تراجم الرجال في الأدب العربي
تشغل تراجم الرجال في آداب اللغة العربية أبْيَن مكان، وتستغرق أكبر حيز. بل لا نبالغ إذا قلنا: إن ما نسميه اليوم «أدب اللغة» كان يدور حول تراجم الرجال من أدباء وشعراء وعلماء، وذكر شيء من أجود ما قالوا؛ فأقدم كتب الأدب كالأغاني إنما بني على الأصوات المختارة، وتدرّج منها إلى ذكر الأدباء وترجمة حياتهم، وأهم ما عرض لهم.
وأكثر الذي نعرفه من ضروب التأليف القديم في الأدب نوعان: نوع أسس على تراجم الرجال كالأغاني ومعجم الأدباء وطبقات الشعراء ويتيمة الدهر، ونوع أسس على المختار من المنظوم والمنثور، كالذي ذهب إليه الجاحظ في البيان والتبيين والكامل للمبرد، والعقد الفريد لابن عبد ربه. فأما نظرة عامة في الأدب عامة، أو فرع من فروع الأدب — كالشعر والخطابة — وتحليله تحليلًا عميقًا مفصلًا، فذلك ضرب لا نعلم أن الأقدمين وصلوا إليه. والحق أنهم تركوا لنا شيئًا غُفْلًا يصح أن يستفاد منه بمهارة الصنعة، وإجادة الفن، ولم يخلقوا لنا شيئًا ناضجًا يحسن الوقوف عنده.
والسب في أن الأقدمين سلكوا هذين الطريقين اللذين أشرنا إليهما أنهما أسهل الطرق على المؤلف؛ فهو في ترجمة الرجل يذكر تاريخ ولادته، وبعض حكايات رويت، وحوادث عرضت، ثم تاريخ وفاته، وبهذا ينتهي الفصل. وفي الطريقة الثانية يختار ما نثر في الكتب من النوع الأول وأمثالها، ثم يربط بينها برباط قوي أو ضعيف، فتتكون من ذلك مجموعة يصوغ لها اسمًا كالبيان والتبيين، والكامل، والأمالي؛ وكلا الضربين نوع من التأليف الساذج، وأول درجة في سلم التأليف؛ ولم يصل البحث في أوروبا إلى هذا النوع من التأليف الذي يحلل ويستقصي ويلقي بالنظرة العامة تستغرق الموضوع من جميع جهاته إلا في العصور الحديثة.
وفي هذا العيب نفسه وقعت كتب التاريخ العربية، فهي إما دائرة حول السنين، يُذكَر في كل سنة ما حدث، أو حول الملوك وولاتهم يذكرون ما حدث لهم وفي أيامهم؛ فأما النظرة العامة إلى الموضوع، والإحاطة به وتحليله وتعليله، فدرجة لم يصل إليها مؤرخونا.
- الأول: أن المسلمين في أثناء جمعهم للحديث رأوا منه قسمًا كبيرًا يتعلق بحياة النبي ﷺ وغزواته، وحوادث تتعلق بكبار الصحابة كأبي بكر وعمر وحروبهما وفتوحاتهما، فكان ذلك أساسًا لوضع كتب السير؛ وقد روَوا أن أول من ألف في سيرة رسول الله ﷺ عروة بن الزبير بن العوام (٢٣–٩٤هـ)، وأَبَان بن عثمان بن عفان (٢٢–١٠٥هـ)، فكان عملهما في وضع سيرة الرسول أساسًا لوضع سيرة غيره من كبار الصحابة، ثم تلاحق الأمر واتسع.
- الثاني: أن علماء المسلمين لما هالتهم كثرة ما وضع كذبًا على رسول الله ﷺ من الأحاديث لجأوا إلى وسائل يعرفون بها صحيح الحديث من ضعيفه، وكان من هذه الوسائل تشريح رجال الحديث من الصحابة والتابعين، ونقدهم وتعديلهم وتجريحهم، فتكوَّن من ذلك مجموعات من تراجم الرجال وسيرهم وشيء مما حدث لهم، ليستفاد منه صدقهم أو كذبهم. ثم جاء رجال الأدب فقلدوا المحدِّثين وحذوا حذوهم، وبنوا أدبهم على هذه التراجم التي أحكموا تقليدها.
