جَمَلٌ يَطيرُ وجَمَلٌ يَسيرُ
لفت نظري — وأنا أقرأ «للمطهَّر المقدسي» في كتابه «البدء والتاريخ» — وصفه لجماعة من أصحاب القلانس والمجالس الذين يشحنون صدور العامة بترهات الأباطيل، ويقصون على الناس غرائب العجائب، ثم يقول في وصفهم: «إن الحديث إليهم عن جمل طار، أشهى إليهم من الحديث عن جمل سار».
وهل الدنيا كلها أيها «المطهر» إلا هؤلاء؟
كل العالم يصدّق جملًا يطير، ولا يصدق جملًا يسير، يصدق المحال، ويكذب الواقع، ذلك دأبهم في كل شأن من شئون الحياة.
إن قلت: إن اللغة العربية خير اللغات، وآدابها خير الآداب، وإن اللغة العربية، أو الأدب العربي كامل مكمَّل، ليس فيه نقص ولا عيب، ولا يحتاج إلى نوع ما من الإصلاح، وإن اللغة العربية بزت لغات العالم، والأدب العربي لا يدانيه شيء من آداب العالم؛ فذلك جمل يطير، إن قلت به صفق لك الناس طربًا، وشادوا بذكرك إعجابًا وعجبًا، وعدُّوك العالِم الحق، وقائل الصدق. وإن قلت: إن اللغة العربية ككل اللغات، والأدب العربي ككل الآداب، فيه نواحي القوة ونواحي الضعف، وفيه ما يحسن وما لا يحسن، وفيه وجوه النقص التي يجب أن تكتمل، وفيه وجوه التخلف التي يجب أن تُستقصى حتى تصلح، فهذا جملٌ يسير، لا يصدقك الناس فيما تقول، ويرمونك بقول الزور والبهتان، وما شئت من ألفاظ منتقاة.
فذلك جملٌ يطير، وهذا جملٌ يسير.
وإن قلت في التاريخ من أول عهده إلى اليوم ما يرضي الحكام والولاة والشعوب، فرفعت من شأنهم ولو زورًا، وغلوت في مفاخرهم ولو كذبًاـ وسكتَّ عن مساويهم ولو كانت صارخة، وعمدت إلى اتجاه عواطفهم فسرت معها، وقصدت إلى الأوتار التي تطربهم فغنيت عليها، وشهرت بخصومهم، وقللت من شأنهم، وكذبت في إنكار فضلهم، وكان لك من البلاغة ما استطعت به أن تقلب الحق باطلًا والباطل حقًّا، وتجعل السماء أرضًا والأرض سماءً، والحلو مرًّا والمر حلوًا؛ واستطعت بفصاحتك أن تظهر مهارتك في اختراع حجج تشوه بها وجه الصدق، وتجمل بها وجه الكذب، فهذا جملٌ يطير، إن قلت به فأنت المؤرخ وأنت البطل، وأنت البليغ، وأنت الذي يُغدَق عليه المال، وأنت الذي يمنح خير الألقاب، وأنت الحقيق بأن يقام له تمثال؛ وأما إن أنت لم تعبأ بميول الحكام والولاة وعواطف الشعوب، وأخذت تحلل كل خبر وتتبين بواعثه ودوافعه كما يحلل الكيمياوي المادة في معمله، وتصدر حكمك لا تراعي فيه إلا الحق، فتارة يرضى العواطف، وأحيانًا يغضبها، وأحيانًا يرضى الرأي العام، وأحيانًا يغضبه ويهيجه، وأنت لا يهمك أرضي أم غضب، وكره أم حب، ولا يهمك أتفق رأيك ورأي الناس، أم خالفهم، وتعمد إلى ما يعده الناس من وثائق فتهزأ بها، وإلى الإشاعات فتتحراها وتركزها في بوتقتك، وتشعل تحتها النار فتبخرها، وتصدر حكمك على من يسميه الناس بطلًا فتنكر بطولته، وعلى من يعده الناس سافلًا فتعرضه نبيلًا؛ إن فعلت ذلك فهذا جملٌ يسير. فأنت الفقير، وأنت الثقيل، وأنت المتفلسف، وأنت المتعجرف، وأنت الذي ترمي بأن لا وطنيه له ولا شعور عنده، وأنت الذي يطرد ويبعد ويشرد.
فهذا أيضًا جملٌ يطير، وجملٌ يسير.
