الوحدة والتعدد
كان الشرق كفؤًا للغرب من الناحية الحربية والعلمية والاجتماعية في عهد الحروب الصليبية، بل كان الشرق يفوق الغرب في كل هذه النواحي، بدليل انتصار الشرق في هذه الحروب، وبدليل أن دعاة الغرب كانوا يحثون مواطنيهم على الاستفادة من الشرق والاقتباس من علمه ونظمه.
ثم جاء عصر النهضة الأوروبية، ومدته نحو قرن ونصف، من نصف القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن السادس عشر؛ فتطورت أوروبا تطورًا جديدًا في كل مرافق الحياة: في الدين، في الفن، في الأدب، في العلم، في الاجتماع؛ فكان عصر العلم، وعصر التجوال والاستكشاف، وعصر النقد الحر الجريء، وعصر الهدم والبناء، وعصر شعور الإنسان بذاته، والتحرر من قيود السلطات التي كانت تكبله، وعصر ظهور القوميات وظهور اللغات التي تعبر عن خوالج المشاعر القومية.
ومن ذلك الحين أخذ الغرب يتقدم شيئًا فشيئًا، والشرق واقف على ما كان عليه منذ الحروب الصليبية، بل تراجع إلى الوراء شيئًا فشيئًا بفساد حكامه وانتشار الجهل والفقر بين أبنائه.
وجاء زمن انقطعت فيه العلاقات بين الشرق والغرب، فلم يدر الشرق ما يصنع الغرب، ولا الغرب ما يصنع الشرق، سواء في ذلك العلاقات المالية، وعلاقات الحضارة والمدنية؛ فالغرب يتقدم ويتقدم، ولا علم للشرق بتقدمه، والشرق يتأخر ويتأخر، ولا علم للغرب بتأخره.
تقدمت الشعوب في الغرب، وتحرروا وردوا ذوي السلطان فيهم إلى حدودهم، واتصلوا بالطبيعة واستخدموها لصالحهم، وأخرجوا بالعلم كنوز الأرض فأثرَوْا، ومكنهم الثراء من عيشة الترف والنعيم، كما مكنهم العلم من أن يقبلوا النظام الحربي القديم ويغيروا أساليبه وآلاته ونظمه حسبما أرشد إليه العلم الحديث.
هذا في الغرب. أما الشرق فابتُلي بحكام أكثرهم لا همّ له إلا نفسه؛ ثم وقف العلم على ما كان عليه في العصور الوسطى، فلا علم إلا العلم الديني الذي حافظ على شكله وفقد روحه. ووقفت نظم الحروب على ما كانت عليه أيام الصليبيين، فلم تتقدم شيئًا، ولم تخترع شيئًا، وسبَّبَ الظلم والجهل الفقر المدقع لأهل البلاد، فالعيشة ضنك، والنفوس يائسة والعقول مظلمة.
فأصبح العالم ينقسم إلى قسمين: غرب يمتاز بغناه وعلمه وسلاحه الجديد وحريته، وشرق بفقره وجهله وسلاحه القديم وأغلاله.
والشرق يظن أن موقفه من الغرب موقف آبائه أيام الحروب الصليبية، والغرب يظن أن الشرق عظيم عظمته حين التقى به في الثغور الإسلامية.
ويأخذ الغرب في طريقه فيؤمن بعظم الملاحة، ويجدّ في تنظيم الأساطيل، ويستخدم السفن في أهم الأعمال، ويمرن رجاله على التغلب على قوة المياه بشتى الأساليب. ويأخذ الشرق في سبيله فيغفل هذه كما أغفل تلك، ويضعف في البحر كما ضعف في البر.
وتؤدي عظمة الغرب البحرية إلى استكشاف الأقطار النائية والممالك البعيدة كأمريكا وغيرها، فيستغلها في بناء عظمته ومجده، ويأخذ من كنوزها ليزيد في غناه وقوته وسلطانه.
وما هو إلا أن يستكشف الشرق كما استكشف أمريكا، فقد رحل جماعات كبيرة من الأوربيين إلى الشرق في سائر الأقطار، ودرسوا شئونه وخبروا أحواله، فتكشَّفَ لهم عن ضعف وفوضى وذلة وجهل وفقر بلغ النهاية، فاتصلوا بأممهم ينبئونهم باستكشافهم، فكان الغزو وكان الفتح وكان الاستعمار.
