الهدمُ والبناء
إذا نحن أردنا أن نلخص تاريخ الإنسان منذ نشأته إلى اليوم وإلى الغد في كلمة، قلنا: إن كل أعماله تنحصر في الهدم والبناء، وإذا نحن أردنا مقياسًا بسيطًا سهلًا نقيس به الأفراد والأمم فما علينا إلا أن نجمع عمل الفرد أو الأمة في البناء ونطرح منه عملهما في الهدم فباقي الطرح هو مقياسهما. وإذا أردنا أن نوازن بين شخصين أو أمتين نظرنا إلى مقدار باقي الطرح في كليهما فما زاد فهو أرقى، وإذا أحببنا الدقة في التقدير لم نكتف بتقدير الكمية في البناء والهدم، بل حسبنا في ذلك نوع ما يبنى وما يهدم، فإن قيم البناء وقيم الهدم تختلف اختلافًا كبيرًا بحسب نوعهما وصفاتهما وكيفيتهما، كالذي نفعله في البناء الحسي، فلسنا نقدر البناء بحجمه ومساحته فقط، بل نقدره كذلك بنوع هندسته وما إلى ذلك من أمور لا تخفى.
وقد أكثر الكتاب من القول في البناء. فالوعاظ الدينيون ورجال الأخلاق المصلحون ونحوهم إنما يتكلمون في البناء ويحذرون من الهدم، فلنأخذ نحن الآن جانب الهدم فننيره، فكثيرًا ما يكون الهدم مقدمة البناء؛ بل ربما كان خير بناء ما سبقه الهدم التام.
فيمكننا أن نقول: إن الرذائل الخلقية من كذب وظلم، والجرائم القانونية من قتل وسرقة؛ لم تعدّ رذائل ولا جرائم إلا لأنها هدم، إما هدم لمرتكب الرذيلة والجريمة، وإما هدم للمعتدى عليه، وإما هدم لبناء المجتمع. ونحن إذا نظرنا للرذائل والجرائم من حيث هي هدم، أفادنا هذا النظر فائدة جديدة في تقويم الرذائل والجرائم، فما كان منها أشد هدمًا كان أكبر جرمًا؛ ولذلك كان القتل أفظع من السرقة؛ لأن القتل يهدم النفس والسرقة تهدم الملكية، وقد يؤدي بنا هذا النظر إلى تعديل في قائمة الرذائل والجرائم؛ فهل من المعقول مع هذا النظر أن تعد الحكومة مجرمة إذا حصلت من الأهالي مالًا لا تستحقه، ولا تعد مجرمة إذا لم تمد قرية بالماء الصحي مع علمها أنها تشرب سمًّا زعافًا يقضي على عدد كثير من الأرواح ويذهب في سبيله كثير من الضحايا؟ — ليس هذا من المعقول في شيء؛ لأننا إن أقررنا عملها قومنا حق الملكية بأكثر من حق الحياة، وعددنا هدم الملكية مقدمًا على هدم النفوس؛ وليس ذلك بحق، وأمثلة ذلك كثيرة.
بل إن هذا النظر يعدّل رأينا في العقوبة، فالعمل الذي يهدم أمة أشد مما يهدم شخصًا، والذي يعرض النظام أشد مما يعرض ملكية الفرد للخطر، والذي يسرق لأنه جائع؛ ولأنه يريد أن يبني لنفسه بجزء مما يهدم ملكية غيره أقل خطرًا ممن يسرق لداعي الطمع والشره، فيريد أن يزيد ثروته لهدم ثروة غيره، وهكذا.
وعلى كل حال فمن الممكن أن نقول: إن الجرائم في الأمة هي عمليات من عمليات الهدم وليست كل هدم.
فلنترك الآن الجرائم والعقوبات لرجال القانون؛ ولننظر لأعمال الهدم الأخرى في المجتمعات.
فهناك هدم مادي لكل أمة يجتاح مقدارًا كبيرًا من ثروتها، فحوادث الحريق حوادث هدم، والأمة التي لا تحتاط لها تترك أعمال الهدم والتخريب في ساحتها، وكذلك كل أعمال القوى الطبيعية العنيفة الهادمة كالسيل والفيضان العالي والصواعق والرياح والعواصف. وكلما كانت الأمة أرقى كانت أكثر احتياطًا وتوفيقًا في منع أعمال الهدم الطبيعية وتوقيها.