ودليلنا على أن الأدباء قلدوا المحدِّثين، أن المحدِّثين كانوا أسبق إلى هذا العمل تاريخًا؛ ففي العهد الأموي نرى عروة وأبانًا يكتبان سيرة النبي، ونرى أحاديث قيلت في جرح الرجال وتعديلهم، ونرى في صدر الدولة العباسية شعبة بن الحجاج ويحيى بن سعد القَطّان يؤلفان الكتب في نقد المحدّثين وبيان صادقهم من كاذبهم؛ مع أنّا لا نعلم في هذا العصر كتابًا أدبيًّا يصح أن يقال: إن موضوعه تراجم رجال الأدب.
بل نرى من أقوى الأدلة على ذلك أن الصِّبغة التي اصطبغت بها كتب التراجم الأدبية صبغة محدّثين اكثر منها صبغة أدباء، خصوصًا ما ألف منها أيام سطوة المحدّثين ككتاب الأغاني، فإنك ترى فيه الإسناد على نمط إسناد المحدّثين والتعبير في كثير من الأحيان تعبير حديث. وذلك كقوله: (أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبيدة قال: بلغني أن هذا البيت «لا يذهب العرف بين الله والناس» في التوراة … قال إسحاق: وذكر عبد الله بن مروان عن أيوب بن عثمان الدمشقي عن عثمان بن عائشة قال: سمع «كعب الحبر» رجلًا ينشد بيت الحطيئة:
فلعلك ترى معي أنك — وأنت تقرأ هذا — كأنك تقرأ قطعة من أحاديث البخاري.
ومن أكبر المظاهر التي تأثرت بها كتب تراجم الأدباء بكتب المحدثين احتجاب شخصية المؤلف. تقرأ في الأغاني فيغمرك بروايات عن الرجل وأحاديثه ووقائعه وأدبه وشعره، ولكن قلّ أن تظفر منه بكلام له، أو نقد لشعره، أو تعليق على حادثة له، أو نحو ذلك، ويظهر لي أن هذا أيضًا أثر من آثار نمط المحدِّثين، فقد حصروا أنفسهم في دائرة النقل، نقل ما حدثوا به، ونقل ما بلغهم عن الرجل، وذلك إن جاز في الحديث — ومجال القول ضيق؛ لأن المحدث لا يهمه من المترجم له إلا ما يدل على صدقه أو كذبه، وتجريحه أو عدالته — فما كان يجوز في الأدب ومجال القول ذو سعة، وشخصية الأديب في النقد والتحليل، وبيان المحاسن والمساوي، وموضع الحسن أو القبح، لها القيمة الكبرى في الفن الأدبي. ولكن هو التقليد للمحدثين نزع بهم هذا المنزع، وليس هذا مقصورًا على كتب التراجم، بل هو — أيضًا — في أصول كتب الأدب المؤلفة في ذلك العصر؛ فإذا قرأت في البيان والتبيين أو عيون الأخبار لابن قتيبة لم تجد للمؤلف شخصية بارزة، مع قدرتهما الفائقة وما لهما من بسطة في العلم والأدب. ولو أحصيت ما للجاحظ في البيان والتبيين لم تجد له ربع الكتاب ولا خمسه، وإنما له الاختيار والجمع — شأن المحدِّثين في الحديث. وكذلك الشأن في عيون الأخبار والأغاني وغيرهما.
ولعل في هذا ما يكفي لإثبات أن الأدباء كانوا مقلدين للمحدثين في وضعهم للتراجم.
على كل حال كان لنا تراجم للرجال نحوا فيها مناحي مختلفة؛ فمنهم من ترجم لكل شخص ممتاز بأي نوع من أنواع المميزات، كما فعل ابن خلِّكان في «وفيات الأعيان»، فقد ترجم لكل عين، وكما يقول هو: «لأولي النباهة»، ولم يستثن إلا الصحابة والتابعين والخلفاء، فترجم للمالي والفقيه والمتصوف والشاعر والأديب والنحوي واللغوي والوالي والمشعوذ. ومنهم من اقتصر على طائفة خاصة كما فعل ياقوت في «معجم الأدباء»، فقد ترجم فيه للأدباء خاصة، وكما فعل ابن قتيبة وابن سلام في «طبقات الشعراء»، وكما فعل السيوطي في «بغية الوعاة في تراجم النحاة». ومنهم من اقتصر على تراجم الأدباء في عصر خاص كما فعل الثعالبي في كتابه يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر». إلخ.
