رحلة١
وأنا رحلتُ — يا أخي طه — كما رحلتَ، فرارًا من تقاليد العيد التي أفسدت العيد؛ فأصبح المرء لا يستطيع فيه أن يخلو إلى نفسه، ولا إلى أهله، ولا إلى أصدقائه، وإنما هو يستقبل أناسًا في تكلف وتصنع، ويتحدث إليهم في تكلف وتصنع، ويقضي نهاره وجزءًا من ليله أو مزورًا، متلقيًا بطاقات، رادًّا على بطاقات؛ متقبلًا تحيات، رادًّا على تحيات؛ فلا يفرغ العيد إلا وقد فرغ من نفسه، وأضناه التعب، وانهدَّت أعصابه، وضعفت قواه.
إذًا فلا بد لنا من «مدرسة» تنظم أعيادنا، وتصحح تقاليدنا، وتجعل العيد مصدر فرح وسرور، وراحة واطمئنان.
وقبل أن تُنشأ هذه المدرسة، وتقوم بواجبها، لا بد أن نرحل في العيد، ونهرُب من الأهل هربًا من التقاليد.
ولكن إلى أين؟
إذا كان الغرض الهرب، فليكن إمعان في الهرب، وإذا كان الغرض الفرار من الناس، فليكن حيث لا ناس.
إذًا فنحن نريد مكانًا نستطيع أن نستريح فيه من أعمالنا؛ ونبعد فيه عما يصدِّعنا من أخبار وأحداث سياسية واجتماعية، ونبعد فيه عن الناس؛ لأنهم مصدر قلق دائم، ونقرب فيه من الطبيعة؛ لأنها مصدر الراحة والطمأنينة، والشعور بلذة الجمال الذي يسمو عن الغرض.
إلى دير ممعن في الصحراء، بين الجبال الشامخة، ومنظر الطبيعة القاسية، والطبيعة الجميلة، والطبيعة القوية القاهرة.
إلى دير «سانت كاترين»، حيث جبلُ موسى الذي تلقَّى منه الوحي والإلهام، ولأمر ما كان جبل موسى وغار حراء ونحوهما من الجبال مصدر الوحي والإلهام؛ ففيها ينقطع الإنسان عن العالم وشروره، ويتجرد من خيالاته وأوهامه، ويكون أقرب إلى الطبيعة على الفطرة، وأقرب إلى فهم نفسه على الفطرة، وإلى رؤية ربه على الحقيقة.
هيا بنا أيها الأصحاب إلى الدير، فما حيلتنا وقد انقطع نظام التكايا والخانقاهات في الإسلام، وبقي نظام الأديار في النصرانية؟ وكان القائمون بها ذوي ذوق في اختيارها، فقد زرنا أديارًا كثيرة في الصحراء، حرص منشئوها على أن تكون بعيدة عن الناس، قريبة من الله، قريبة من الطبيعة وحسنها غير المجلوب كما يقول المتنبي، وحيث الماء الذي هو مبعث الحياة، وحيث صفاء الجو، وصفاء النفس.
وها هم أولاء رفقة كأنَّ أخلاقهم سبكت من الذهب المصفى، وكأن شمائلهم من قَطْر المُزْن، وها هي السيارات التي تنهب الأرض نهبًا مكان الجمال التي كانت تَخُبُّ خبًّا، وها هو الأستاذ «الدمرداش» القائد الخِرِّيت، العالم بالمسالك والمهالك، الذي خبر صحراء مصر وجبالها شرقًا وغربًا، وعرف أسرارها، وعرف كيف يدبر لها، وينظم الرحلات إليها، ويطبق النظام العسكري عليها، في دقة وإحكام، وفي مرح وسرور أيضًا.
لم تُثر فينا — يا أخي طه — هذه الرحلة غضبًا كما أثارت فيك رحلتك، بل أثارت فينا معاني أخرى تخالف الغضب كل المخالفة، أثارت عندنا شعورًا بضَعَة الإنسان أمام قوة الله القاهرة، ومظهرها في سلاسل الجبال الشامخة والوديان الباهرة، والمرتفعات والمنخفضات التي لا نهاية لها؛ وتقبلنا بين سلطان الشمس في النهار بدفئها وعظمتها، وسلطان القمر في الليل بجماله وبهائه، ورقته ووداعته.
