مستودع الذَّخائر
أين — تظن — مستودع الذخائر للأمة؟
قد تجيب على الفور: إنه المطارات، ومخازن الأسلحة، ومستودع القنابل، وما إلى ذلك من أماكن تكدس فيها آلات القتال وأدوات الحرب.
إن أجبت بذلك فقد أجبت بالعرَض دون الجوهر، وبالمجاز دون الحقيقة.
وقد تتفلسف قليلًا، فتقول: إن ذخيرة الأمة هي جيشها المسلح بعَدده وعُدده، ومرانه وتجهيزه، وفنونه وتشكيله.
إن قلت ذلك فقد قاربت الصواب ولم تقله، وحُمْت حوله ولم تقع عليه.
فما قيمة الذخائر إذا لم تجد رجالًا؟ وما ينفع السيف إذا لم تك قَتَّالًا؟ إن السيف في يد الغِرِّ والحذق كالقلم في يد الأمي والكاتب؛ بل ما ينفع الجندي المسلح، إن لم يكن له بين جنبيه قلبٌ لا يهاب ونفسٌ لا تفزع؟
•••
الإجابة الحقة هي أن مستودع الذخائر للأمة، قلب المرأة، قلب المرأة هو الجيش الأول الذي لا قيمة لقنابل، ولا طيارات، ولا غوَّاصات، ولا دبَّابات، بدونه. وإن شئت فقل: هو الطابور الخامس الذي لا يوقع الرعبَ والفزع في قلوب الأعداء شيء مثله.
لقد خُلقت المرأة من ضلع من أضلاع الرجل، ولكن سرعان ما تغير الحال فخلق قلب الرجل من قلب المرأة.
•••
يخطئ من يظن أن لبن الأم ليس إلا نسبة معينة من الدَّسم، ونسبة معينة من الماء، وما إلى ذلك؛ فليس هذا كله إلا تحليلًا للمادة، وليست المادة كل شيء في اللبن؛ وإنما قصر تحليل الكيماويين فقصرت نتائجهم. إن في اللبن صفات خلقية، وصفات عقلية، وصفات روحية، وراء الصفات المادية، يرضعها الطفل كما يرضع مادة اللبن، فتتغذى بها روحه، وتتشكل منها نفسه؛ وليست هذه الصفات الروحية متطابقة دائمًا مع الصفات المادية، فقد يحلل اللبن في معامل الكيمياء فيتبين من تحليله أنه المثل الأعلى للبن، وهو مع ذلك سم خلقي ينفث الجبن، ويشيع الفساد، ويبعث الفزع والخور؛ على حين أن لبنًا آخر ينقصه الدسم ويعيبه التحليل الكيمياوي؛ وهو مملوء روحًا، ومملوء شجاعة ونشاطًا، ومملوء قوة؛ ومن أجل ذلك صدق الشاعر إذ يقول:
•••
ثم إلى اللبن الذي ترضعه الأم أولادها توعز إليهم الجبن أو الشجاعة بسلوكها؛ فإن هي ربتهم تربية الأرانب فأدفأتهم وأشبعتهم، وحاطتهم بكل ضروب العناية، ولم تسمح لهم أن يجربوا وأن يجازفوا، ثم حدثتهم من الأحاديث ما يخلع قلوبهم، ويحبب إليهم الحياة بأي ثمن، وعلمتهم أن لا قيمة للعقيدة بجانب حياتهم، ولا للوطن بجانب سلامتهم، وصاحت وولولت يوم يجندون، وفقدت رشدها يوم يسلحون. فهناك ترى صورة جند ولا جند، وترى أشكال الرجال ولا رجال، وترى أجسامًا ضخامًا وقلوبًا هواءً. وإن هي ربتهم من صغرهم على المخاطرة والمجازفة، وحدثتهم أحاديث الأبطال وعظماء الرجال، وعودتهم مكافحة الحياة والتغلب على الصعاب، وعلمتهم أن المبادئ فوق الأشخاص، والوطن فوق حياة الأفراد، وعيرتهم يوم يفرون من واجب، وأنبتهم يوم يأتون بنقيصة، وفخرت بهم يوم يضحون لمبدأ، واعتزت بهم يوم يخاطرون لأمَّة، فهناك الرجال، وهناك العزة، وهناك الشرف.