والآن نعرض لمسألة هامة وهي: هل وفَى هؤلاء المترجمون بالغرض الذي قصدوا إليه؟ قبل ذلك يجب أن نبحث متى تكون ترجمة الحياة جيدة وافية بالغرض؟
المترجم «واصف» لمن يترجمه، والواصف ينبغي أن يُخرج بقلمه ولغته ما يخرجه الرسام بريشته، بل للقلم مجال أوسع من الريشة، فالقلم يستطيع أن يتغلغل إلى المعنويات من أخلاق وعقلية ومشاعر وصفات نفسية، على حين أن الريشة لا تستطيع أن تصل إلى شيء كثير من ذلك؛ نعم إن القلم يلاقي من الصعوبة ما لا تجده الريشة، فإن الريشة مرنة مطواع أمامها ماديات ذات مقاييس خاصة ونِسَبٍ معينة يسهل على المصور أن يراعيها، ولكن الكاتب يعاني بقلمه في إخراج الصورة كاملة منسقة أكبر العناء. يجب أن يكون الواصف من دقة الحس ويقظة العقل وحسن التقدير لما يهم وما لا يهم ولطف الذوق والقدرة على الإبانة بحيث يستطيع أن يصف لك الشخص الموصوف كأنك تراه، بل أكثر من أن تراه؛ فهو يريك من المعنويات ما لا يرى، تريك الصورةُ الشيء دفعة واحدة، فنستطيع أن ترى النسب بين أجزائها، وتدرك الجمال التركيبي كما تدرك الجمال الإرادي، والكاتب الماهر يسلسل بين أقواله ويجَمِّلها بالمنطق الصحيح والأسلوب الأخّاذ، فيسرق منك نفسك، فلا تنتبه إلا وقد وعيت صورة الموصوف كاملة. يرى الواصف الشخص فيدرسه ويخبره ثم يدرسه ويخبره ويجمع حوله كل ما يهمه، ويمحصه، حتى إذا اجتمعت له في ذهنه صورة كاملة متناسقة تؤلف وحدة استطاع أن يبرزها بقلمه فيشرك غيره في رؤية ما يرى. فإن كان الواصف لم يدرك أصل الموصوف جمع أخباره وحوادثه وقصصه وامتحنها بكل ما اخترع «البحث» من وسائل للامتحان، ثم كان شأنه معها شأن سابقها.
وهناك نوعان من التراجم يصح أن نسميها تراجم خارجية وتراجم ذاتية، ونعني بالأولى تراجم يقتصر فيها المترجم على وصف المترجم له بذكر الحقائق الخارجية والوقائع التي حدثت للمترجَم من غير أن يشوبها المترجِم بشيء من أفكاره ومشاعره. والترجمة من هذا النوع ليست إلا ثَبتًا للحقائق، وهي بالمؤرخ أشبه. أما النوع الثاني فتراجم يذكر فيها المترجم ما وصل إليه من حقائق ويحللها، ثم يتبعها برأيه في المترجَم إما دفاعًا عنه أو هجومًا عليه، إما نقدًا وذمًّا وإما مدحًا وتقريظًا، إما استحسانًا للمأثور من أقواله وآرائه أو استهجانًا، وهذا النوع بالأديب أليَق.
وليس يترجم من الرجال إلا من كانت له ناحية من نواحي النبوغ كالسياسة أو الأدب أو اللغة أو النحو أو الخلق أو العلم؛ فواجب المترجم أن يدلنا على موضع نبوغ من يترجمه ويعطيه أكبر عنايته، ويجعل القارئ يكاد يلمسه بيده، فإن هو قصر في ذلك فقد قصر في أهم ركن للترجمة.
إذا نحن نظرنا — في ضوء هذه القواعد التي ذكرناها — إلى كتب التراجم العربية وجدناها على اختلاف أنواعها معيبة من جملة وجوه، وهي في هذه العيوب تختلف شدة وضعفًا، فأظهر عيب فيها أنها لم تسلك طريق البحث العلمي؛ فقد وضعت فيها الأساطير والخرافات بجانب الحقائق من غير تمحيص، وأكثر ما يكون ذلك في تراجم رجال الدين والتصوف، فعندهم يفقد المترجم ملكة النقد، ويسلم بكل ما حكى له.