ولم يكن من فرق بيننا وبينك، إلا أنك في رحلتك انغمست في الإنسان، ونحن في رحلتنا هربنا من الإنسان، وحيث لا إنسان لا غضب ولا حقد ولا نزاع، فإذا أكلنا أكلنا في الصحراء، حيث لا يحسدنا أحد، ولا يغبطنا أحد، ولا ينظر إلينا إلا الله الذي يرحمنا ويشفق علينا، وقد يسخر منا.
ولكني لا أكتمك أني شاركتك حينًا في اقتراح مدرسة الغضب، فكأننا كنا ملهَمين إلهامًا واحدًا، أو أن شيطاننا واحد كما يقول الشعراء. ولكن كان الغضب حيث كان الإنسان؛ فقد قطعنا في سيرنا في الصحراء المسافات الشاسعة، نلهو ونلعب، ونسر ونفرح، ونغفل ونذكر، وتتوالى علينا العواطف المختلفة إلا الغضب؛ ولكن مع الأسف، والأسف الشديد، كنا بين حين وحين يوقعنا سوء حظنا في ملاقاة الإنسان فنغضب. نقطع المسافات البعيدة في الصحراء الجرداء في هدوء واطمئنان، ثم نصطدم بمجموعة من الناس تسمى في عرف المدنيين «شركة»، وفي عرف اللغة والحق «امتصاص دماء»، و«استغلال الأرواح للذهب» و«تحويل النفوس البشرية إلى أوراق مالية».
وكان الأمر يهون لو كان المستغِل والمستغَل مصريين، إذًا لقلنا: إن مصر استعبدت مصر، وبعض مصر أكل بعض مصر؛ ولكن هذه شركة «جبس» يونانية، وهذه شركة «منجانيز» إنجليزية، وفي الناحية الأخرى شركة «فوسفات» إيطالية. ولم نسمع في هذا الطريق ولا فيما سرنا فيه قبل من طرق شركة مصرية، فالمعادن من بلادنا، واليد العاملة يدنا، والغلة لغيرنا.
لقد غضبت — يا أخي — عند ذاك غضبًا أشد من غضبك، إذ علمت أن في الصحراء ثروة تبلغ أضعاف ما في الأرض الخصبة من ثروة، فهذه طين، وتلك ذهب، وعلمت أن هذه الجبال التي كنت أظن أنها لا تصلح لشيء إلا لخيال شاعر، قد كشف فيها العلم عن مناجم أشكالٍ وألوان، تُدِرّ المال الوفير والخير الكثير، وعلمت أن الله تعالى قد منحنا هذه الكنوز وحرمنا كنز العقل وكنز الخلق، فجاء قوم حرموا هذه الكنوز ومنحوا كنز العقل وكنز الخلق، فغلبونا على كنوزنا وعلى عقولنا وأخلاقنا؛ وكان لنا العَمل الوضيع، ولهم الثراء الواسع، ولنا الفُتات ولهم المائدة.
وعلمت أن هؤلاء العمال المصريين يعملون في هذه المناجم في مقابل عشرة قروش في اليوم أو أقل من ذلك قليلًا أو أكثر من ذلك قليلًا، ثم لا يستطيعون أن يعملوا أكثر من نصف سنة، إذ تسوء بعدُ صحتهم، وتذبل أجسامهم، ولا يصلحون بعد ذلك للعمل ولا للحياة، فيعودون إلى بلادهم وقد كسبوا بضعة جنيهات في أيديهم وخسروا نفوسهم؛ وكسب غيرهم الصحة والمال والجاه؛ وتدفق المال في أوروبا، وتدفق المرض وسوء الحال في مصر.
