عنوانُ القوة في الأمة
سؤالٌ يرد على الذهن كثيرًا: بمَ تُعرَف الأمَّة القوية؟ إذا نظرت إلى أمّة وأردت أن تخبر موضعها من القوة والضعف، فبأي المرافق تُعْنَى، وأي الاتجاهات تتجه، وبأي المظاهر تستدل؟ وما العناصر التي تعدها أساسية فتتحراها، وأيها تعدها ثانوية فتتخطاها؟
عرضت لي في هذا الأمر إجابتان: إجابة من الأدب الغربي الحديث، وإجابة من الأدب العربي القديم، أقدمهما للقارئ، لعل فيهما فائدة.
فأما التي من الأدب الغربي الحديث فإجابة تتلخص في «أن الأمة تعد قوية راقية إذا استطاعت أن تعدّل نفسها وفق ظروفها التي تحيط بها»، فإذا أردنا — مثلًا — أن نطبق هذه القاعدة على مصر، قلنا: إن لها موقفًا خارجيًّا وموقفًا داخليًّا، موقفًا خارجيًّا مع الأمم الشرقية والأمم الأوروبية؛ فهل عدّلت نفسها مع الأمم الشرقية، وعرفت مكانتها منها، واستغلت أحسن استغلال علاقتها معها، فأعانتها واستعانت بها، وأفادتها واستفادت منها، ونظمت شئونها معها، من حيث الثقافة ومن حيث الاقتصاد، ومن حيث السياسة؟ وهل بلغت في ذلك أعظم مبلغ تقتضيه الظروف الحاضرة؟
وهل عدلت نفسها وفق ظروفها مع الأمم الأوروبية، فتم لها استقلالها، وانتفعت بالغرب أحسن انتفاع ممكن، فاستفادت منه ثقافيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، ونالت منه كل ما تستطيع مما يزيدها قوة، وعرفت مقدار ما تعطي ومقدار ما تأخذ، ونوع ما تعطي ونوع ما تأخذ، وعرفت كيف تنتقي ما تأخذ وكيف تهضمه، وهل جهزت نفسها بكل ما تستطيع من قوة، حتى تحمي رأيها فيما تأخذ وما تدع، وما تعطي وما تمنع؟
وأما داخليًّا فنتساءل: هل استغلت ثروتها بحسب حاجتها؟ وهل استخدمت بيئتها الطبيعية فانتفعت بجودة أرضها وقوة مائها ومعادن جبالها وأرضها؟ وهل استطاعت أن تجد منابع للثروة تناسب ما ازداد من عدد السكان؟ وهل قامت بالإصلاحات الداخلية بقدر ما يتطلبه الزمان، فسايرت الأمم الأخرى، حتى لا تضعف أمامها فتلتهمها؟ وهل رقَّت أعمالها الإدارية، وحققت حكومتها العدل الاجتماعي حتى تشعر بقوتها، وتشعر بسعادتها؟ وهل أفحست المجال لكل ذي كفاية أن يُظهر كفايته على قدر استعداده، ومنعت العوائق التي تحول دون ذلك من اعتماد على حسب ونسب وجاه وشفاعة؟
وهل وضعت الحكومة «ميزانيتها» على هذا الأساس ففرقت بين الضروري والكمالي، وبين ما يرقي الأمة ويضعفها، وما يجعلها أقرب إلى تعديل نفسها حسب ظروفها، وما يبعدها عن ذلك؟ وهكذا.
إن حدث هذا كله فالأمة قوية راقية وإلا لا، وإن حدث بعضه ولم يحدث بعضه، فهي متذبذبة بين القوة والضعف.
هذا رأي ذهب إليه بعض الباحثين من الأوروبيين، فعنده حيوان أرقى من حيوان؛ لأن الأرقى استطاع أن يوائم بين نفسه وبيئته، ويعدل نفسه وفق ظروفه التي تحيط به؛ والإنسان أرقى من الحيوان لهذا السبب عينه، فقد استطاع أن يغالب الطبيعة ولا يكون تحت رحمة حر وبرد وجوع وعطش، بل أخضع الطبيعة لمصالحه، أو قل: إنه استطاع أن يعدل نفسه وفق الطبيعة، ولم يقف جامدًا تسيّره الطبيعة، تحكم عليه كما تشاء، فاكتسى بعد عري، وشبع بعد جوع، ودفئ بعد برد، وهكذا. حتى استخدم الكهرباء والبخار وغيرهما ليوائم بين الطبيعة ونفسه.
وكلما عدَّلَت الأمَّة نفسها وفق ما يحيط بها من بيئة طبيعية وبيئة اجتماعية، كانت أرقى من غيرها على هذا الأساس وأقوى.
•••
وأما الإجابة التي من الأدب العربي القديم فلسياسي قديم وردت في كتب الأدب القديمة.
