الدينُ الصناعي
-
هل تعرف الفرق بين الحرير الطبيعي والحرير الصناعي؟
-
وهل تعرف الفرق بين الأسد وصورة الأسد؟
-
وهل تعرف الفرق بين الدنيا في الخارج والدنيا على الخريطة؟
-
وهل تعرف الفرق بين عملك في اليقظة وعملك في المنام؟
-
وهل تعرف الفرق بين النار أمامك وهي تلتهب وتأتي على كل ما يقدم لها من وقود، وبين نطقك بكلمة النار وهي تجري على لسانك فلا تمسه بسوء؟
-
وهل تعرف الفرق بين إنسان يسعى في الحياة وبين إنسان من جبس وضع في متجر لتعرض عليه الملابس؟
-
وهل تعرف الفرق بين النائحة الثكلَى والنائحة المستأجرَة، وبين التكحل في العينين والكَحَل؟
-
وهل تعرف الفرق بين السيف يمسكه الجندي المحارب وبين السيف الخشبي يمسكه الخطيب يوم الجمعة؟
-
وهل تعرف الفرق بين الناس في الحياة والناس على الشاشة البيضاء؟
-
وهل تعرف الفرق بين الصوت والصدَى؟
إن عرفت ذلك فهو بعينه الفرق بين الدين الحق والدين الصناعي.
يكدّ الباحثون أذهانهم، ويُجهد المؤرخون أنفسهم في تقليب صحفهم ووثائقهم عن تعرف السبب في أن المسلمين أول أمرهم أتوا بالعجائب، فغزوا وفتحوا وسادوا، والمسلمين في آخر أمرهم أتوا بالعجائب أيضًا، فضعفوا وذلوا واستكانوا، والقرآن هو القرآن، وتعاليم الإسلام هي تعاليم الإسلام، ولا إله إلا الله هي لا إله إلا الله، وكل شيء هو كل شيء؛ ويذهبون في تعليل ذلك مذاهب شتَّى، ويسلكون مسالك متعددة. ولا أرى لذلك إلا سببًا واحدًا هو الفرق بين الدين الحق والدين الصناعي.
الدين الصناعي دين حركات وسكنات، وألفاظ، ولا شيء وراء ذلك. والدين الحق دين روح وقلب وحرارة.
الصلاة في الدين الصناعي ألعاب رياضية، والحج حركة آلية ورحلة بدنية، والمظاهر الدينية أعمال مسرحية وأشكال بهلوانية.
و«لا إله إلا الله» في الدين الصناعي قول جميل لا مدلول له. أما في الدين الحق فهي كل شيء؛ هي ثورة على عبادة المال، وثورة على عبادة السلطان، وثورة على عبادة الجاه، وثورة على عبادة الشهوات، وثورة على كل معبود غير الله.
«لا إله إلا الله» في الدين الصناعي تتفق مع إحناء الرأس والخضوع لشهوة البدن، وتتفق مع الذلة والمسكنة. و«لا إله إلا الله» في الدين الحق، لا تتفق إلا مع الحق.
«لا إله إلا الله» في الدين الصناعي تذهب مع الريح، وفي الدين الحق تزلزل الجبال.
•••
الدين الصناعي صناعة كصناعة النجارة والحياكة، يمهر فيها الماهر بالحذق والمران. أما الدين الحق فروح وقلب وعقيدة، ليس عملًا، ولكنه يبعث على كل عمل جليل وكل عمل نبيل.
الدين الحق «إكسير» يحل في الميت فيحيا، وفي الضعيف فيقوى.
هو «حجر الفلاسفة» تضعه على النحاس والفضة والرصاص فتكون ذهبًا.
هو العقيدة التي تأتي بالمعجزات فيقف العلم والتاريخ والفلسفة أمامها حائرة: بم تعلَّل، وكيف تُشرَح!
هو الترياق الذي تتعاطى منه قليلًا فيذهب بكل سموم الحياة.
هو العنصر الكيمياوي الذي تمزج به الشعائر الدينية فتطير بك إلى الله، وتمزج به الأعمال الدنيوية فتذلل العقبات مهما صعبت، وتصل بك إلى الغرض مهما لاقت.
هو الذي وجده كل من نجح، وهو الذي فقده كل من خاب.
هو الكهرباء الذي يتصل فيدوّر العجل، ويسيّر العمل، وينقطع فلا حركة ولا عمل.
هو الذي يحل في الأوتار فتوقع وكانت قبلُ حبالا، وفي الصوت فيغني وكان قبل هواءً.
•••
الدين الحق يحمل صاحبه على أن يحيا له ويحارب له. والدين الصناعي يحمل صاحبه على أن يحيا به ويتاجر به ويحتال به.
الدين الحق يجعل صاحبه فوق كل سلطة وفوق كل سياسة. والدين الصناعي يحمل صاحبه على أن يلوي الدين ليخدم السلطة ويخدم السياسة.
الدين الحق قلب وقوة، والدين الصناعي نحو وصرف وإعراب وكلام وتأويل.
الدين الحق امتزاج بالروح والدم، وغضب للحق، ونفور من الظلم، وموت في تحقيق العدل. والدين الصناعي عمامة كبيرة، وقباء يلمع، وفرجية واسعة الأكمام.
«الشهادة» في الدين الحق هي ما قاله الله تعالى: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقُتلون ويُقتَلون». و«الشهادة» في الدين الصناعي إعراب جملة وتخريج متن وتفسير شرح وتوجيه «حاشية»، وتصيحي قولِ مؤلِّف وردّ الاعتراض عليه.
الدين الحق تحسين علاقة الإنسان بالله، وتحسين علاقة الإنسان بالإنسان، لتحسن علاقتهم جميعًا بالله. والدين الصناعي تحسين علاقة صاحبه بالإنسان لاستدرار رزق، أو كسب جاه، أو تحصيل مغنم، أو دفع مَغرَم.
•••
لقد صدق من قال: إن هذا الدين «لا يصلح آخره إلا بما صلح أوله»، وهل كان أوله إلا دين روح، وهل كان آخره إلا دين صناعة؟
جناية أهل كل دين أن يبتعدوا — كلما تقدم بهم الزمان — عن روحه ويحتفظوا بشكله، وأن يقلبوا الأوضاع، ويعكسوا التقدير، فلا يكون للروح قيمة، ويكون للشكل كل القيمة.
شأن «الإيمان» شأن العشق، يحوّل البرودة حرارة، والخمول نباهة، والرذيلة فضيلة والأَثَرَة إيثارًا.
والإيمان الحق كالعصا السحرية، لا تمس شيئًا إلا ألهبته، ولا جامدًا إلا أذابته، ولا مواتًا إلا أحيته.
•••
من لي بمن يأخذ الدين الصناعي بكل ما فيه، ويبيعني ذَرّة من الدين الحق في أسمى معانيه؟