ألست ترى معي بعدُ أن قلب المرأة هو الذي يخلق قلب الرجل؟
ويخطئ من يظن أنه يستطيع أن يؤسس جيشًا من رجال بإعدادهم وتسليحهم من غير أن يدعمه بجيش من قلوب النساء؛ فالجيش بدون قلوب آلات جوفاء، وسراب ولا ماء؛ بل كل مظاهر القوة في الأمة من جيوش وأساطيل، ومجلس وزراء، ومجالس نيابية، ومصانع ومعامل، ألعاب بهلوانية ما لم يدعمها قلب المرأة.
•••
قلِّب صفحات التاريخ إن شئت، فحيثما رأيت للأم قلبًا رأيت للرجل قلبًا، فإذا انخلع قلبها انخلع قلبه.
إن هندًا بنت عتبة التي تخاطب الجيش بقولها:
هي التي أنجبت معاوية.
وأسماء بنت أبي بكر التي قالت لابنها: يا بني لا ترضى الدنية. فإن الموت لا بد منه. فلما قال لها: إني أخاف أن يمثَّل بي، قالت: إن الكبش إذا ذبح لا يؤلمه السلخ — هي التي أنجبت عبد الله بن الزبير.
والتاريخ مملوءة بهذه الشواهد في كل أمة.
وظلت المرأة العربية على شهامتها ومعرفتها بأمور الدنيا، ومشاركتها الرجل في كل شئون الحياة، حتى تقدم العصر العباسي فأنشئ لها «الحريم» وحبست فيه، وجهلت الدنيا وأحوالها، وأخذ الرجال يجهِّلون الحرائر ويعلمون الإماء، حتى أصبحت المراة ليست إلا رمزًا للمتعة أو رمزًا للكيد؛ وتجادل الشعراء، فمنهم من يقول:
ومنهم من يقول:
وكلا النظرين سخيف قاصر؛ فليست المرأة ريحانة فحسب، ولا شيطانة فحسب؛ وإنما هي فوق ذلك مَرْبًى للرجال ومحضنة للقلوب ومستودع للذخائر.
بمثل هذه النظرات البلهاء فقدنا المرأة ففقدنا الرجل؛ فإن أردنا تنظيم حياتنا على أسس جديدة وجب أن يكون أولها وأولاها خلق قلب المرأة.
ليس ما يمنع أن تحيا المرأة حياة الجمال، بل هو واجب أن يكون؛ وما قيمة الدنيا إذا لم تقم فيها دولة الجمال، ودولة الفن والدب؟ ولكن يجب أن يكون بجانب الجمال الحسي جمال معنوي؛ فيه جمال حديث المرأة، وجمال رقيها وخبرتها وجمال شجاعتها وجمال قلبها، فعند ذلك نجد المرأة فنجد الرجل.
انظر الآن دور المرأة الغربية في الحرب، ولا أقص عليك ألا مثلًا واضحًا تلمسه في كثير مما يدور من قصص وما يتلى من أخبار، وهو أن الشبان والرجال يتعيرون كل العار أن يُرَوْا في بلادهم أيام الحرب وهم لا يحملون السلاح، ولا يشتركون في القتال أو وسائل القتال، ويحز في نفوسهم أن قد أصيبوا بعاهة أو منعهم مانع جسمي عن أن يؤدوا لوطنهم خدمة ولأمتهم عملًا؛ ومن يقوم بهذا الدور الخطير من تأنيب وتعيير غير نساء الأمة؟ فتكفي نظرة من إحداهن ليفضل الرجل الموت على الحياة، وخطر الحرب على أمن السلم، وعيشة القتال على عيشة الدعة.
كل هذا يلخص لنا الأمر في جملة: شجعت المرأة فشجع الرجل، وماعت المرأة فماع الرجل.
•••
ليست تُعَد الأمة راقية تستحق البقاء إلا إذا أرسلت الأم أبناءها إلى ميادين القتال وهي تبتسم، وودّعت الزوجة زوجها إلى الحرب وهي تملؤه أملًا بالعيشة السعيدة بعد النصر، وقالت الأمهات لأبنائهن ما قالت «أسماء»: «إن ضربة بسيف في عز خير من لطمة في ذل».
•••
إن وراء كل جيش في الأمة جيشًا غير منظور من قلوب نسائه، ووراء كل جيش صاخب جيش المرأة الصامت، ووراء البنود والأعلام والجنود والذخائر دخيرة أسمى وأرقى وأقوى وأغلى، وهي «قلب المرأة».