك كله الأشعار من نصائح ومديح وهجاء؛ وخلَّف لنا الأدب وصيتين طويلتين يوصي بهما نقيب الطفيليين ولي عهده: إحداهما من إنشاء أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الأديب المعروف، والأخرى من إنشاء المولى تاج الدين عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني، وكلتاهما في قوانين التطفل وسننه وآدابه.
•••
وكثر الأدب في ابتزاز المال، وفي التطفيل وفيما يدور حولهما، وانتشرت حرفة الاستجداء واخترعت لها الحيل الكثيرة، ووضع لها علم سمي «علم الحيل الساسانية» وعرَّفوه بأنه «علم يعرف به طريق الاحتيال، في تحصيل الأموال»، وألفت الكتب في هذه الحيل، من أشهرها: كتاب «المختار، في كشف الأسرار، وهتك الأستار» كشف فيه حيل المحتالين وأستار الكاذبين الخ. وفيه مئتان وستة وستون بابًا في الحيل المختلفة.
كل هذه ضروب من ضروب «أدب المعدة».
والذي دهور الأدب إلى هذه الدرجة طبيعة الحياة الاجتماعية في تلك العصور؛ فلم يكن للأدباء مرتزق يرتزقون منه إلى موائد الخلفاء والأمراء والأغنياء، ولم يستطع الأديب أن يستقل بنفسه في الحياة، فنتج من هذا نتيجتان طبيعيتان: الأولى: أن الأدب أصبح أرستقراطيًّا لا شعبيًّا. يدور حول المديح، وإعلاء شأن القصور، وفي مراكز الخلافة لا في غيرها، وفي الموضوعات التي تهم هؤلاء الأغنياء لا غيرهم. والثانية: أن الأديب لم يكن يغنّي لنفسه، ولكن للأغنياء، وأصبح الأدب أو أكثره أدبًا شيئيًّا، لا ذاتيًّا وأصبحنا إذا قرأنا ما يقوله الفرنج عن تعريف الأدب بأنه «نقد الحياة» عجبنا من هذا التعريف؛ لأنّا لا نرى الأدب العربي العباسي ينقد الحياة، وإنما يصف نوعًا من حياة القصور، فأما الشعب فلم يوصف إلا قليلًا.
وبقدر ما كثر في هذه العصور «أدب المعدة» قلَّ أدب الروح، من غزل عفيف، أو وصف للطبيعة، أو ثورة نفس على سوء حال الشعوب.
•••
إن كان هذا مما يسوء، فقد كان مما يسر نهضة الأدب العربي الحديث؛ فقد بدأ يتحول من أدب معدة إلى أدب روح؛ تحول من أرستقراطية إلى ديمقراطية، ومن مديح إلى وصف، ومن مقامات إلى روايات تصف الحياة الاجتماعية للشعوب، ومن عواطف شعبية أو عواطف عالمية.
وليس مما يَضيرنا أنه في مبتدأ الطريق، فمن سار على الدرب وصل.
إن الشرق الآن في حاجة ملحة إلى كثير جدًّا من أدب الروح، وقليل جدًّا من أدب المعدة، فإنه مكبَّل بأغلال سياسية تحتاج إلى أدب يغني له بالحرية حتى يحطمها، ومكبَّل بأغلال اجتماعية تحتاج إلى أدب ينشد الإصلاح حتى يخلص منها، ومصاب بانحلال يحتاج إلى أدب يشعل النار تحته حتى يَعْقِد، وفقير في اللذائذ العقلية، فلا بد له من أدب راق يغذيه، وثروة أدبية عقلية تغنيه.
لقد عاش طويلًا على أدب المعدة فكان نتيجته ما نرى، فليعش من الآن على أدب الروح حتى تكون نتيجته ما نأمل.