وكما استكشف الغرب الشرق ووقف على شئونهم، استكشف الشرق الغرب ووقف على شئونه، ولكن شتان بين الاستكشافين وبين الشعورين؛ فاستكشاف الغرب للشرق كان من نوع العثور على الغنيمة، والفرح باللقطة، والفوز بالكنز، ومن نوع شعور القط بالفأر، والذئب بالحما، والجائع بالمائدة الشهية؛ واستكشاف الشرق للغرب كان من نوع الأسير يقع في قبضة العدو، والسائر يصادفه قُطّاع الطريق، ومن نوع الفأر يرى سنورًا، والحمل يصادف ذئبًا.
كان الغرب قد تطور، فكان فتحه للشرق فتحًا اقتصاديًّا وسياسيًّا وقوميًّا — أولًا — دينيًّا أخيرًا. وكان الشرق لا يزال على آرائه الأولى، ففهم أن هذه الحرب حرب صليبية من جنس تلك التي شاهدها آباؤه في الشام، وأن انتصار أوروبا انتصار للنصرانية على الإسلام ليس إلا، ولم يفهم المنازع القومية والاقتصادية إلا أخيرًا، لما رأى مثلًا «محمد علي» المسلم يحارب الدولة العثمانية المسلمة، وإنجلترا النصرانية تحارب فرنسا النصرانية، ورأى الممالك المتحدة دينًا، المختلفة قومية، تختلف وتتنازع وتتحارب.
•••
عند ذاك فقط أدرك الشرق أنه لا بد لنجاحه أن يقلد الغرب ويسايره في شئونه، فلا بد أن يكون له سلاح كسلاحه، وعلم كعلمه، ونظام سياسي واقتصادي واجتماعي كنظامه، وأن يرقى بأوضاعه القديمة لتصل إلى الأوضاع الحديثة.
شعر المصريون والشاميون بهذا عند مجيء الحملة الفرنسية، وشعر المغاربة بذلك عند احتلال الفرنسيين للجزائر، وشعر العراقيون بذلك عندما بسط الإنجليز سلطانهم على بلادهم، وشعر الأتراك بذلك يوم تكالب عليهم الدول الأوروبية، وهكذا؛ ولكن كان أمامهم طريق واحد صحيح، هو أن يسلكوا نفس الطريق الذي سلكه الأوروبيون، وهو أن يعمدوا إلى نظمهم فيرقوها بحسب استطاعتهم وبحسب ما يسمح له الزمان، وأن يكون الرقي من جنس نمو الشجرة من داخلها ونمو الإنسان من نفسه؛ وهذا هو الذي حدث في أوروبا في عصر النهضة؛ فقد قامت الثورات على القديم في كل شيء، فأدخل التعديل عليه، وكلما تقدم الزمان وهضم التعديل أدخل عليه تعديل آخر، وانتقل به خطوة أخرى، حتى وصل إلى ما وصل إليه من رقي.
أما في الشرق فحدثت غلطة كبرى هي موضوع مقالي هذا، لا نزال نتجرع غصصها إلى اليوم. ولا أمل في النجاح إلا بإصلاحها، تلك هي أننا بدل أن نصلح القديم ونرقى به، تركنا القديم على قدمه وأنشأنا بجانبه جديدًا، وجعلنا النوعين يسيران جنبًا إلى جنب، يتصارعان ويتعاديان، ونحن نشرب المر من تعاديهما.
وكان سبب ذلك أن المصلحين خافوا من المحافظين، واتقوا ثورتهم، ولم يكن لهم من القوة ما يفرضون معه إصلاحهم، فلجأوا إلى الطريق الآخر غير المستقيم، وهو ترك القديم وإنشاء الجديد.
كان في مصر كتاتيب للتعليم الابتدائي وأزهرُ للتعليم العالي، وكان التعليم فيهما على الأساليب القديمة؛ فلما أريد الإصلاح كان خير طريق هو أن ترقى الكتاتيب، ويرقى الأزهر، ويدخل عليهما ما تقتضيه حالة البلاد وتُعَدَّد وتوسع؛ وكان هذا يضمن الوحدة العقلية والوحدة الثقافية، وهذا ما فعلته أوروبا في نهضتها؛ فقد رأت في مستهل القرن التاسع عشر أنه لا بد من أن تكون للتعليم وحدة تتدرج في مراحل متعددة، فلا بد من ثقافة ابتدائية يشترك فيها كل أفراد الشعب، ثم تعلوا وتتفرع. أما في مصر فتركت الكتاتيب والأزهر على حالهما، وأنشئت بجانبهما المدارس المدنية تحذو حذو المدارس الأوروبية، فكان لنا من ذلك قديم وجديد يعيشان معًا.
