سحر العيون …
من قديم والأشجار والأزهار والأطيار والنجوم، قد مدت خيوطها إلى قلب الإنسان فأسرته، فشعر شعورًا ساذجًا بجمال السماء والأرض وما فيهما.
ولكنه في عهده الأول قد شُغل بتحصيل القوت، والتغلب على البيئة القاسية، فلم يلتفت إلى الجمال إلا لمامًا؛ فلما غلبَ البيئة، وتيسرت له وسائل العيش وجَدَ من الزمن ما يكفي للتغزل في الطبيعة ومُناغاتها.
هام بالجمال وفتن به، وتفتح قلبه له؛ وهاجت عواطفه نحوه؛ فلم يكفه أن يرشف الجمال في صمت وسكون، بل دعته العاطفة الهائجة نحو الجمال أن يعبِّر عنها، فكانت الموسيقى والرقص والأغاني والحفر والتصوير، وكان الأدب — وبعبارة أدق كان نوع من الأدب — وعُدّتْ هذه كلها فنونًا جميلة؛ لأنها تعبر عن الجمال؛ ولأنها في ذاتها جميلة.
•••
شُغِف الإنسان بالحسن يتبعه، فوجده في الزهور، ووجده في البحار والأنهار، ووجده في الطبيعة على فطرتها، ووجده في الإنسان نفسه. وما أشك في أن الحب الذي كان بين آدم وحواء، كان منشؤه ما قرأ آدم في حواء من جمال الأنوثة وما قرأته حواء في آدم من جمال الرجولة!
كان الإنسان الأوّل ينظر إلى الجمال جملة، كما ينظر إلى العالم جملة، وإلى كل شيء جملة؛ فلما تقدم به الزمان، أخذ ينظر الأشياء تفصيلًا، وإلى الجمال كذلك تفصيلًا. وبعد أن كان يعجب بالطبيعة جملة، أخذ يُعجَب بالشمس — مثلًا — ثم أخذ يعجب بالشمس في شروقها وغروبها، ثم أخذ يعجب بالشمس تغرب في البحر، وهكذا.
•••
لعل أجمل الأحياء الإنسان، ولعل أجمل ما في الإنسان عيناه، فإذا كان لكل شيء خلاصة فخلاصة الإنسان عينه، هي مستودع سره، وهي النافذة التي يطل منها غيره على ما في أعماق نفسه، وهي الترجمان الذي يعبر أصدق تعبير عما يجول في نفسه من عواطف. تَعِد وتُوعِّد، وترغِّب وترهب، وترسل مرة شواظًا من نار، ومرة شآبيب من عطف وحنان، تقسو وترحم، وتُنعم وتؤلم، وتصل وتصد، وتقْبل وتَنفِر، وتَعجَب وتحتقر، وهي في كل موقف من هذه المواقف تتخذ لها وضعًا يناسبه، وشكلًا يوائمه؛ تتلون ولا تلون الحرباء، وتتشكل ولا تشكل الحسناء، في الأزياء. هي للمرأة أقوى سلاح، وفي روايات الحب أمهر لاعب، وفي مرسح الغزل أشهر ممثل، وفي ميدان الأدب أبرز جائل وصائل.
•••
وفي الحق أن لغتنا العربية من أكثر اللغات وفاءً للعين، واعترافًا بقيمتها، وتسجيلًا لدقيقها وجليلها. لقد وضعوا لكل جزء من أجزائها — مهما دق — اسمًا بل أسماء، لا أطيل بذكرها، ووضعوا بيانًا لما يستحسن في العين من الصفات، وسموًّا كل نوع من الجمال باسم، فقالوا: «عين ظمياء» إذا كانت رقيقة الجفن، و«عين نجلاء» إذا كان جمالها في سعتها، و«عين حوراء» إذا كان جمالها في شدة سوادها وشدة بياضها، و«عين دعجاء» إذا كان جمالها في لونها وسعتها معًا، إلى آخره.
ثم التفتوا إلى شيء دقيق جدًّا يغبطون عليه. وهو اختلاف النظرات، فعبروا عن كل نظرة بعبارة؛ فقالوا: «رنوت إليه» إذا أدمت النظر في سكون طرف، و«سارقته النظر» إذا نظرت إليه نظرًا خفيًّا، و«نظر شَزْرًا» إذا نظر إليه بمؤخر عينه نظر الغضبان، و«شفنه» إذا نظر إليه نظر المبغض أو المتعجب، و«أزلقه ببصره» إذا نظر إليه نظرة متسخط، و«رأيتهم يتقارضون النظر» أي: ينظر بعضهم إلى بعض نظرة عداء، إلى غير ذلك.
وكما غنيت اللغة بالعين وما يتصل بها، غنى بها الأدب كذلك؛ فمنذ طالَعَنا الأدب العربي، رأينا الشعراء يعجبون بالعين ويتغزلون فيها، من عهد امرئ القيس إذ يقول: «وعَيْنٍ كمرآةِ الصَّنَاع تُديرُها» — إلى حافظ إبراهيم إذ يقول:
وإلى ما شاء الله أن يكون من الشعراء.
•••
وكما كان الناس ينظرون إلى الجمال جملة، ثم أخذوا ينظرون إليه تفصيلًا، كذلك مؤلفو الأدب. كانت تآليفهم الأدبية شاملة لكل شيء، وكان عرضهم للجمال لا يقتصر على شيء دون شيء، ثم رأينا نزعة في التأليف جديدة ترمي إلى التخصص في الجمال، والتخصص في جمال شيء بعينه. فرأينا صلاح الدين بن أَيْبَكْ الصَّفَدِيّ يعجب بالخال ويفرد له تأليفًا يسميه «كشف الحال على وصف الخال»؛ ولم يكن موفقًا في هذه التسمية؛ بل كان قليل الذوق، فما يصح في باب الجمال أن يسمي شيء بكشف الحال.
وجاء شمس الدين النواجي ففتن بجمال العذار، وألّف في ذلك كتابًا سماه «خلع العذار في وصف العذار»؛ ولم يكن في هذه التسمية أكثر توفيقًا من صاحبه.
ولكن مؤلفًا ثالثًا جاء فغضب من هذين الاسمين النابيين، كما غضب من أن يلتفتا إلى الخال والعذار ويَغُضَّا من جمال العيون، فألف كتابًا في العيون سماه «سحر العيون»، فكان أكثر توفيقًا في الاسم والمسمى.
•••
من الأسف أني لم أعثر على اسم مؤلفه، ولكنه في ثنايا الكتاب يقول: «أنشدني صاحبنا الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر القادري المولود سنة ٨٢٤». فمؤلف الكتاب — إذًا — من أدباء القرن التاسع الهجري؛ والظاهر أنه مصري لأنه يروي لنا في ثنايا الكتاب أحداثًا مصرية، وأمثالًا عامية مصرية.
أراد في هذا الكتاب أن يذكر كل ما يتصل بالعيون، وأراد أن يكون في العيون طبيبًا، وفقيهًا، وأديبًا؛ وكان خيرًا له وللناس أن يكون أديبًا فقط؛ فما أحراه وقد خصص كتابه للعين، أن يخصص نفسه لأدب العين؛ فمن العسير أن يجمع إنسان بين المهارة في الطب، والمهارة في الأدب.
على كل حال كان في قسمه الأول طبيبًا، عرض للعين وشرّحها، ورسم لها صورة طريفة، ووضع في الصورة اسم كل طبقة من طبقاتها؛ وتكلم فيما يعرض من أمراضها، وما يلائم من الأدوية لعلاجها، حسبما عرف من ذلك في زمانه.
ثم انقلب فقيهًا، فذكر دية العين في المذاهب المختلفة. وكان لغويًّا، فذكر مادة العين، وإطلاقها واشتقاقها.
وأهم ما في الكتاب قسمه الأدبي، عرض في فصل منه ما وقع في الأدب من تشبيهات العين؛ فمنهم من شبهها بالسهم، وشبه فعلها بفعله، ومنهم من وصفها بالنبل، أو بالخنجر، أو بسنان الرمح، أو بالسيف، ومنهم من يشبهها بزهر الفول، ومنهم من يشبهها بالنرجس. وقد حكى لنا أن بعض الأدباء في زمنه اعترض على تشبيه العين بالنرجس لصفرة لونه، وقال: إن هذا لا يصح إلا أن تكون العين معلولة بعلة اليَرَقان. وأجاب بعضهم أن بالمشرق نوعًا من النرجس مكان الصفرة منه سواد، وهو الذي يصح التشبيه به، لا نرجس بلادنا. أما ابن رشيق فقال: إن وجه الشبه في تشبيه العيون بالنرجس هو الفتور لا اللون، كما قال ابن المعتز:
وهذا الفتور هو الذي يسمونه المرض، وهو مرض خير من ألف صحة، كما قال ابن عباد:
ثم ذكر فصلًا عرض فيه لما وقع في العين من التنكيت والأمثال.
وعرض لنا فصلًا بديعًا موضوعه اختلاف مواقف الناس أمام العيون؛ فمنهم من كان يعشق عين محبوبته، فسمع تشبيهًا للعيون بعيون الغزلان، فأكثر من شراء الغزلان وتربيتها وتوليدها، ومنهم من سمع قول ابن الرومي:
فكان لذلك يكثر من زرع النرجس في حديقته.
ومن الناس من أرْدَته النظرة الأولى، وقال:
ومنهم من كانت تحييه نظرة وتميته نظرة كالذي يقول:
ومنهم من عرته حالة غريبة، وهو أنه غار من عينيه أن تتمتعا وحدهما بالنظر إلى المحبوب فمنعهما النظر كالذي يقول:
ومنهم من كان يربأ أن ينظر بعينيه إلى عين من يحب؛ لأنه لا يستحق هذا الشرف. «قيل لبعضهم: أتحب أن ترى عيني محبوبك؟ قال: لا. قيل: ولم؟ قال: أنزّه عينيه عن عيون مثلي».
وبلغت الغيرة من ديك الجن الحِمْصي أن قتل جاريته وبكاها، فقال:
وهكذا عرض لحالات الناس المتفاوتة، وتصرفاتهم المختلفة إزاء الإعجاب بالعيون.
وانتقل من ذلك إلى «طيف الخيال»؛ لأنه رؤيا العين في المنام، فذكر ما أبدع فيه الشعراء من ذلك، وكيف تفننوا في معانيه، كالذي يقول:
وقول كُشاجم:
وانتقل من ذلك إلى ما تلاعب به الشعراء من الحوار بين القلب والعين، فالقلب يعتب على العين أنها جرَّت عليه الويل، والعين تعتب عليه أنه هو الذي دفعها إلى النظر بما أمَّل وطمع:
وختم الكتاب بباب طويل فيما ورد في العين من الشعر الرقيق مرتبًا على حروف المعجم. وذكر في أكثر ما اختار سنة مولد الشاعر ووفاته.
•••
ونلاحظ أن أكثر اختياره من الشعر الحديث الذي قيل في العصر العباسي الثاني وما بعده، كما نلاحظ أن كثيرًا مما اختاره في العيون لمعاصريه كان غزلًا في عيون الأتراك، فيقولون أحيانًا: «من الترك لم يترك بقلبي بقية»، وأحيانًا: «من آل خاقان له لفتة»، وأحيانًا: «من نسل يافثٍ نافثٍ» مما يدل على أن المصريين أعجبوا بعيون الأتراك، وكانوا إذ ذاك هم الحكام، وقصورهم ملأى بالمماليك منهم.
وبعد فهذا الكتاب معرض فني من أغنى المعارض، وهو معرض ليس فيه — على سعته وكثرة ما يعرض فيه — إلا العيون وأشكالها ونظراتها، لو وقع في يد فَنّان صَنَاع، لأبدع في تصويره أيما إبداع، وكم في كنوز السلف من روائع!