سؤال وحيرة في جواب
بالأمس قابلني شاب أمريكي يحضر لشهادة عليا في إنجلترا، هو مثال الجد والإخلاص لعمله، ينتهز وجوده في مصر فيزور مكاتبها، ويلقى علماءها وأدباءها، ويجول في الشوارع يدرس ما تدل عليه ظواهر الناس ومعاملاتهم وسلوكهم من دلالات اجتماعية، ويسمع لغة العوام ويوازنها بلغة الخواص؛ وعلى الجملة يقضي أكثر وقته باحثًا منقبًا مستفيدًا، لا يعبأ بحرّ جو ولا متاعب غربة.
ما هي النزعات الجديدة للإصلاح الاجتماعي في مصر، وخاصة ما كان منها مؤسسًا على الدين؟
سكتُّ هنيهة أفكر، ومرَّ في ذهني إذ ذاك جملة أشياء مرور «شريط السينما»، مرّ في ذهني «قاسم أمين» ودعوته إلى تحرير المرأة، ومرّ في ذهني «الجمعية الخيرية الإسلامية»، وما قامت به من تعليم فقراء، وإحسان إلى المحتاجين، وبناء مستشفاها الجديد، ومرّ بذهني الأزهر وما مرّ عليه من وجوه إصلاح، ومرّ بذهني الدعوة إلى النهوض بالفلاح، ومقدار ما لقيت من خيبة أو نجاح، ومرّ بذهني أخيرًا إنشاء وزارة منذ أيام لإصلاح الشئون الاجتماعية.
ولكني لا أكتم القارئ أني شعرتُ بمرارة وانقباض شديدين، لعل سببهما أني أحسست نوعًا من خيبة أمل مخزونة في نفسي، وأني كنت أؤمل أن يكون في أعمال قومي ما ينطلق به لساني، وينشرح له صدري.
إنَّا إلى الآن نمشي في الإصلاح الاجتماعي ببطء شديد جدًّا يكاد يكون عدمًا ونسير فيه ارتجالًا، لا عن دراسة علمية عميقة، وإحصاآت دقيقة، ووضع برنامج واف شامل نعرف فيه الخطوة الأولى والخيرة وما بينهما.
قد كنت أفهم أن يكون لكل حزب سياسي عندنا برنامج اجتماعي بجانب برنامجه السياسي، وأن يكون هذا البرنامج الاجتماعي أُعِد إعدادًا علميًّا دقيقًا في وقت فراغ الحزب، فيكون له رأي في الفلاح وكيف ترقى معيشته اجتماعيًّا، وكيف يصل إلى كل فلاح ما يحتاجه من ماء نقي ونور نظيف ومسكن مريح، وما موقف الحزب في المرأة وإصلاح شئونها وحريتها وإلى أي حد، وفي العمال وترقية شئونهم والشباب العاطلين ومشاكلهم، وطلبة المدارس العليا واضطرابهم، ووجوه الإحسان وتنظيمها، ومشكلة الأوقاف وعلاجها، ونحو ذلك من مسائل لا عَدَّ لها؛ وكنت أفهم أن كل حزب يكوَّن له في ذلك رأيًا قاطعًا مفصَّلًا حازمًا يتقدم به عند الانتخاب، ويعمل به عند تولِّيه الحكم.
ولكن — مع الأسف — لم يكن شيء من ذلك؛ وقد سئلت منذ مدة من مثل هذا الشاب الأمريكي عن أهم الأسس الاجتماعية والسياسية التي تميز كل حزب في مصر عن الأحزاب الأخرى، فلم أحر جوابًا، وأحسست طعم المرارة والانقباض اللذين أحسهما الآن.
•••
لقد لفت نظري في سؤاله ضغطه في حديثه على الإصلاحات الاجتماعية المؤسسة على الدين الإسلامي، وكان هذا الضغط أشد مرارةً على نفسي؛ أني التفتُّ فرأيت الإصلاحات التي عددتها من قبل على قلتها وضعفها ليس منها شيء أُسِّس على الدين وقام به رجال الدين، إلا ما كان من الأستاذ الإمام في الجمعية الخيرية.
ليسمح لي رجال الدين أن أكلمهم في صراحة، وليتعودوا أن يسمعوا النقد المرَّ في جرأة، فلا يكون إصلاح حتى تكون صراحة، وحتى تكون جرأة، وحتى نتبادل نحن وهم الشجاعة في القول، والإخلاص للحق؛ فليس شيء أحب إليّ من أن أرى رجال الدين جديرين بأن يتزعموا حركة الإصلاح الاجتماعي بعقلٍ واسع ودرايةٍ قوية؛ لأن الإصلاح الاجتماعي إذا جاء على أديهم كان له مزيتان كبيرتان: أولاهما: أنهم إذا تزعموا الحركة أمِنَّا قوة المعارضة. وثانيتهما: أن الشعب المصري والشرق على العموم شعب متدين، يلبي الدعوة الدينية بأسرع وأقوى مما يلبي الدعوة المدنية، فإذا جاء الإصلاح الاجتماعي من رجال الدين كان الشعب أسرع قبولًا، وأشد تحمسًا، وأقوى إخلاصًا؛ وقطع في سيره في سنة ما لم يقطعه في سنين.