وكان لدينا محاكم شرعية تحم بين الناس في الخصومات، فكان الطريق الطبيعي للإصلاح أن تُرقى نظمها ويوسع اختصاصها؛ ولكن تركت — كما ترك الأزهر — على حالها، وأنشئ بجانبها محاكم أهلية ومحاكم مختلطة تحذو في نظامها وأحكامها حذو أوروبا، وبذلك أصبح تعليمنا غير موحد، وقضاؤنا غير موحد.
حتى في النظم الاجتماعية ترك الفلاح على قِدمه والقرية على نظامها، لم يدخل عليهما أي إصلاح، وأنشئت المدن الحديثة على النمط الأوروبي، فكان لنا نوعان من الشعب منعزلان عن بعضهما تمام العزلة، فلاح يرجع إلى توت عنخ آمون، وممدّن على آخر طراز أوروبي.
وشأن البلاد الشرقية شأن مصر، جرت على هذا الوضع العقيم، وسارت على هذا النهج غير القويم.
نشأ من هذا الخطأ ضرر جسيم جدًّا، وهو عدم الوحدة، على عكس ما عليه الحال في الغرب؛ فبين الفلاح الإنجليزي والأرستقراطي الإنجليزي وحدة في طريق الملبس والمأكل ونظام الحياة، لا تختلف إلا باختلاف الصنف، وبين كل المتعلمين الإنجليز أو الفرنسيين أو الألمان وحدة عقلية في منهج التعليم وطرق البحث وطرق التفكير، لا يختلف في ذلك رجل الدين عن غيره؛ فرجل الدين يتعلم الطبيعة والكيمياء والحساب والجغرافيا على أحدث نظام، كما يتعلم المدني، ثم هذا يتخصص للدين، وهذا يتخصص للهندسة أو الطب. وطريقة بحث رجال الدين عندهم هي طريقة بحث الطبيعي أو الكيميائي، بل نرى من رجال الدين من تخصص للآثار القديمة واللغات القديمة، والتاريخ بكل فروعه، وهكذا.
أما الشرق الذي هو مصدر الوحدانية فمتعدد في كل شيء، وقد فقد الوحدة في كل شيء؛ فلا وحدة بين القروي والحضري، لا في ملبسه ولا في نظام أكله ولا في طرق معيشته! ولا وحدة بين المثقفين، فثقافة رجال الدين غير ثقافة الممدنين، ويبدأ التخصص في الدين من بدء التعلم. ولا وحدة بين قضاة المحاكم الشرعية والأهلية والمختلطة (حتى في الكادر). ولا وحدة بين الجامعة المصرية والجامعة الأزهرية، ولا بين وزارة المعارف والأزهر، ولا بين المتجر القديم، والمتجر الحديث، ولا بين أي شيء وشيء؛ وفي هذا خطر كبير من الناحية الخلقية والاجتماعية نعاني متاعبه إلى الآن. فإذا نظرت إلى عقليات المتعلمين لم تجد فيها أساسًا مشتركًا: عقلية الأزهري غير عقلية المدني، وهما غير عقلية من تربى في مدارس إنجليزية، ومن تربى في مدارس فرنسية، وهذا هو سر الصراع الحادّ الدائم بينهم، ويظهر ذلك بأجلى مظاهره في المجالس التي تتكون من هذه العناصر المختلفة.
وإذا نظرت إلى أفراد الشعب وجدت الخلاف الكبير بين مظهر الريفي والحضري وعقليتهما ونوع معيشتهما، وقد جر هذا إلى سوء شعور كل منهما نحو الآخر.
ويطول بي القول لو عددت الأمثلة والمظاهر الدالة على ذلك.
ومرجع هذا كله — فيما أرى — إلى الخطأ الكبير الذي وقع فيه المصلحون عند تقبلهم المدنية الغربية؛ فبدل أن يرقوا الشعب تدريجًا من أساسه، تركوه على حاله، وأوجدوا نظمًا حديثة مستقلة.
ولا سبيل إلى العلاج إلا بإصلاح هذه الغلطة من أساسها، من توحيد التعليم، وتوحيد القضاء، وتوحيد الملابس، وتوحيد المعيشة الاجتماعية.
أوَ ليس أولى الناس بالتوحيد مَن دينهم التوحيد؟