المسلمون سبب من أسباب الحرب العالمية
للحرب أسباب عدة يستطيع أن يحصيها السياسي والاقتصادي، ولكني أرى أن من أهم أسبابها المسلمين.
ذلك أنهم أصبحوا في العصر الحديث «غنيمة أوروبا» تتقسمهم وتتوزعهم، ويُرضي بعضهم بعضًا على حسابهم، فإذا ثارت مشكلة بين دولة ودولة، فقد يكون الحل الوحيد للخروج من هذا المأزق أن تطلق كل منهما يد الأخرى في بلد من بلاد المسلمين تفعل فيه ما تشاء.
وكان لإنجلترا وفرنسا أكبر نصيب من هذه الغنيمة، فكانت مصر والسودان والهند — مثلًا — من حظ إنجلترا، وتونس والجزائر ومراكش من حظ فرنسا.
ولما وضعت الحرب العظمة أوزارها، كان من أعمال مؤتمر فرساي توزيع الغنيمة أيضًا على أوروبا، فأخذ الإنجليز فلسطين والعراق، واستولى الفرنسيون على ساحل سوريا.
هذا عدا ما في يدي إنجلترا وفرنسا من ممالك إسلامية صغيرة يطول عددها، وما في أيديهما من دول إسلامية أخرى تستقل ظاهرًا وتأتمر بأمرهما باطنًا.
نظرت إلى الدول الكبرى الأخرى كألمانيا وإيطاليا، فرأت أن هذه الغنيمة لم توزع توزيعًا عادلًا، فليس لإيطاليا إلا طرابلس وبرقة، وليس لألمانيا شيء يذكر، وليس لأسبانيا إلا سبتة والمنطقة الخليفية في مراكش؛ فحزَّ ذلك في نفوس من لم ينالوا حظًّا كبيرًا من الغنيمة، وثاروا يطلبون المزيد.
كان هذا كله مصدر قلق واضطراب من ناحيتين: من ناحية المسلمين انفسهم، ومن ناحية دول أوروبا بعضها وبعض.
فبعد الحرب الأخيرة شعر المسلمون بأنهم غنيمة لغيرهم، فتحركوا يطلبون أن يكونوا لأنفسهم، فثارت مصر، وثار العراق، وثارت سوريا وفلسطين، وثارت تونس والمغرب الأقصى، وبذلت إنجلترا وفرنسا في هذه الثورات مجهودًا كبيرًا في إخضاع الثورات أحيانًا، والتسليم ببعض حقوق الثائرين أحيانًا، على أن الرواية لم تتم فصولًا.
ومن ناحية أوروبا قلقت إيطاليا وألمانيا وأسبانيا؛ لأنها لم تربح ما ربحه غيرها، وزاد في قلقها واضطرابها أنها أنفقت على الحرب ما لا يحصى كثرة، فكان ما أنفقته في الحروب يقابله نقص في سعادة الأهلين ورخائهم، ورأوا أن غنائم الإنجليز والفرنسيين من المسلمين ونحوهم تسد شيئًا غير قليل من نفقاتهم، أما هم فليس لهم موارد كموارد فرنسا وإنجلترا تسد النقص، وتغطي العجز، فثاروا وقلقوا واضطربوا ونادوا بألا معدًى من أحد أمرين: إما توزيع الغنائم توزيعًا عادلًا بحسب القوة وبحسب السكان وبحسب الكفاية، وإما الحرب لتحقيق هذا المطلب.
لذلك كان المسلمون من حيث هم غنيمة سببًا من أسباب الحرب.
تجلت هذه الحقيقة في سلسلة الحروب في القرن الماضي، وفيما عقد بعدها من معاهدات، وتجلت في معاهدة فرساي بعد الحرب العظمى، إذ كان يشتمل جزء من مواردها على توزيع الغنائم.
•••
فعلى الذين ينشدون السلام ويبحثون عن وسائله أن يضعوا هذا في حسابهم.