- (١)
أن يقف الحاكم — وإن شئت فقل: الحكومة — على أحوال الرعية فتعرف دقيقها وجليلها، وظاهرها وخفيها — تعرف حال ولادتها كيف يعدلون أو يظلمون، وتعرف أحوال الناس كيف يشْقون أو كيف ينعمون، ومقدار غناهم وفقرهم وجوعهم وشبعهم؛ وإن أدرت تعبير أهل العصر فقل: إن عندها إدارة إحصاءات دقيقة تسجل أحوال الأمة في مرافقها المختلفة، وتدخل التعديل على الأرقام كلما طرأ تعديل على الأحوال، حتى يكون أمام الحكومة سجل دقيق لكل مظاهرها وخفاياها، وعللها وأمراضها، وما وضع من الوسائل لعلاجها، ثم أن تكون هذه الأرقام وهذه الأخبار صحيحة لا يلبسها الحكام ولا يخدعون فيها الحكومة، إنما هي والحقيقة مطابقتان، لا تدليس فيها ولا خداع. فأحوال الأمة مصورة صورة دقيقة، مصغرة في مرآة ينظرها الحاكم فيراها، ويعرف دائمًا ما يطرأ عليها من صلاح أو فساد. ويعرف إلى أي طريق هي مسوقة، كالطبيب الخبير يعرف مريضه، وما يعرض له، أو كالراصد الماهر يعرف الجو وتقلباته، والنجوم وحركاتها.
- (٢)
هذا هو الشأن في الحكومة عالمة خبيرة، ثم يلي هذا النظرُ في طبقة الأغنياء: ما سلوكهم، وما أخلاقهم، وما طبيعتهم؟ فإنهم عصب الأمم؛ إن ساءت أخلاقهم واستعملوا أموالهم في الفساد، ولم يأنفوا أن ينتهكوا الحرمات، وغلبهم الجشع فابتزوا أموال الفقراء لينفقوها في شهواتهم، ويبددوها في لذاتهم، وكانوا من الشره بحيث لا يترفعون عن أي دنيئة، ولا يتحرجون من أي وسيلة، لا يهمهم إلا أنفسهم وشهواتهم، فالأمة بهم ضعيفة. أما إن هم ترفعوا عن الدنايا وواسوا الفقراء، وكان في أموالهم حقٌّ معلوم للسائل والمحروم، فالأمة بهم قوية.
- (٣)
فإذا فرغنا من الرأس المدبر وهو الملك قديمًا والحكومة حديثًا، وفرغنا من النظر في الأغنياء من هم، وما موقفهم من أمتهم، نظرنا ثالثًا إلى طبقة الحكام، كرجال الإدارة، ورجال القضاء وغيرهم ما شأنهم: إن كانوا ينظرون إلى أنفسهم فحسب، ولا ينظرون إلى من يحكمونهم، وكانوا قصيري النظر في معاملتهم الناس، لا ينظرون إلا من قريب جدًّا، ولا يحسبون إلا حساب ما ينالهم من مال، ولا يدخلون في حسابهم إلا دنياهم لا آخرتهم، ويحكمون الناس لا للناس ولكن للمدير أو الوزير، تمشيًا مع تيار الحكومة الحاضرة وحسب أهواء الحزب الغالب، فهم مصدر ضعف الأمة ومظهر من مظاهر انحطاطها.
وإن حكموا الناس لله وللناس، وراعوا آخرتهم كما راعوا دنياهم، عرفوا أن المنصب واجب يؤدَّى لا قنطرة يعبُرُون عليها لمصالحهم الخاصة، وأيقنوا أن لا بأس من أن تضحي بالوظيفة لخدمة الحق، ووسعوا نظرهم فحسبوا حساب الغد كما حسبوا حساب اليوم، فهم مصدر قوة للأمة ومظهر من مظاهر رقيها.
•••
حكومة مطلعة خبيرة واقفة على بواطن الأمور وظواهرها، وأغنياء ازدانوا بالعزة والأنفة، والحدب على البائس والفقير، وحكام يحكمون الناس بالحق وللحق؛ هذه هي دعامات الأمة الراقية في نظر هذا السياسي القديم.
•••
ذكروا أن ملكًا من ملوك العجم كان معروفًا ببعد الغوْر، ويقظة الفطنة، وحسن السياسة، وكان إذا أراد محاربة ملك من الملوك وجَّه إليه من يبحث عن أخباره وأخبار رعيته قبل أن يُظْهر محاربته … فكان يقول لعيونه: انظروا (١) هل ترد على الملك أخبار رعيته على حقائقها، أم يخدعه عنها المُهْدي ذلك إليه. (٢) وانظروا إلى الغنيّ في أي صنف هو من رعيته. أفيمن اشتد أنفُه وقل شرهه أم فيمن قلَّ أنَفُه واشتد شرهه؟ (٣) وانظروا في أي صنف رعيته القُوَّام بأمره، أمِن مَنْ نظر ليومه وغده أم شغله يومه عن غده؟ فإن قيل له: لا يُخدع عن أخباره، والغني فيمن قل شرهه واشتد أنفه، والقوام بأمره من نظر ليومه وغده. قال: اشتغلوا عنه بغيره. وإن قيل له ضد ذلك. قال: نارٌ كامنة تنتظر موقدًا، وأضغانٌ مزمَّلة تنتظر مخرجًا، اقصدوا له.
هذه هي الإجابة من الأدب القديم، وتلك هي الإجابة من الأدب الحديث، أتركها بين يديك — أيها القارئ الكريم — لتوازن ما شئت وترجح ما شئت وتنقد ما شئت، وتقبل أو ترفض ما شئت.