ولكن لا يتم ذلك لرجال الدين حتى يأخذوا أنفسهم بتنفيذ برنامج شاق عسير ذي مراحل: منها أن يعلَموا علوم الدنيا — بجانب علوم الدين — علمًا واسعًا، فيكون لهم العلم الواسع بجغرافية البلاد وتاريخ الأمم، والطبيعة والكيمياء، حتى يستطيعوا إذا جلسوا مع المدنيين — إن صح هذا التعبير — أن يشعروهم بأنهم مساوون لهم في عقليتهم وتفكيرهم، ويزيدون عليهم في علمهم الديني ونزعتهم الروحانية. ومنها أن يفهموا الناس حتى يفهمهم الناس، ويؤقلموا أنفسهم حسب تطور الزمان، ويعرفوا شئون الدنيا كما يعرفون شئون الآخرة، ويعرفوا أحوال قومهم في دقيقها وجليلها كما يعرفون أحوال دينهم في دقيقها وجليلها، ويعرفوا نفسية الناس ونزعاتهم وتصرفاتهم حتى يحققوا ما في كتب بلاغتهم من أن لكل مقام مقالًا.
عند ذلك تتكسر الحواجز القائمة الآن في مصر والشرق، بين رجال الدين ورجال الدنيا، وتحس كل طائفة أنها جزء في جسم واحد متفاهمة متعاونة.
إني أشعر — مع الأسف — أن علماء الدنيا في مصر والشرق ينظرون إلى علماء الدين نظرتهم إلى رجال القرون الوسطى، أو نظرتهم إلى الآثار القديمة وتحف «العاديات»، وعلماء الدين ينظرون إلى علماء الدنيا نظرتهم إلى المارق من دينه، المجنون بأوروبا وعظمتها، الغافل عن مدنية المسلمين الأولين، المضيع لقوميته، المغرور بالقشر دون اللباب؛ وفي هذه الأنظار ضررٌ كبير على الأمة، وتمزيق لشملها وتفريق لوحدتها، وتعديد لعقليتها.
ولا يتم هذا الإصلاح في تكسير الحواجز إلا بما أشرت إليه وإلا باتحاد التعليم الابتدائي والثانوي لكل أفراد المتعلمين على السواء، وأن يكون التخصص في الدين كالتخصص في الرياضة والطب، لا يأتي إلا بعد المرحلة الثانية من التعليم الثانوي، فإن أراد رجال الدين أن يحتاطوا من قبل لمن يعدونهم في الدين، فليكن بزيادة المعلومات لا بنقصها.
وإذ ذاك — بعد كسر هذه الحواجز، والتقريب بين رجال الدين ورجال الدنيا، وعلماء الدين وعلماء الدنيا، وفهم بعضهم لبعض، وإجلال بعضهم لبعض — يستطيع رجال الدين أن يتزعموا الحركة الإصلاحية الاجتماعية، وأن يضعوا برنامجًا اجتماعيًّا مؤسسًا على الدين.
وإذ ذاك أيضًا يكون مجال الإصلاح الاجتماعي الديني أمامهم فسيحًا؛ فأمامهم تنظيم الإحسان، وقد وضع أساسه الإسلام، وأمامهم إصلاح الوقف، وفي إصلاحه تخفيف لكثير من الويلات، وأمامهم إصلاح الأُسَر بما وضع أساسه القرآن، وأمامهم تقويم المرأة وقد سارت وراء المرأة الأوروبية في زينتها ومباهجها، وليس في جدها وثقافتها، وأمامهم وضع خطط مُحكمة لتثقيف النشء والمتعلمين والأمِّيين ثقافة دينية عصرية تستخدم وسائل التربية الحديثة وأساليب المدنية الحديثة، إلى كثير من أمثال ذلك.
وليس هذا عليهم ببعيد، فقد قطع هذا الشوط كثير من رجال الدين المسيحي في أوروبا وأمريكا، وكان لهم في شئون الإصلاح الاجتماعي ونشر الثقافة الدينية مجال فسيح، وأثر عظيم.
•••
أرجو أن يتقبل رجال الدين هذا النقد بصدر رحب، وأن يستزيدوا منه، وأن تقوم أمة منهم تجهر بمثل هذه الآراء في الإصلاح والدعوة إلى تحقيق هذه الآمال، وأن يوقنوا أن لا باعث له إلا حب الخير لهم وللناس.
كما أرجو أن يكون ذلك قريبًا جدًّا، حتى إذا سألني مثل هذا السائل أنطقتني أعمالهم، وانطلق لساني في عد مآثرهم، ووجوه إصلاحهم. والله يوفقهم.