إني أرى أن خير وسيلة لدفع الخطر من هذه الوجهة أمران: أحدهما في يد المسلمين والآخر في يد الأوروبيين.
أما الذي في يد المسلمين فأن يفهموا أنهم الآن غنيمة، خيرهم لغيرهم لا لأنفسهم، وأنهم مزرعة ليس لهم فيها إلا العمل، أما الثمرة فلغيرهم أطايبها ولهم فتاتها، وأنهم بهذا الوضع كانوا شرًّا على أنفسهم وشرًّا على العالم، شرًّا على أنفسهم، فليسوا يعيشون عيشة سعيدة، ولا شبه سعيدة؛ وشرًّا على العالم لأنهم كانوا سببّا من أسباب حروبه الطاحنة، إذ لو لم تكن غنيمة ففيم القتال؟ وإذا لم يكن شيء متنازع عليه فلم النزاع؟
لا بد أن يفهموا أن الخير لهم وللعالم أن يكونوا ملَّاكًا لا مزارعين، وأن يحصنوا ملكهم بكل ما يحصن به المالك الأوروبي أرضه.
إنه يحصنها بالقوة في كل شكل من أشكالها؛ يحصنها بقوة السلاح وبقوة العلم وبقوة الخُلق، يحصنها باحتقار الشهوات الفردية في سبيل المصلحة العامة، يحصنها بالتشريع العادل يضمن حقوق الأفراد وحقوق الأمة، فلا بد له أن يسير على هذا النهج.
إن العالم — الآن — لا يحتمل مدنيتين مختلفتي الشكل مختلفتي العنصر، إنه لا يحتمل مدنية قوامها القوة، وبجانبها مدنية أخرى ترى أن خير أخلاقها التواضع، وخير آدابها القناعة، وخير تعاليمها الاستسلام. إن ذلك إن حدث ازدردت الأولى الثانية وعدتها لقمة سائغة واكلة هنيئة، ولم تسمح لها بالوجود مستقلة، بل نشرت عليها ظلها، ولفتها بنقابها؛ لأن الشمس لا تريد أن تسطع إلا عليها.
لا خيار للمسلمين في نوع المدنية، فإن ذلك قد كان قبل أن يصير العالم وحدة تقطعه الموجة الكهربائية في لحظة، ويتصل بعضه ببعض في لمحة؛ فخير لهم ألا يضيعوا الوقت في التردد، وخير لهم أن يرسموا طريق السير في سرعة، ثم يسيروا على هدى. وليس طريق السير إلا الطريق الذي سار فيه الأوروبيون، فإن خالفوه في شيء فهو تعلمهم من غلطات من قبلهم وتجنب زللهم. وليفهموا جيدًا أنهم جزء من العالم الخاضع لقوانين واحدة ومدنية واحدة، لا وحدة مستقلة يرسمون لها ما يشاءون، وأن العالم السريع في سيره المتدفق في تياره لا يحتمل وقفتهم، ولا يعبأ بترددهم.
لا أريد من ذلك ألا تكون لهم شخصية، ولكن شخصية كشخصية الإنجليز بجانب الفرنسيين، أو اليابان بجانب الأمريكيين؛ فهذه الشخصيات على اختلاف أنواعها تخضع لمدنية واحدة ذات عناصر أساسية متحدة.
لا أمَل لهم — وقد استُضعفوا جميعًا — إلا أن يتقووا جميعًا، ثم تكون بينهم روابط قوية كالروابط التي بين الأمم الأوروبية المتحالفة. وقد تجلى بدء هذه الحركة في مثل تناصر الدول العربية في الدفاع عن فلسطين، فليكن هذا بدء خطة ترمي إلى التعاون والتناصر تزيدها الأيام قوة، والأحداث عظمة، والنوائب اعتصامًا.
