تجارب وزير
كان أبو الحسن علي بن محمد المعروف «بابن الفرات» وزيرًا من أشهر وزراء الدولة العباسية في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع للهجرة، استوزره المقتدر بن المعتضد.
وكان ملء السمع، ملء البصر، واسع الثراء، واسع العطاء، إذا استُوزر ارتفع ثمن الشمع وثمن الورق لكثرة ما يعطي من هدايا الشمع، ولكثرة ما يستعمل هو وأصحابه من الورق، فكأنه يعشق النور فيبدد الظلام بالإضاءة، ويبدد الفوضى والجهل بالكتابة، فلا يخرج أحد من داره بعد الغروب إلا ومعه شمعة، مع كثرة الداخلين والخارجين، ولا يأتي متظلم يريد أن يرفع إليه شكاة، أو يتطلب عطاءً إلا وجد بجانب الدار أدراجًا كثيرة من الورق يأخذ منها ما شاء، ويستعمل ما يشاء، حتى لا يلتزم مئونة ما يبتاعه من ذلك، هذا مع غلاء الورق غلاءً دونه غلاء الورق الآن في الحرب.
عالي الهمة نبيل، كانت الوزارة في أيامه وقفًا على جماعة من المستوزرين أصحاب البيوت المعروفة، يتولى أحدهم فلا همَّ للآخرين إلا أن يتآمروا عليه ويكيدوا له وينصبوا الحبائل حوله، ويسعوا بالسعايات لدى الخليفة ليفسدوا ما بينه وبينه، حتى يتم لهم ما أرادوا، فيُعزَل ويصادر؛ ويتولى وزير جديد، فتبدأ القصة من جديد على النمط القديم، وتنتهي القصة الثانية والثالثة بما انتهت به القصة الأولى؛ وتقرأ تاريخ الوزراء في ذلك العصر، فلا تقع عينك إلا على دفاع وهجوم، وتولية وعزل، وخلَع للمتولي، ومصادرات للمعزول. ومن حين إلى حين قد تعثر على عمل إيجابي للوزير في المصلحة العامة وقد لا تعثر.
وكان لكل وزير وكل مستوزر أعوان يأكلون من موائده، ويستفيدون من التقرب إليه، ويحصون على خصومه سيئاتهم التي ارتكبوها وسيئاتهم التي توهموها، ويعدون العدة ليومهم الذي يسقط فيه الخصم، ويتولى وزيرهم الحكم، فيقدمون دفاترهم ويتقاضون أجورهم.
فكان من نبل ابن الفرات أنه لما وُزِّرَ حُمل إليه صندوقان عظيمان فيهما أسماء من يعاديه ومن يكيد له ومن يعمل لخصومه، فقال: «لا تفتحوهما، ودعا بنار وطرح الصندوقين فيها، فلما احترقا قال: لو فتحتهما وقرأت ما فيهما لفسدت نيات الناس بأجمعهم علينا واستشعروا الخوف منا، وبما فعلنا من إحراقهما هدأت القلوب وسكنت النفوس».
وكان يكره السعاية والسعاة لشدة ما عانى زمنه منها، ولكثرة من ذهب ضحية لها، فقد اتخذ القوم السعاية حرفة حتى كانت هي الأصل والجوهر في حياة كثير من الناس، وما عداها من الأعمال فعلى هامشها، هي دأبهم في النهار، وسمرهم في الليل، وتدبيرهم إذا خلوا إلى شياطينهم؛ فأراد ابن الفرات أن يقضي على هذه السنة السيئة، فكان إذا رفعت إليه قصة فيها سعاية خرج من عنده غلام ينادي في الناس المحتشدين أمام داره: أين فلان بن فلان الساعي؟ فيشهر سعايته ويجمع بينه وبين من سعى فيه؛ فلما عرف الناس منه ذلك كفوا عن سعايتهم.
ولكنهم كفوا عن السعاية إليه وسعوا به، فكانت حياته سلسلة سعايات به وسلسلة نكبات له. وزر ثلاث مرات، وفي آخر كل وزارة يقبض عليه وتنهب داره وأمواله ويزج به في السجن هو وأهله، وفي آخر مرة قُتل هو وابنه المحسّن، وخاف الناس أن يذكروهما بخير، فيغضب الخليفة القاتل، ويغضب الوزير الجديد ويغضب أشياعه، فلما أراد شاعر وفيّ أن يرثيهما عمل قصيدة في رثاء هر، وكنى بالهر عن المحسّن أو أبيه، أولها:
وعلى هذا النحو جرى في قصيدته الرمزية البديعة التي تبلغ خمسة وستين بيتًا.
