من وحيِ البحر أيضًا
من نهاية «اللسان» في «رأس البر» جلست أرقب اللانهاية في البحر.
كان الوقت وقت غروب الشمس.
ولا أدري لماذا كلما رأيت غروب الشمس في البحر، وددت لو خليت جسمي، وحللت بنفسي في ملك ذي أجنحة، أو طائر قوي يصل بي إلى حيث هذا المنظر بشمسه وشفقه، فأحتضنه وأتحد به، وأفنى فيه كما يفنى الفراش في النار، وأشعر بشعوره معنى الأزلية والأبدية، وأشهد في مرآته أحداث الزمان، وتقلبات العصور.
إيه هذا المنظر! لقد شهدت خلق آدم، وحوار إبليس، وشهدت الإنسان الأول في سذاجته، ومغاراته وكهوفه، وشهدت كل خطوة يخطوها في تقدمه، فيعثر أحيانًا، ويهتدي بعد أن يلجّ به العثار أحيانًا، وشهدته يبني الحضارة ويهدمها ليبني خيرًا منها، شهدت المدن تتكون شيئًا فشيئًا، وتشاد عليها الحضارات شيئًا فشيئًا، شهدت الأهرام وهي تبنى، ورمسيس وهو يحكم، وبابليون وهي تنشأ، وشهدت ميلاد كل مدينة، وموت كل مدينة، ونظرت إلى العلم وهو في مهده، والفلسفة وهي في بدئها، ثم ريعانها، وشهدت كل الأحداث على هذه الهنة الصغيرة التي تسمى «الأرض»، ولم تكن كل هذه المشاهدات إلا في لحظاتك الخيرة من عمرك الطويل الأزلي؛ هزأت بها كلها لأنك شاهدتها وليدة صغيرة، فلم توقرها كبيرة، شهدتها كلها وأنت شيخ هرم، فماذا رأيت في صباك وشبابك وكهولتك إذا كان كل هذا قد رأيته في لحظة من شيخوختك، على أنك ما شخت وما هرمت، فأنت في شيخوختك أنت في صبوتك، وأنت في شبابك لم ينل منك كرّ الغداة ومرّ العشيَّ؛ لأنك أنت فاعل الغداة، وفاعل العشيَّ.
وعلى الجملة لم يكن تاريخ الإنسان إلا جزءًا هينًا من تاريخك، بل ما تاريخ الأرض كلها منذ بدء تكوينها إلى اليوم إلا خطفة البرق من حياتك الطويلة، وما الأرض والإنسان إلا لون واحد من ألوانك التي لا عداد لها، ومنحة من منحك التي لا تحصى، وفوق هذا وذاك، سبحان ربي وربك.
•••
هذا الإنسان المتناهي يعجب بهذا البحر اللامتناهي، وهذا الأفق اللامتناهي أيضًا، ولكن. لا، ليس الإنسان متناهيًا محدودًا، فإن تناهى طوله وعرضه وحُدَّ مدى بصره، فله الخيال الذي لا يتناهى، والذي يطابق الأفق والبحر والسماء وما إلى ذلك مما لا يتناهى، بل قد يلف الخيال كل هذه الأشياء، ولا يزال فضفاضًا واسعًا يسع أمثالها وأمثالًا من أمثالها.
وفي هذا الجسم المحدود نفس لا محدودة، أعمق من هذا البحر، وأرفع من هذه السماء، وأغمض مما وراء هذا الأفق، وأعجب مما يقع عليه البصر أو يحيط به الخيال، تهيج كما يهيج هذا البحر، وتهدأ كما يهدأ، وتحوي الدرر والأصداف كما يحوي، وتتكسر موجاتها كما تتكسر موجاته، وترغى وتزبد كما يرغى ويزبد، وتطالعك بالجمال والعنف كما يطالعك بالجمال والعنف، وهي في كلياتها أزلية أبدية أكثر مما هو أزلي وأبدي، وعزت شمائلها وخصائصها على العلم أكثر مما عز، فلما توافقا في هذه الصفات تآلفا.
•••
غريبة هي اللغة، لم تعبأ بالعظم والسعة، ولم تعبأ بامتداد اللانهاية، فأرادت أن تنتقم من هذه السعة وهذه اللانهاية، فاختزلت اللفظ الدال عليها اختزالًا، طوّلت ومططت في الحرباء — مثلًا — وهي الدويبة الحقيرة ومنحتها خمسة حروف كاملة، ومدت كلمتها مدًّا لا يتناسب وخلقتها، وأتت إلى الممدود بطبيعته فقصرته، هذا البحر الفسيح إلى أبعد مدى، العميق إلى أبعد مدى، المملوء بالأعاجيب إلى أبعد مدى، ضنت عليه بألفاظها وامتدادها، فوضعت له كلمة مجزوءة مخطوفة من ثلاثة حروف فقط، وهكذا فعلت في «النفس» العميقة إلى ما لا نهاية، المتقلبة الأشكال والألوان إلى ما لا نهاية، وقل مثل ذلك في العقل والأفق وغير ذلك.