أضف إلى ذلك أن المترجم يكثر من ذكر الأقوال المختلفة، ويتركها على عواهنها من غير أن يبذل جهدًا في تحقيقها، والخروج منها بنتيجة يرضاها؛ فتقرأ مثلًا في ابن خلكان قولًا يقول: إن أبا تمام الشاعر المشهور من قبيلة طيئ، وقولًا يقول: إن أباه كان نصرانيًّا من أهل جاسم (قرية من قرى دمشق) يقال لها: تدوس العطار فجعلوه أوسًا، وقد لفقت له نسبة إلى طيئ، ولكن أي القولين أصح؟ وماذا بذل المؤلف من الجهد في تحقيق هذه المسألة؟ لا شيء من ذلك، ولكن أقوال يرصف بعضها بعض من غير تمحيص؛ وترى في كتاب «الأغاني» من هذا الضرب الشيء الكثير. وقل مثل ذلك في الوقائع التاريخية، فهي تقال وتذكر فيها الروايات المختلفة، ثم يقف قلم المؤلف؛ مع أن المعقول أن جمع هذه الروايات المختلفة ليس إلا مقدمة لتمحيصها والخروج منها بنتيجة تقرب إلى الصواب.
الحق أن النقد عند كتَّاب التراجم كان ضعيفًا، ولم يمهروا في امتحان الحقائق وتخليص جيدها من رديئها. نعم إنّا نعثر في «وفيات الأعيان» لابن خلكان و«معجم الأدباء» لياقوت و«الأغاني» على نتف صغيرة من النقد تدل على دقة ملاحظة وجودة نظر، وربما كان أفضلهم في ذلك ابن خلكان، ولكنها مواقف نادرة قليلة لا يصح أن يقال: إنها النظام المتبع في التأليف.
كذلك من أوضح العيوب البارزة في هذه الكتب، أن المؤلفين لم يستطيعوا أن يقوّموا موضع نبوغ المترجَم له فيخصوه بالشرح الوافي. قد كنت أفهم أن كتابًا كـ «بغية الوعاة في أخبار النحاة» يعني في تراجمه بهذه الناحية النحوية، فيبين مكانة المترجَم في النحو، وموضع نبوغه، وأي شيء جدد في النحو حتى استحق أن يترجم، ولكن قلَّ أن أعثر فيه على شيء من ذلك؛ ومثل ذلك يقال في طبقات المحدّثين والفقهاء والأدباء!
أغرب ما في هذا النوع عناية المترجمين بالشعر لغير الأديب والشاعر، فترى كثيرًا منهم — كابن خلِّكان — يبحثون للمترجَم عن بيتين أو أبيات الشعر ينسبها إليه، ويذكرهما بجانبه، ويجعل لها مكانًا ممتازًا في ترجمته. ولو كان هذا الذي يترجم له شاعرًا أو أديبًا لحمدنا للمترجم هذه العناية؛ أما والمترجَم مالي أو مشرع أو محدث أو اجتماعي، فما قيمة بيتين أو أبيات قالها في حياته؟ أليس سخيفًا أن تقرأ في ابن خلكان ترجمة الإمام الشافعي فلا ترى فيها شرحًا لموضع نبوغ الشافعي ومقدرته في التشريع، وبماذا يمتاز عن بقية الأئمة، وأين مكان مذهبه من الرأي والحديث. ثم تراه يعني عناية فائقة بأبيات ضعيفة يرويها له، وهذا هو بعينه ما فعله في ابن جرير الطبري المؤرخ، وطلائع بن زرِّيك السياسي، والفارابي الفيلسوف.
إنما يجب أن يذكر للشاعر شعره، وللفقيه فقهه، وللسياسي سياسته، وللفيلسوف فلسفته، ويجب أن تكون هذه الناحية هي أهم ناحية يعني بها المترجم.
•••
هذا وقد عني المحدَثون بوضع تراجم مفردة مستقصية، تحلل فيها الأشخاص والحوادث تحليلًا دقيقًا، ويعتمد فيها على النمط الحديث في البحث، ويستفاد فيها مما وصل إليه علم النفس من استكشاف وبما وضع علماء الأدب المحدَثون من أنماط. ونرجو أن يتتابع التأليف على هذا النمط، ويتمشى في الرقي مع الزمن، حتى تكون لنا مجموعة قيمة من تراجم المشهورين في العصر الإسلامي من أدباء وفلاسفة وشعراء وغيرهم، تقرأ الترجمة فتشعر كأن المؤلف أحيا المترجَم وبعثه من جديد، وتشعر وقد قرأت الترجمة كأنك لقيت المترجَم وعاشرته وحدثته، وقرأت كتبه واستقصيت دخيلة نفسه.