وفي السياسة: إن أنت سرت على هوى الناس فرميت من يكرهون بأشنع التهم، واجتهدت أن ترفع نغمتك على نغمتهم، فإن قالوا: «مخطئ» قلت: «مجرم»، وإن قالوا: «مبطل» قلت: «خائن»، وإن قالوا: «مسرف مبذر» قلت: «سارق»؛ وتحريت ما يرضيهم فدعوت إليه، فسفهت مشروعًا لا يرضونه، وأيدت مشروعًا يعطفون عليه، واتخذت إمامك الرأي العام، تنكر ما ينكر، وتؤيد ما يؤيد؛ وسرت وراء الزعماء، إن انحرفوا يمينًا انحرفت يمينًا، أو يسارًا فيسارًا، وإن قالوا قولًا ظاهر البطلان، قلت: إن لهم غرضًا لا ندركه، وغاية لا نتبينها إلا بعد حين؛ وإن كان الساسة يرون الحرب، قلت الحرب، وإن قالوا: السَّلم، قلت: السَّلم؛ وإن قالوا: الحرب في هذا الجانب قلته؛ وإن قالوا: في الجانب الآخر قلته، وإن قالوا: عدوُّنا فلان قلتَ: إنه عدو لدود؛ وإن قالوا: صديقنا فلان، قلت: إنه صديق حميم، واستعملت في كل ذلك حنجرتك إن كنت من ذوي الحناجر، وقلمك إن كنت من ذوي الأقلام، ومالك إن كنت من ذوي الأموال، فهذا كله جملٌ يطير. أما إن أردت أن تحكّم عقلك، وهداك إلى أن تقول على الشيء: إنه أسود حيث قالوا: أبيض، وصوبت الرأي العام حينًا، وخطأته حينًا، ووافقت عواطف الناس حيث يوجب العقل الموافقة، وخالفتها حيث يوجب المخالفة، وحبذت قول الزعيم حين يرضى ضميرك أن تحبذه، ونقدته حين يدعوك ضميرك أن تنقده، وقلت: السَّلم حيث قالوا: الحرب، أو الحرب حيث قالوا: السَّلم، وأيدت ذلك كله ببراهينك المنطقية، وأعلنت رأيك، ولو كنت فيه وحدك، فهذا كله جملٌ يسير؛ أقلُّ نتائجه أنك تعد ثقيلًا بغيضًا، وقد يكون فيه الخروج من منصبك، وقد يكون أن تؤذَى في مصالحك، وقد يكون فيه أكثر من ذلك كله.
فهذا أيضًا جملٌ يطير، وجملٌ يسير.
وهذا هو الشأن في «منطق الحوادث» جاهل ينال خير منصب، ويمنح خير مرتب، وعامل كفء لا يجد عملًا ولا يجد قوتًا، وحسناء فاضلة تتزوج بفقير سيئ السيرة، سيئ السلوك، وشوهاء شريرة ترزق الحظوة بغني يأتمر بأمرها ويسير طوع إرادتها، وغبي غني يرتع في النعيم. ولا مبرر لهذا إلا أنه ورث أباه الغبي في الغنى، أو لعب في «البورصة» فربح من حيث لا يدري، أو احترف الرذيلة فكسب المال وخسر الشرف، أو لم تكن له شخصية فكسب بالملق ما لم يكسبه أخوه بالكفاية، وهذا ذكي عالم أمين سدت في وجهه كل الطرق حتى ما يسد رمقه، أو فقد عمله بصراحته وأمانته وشخصيته.
فهذا أيضًا جملٌ يطير، وهذا جملٌ يسير.
والمصلحون في كل عصر إنما أوذوا وحوربوا وشردوا وقُتّلوا؛ لأنهم كانوا يقولون بالجمل يسير، حيث يقول الناس بالجمل يطير.
والفلاسفة البُلّهُ حبسوا أنفسهم في جُحَر ضيقة لا يدخلها نور العالم، وأخذوا يضعون علمًا سموه «علم المنطق» يضعون فيه للمقدمات شروطًا، وللقياس شروطًا، وللفروض شروطًا، والدنيا خارج حُجَرهم تهزأ بمنطقهم، وتسير على منطق آخر خلاصته: جملٌ يطير، وجملٌ يسير.
فمنطق الدنيا الواقعة في الغنى والفقر يهزأ بقواعد الاقتصاد، ومنطق الدنيا الواقعة يهزأ بمنطق النجاح والإخفاق، ومنطق الحوادث الواقعة يهزأ بالمنطق النظري، وهكذا؛ وكان المنطق السليم يقضي عليهم بأحد أمرين: إما أن يكون لهم من السيطرة والسلطة ما يخولهم أن يسيّروا الدنيا على منطقهم، أو أنهم — وقد عجزوا — يسيّرون منطقهم على منطق الدنيا.
بل وأحداث الطبيعة نفسها سائرة على هذا المنطق؛ فهذه صحراء تشكو الظمأ ولا تجد رشفة ماء، وهذا بحر يشكو الري ولا يجد ما يبثه شكواه، ولو كانت الدنيا بالعقل لسمعت الطبيعة شكوى الصحراء من الظمأ، وشكوى البحار من الري، وكان في علة هذا برء ذاك، كالغني يشكو التخمة، والفقير يشكو المخمصة، وفي الدنيا جو يشكو القيظ وجو يشكو البرد، وأرض جرداء وحديقة غناء، ومنجم ذهب ومنجم زفت، ونسيم وسموم، وسكَّر وحنظل.
أليس هذا كله — أيضًا — منطق جملٌ يطير وجملٌ يسير؟
هل اقتنعت معي — يا أيها المطهر — بأن ليس من تصفهم وحدهم هم الذين يصدقون جملًا يطير. ولا يصدقون جملًا يسير؟
أو ليس هذا ما شعر به المعري إذ يقول: