فنُّ السرور
نعمةٌ كبرى أن يمنح الإنسان القدرة على السرور، يستمتع به إن كانت أسبابه، ويخلقها إن لم تكن.
يعجبني القمر في تقلده هالة جميلة تشع فنًّا وسرورًا، وبهاءً ونورًا، ويعجبني الرجل أو المرأة يخلق حلوه جوًّا مشبعًا بالغبطة والسرور، ثم يتشربه فيشرق في محياه، ويلمع في عينيه، ويتألق في جبينه، ويتدفق من وجهه.
يخطئ من يظن أن أسباب السرور كلها في الظروف الخارجية، فيشترط ليُسَرَّ مالًا وبنين وصحة؛ فالسرور يعتمد على النفس أكثر مما يعتمد على الظروف، وفي الناس من يشقى في النعيم، ومنهم من ينعم في الشقاء؛ وفي الناس من لا يستطيع أن يشتري ضحكة عميقة بكل ماله وهو كثير، وفيهم من يستطيع أن يشتري ضحكات عالية واسعة بأتفه الأثمان، وبلا ثمن.
•••
مع الأسف ألاحظ أن كمية السرور في مصر والشرق قليلة. كما لاحظت من قبل أن كمية الحب في مصر والشرق قليلة، وليست تنقصنا الوسائل، فجونا جميل، وخيراتنا كثيرة، وتكاليف الحياة هينة، ووسائل العيش يسيرة، ومصائب الشرق من الحرب أقل منها في الغرب؛ ومع هذا كله لا تزال كمية السرور في الشرق أقل.
أكبر سبب لذلك في نظري أن الحياة فن، والسرور كسائر شئون الحياة فن؛ فمن عرف كيف ينتفع بالفن استغله واستفاد منه وحظِي به، ومن لم يعرفه لم يعرف أن يستغله وشقي به.
أول درس يجب أن يتعلم في فن السرور «قوة الاحتمال»، فأكبر أسباب الشقاء رخاوة النفس وانزعاجها العظيم للشيء الحقير؛ فما إن يصاب المرء بالتافه من الأمر حتى تراه حَرِجَ الصدر، لهيف القلب، كاسف الوجه، ناكس البصر، تتناجى الهموم في صدره، وتقض مضجعه، وتؤرق جفنه، وهي وأكثر منها إذا حدثت لمن هو أقوى احتمالًا، لم يلق لها بالًا، ولم تحرك منه نفسًا، ونام ملء جفونه رضيَّ البال فارغ الصدر.
•••
ومن أهم الأسباب في أن أمم الغرب أقدر على السرور من أمم الشرق، أن تاريخ الغرب الحربي متسلسل متتابع، ومن مزايا الحروب أنها تصهر الأمم وترخص الحياة، وتهوِّن الموت، وإذا رخصت الحياة وهان الموت رأيت المرء لا يعبأ بالكوارث إلا بقدر محدود؛ وإذا كان لا يهاب الموت فأولى ألا يهاب ما عداه؛ لأن كل شيء غير الموت أهون من الموت، فكل أسرة أوروبية لها رجال فقدوا في الحرب، أو أصيبوا في الحرب أو ابتلوا بنوع من كوارث الحرب، فعلمتهم الطبيعة التي تعادل بين الأشياء أن يتقبلوا هذه الرزايا بقوة احتمال، ونشأ عن هذا أنهم لا ينغصون حياتهم بذكرى الرزايا، فأولى ألا ينغصوها بتوافه الأمور.
أما أمم الشرق فقد مرّ عليهم دهرٌ طويل لم يكونوا فيه أممًا حربية؛ بل كانوا مستسلمين وادعين، يتولى غيرهم الدفاع عنهم، وإن حاربوا فحرب الضرورة، وحرب الأفراد لا حرب الشعوب، فاستفظعوا الموت، وغلوا في الحرص على الحياة، ولم يصابوا بكوارث شعبية يستعذبون معها الموت والتضحية، وتبع ذلك رخاوة العيش وعدم القدرة على الاحتمال، وتهويل الصغائر والجزع من توافه الأمور. ولا دواء لهذا إلا التربية القوية، وبث الأخلاق الحربية.
وسببٌ آخر لقلة السرور في الشرق، وهو سوء النظم الاجتماعية، ففي كل بيت محزنة من سوء العلاقات الزوجية والعلاقات الأبوية، وفي كل مصلحة أهلية أو حكومية مأساة من سوء العلاقات المصلحية وأحاديث الدرجات والعلاوات، وعدم التعاون في حمل الأعباء، وبناء المعاملات على الفوضى والمصادفات لا النظام والقانون.
ثم عدم القدرة على خلق أسباب السرور الاجتماعية؛ فاجتماعات المنازل التي تبعث السرور محدودة ضيقة نادرة، وفي كثير من الحيان تنتهي بمنغصات؛ والملاهي العامة إما داعرة لا ترضي الذوق السليم، ولا ترمي إلى غرض شريف، وإما تافهة لا يجمِّلها فن، ولا يرقيها ذوق، ومن أجل ذلك كان أشد الناس بؤسًا في الأمم الشرقية الطبقة المثقفة المهذبة التي رقي ذوقها؛ فهي لا تكاد تجد لها ملهى يتفق وذوقها، إلا بعض شرائط السينما، وهي — على قلتها — لا تشبع رغبتهم في السرور، ولا تكفي في تخفيف أعبائهم في الحياة.
