يوم في القاهرة
كان الناس قديمًا يتشاءمون من نعيب البوم ونعيق الغراب، فحق لهم اليوم أن يجددوا فيتشاءموا من نعيق صفارات الإنذار. وأين البوم والغراب من صفارات الإنذار؟ لقد كان نعيب البوم نذيرًا بخراب بيت أو موت فرد، وكان نعيق الغراب نذيرًا بفراق حبيب أو رحيل قوم. أما صفارات الإنذار فنذير بحصد أرواح أو دك بنايات أو نسف ذخائر!
ومن الواجب أن يساير الأديب حالة الناس، فيشتق منها أدبه، ويجدد تشبيهاته واستعاراته، ويستعير منها خيالاته، وكما في مناظر الحرب من صور رائعة تهيج عواطف الأديب، وتحرك شاعرية الشاعر، وتمد قلم الناثر.
والناس مولعون — وخاصة في أيام الحرب — أن يقرءوا أخبار يومهم لا أخبار أمسهم، وأدب زمانهم لا أدب ما بَعُدَ من تاريخهم، ويجدون غذاءهم فيما يصور عواطفهم وخلجات نفوسهم ومناحي حياتهم وما يأتلف مع ظروفهم.
لقد أتتنا هذه الحرب بطائفة من الألفاظ والتعبيرات، كالتابور الخامس والدبابات والهابطات والكمامات وما إلى ذلك؛ وأتتنا بضروب من الأحداث الاجتماعية وصنوف من النكبات في الأنفس والأموال والثمرات، واضطربت نظم الحياة اليومية والسياسية والاقتصادية؛ فما أحرى ذلك كله أن يكون غذاءً صالحًا للأديب يستمد منه، ويعرض له، ويصدر عنه.
يجب أن يكون الفرق بين الأدب القديم والحديث كالفرق بين آلات القتال القديمة والحديثة، والنظم السياسية القديمة والحديثة، والحياة الاجتماعية القديمة والحديثة؛ لأن الأدب ليس إلا تصويرًا لحياة يرقى برقيها ويتلون بألوانها.
•••
على كل حال نعقت صفارات الإنذار لأول مرة في القاهرة أول أمس في الساعة الثانية صباحًا، وكانت هذه المرة جِدًّا بعد أن سمعناها مرات لَعِبًا، فهبَّ كل من في «العمارة» من نومهم، والظلام سائد، فجعلوا يتحسسون السلم حتى وجدوه ونزلوا ذاهلين؛ هذا يجر أولادَه، وهذا يجر أولادُه، وهذه تقود أمها، حتى اجتمعوا في «البدروم»، فانتحى النساء ناحية، وانتحى الرجال ناحية، وأخذوا يتحدثون، فكان من ذلك كله معرض أمزجة.
هذا فلان قد غلبه الخوف فسكت ولم ينبس بكلمة، ولم يشترك مع القوم في قليل ولا كثير، كان نائمًا حالمًا، فصار نائمًا ساهمًا واجمًا.
وهذا فلان الذي يرى الدنيا كلها نكتة، ويرى في كل شيء جانبه المضحك، ويستخرج منه الفكاهة اللطيفة، لم يفارقه في موقفه هذا مزاجه الخاص، فأخذ يقص على الناس كيف نبهته زوجته لصفارة الخطر، وكيف ألح عليها أن تتركه لينام، وألحت عليه أن يستيقظ، ويحكي ما دار بينهما من حوار، وأنه يريد أن يموت نائمًا ولا يريد أن ينجو مستيقظًا، وأنها تريده حيًّا لنفسها ولأولادها لا له، وأخيرًا نزل على رأيها فنزلوا إلى المخبأ؛ يمثل ذلك كله ويضحك فيتابعه بعض الحاضرين في ضحكه، وهكذا هو معين مرح لا ينضب، يشع على من حوله الطمأنينة والسرور حتى في أشد الأوقات حرجًا، يخيل إليّ أنه سيموت يوم يموت من الضحك، وأنه إذا شاهد عزرائيل مزح معه وبادله نكتة بنكتة.
وهذا فلان المحال على المعاش تحوّل رعبه إلى عاطفة دينية حادة، فهو يسبّح ويحوقل، ويتلو: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا — أينما تكونوا يدركْكم الموت ولو كنتم في بروجٍ مُشيَّدة — وأفوض أمري إلى الله — وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم» إلى غير ذلك من آيات في هذا الموضوع.
وآخران جلسا يستعرضان السياسة، أخبار صلح فرنسا مع ألمانيا، والأسطول الفرنسي وأثره، وهتلر ومقاصده، وموقف مصر من إنجلترا، وموقفها من إيطاليا، والوزارة الحاضرة وأخبارها، وماذا تكسب إيطاليا من هذه الغارة … إلخ.
وفي الجانب الآخر نساء العمارة وأطفالهن، فأما الأطفال فكانوا صورة صادقة من آبائهم، منهم من يصرخ، ومنهم من «يلبد» في حضن أمه، ومنهم من ينام كأن لا شيء؛ ودخل النساء في حديث مشترك ذهب مذاهب شتى في وجوب الهجرة من القاهرة، وكل تحدث بما عزمت عليه، وكيف انتبهت من النوم وأيقظت أولادها، ثم الدنيا ومصائبها، وكيف لم يعد فيها راحة.