لا. لا، إنها كانت ماهرة كل المهارة، فأما ما حصرته فسمته في سهولة ويسر، وأما ما لم تحصره، فلم تقف أمامه طويلًا تقيسه وتقدره وتعيا بتسميته، فليس لها من الزمن والفراغ ما يمكنها من القياس والتقدير، وإنما وضعت بطاقة صغيرة على جزء منه صغير ليدل صغيره على كبيره، وجزؤه على كله، كما يفعل المؤلف في عنوان الكتاب، أو كما يفعل التاجر في إلصاق بطاقة باسم البضاعة ونوعها على ثوب من الصوف، طويل ملفوف، ثم جاء الخيال فارتبط بالكلمة وأكمل نقصها وقوى عجزها ومد قصرها.
•••
في حضرة اللانهاية ومناظرها يشعر الإنسان بالتسامي والرقي، ويشعر بلذة التغير من حياة مادية كلها أكل وشرب وشهوات، وتشع عليه اللانهاية من نفسها فيحن إلى اللامادية، ويسبح في التجرد، ويحتقر ما هو متقلب فيه أثناء حياته اليومية، وتلمع في نفسه لمعات برق مضيئة يود لو طالت، ولكنها لا تطول، فسرعان ما تجذبه أرضيته إلى الأرض، وماديته إلى المادة.
في هذه المواقف تتحرك العاطفة الدينية، فهذه اللانهاية الصغرى تذكر الإنسان باللانهاية الكبرى، وهذه الأزلية الأبدية المحدودة نوعًا ما، تذكر بالأزلية الأبدية المطلقة، وهذه ضعة الإنسان أمام جلال البحر والشمس والأفق وما إليها، تذكره بضعة هذه كلها أمام خالقها، وتجرُّد النفس أمام هذه المناظر يطمعها في الخلود، على حين أن انغماسها في المادة يبعث فيها الشره؛ لتنعم أكثر ما يمكن من النعيم قبل أن يدركها الموت، ثم هذا الغموض في هذه المناظر يذكرنا بالموضوعات الدينية التي دقت عن الفكر وسبح فيها الخيال، كالنعيم المقيم، والعذاب الدائم، والجنة والنار، واللوح والكرسي والعرش، وما إلى ذلك.
أمام هذه المناظر الجليلة، والمناظر الجميلة، والمناظر اللانهائية، تنبعث صرخة من أعماق القلب: «هنا موضع سجود».
تذكرنا بهذه اللانهاية كل حواسنا، فنشعر بها في رؤيتنا للسماء ولمعان نجومها، والبحر وتكسرات أمواجه المتتابعة المتلاصقة، ونشعر بها عند دقات الساعة في سكون الليل، وفي الموسيقى الجميلة السامية العلوية، وندركها في حضرة الله في الصلاة الحقة، ونحسها في رؤية الموت.
وهي في كل أشكالها وأوضاعها رهيبة، لا يأنس إليها إلا من مرن عليها، وحاول خوض غمارها ثم ارتد، وما زال بها حتى آنسها وأنس بها؛ وهي رهيبة لأنها مجهولة، والمجهول مخيف، وهي عظيمة والعظيم مرهوب، وهي غامضة والغموض ظلام، والظلام مرعب؛ وهي جليلة لأنها تشعر الإنسان بحقارته، وبقصر عمره في جانب طول عمرها، وبضعفه بجانب قوتها.
لذلك هرب الإنسان من اللانهاية إلى التحديد، فسكن إلى المنزل؛ لأنه يأويه من الفضاء، وأنس بالمسجد يحدد شيوعه ويحصر شروده، وحصر نفسه في دوائر محدودة فرارًا من اللامحدودة، حتى في عقله قد حكمه بالتعريفات؛ لئلا يسبح في الخيال، وجسّم المعاني، تمسك بالعادات والشعائر والتقاليد هربًا من اللامحدود واستئناسًا بالمحدود.
•••
فإذا نعمنا بك أيها الفضاء، وأيتها السماء، وأيها البحر في تموجاته، وأيها الأفق بحمرته، وأيتها الشمس في دمائها، فلذة التغير، ولذة إلى حين، ثم نعود سيرتنا الأولى نعيش في الحدود، ونبحث عن الحدود، ونألف الحدود.
•••
وعرف صغاري مكاني، فأتوا إليَّ يدعونني أن أريهم «مدينة الملاهي»، فشعرت بما يشعر به من كان في ماء ساخن ثم انغمس في ماء بارد.