•••
جمع ابن الفرات خصالًا متناقضة، فكان نبيلًا كريمًا، وكان محبًّا للمال ماهرًا في اصطياده، وكان يكره السعاية ويعفو عن الخصوم، ولكنه ملّ العفو أخيرًا، فخرج عن حلمه، ونكّل بخصومه فنكلوا به، ومدّ يده إلى أموالهم فصودرت أمواله، وفي ذلك يقول شاعرنا في الهرّ:
•••
•••
كان ابن الفرات ذا كفاية ممتازة: في الاقتصاد وفي تدبير أموال الدولة، وفي ضبط الأمور والحزم وقوة الإرادة، وفي بصره بالشئون السياسية، حتى كان في كل مرة يُقبَض عليه فيها ويُسجن تضطرب الأمور وتفسد الإدارة، وتختل المالية وتتعقد المشاكل، فإذا عجزوا عن حلها لم يجدوا أمامهم إلا ابن الفرات حلًّا لها.
•••
لطالما عانى ابن الفرات وجاهد، وقلّب الأمور، وصرَّف الشئون، وانغمس في السياسة من قدمه إلى قرنه، وصادفه السعد والنحس، وذاق الحلو والمر، وقد خرج من وزاراته الثلاث بتجارب ثلاث بَلْوَرَ فيها آراءه واختباره، يكفينا اليوم واحدة، فكلّ منها يحتاج في شرحه إلى كتاب، بَلْه مقال.
تَمْشِيَةُ أمور السلطان على الخطأ خير من وقوفها عند الصواب.
ولقد وقفت عند هذه الجملة طويلًا، مطبقًا لها، مستعرضًا لحالنا في ضوئها، فأعجبت بها وآمنت ببعد نظر الرجل وقوة سياسته، وقلت: ما أحوج مصر والشرق إلى أن تسود هذه النظرية كل أعمالها الحكومية وغير الحكومية!
إنما يريد «بأمور السلطان» شئون الدولة، ويرى أن التردد الطويل مخل بالمصلحة، ولو كان الباعث تحرى الصواب والرغبة الشديدة في الوصول إلى الحق، وأن التنفيذ السريع مع احتمال الخطأ خير من البطء مع احتمال الصواب.
إن أمورنا من قديم تجري على البطء في التنفيذ، والزمنُ لا يمهل، فلكل يوم مشاكله، ولكل ساعة جديدها وأمورها وتعقيداتها؛ فإذا أمهل في التنفيذ رغبة في الوصول إلى الحق لا شك فيه، ارتبكت الأمور ارتباكًا لا شك فيه، وزاد التعقيد بمرور الزمن، وأصبح ما كان يحل أول أمره في ساعة لا تكفي في حله سنة.
لا أدري لماذا وأنا أفكر في هذا هجمت عليّ أمثلة متعددة حتى حِرْت فيما آخذ منها وما أدع.
كم من السنين مرت وأنا أسمع بمشكلة الأزهر ودار العلوم وكلية الآداب، ثم لا أجد لها حلًّا باتًّا تحل به، وكل يوم يمر تزداد المشكلة تعقدًا؟ ولا أرى لحلها قولًا خيرًا من قول ابن الفرات.
وكم من السنين مرت وأنا أسمع بتوليد الكهرباء من خزان أسوان، ولا أرى لحله قولًا خيرًا من قول ابن الفرات.
وكم سمعت بنفق شبرا وكهربة خط حلوان؟
وكم سمعت بآراء في المجمع اللغوي تعرض وتطوى ومشروع يقدم ويؤخر وجدال في أن يدرس اللهجات أو لا يدرسها، ويعني بنشر الكتب أو لا ينشرها، وتزداد أعضاؤه أو لا تزداد، ثم لا شيء؟
وأخيرًا كم سمعت بعين حلوان وتحليل مائها ومحاولة ردمها، ثم محاولة استغلالها ثم بقائها كما نبعت، وحيرة الناس في شأنها كما بدأت؟
وكم سمعت بتوحيد القضاء وإصلاح الأوقاف وتحسين حال الفلاح؟ وكم وكم مما لو شئت أن أحصي ما وسعني مقال ولا كتاب!
فما أحوجنا إلى العمل بقول ابن الفرات، وأن يكون شعار الأمة بأجمعها من أصغر موظف لأكبر موظف ومن أصغر عامل لأكبر عامل «تمشية الأمور على الخطأ خير من وقوفها عند الصواب».
ورحم الله ابن الفرات.