وهناك هدم سلبي ليس أقل خطرًا من الهدم الإيجابي، وأعني بالهدم السلبي عدم الإنتاج مع القدرة عليه، فالأمة التي تترك أرضًا واسعة من أراضيها بورًا قائمة بعمل الهدم السلبي، ومثل ذلك ما إذا كان لديها مناجم لا تستغلها أو قوى طبيعية لتوليد الكهرباء لا تستخدمها أو نحو ذلك؛ فكل هذه أعمال هدم سلبية لا فرق في الضرر والأضرار بينها وبين الهدم الإيجابي.
ومن هذا القبيل أن يكون في الأمة قوى كثيرة لا تنتج، فالعاطلون في الأمة قوة للهدم سلبية؛ لأنهم يأكلون ولا يعملون، ويستهلكون ولا ينتجون، ويأخذون ولا يعوضون — وأمثال هؤلاء الأغنياء الذي لا يعملون والذين يصرفون أوقاتهم في الكسل والخمر والميسر، فهؤلاء — من غير شك — هدامون لا بناءون مهما كانت ثروتهم.
والمرضى في كل أمة قوة هادمة، بقطع النظر عما إذا كانوا معذورين في مرضهم أو ليسوا معذورين، فهذا شيء آخر غير الحقيقة الثابتة وهو أنهم هدامون. نعم إن بعض المرضى قد مرضوا اختيارًا بتصرفاتهم من إفراط في (الكيوف) أو إهمال لقوانين الصحة، فهؤلاء هدامون مجرمون معًا، ومنهم من مرض رغم أنفه كمن أدركته الشيخوخة، أو مرض مرضًا لم يكن في وسعه أن يتجنبه، فهؤلاء هدامون لا مجرمون.
إن كان ذلك كذلك فما بالك بقوم صناعتهم في الأمة الهدم والتخريب، كتجار المخدرات والمحرضين على الفجور، فهؤلاء وأمثالهم هدمهم وتخريبهم مضاعف، هم يخربون أنفسهم وغيرهم، هم مدرسة سيئة تخرج الهدامين وتسلحهم.
فإذا نحن ارتقينا من الماديات إلى المعنويات رأينا الأمر على هذا المنوال.
فمن طرق الهدم أن تكون النظم الاجتماعية في أمة مضيعة لكفايات أفرادها؛ كأن تعطي المناصب لذوي الحسب والنسب، أو ذوي الملق والمداهنة، أو نحو ذلك، ثم تنحي عنها ذوي الكفايات ممن ليس لهم سلاح إلا علمهم وخلقهم؛ فهذا — من غير شك — عمل من أعمال التخريب المزدوج؛ لأن من شغلوا هذه المناصب لا يمكنهم أن ينتجوا لعجزهم الطبيعي؛ ولأن من أبعدوا عنها لا يمكنهم أن ينتجوا وقد حيل بينهم وبين الإنتاج.
ومن هذا القبيل ألاّ يكون للتعليم في الأمة ضابط، فلا إحصاء ولا توجيه، ولا دراسة لحاجات الأمة ومقدار انتفاعها بأنواع التعليم المختلفة. فالأمة التي يكثر فيها دراسو القانون كثرة تزيد عن الحاجة، ويقل فيها الزارعون والصانعون وهي إليهم في أشد الحاجة، أمة مخربة، والأمة التي لا تسمح نظمها باكتشاف ذوي الاستعدادات الممتازة فيها وتزويدهم بما يحقق نبوغهم واستغلال نبوغهم في خيرها، أمة مخربة، وهكذا.
وكذلك من أعمال الهدم في الأمة أن تسود فيها أنواع من الآداب والفنون تحطم الغرائز وتميت الشخصية، وتبيد الحيوية. فالآداب والفنون التي تنفث اليأس وتبعث على الانتحار أو الرعب، أو التي تثير الشهوات إلى أقصى حدودها حتى إذا انغمس فيها الإنسان لم يعد يصلح لعمل، أو التي تدفع إلى الحب المائع والأخلاق المنحلة، كلها آداب وفنون مخربة، هي معاول للهدم لا أدوات للبناء، وقل مثل ذلك في روايات السينما والتمثيل وأنواع الجرائد والمجلات التي من هذا القبيل.
