قانون الرّحَّالة
منذ نحو ألف عام نبغ في بيت المقدس عالمٌ جليل اسمه أبو عبد الله محمد بن أحمد المقدسي، نظر فرأى أن العلماء قد سبقوه في اختراع العلوم وترتيبها، ثم خلف من بعدهم خلفٌ شرحوا ما دونوا، واختصروا ما طولوا، فعز عليه ألا يبتكر كما ابتكروا، وألا ينفرد بشيء كما انفردوا، وعاف أن يكون صدًى لغيره، يجمع ما فرقوا، أو يفرق ما جمعوا، فأخذ يستعرض جوانب نقصهم حتى يكملها، ونواحي أغفلوها حتى يبتكرها. قال: «فرأيت أن أقصد علمًا أغفلوه، وأتفرد بفن لم يذكروه»، ذلك أنه رأى المملكة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لم توصف وصفًا كافيًا شافيًا، لا من ناحية جغرافيتها، من مفاوز وبحار، وبحيرات وأنهار، ومدن وأمصار، ونبات وحيوان، ولا من ناحيتها الاجتماعية «من اختلاف أهل البلدان في كلامهم وأصواتهم، وألسنتهم وألوانهم، ومذاهبهم، ومكاييلهم وموازينهم، ونقودهم وصروفهم، وصفة طعامهم وشرابهم، ومعرفة مفاخرهم وعيوبهم، ومعادن السعة والخصب، ومواضع الضيق والجدب».
ورأى — كما قال — أن ذلك علم لا بد منه للتاجر والمسافر، والملوك والكبراء والقضاة والفقهاء.
نعم قد اتجه بعض العلماء قبله إلى هذا الباب، ولكنه رأى أنهم قصروا وما أنصفوا، فمنهم من نقل في كتبه ما سمع من أفواه الناس واكتفى بذلك، ومنهم من اقتصر على المصوَّر الجغرافي وشرحه، ومنهم من اقتصر على ذكر المدن المشهورة.
وعلى كل حال فقد استعرض كل ما ألَّف قبله في هذا العلم فلم يرتضه.
فانتدب مؤلفنا نفسه لهذه المهمة، وإكمال هذا النقص، وإحراز قصب السبق، ورسم لنفسه خطة محكمة أتم إحكام، دقيقة أكمل دقة، حتى ليصح — بحق — أن تعد «قانون الرحالة»، فهو يقول: «إني أسست هذا الكتاب على قواعد محكمة وأسندته بدعائم قوية»؛ ولكن ما هي هذه القواعد المحكمة التي وضعها؟
فأول كل شيء قرر أن يرحل إلى الأقطار الإسلامية ويشاهدها بنفسه ففعل، فإذا دخل بلدة درسها أتم درس، وعلى حد تعبيره «ذاق هواءها، ووزن ماءَها، ولقي علماءَها، وخدم ملوكها، وجالس القضاة والفقهاء، واختلف إلى الأدباء والقراء، وخالط الزهاد والمتصوفين، وحضر مجالس القصاصين، وتاجر فيها، وعاشر أهلها، ومسح إقليمها، ودار على تخومها، وفتش عن مذاهب سكانها، ودقق النظر في ألسنتهم وألوانهم».
هذا برنامجه فيما شاهده. أما ما لم يشاهده فبرنامجه فيه «أن يسأل ذوي العقول من الناس، ومن لم يعرف بالغفلة والالتباس، وأن يسأل عن الشيء الواحد جماعة مختلفة؛ فما اتفقوا عليه أثبته، وما اختلفوا فيه نبذه، وما حكوه ولم يقبله عقله أسنده إلى من وراءه أو قال فيه «زعموا».
وهذا منتهى الصدق والإنصاف، والدقة والتحري.
ورسمنا حدودها وخططها وحررنا طرقها المعروفة بالحمرة، وجعلنا رمالها الذهبية بالصفرة وبحارها المِلْحة بالخضرة، وأنهارها المعروفة بالزرقة، وجبالها المشهورة بالغبرة، ليقرب الوصف إلى الأفهام، ويقف عليه الخاص والعام.
غير أن هذه الخرائط — مع الأسف — لم تصل إلينا مع كتابه.
وقال في موضع آخر: لم أر أطمع من أهل مكة، ولا أفقه من أهل يثرب، ولا أعف من أهل بيت المقدس، ولا آدب من أهل هَرَاة، ولا أذهن من أهل الري … ولا أصح موازين من أهل الكوفة، ولا أحسن من أهل حمص وبخارى، ولا أحسن لحًى من الديلم، ولا أشرب للخمور من أهل بعلبك ومصر، إلخ … فإن سأل سائل: أي البلدان أطيب؟ نظر، فإن كان يطلب الدارين، قيل له: بيت المقدس، وإن كان يطلب النعمة والحيازة والرخص والفواكه، قيل له: كل بلد أجزاك، وإلا فعليك بخمسة أمصار: دمشق، والبصرة، والري، وبخارى، وبلخ. ومن أراد التجارة فعليه بعدن أو عُمَان أو مصر».
وقال في موضع ثالث: «واعلم أن بغداد كانت جليلة في القديم، وقد تداعت الآن للخراب، واختلت وذهب بهاؤها، ولم أستطبها ولا أعجبت بها، وإن مدحناها فللمتعارف. وفسطاط مصر اليوم كبغداد في القديم، ولا أعلم في الإسلام بلدًا أجل منه» إلخ.
ولما جاء مصر في رحلته أعجب بالفسطاط، وقال: إنه لم ير في الأمصار آهل منه، وأعجب بما فيه من كثرة العلماء، وقال: ليس في الإسلام أكبر مجالس من جامعه (جامع عمرو) وقد سرّته أطعمته وحلواه، وكثرة بقوله وفواكهه، وأعجبته نغمة أهله بالقرآن، ودهش من كثرة المراكب في النيل، ومن كثرة المصلين في المساجد، ولكنه لم تعجبه كثرة البراغيث بها، وانتقد عدم عناية المصريين بالنظافة، وازدحام مساكنهم بالسكان، وكثرة الكلاب فيها، كما انتقد شرب الخمور، وانتشار الفجور، وكثرة السباب.
وحدثنا أن أهل الشام يعيبون على أهل مصر ثلاثة: «أن مطرهم الندى، وطيرهم الحدا، وكلامهم رخو مثل النسا».
•••
وأيَّا ما كان فقد نخالفه ويخالفه المحدَثون فيما وصف من مزايا الأقاليم وعيوبها، ولكن عذره أنه وصف ما شاهد، كما وصف أثر هذه المشاهد في نفسه، وقد يكون اختلاف رأينا عن رأيه اختلاف زمان، فزماننا قد تغيرت فيه الأوضاع والأوصاف عما كانت في زمنه، وألف سنة ليست بالقليلة في تغيير الشعوب.
وعلى كلٍ فأهم ما للرجل برنامجه الدقيق الذي وضعه والتزمه، ولا يزال إلى الآن في نظري المثل الأعلى للرحالة، وقل أن يفوقه فيه الرُّحَّال المحدثون. فمن منهم يفعل ما يفعل؟ فيبيع في الأسواق ليعرف الحالة التجارية للبلاد التي رحل إليها، ويخدم ليعرف حال القصور، ودخائل البيوت، ويخالط التجار ويأكل مآكلهم ليتعرف عاداتهم، ويتشكل — كما قال — بكل الأشكال إلى الكدية؟
اللهم إن هذا — في بابه — لعظيم!