عند ذلك — يا أخي — كنت أغضب وكنت أثور، وكان يتقطع حلمي اللذيذ في الصحراء، وكنت أتساءل: أين حكوماتنا التي أهملت الصانع كما أهملت الزراع، وأهملت الأراضي المعدنية كما أهملت الأراضي الزراعية؟ وأين رجال العلم منّا الذين يجهلون ما في بلادهم، حتى يأتي إليها غير أهلها، فيكشفوا سرها، ويعرفوا قدرها، ويعملوا لاستغلالها؟ وأين أرباب الأموال الذين لا يعرفون من المال إلا أرضًا زراعية ضاقت على أهلها؛ وإلا مضاربات على القطن تأتي على أراضيهم، فتصبح هي والمناجم سواء في تملك الأجنبي لها، ويصبح لغيرنا الغُنم وعلينا الغُرم، ولغيرنا الثمرة ولنا القشور؟
لسنا يا أخي نحتاج إلى مدرسة للغضب فحسب، وماذا ينفع الغضب؟ إنما نحتاج لمدارس تعلّم الحكومات كيف تحمي ثروتها، وتستغل مناجمها؛ وتعلّم رجال العلم كيف يعلَمون أن في أرض مصر ثروات تفوق ما في الوظائف الوضيعة، وتعلم رجال المال أن استثمار أموالهم في الأوراق المالية هو استثمار العجائز، واستثمار أموالهم في الأراضي الزراعية استثمار القرون الخالية، وأنه يجب أن يعيش أقوياؤنا لزمنهم فيستنجموا، كما يعيش ضعفاؤنا للأرض، فيزرعون ويقلعون.
•••
رُحْماك اللهم! كلما هربت من الإنسان وهمومه، لحقني الإنسان بغمومه، حتى في جوف الصحراء المؤنسة بوحشتها يلاحقني الإنسان الموحش بإنسيته! لا.. لا.. لا بد أن أغلق ذهني دونه، وأجرد نفسي منه، وأفرغ للجبال والوديان، واحتضن الطبيعة شوقًا إليها، وأركز جمالها في قلبي هيامًا بها؛ لأدعْ منابع الزيت في «السويس»، ومناجم المنجنيز في «أبي زنيمة»، ومناجم «الجبس» فيما لا أدري اسمه، ولأمتع النظر بالجبال الحمراء والصفراء والبيضاء والسمراء، وبالشمس على قمم الجبال، وبالطبقات الجبلية المختلفة الألوان، وبالحصى الذي يروع حالية العذارى كما يقول الشاعر، وبحصباء الدر على الأرض من الذهب، كما يقول الآخر؛ ولأنعم بالجدب كما نعمت حينًا بالخصب، وبمسيل الماء القليل ينبت في حافتيه العشب القليل، كما نعمت بمنظر النيل وفيضانه ومزارعه، فالجمال في التنوع؛ ولنسر على شاطئ البحر الجليل الجميل، ولنسمع تلاطم أمواجه، ولننعم بزرقته كما نعمنا بالوادي الذهبي وتموجاته الوديعة الهادئة؛ ولنعلُ ولنهبط، ولنَسر في السهل والوعر، فلذَّات الهوى في التنقل؛ ولتغب الشمس مودَّعة في الشتاء بالثناء، ولتبعث إلينا ابنها البر القمر ليسيل على هذه اللا نهاية من ضوئه الفضي الرائع، وليجعل الأرض كلها شاشة بيضاء تمثل عليها الصور البديعة والمناظر الجميلة:
وهذه السيارات تطوي الأرض طي السِّجل للكتب، لا تكلّ ولا تملّ، وتعمل في المناظر عمل محرك الصور في السينما، فتنقلنا من صورة إلى صورة، وتنسينا مشقة السفر وتنسينا أنفسنا، فإذا نحن وهي والأرض والسماء واحدة، وتنقلنا من سهل إلى جبل، ومن جبل إلى سهل، ومن رحب إلى واد، ومن واد إلى بحر، ونحن سكارى بالجمال، نشرب من مناظره حتى الثمالة.
•••
الله أكبر! نحن الآن في منتصف الليل، وقد بدأنا سيرنا من السويس في مطلع الفجر، وهذه هو الدير.
ما أقسانا! نقرع الأجراس على الرهبان في سكون الليل العميق، فنقطع عليهم نجواهم، ونحرمهم سكونهم ونومهم ودفئهم؛ ولكن ما الحيلة في الإنسان؟ لقد هربوا منه فلحقهم، وفروا منه فلجأ إليهم، احتموا منه في البعد السحيق، وسط الجبال الشامخة في الصحراء الموحشة، فعرف مكمنهم وأدركهم!