فإن شئت مثالًا أوضح من هذا كله في أعمال الهدم فانظر إلى (العداوات) وما تجره من تخريب، وأعني بها العداوات بين الأفراد والأسر، والعداوات بين الطوائف والأحزاب، والعداوات بين الأمم، فأكثر هذه العداوات ليس لها غرض صحيح ترمي إليه؛ وترتقي العداوات صعدًا حتى تأتي بأفظع أنواع التخريب، تخريب في النفوس وفي الأموال وفي الأخلاق وفي الحضارة. فكم جرَّت العداوة بين الأفراد والأسر من سفك دماء وضياع أموال وضياع زمن في الانتقام، وضياع زمن المحامي في إحضار الدفاع والمرافعة، وضياع زمن القضاة في قراءة الملفات وسماع المرافعات وتحضير الأحكام؛ فكل من في المحكمة من خصوم وكتبة ومحامين وقضاة إنما يشتغلون في الهدم، فإن أحسنت الظن قلت: إن هدمهم في الحاضر يحفظ البناء في المستقبل.
وكم جرَّت عداوة الطوائف والأحزاب من ويلات وخراب، فكم كانت العداوات الدينية سببًا لخراب ممالك وخراب حضارات، وكم عاق حرب الأحزاب الأمم من البناء، فوجه كل حزب همه لهدم الحزب الآخر، وكم انصرفت الجهود الجبارة في عرقلة الحزب الآخر ولو أردت بالأمة، وكم كانت هذه الجهود تأتي بخير بناء لو وجهت كلها لخير الأمة.
فإذا نحن وصلنا إلى العداوة بين الأمم — إلى الحرب — فهناك الطامة الكبرى والتخريب الفظيع والموت المبيد والفناء الذريع. وقل ما شئت من الأوصاف المرعبة والنعوت المفزعة، فحسبك أن تقرأ ما قام به العلماء من إحصاء لما سببته حرب سنة ١٩١٤ من خسارة في النفس والأموال والأخلاق لتدرك صدق ما أقول.
بل إني لا أشك إن هذا الإحصاء ناقص؛ لأنهم يكتفون في الإحصاء بالخسارة الواقعة فعلًا، فما بالك لو أحصوا ما يحصل من الضرائب لتصرف في شئون الحرب حتى في أوقات السلم، وما يصرف من وقت الجند في الاستعداد، وتفكير رجال السياسة وأشياعهم في الاحتياط للحرب، وما يصيب الناس من فزع كلما ساءت الحالة الدولية، إلى كثير من أمثال ذلك. أليس كل هذا من أعمال الهدم والتخريب في العالم؟
قد يقولون: إنك تنظر في كل ما قلت إلى جانب واحد من جوانب المسألة، فتنظر إلى جانب الهدم في العداوات ولا تنظر إلى جانب البناء، فكم أفادت العداوة الشخصية، فحفزت النفوس، وشحذت العقول، وكم أفادت العداوات الحزبية من دراسات للمسائل وإظهار لعيوب السياسة وتوجيه الآخذين بزمام الحكم إلى وجهة صالحة، وكم أفادت الحروب من إذكاء روح الوطنية والمنافسة بين الأمم في التقدم، والمنافسة بين العلماء في الاختراع، إلى غير ذلك!
ولكني أقول: إني لم أنس كل هذا، ولكن السؤال الصحيح هو: هل ما بنت أكثر مما هدمت؟ وهل هذا البناء الذي بنت لا يمكن أن يتحقق إلا بهذه الوسائل الجهنمية؟ إن التاجر لا يكتفي بحساب ما دخل في مخازنه من السلع، بل لا بد أن يحسب ما أنفق في سبيلها من الثمن. وأظن، بل أؤكد، أن الثمن الذي ننفقه في هذه العداوات أكثر مما نربح، وما نهدم لها أكثر مما نبني، خصوصًا إذا آمنا بأن العقل البشري لم يعلن إفلاسه في إيجاد طرق شريفة للتنافس بين الأفراد والأحزاب والأمم، فنبني البناء الكثير بلا هدم أو بهدم قليل. وإلا فخبرني بربك: أي شيء في الوجود يساوي إفناء الملايين من الأرواح، وبث الفزع الهائل من حين إلى حين بين نفوس البشر، وتقطيع أكباد الأحياء حزنًا على من فقدوا من أبنائهم وأزواجهم، وما أصيبوا به في نفوسهم وأموالهم؟ أظن أن كل ما يطنطنون به من مخترعات — على فرض أنها لا تنتج إلا هذه الويلات — لا تساوي الدماء المسفوكة، والأنفس الكسيرة، والقلوب المحزونة.