وفيما كان الرجال والنساء في هذه الأحاديث المتشعبة والفنون المختلفة، إذا بصوت المدافع تطلق، والانفجار يدوِّي، فتعقد الألسنة ويسود الوجوم، ويسكت الناس، وتنبح الكلاب؛ ويلتفت بعض الحاضرين إلى سقف المخبأ هل هو متين؟ ماذا يكون شأنه لو دك ما فوقه؟ وإلى المنافذ، هل يحسن أن تبقى هكذا مفتوحة؟ هذه عملية العين؛ وأما الأذن فقد أرهفت لصوت القنابل، وما مقدار المسافة بيننا وبينها؟ هل هي آخذة في القرب منا أو في البعد عنا؛ ثم بدأت الألسنة تتحرك في تثاقل:
– هل اشتريت يا أخي كمامات؟
– لا والله.
– إنّا لم نسمع في هذه الحرب باستعمال الأعداء للغازات الخانقة حتى نحرص عليها.
– ولكنهم قد لا يستعملونها في الغرب؛ لأنها عرفت وعرف علاجها، واستعد لها الناس هناك، أما في الشرق فقد تستعمل فمن الواجب الاحتياط لها.
– سأنظر.
– متى تذهب إلى «الفلاحين»؟
– لا أنوي.
– لماذا؟
– لأني أرى الموت بالقنابل أفضل من الموت بالميكروبات.
– يمكنك أن تتقي الميكروبات بالتطعيم وغلي الماء وما إلى ذلك، ولكن لا يمكنك أن تتقي القنابل.
– الرب واحد والعمر واحد.
– إن مصيبة العمر أنه واحد، فلو كان اثنين لتشجعنا في واحد وجبنَّا في واحد (تبسم خفيف مشوب بمرارة).
سكتت القنابل وطال الانتظار، وفرغ الناس من الكلام، وبدأ النعاس — لا أقول: يداعب أعينهم فليس الوقت وقت مداعبة — ولكنه بدأ يغزو أعينهم، وانسللت من بين القوم إلى مضجعي فنمت، ولم أصح إلا على صفارة الأمان.
•••
وتلهفت على موعد الإذاعة اللاسلكية أستوضحها علم ما كان ليلة أمس، فكأنها أيضًا أصابها الإغفاء من طول ما أرقت، فمر موعد إذاعة الأخبار في صمت عميق كأنه صمت القبور؛ وانتظرت موعد بائع الجرائد أيضًا، فكأَنه تآمر مع محطة الإذاعة على كتم الأسرار، فنزلت واشتريتها، فرأيتها تأتي بما أعلم، ولا تذكر شيئًا عما لا أعلم، وكان المتكلم الوحيد الذي يأتيني بالأخبار هو الإشاعات المتضاربة المبالغة. ووقفت انتظر الترام فإذا بجانبي طائفة من باعة الجرائد، يفسر أحدهم هذه الغارات بالغريزة والإلهام، لا بالعقل والمنطق، ويرد عليه آخر فيصفعه ويجري.
وأذهب إلى مجتمع من الناس لعمل من الأعمال، فأسمع أحاديث طلية عن ليلة أمس: هذا رعب بيته وتشنجت بنته، وهذا فتح الشباك لينظر هو وزوجه إلى الطيارة وقد حبستها الأنوار الكشافة فكان منظرًا جميلًا في القمر الجميل! إلى كثير من ألوان الحديث المختلفة.
•••
وضرب الناس في الأرض وعادوا سيرتهم الأولى، حتى إذا جاء المساء وفرغنا من عملنا جلسنا إلى مقهى في رفقة من الأصدقاء، وأتى الغلام:
– نعم!
بطيخ — خشاف — لبن زبادي — «سندوتش» — «شيشة».
الجو طلق، والهواء جميل، والسماء صافية، والقمر مضيء، وأتى الفتى بكل ما طلبنا.
فأخذ هذا يكركر شيشته، وهذا يجيل الملعقة في خشافه، وذلك يعمل الشوكة والسكين في بطيخه؛ وإذا بصفارة الإنذار تنعق، فترك كلٌّ ما هو فيه، هرع إلى المقهى، وأطفئت الأنوار، وأغلقت الأبواب، ولم يدر كلٌّ منا أين أصحابه، فتفرقنا حيثما اتفق، وجلست بجانب من لم أعرفهم؛ ففي الجانب الأيمن نكتة لطيفة ضج لها الحاضرون بالضحك، وقام ضحكهم اليوم مقام قنابل أمس، والمصريون لا تفارقهم النكات، حتى في أحرج الأوقات؛ وفي الجانب الأيسر طائفة أكثر جدًّا وهَمًّا، يذكرون ما عسى أن يكون أهلهم وأولادهم في بيوتهم، وماذا عسى أن يتخيل أهلهم وأولادهم فيهم الآن، ويتبادلون هذه الخيالات، وينادي أحدهم من ركن المقهى: يا دكتور، اجلس بجانبي، فإذا جد الجد أسعفتني!
ولم يطل زمن الغارة، فصفرت صفارة الأمن لتمحو ما فعلت أختها صفارة الإنذار، وأسرع الناس إلى أهلهم يطمئنون على حياتهم ويطمئنونهم بحياتهم.
وأصبحت فأخذت القطار لشأن من الشئون، وتوقعت أن يكون الزمن مملًّا، فقطعته بكتابة هذا الحديث الممل.