لا بد مما ليس منه بد — فقد فتح لنا الراهب بعد لأي، واستقبلنا بزيه الكهنوتي ومصباحه المتواضع، ودخلنا الباب سجَّدًا، وصعدنا الغرف، وشربنا الشاي لندفأ وذهبنا إلى منامنا لنستجد، ولنرتقب النهار لنرى الدير وما حوله في ضوء الشمس.
هذا هو دير «سانت كاترين» الذي بناه جوستنيان سنة ٥٣٠م في حضن جبل موسى أو جبل سينا الذي ورد ذكره في التوراة، وأمده جوستنيان بمئة من الرومان ومئة من المصريين بنسائهم وأولادهم ليقيموا حول الدير، يحمونه من عدوان من حلوهم، وليخدموا الرهبان فيه، وقد تناسل هؤلاء وتكاثروا، وأخضعتهم الصحراء لبدواتها وعروبتها وإسلامها، فتبدَّوا وتعرَّبوا وأسلموا، ولا يزال نسلهم حول الدير إلى الآن، يختلط فيهم أثر الرومان بأثر «العربان».
وتوالت على الرهبان أدوار من سلم واضطهاد، وخوف وأمن، ألجأتهم إلى أن يجعلوا الدير حصنًا حصينًا يمتنعون به عند الحاجة، ويستقلون به في معيشتهم؛ ففيه عين الماء، وفيه الطاحون والفرن، وفيه مخازن الغلال؛ كما تحصنوا بكتاب زعموا أن محمدًا رسول الله أمنهم فيه في رحلة من رحلاته، وكتبه علي بن أبي طالب وختمه الرسول.
وفي الدير كنائس متعددة، ومسجد قيل: إنه بني لاسترضاء السلطان سليم، ولكن فيه من الآثار ما يدل على بنائه قبل هذا العهد، وأغلب الظن أنه بُني إرضاءً للمسلمين، حتى يكون الدير محل احترام المسلمين والنصارى على السواء.
وأثَّرَ ضعف الرهبنة في هذا الدير، فلم يبق فيه إلا نحو ستة عشر راهبًا على مذهب الروم الأرثوذكس، وخارج البناء كنيسة فيها حجرة ملئت بالجماجم وأشلاء الإنسان ممن قتلوا أو ماتوا من الرهبان، حفظت تلبية لرغبة الإنسان في البقاء.
طفنا بالدير، وخرجنا منه إلى جبل موسى، وصعدنا حتى تعبنا فلم نبلغ قمته، وإن بلغت نفوسنا عظمته، وشعرنا برهبته، وذكرنا موسى، وذكرنا الألواح، وخفقت قلوبنا للذكريات، واهتزت نفوسنا لجمال المنظر وسحر المكان.
ثم عدنا إلى الدير، وراعنا أن سيارة من سياراتنا كان فيها «راديو»، فتحه السائق فغنى، فشعرت أنه غير منسجم مع المكان، ينقل إلى أعمق البداوة نهاية الحضارة؛ وكان منظر يشبه منظر البدوي إذا لبس قبعة، أو وضع في فمه «بيبة». ولكن ما كان أشد رهبتي إذ رأيت ثلاثة من رهبان الدير دخلوا السيارة يستمعون إلى غناء الراديو.
سبحان الله! أهذا هو الإنسان الذي هرب من المدنية فلم يطق الصبر على الهرب منها، فعاد يتعلق بأسبابها؟ أهذا هو الإنسان الذي أراد أن يتفرغ لعبادة الله فضاق عنها لسماع «أم كلثوم»؟ إن الإنسان في كل شأن من شئونه عجب أي عجب!
وعدنا كارهين العودة — يا أخي — كما كرهتَها، وعدنا للإنسان عودة الراهب لسامع الراديو، وعدنا نتعاون في إنشاء المدارس وتكوين وزارة معارف، ونبدأ من حيث انتهينا.
فإلى اللقاء …