•••
ومع هذا كله ففي استطاعة الإنسان أن يتغلب على كل هذه المصاعب ويخلق السرور حوله. وجزء كبير من الإخفاق في خلق السرور يرجع إلى الفرد نفسه، بدليل أنّا نرى في الظروف الواحدة والأسرة الواحدة والأمة الواحدة من يستطيع أن يخلق من كل شيء سرورًا، وبجانبه أخوه الذي يخلق من كل شيء جزنًا؛ فالعامل الشخصي — لا شك — له دخل كبير في خلق نوع من الجو الذي يتنفس منه؛ ففي الدنيا عاملان اثنان: عامل خارجي وهو كل العالم، وعامل داخلي وهو نفسك، فنفسك نصف العوامل، فاجتهد أن تكسب النصف على الأقل؛ وإذًا فرجحان كفتها قريب الاحتمال، بل إن النصف الآخر — وهو العالم — لا قيمة له بالنسبة إليك إلا بمروره بمشاعرك، فهي التي تلوّنه، وتجمّله أو تقبحه، فإذا جلوت عينيك وأرهفت سمعك وأعددت مشاعرك للسرور فالعالم الخارجي ينفعل مع نفسك فيكون سرورًا.
إنّا لنرى الناس يختلفون في القدرة على خلق السرور اختلاف مصابيح الكهرباء في القدرة على الضياء؛ فمنهم المظلم كالمصباح المحترق، ومنهم المضيء بقدر كمصباح النوم، ومنهم ذو القدرة الهائلة كمصباح الحفلات؛ فغيِّرْ مصباحك إن ضعف، واستعض عنه بمصباح قوي ينير لنفسك وللناس.
ولكن ما الوسيلة إلى ذلك؟
مما لا شك فيه أن غلبة الحزن مرض قد ينشأ من عوامل كثيرة مختلفة، فمن الخطأ رجوعها كلها إلى علة واحدة؛ وإذًا فمن الخطأ وضع علاج واحد للعلل كلها، ولكن فحص كل نفس وأسباب حزنها ووضع العلاج الخاص بها لا يستطيعه إلا طبيب نفسي ماهر. أما الكاتب فلا يستطيع إلا قولًا عامًّا ووصفًا مشتركًا، وتعرضًا للمسائل العامة.
ولعل من أهم أسباب الحزن ضيق الأفق وكثرة تفكير الإنسان في نفسه، حتى كأنها مركز العالم، وكأن الشمس والقمر والنجوم والبحار والأنهار والأمة والحكومة والميزانية والسعادة والرخاء، كلها خلقت لشخصه، فهو يقيس كل المسائل بمقياس نفسه، ويديم التفكير في نفسه وعلاقة العالم بها، وهذا — من غير ريب — يوجب البؤس والحزن، فمحال أن يجري العالم وفق نفسه؛ لأن نفسه ليست المركز، وإنما هي نقطة حقيرة على المحيط العظيم، فإن هو وسع أفقه، ونظر إلى العالم الفسيح، ونسي نفسه أحيانًا، ونسي نفسه كثيرًا، شعر بأن الأعباء التي ترزح تحتها نفسه، والقيود الثقيلة التي تثقل بها نفسه، قد خفت شيئًا فشيئًا وتحللت شيئًا فشيئًا. وهذا هو السبب في أن أكثر الناس فراغًا أشدهم ضيقًا بنفسه؛ لأنه يجد من زمنه ما يطيل التفكير فيها إلى درجة أن يجن بنفسه؛ فإن هو استغرق في عمله وفكر في أمته وفكر في عالمه، كان له من ذلك لذة مزدوجة، لذة الفكر والعمل، ولذة نسيان النفس.
ولعل من أول دروس فن السرور أن يقبض على زمام تفكيره فيصرِّفه كما يشاء؛ فإن هو تعرض لموضوع مقبض — كأن يناقش أسرته في أمر من الأمور المحزنة أو يجادل شريكه أو صديقه فيما يؤدي إلى الغضب — حوَّل ناحية تفكيره وأثار مسألة أخرى سارَّةً ينسى بها مسألته الأولى المحزنة؛ فإن تضايقْت من حديث ميزانية البيت فتكلم في السياسة، وإن آلمك حديث «الكادر» فتكلم في الجو، وانقل تفكيرك كما تنقل بيادق الشطرنج.
ثاني الدروس أو ثالثها — لا أدري — ألا تقدر الحياة فوق قيمتها، فالحياة هينة، وكل ما فيها زائل، فاعمل الخير ما استطعت، وافرح ما استطعت؛ ولا تجمع على نفسك الألم بتوقع الشر ثم الألم بوقوعه، فيكفي في هذه الحياة ألم واحد للشر الواحد.
وأخيرًا، فاعل ما يفعله الفنانون، فالرجل لا يزال يتشاعر حتى يكون شاعرًا، ويتخاطب حتى يصير خطيبًا، ويتكاتب حتى يكون كاتبًا؛ فتصنَّع الفرح والسرور والابتسام للحياة حتى يكون التطبع طبعًا.