أما الذي في يد الأوروبيين فهو أنهم جروا في سياستهم للعالم الإسلامي أيضًا على أنه غنيمة، وعلى هذا الأساس وضعوا كل خططهم الاقتصادية والسياسية والعلمية؛ فأخصبوا الأرض وأجدبوا العقول؛ لأن تحسين الأرض لهم وتحسين العقول عليهم، وأضعفوا القوة الحربية لهذه الأمم خوفًا من أن تقوم يومًا ما في وجوههم؛ وأضعفوا حركة التعليم لأن المثقفين ثقافة عالية شر عليهم، وأفسدوهم سياسيًّا فضربوا بعضهم ببعض حتى لا يلتفتوا إليهم، ومنحوا خير المناصب لمن رضي لنفسه أن يكون إمّعة، ونحو ذلك من وجوه لا عداد لها؛ فكانت نتيجة ذلك ضعف الغنيمة ضعفًا قاسيًا.
فهل كان هذا النظر في مصلحة أحد؟ أظن لا. وأظن أنه لم يكن في مصلحة المسلمين ولا في مصلحة الأوروبيين أنفسهم؛ فأما أنه ليس من مصلحة المسلمين فأمر بديهي لا يحتاج إلى بيان، وأما أنه ليس في مصلحة أوروبا، فأظن أن ما يكسبونه من الغنائم لا يوازي ما يضيعونه في الحروب عليهم. إنهم كأصحاب القضايا الذين ينفقون للمحامين والمحاكم أضعاف ما يربحون إذا حكم لهم. ما قيمة استعمارهم إذا كانت سلسلة حياتهم كساقية جحا تملأ من البحر وتصب في البحر؟ بل ما قيمة استعمارهم إذا كان تاريخ حياتهم جمعًا وادخارًا من الغنائم والأنفس والأموال، ثم القذف بها في أتون كبير يأتي عليها جميعًا؟ وهي إذا انتهت من تمثيل الرواية بدأت تمثلها من جديد؟
بل ما قيمة ملايين من الجنيهات تأخذها من الغنائم كل عام لتنفقها أو أكثر منها للدفاع عنها؟ أليس سفهًا أن ينفق المالي للمحافظة على رأس المال أكثر من رأس المال؟
أين غاب عن عقلائهم ومفكريهم وفلاسفتهم أن هناك ضروبًا من الانتفاع غير ضروب الاستغلال وإضعاف المستغل؟ هنالك ضروب خير من الاستغلال وهو التعاون، هو ألا يعدوا العالم الإسلامي غنيمة، ولكن يعدونه زميلًا أو أخًا صغيرًا؛ يقوونه في ماله ويقوونه في عقله ويقوونه في سياسته، فإذا هو عون لهم، وإذا هو مصدر منفعة، وإذا هو عميل عاقل خير لهم من عبد جاهل.
إن هذا النوع من السياسية التي أنشدها يزيل سببًا من أسباب ما بين الدول الأوروبية من إحن وأحقاد، تستنزف دماءهم وأموالهم وتؤخر مدنيتهم.
قد كان يكفي داعيًا لأوروبا أن تنظر هذا النظر السليم، داعي الإنسانية، وأن العالم بعد أن صار وحدة لا يحق لبعض أعضائه أن يعيش على حساب عضو آخر، ولا أن يقوى هو على حساب إضعاف عضو آخر.
فإذا لم يكن كافيًا فليدّع إليه ما ترى أوروبا فيه نفسها، مما تجر عليها «نظرية الغنيمة» من أسوأ أثر وأوخم عاقبة.
وأظن أن قد بدأ الساسة الأوروبيون يدركون هذا أخيرًا، بدليل ما صنع الإنجليز في مصر والعراق، وإدراكهم خطأهم السابق في سياسة الإضعاف. فهل يخطون ويخطو غيرهم من الأمم المنتفعة بالغنيمة خطوات أخرى أوسع وأرقى؟ لا بد لتحقيق ذلك من تفاعل بين قوة الشرق وعقلية الغرب.