لو انتصر المسلمون!
وفي سنة ٧٣١م كان عبد الرحمن يسيطر على كل الجانب الغربي الجنوبي لأوروبا، ويهدد سائر فرنسا وما وراءها، ويقود جيشه في ظفر يتلوه ظفر، هازمًا ما يقابله من جيوش في سهولة ويسر، فاتحًا ما يلاقيه من المدن، محوّلًا ما يجده من كنائس، لا يقف أمامه شيء، ناشرًا تعاليم «محمد»، حتى وصل إلى أبواب «تور» على بعد مئة وثلاثين ميلًا فقط من باريس.
ثم لقيه «شارل مارتل» بجيش قليل من محاربين جرمانيين جبابرة، فتقاتل الجيشان لا ساعةً من نهار ولا نهارًا كاملًا، ولكن ستة أيام قتالًا شديدًا مستعرًا، كان يبدو فيها عبد الرحمن منتصرًا، ولكن في اليوم السابع تحولت دفة الحرب في صالح «شارل» وقُتل عبد الرحمن وهُزم جيشه، وكر راجعًا إلى الأندلس.
فلو أن «عبد الرحمن» انتصر، كما كانت تدل عليه كل الظواهر، ولم يوفق «شارل مارتل» إلى صده، لتم فتح العرب فرنسا وأوغلوا بعدها في ألمانيا وإيطاليا، وما كان يقف في سبيلهم شيء ولا إنجلترا وإيرلندا.
وماذا — إذًا — لو تم ذلك؟
لو تم ذلك لكانت أوروبا اليوم كلها مسلمة، تُدَوِّي أصوات المؤذنين فوق مآذنها، وتحرّم الخمر والميسر والخنزير، وتسودها كل شعائر الإسلام.
ثم يتساءل الكاتب في مكر ودهاء: «هل كانت أوروبا الآن تصبح متأخرة في مدنيتها وتقف فيها موقف العالم العربي الآن؟»
يجيب عن ذلك بأنه «من المرجح ألا يكون ذلك، فقد بلغت الأندلس في عهد المسلمين منزلة رفيعة من الثقافة، ولئن كان المسيحيون يصبحون مسلمين إذا انتصر «عبد الرحمن»، فإن العلم — إذ ذاك — لم يكن يذبل؛ لأنه أزْهرَ في الأندلس المسلمة، وكان العقل الغربي والنبوغ الآري يشق طريقه في مناحي العلم المختلفة، ولكن كان التفكير الغربي يضعفه التأمل الشرقي، وما كان يوجد المفكر الحر، لفقدان التسامح عند المسلمين، وما كان يرقى التصوير ولا الحفر؛ لأن القرآن يعدهما من ضروب الوثنية. وكانت المرأة الغربية تصبح كالمرأة الشرقية. وما كانت تستكشف أمريكا لعدة قرون، وإن استكشفت بالمصادفة أو البحث لكان مصيرها مصير أوروبا».
حرك هذا المقال عقلي، وأثار شجوني، وأطار خيالي.
ماذا كان يكون شأن العالم الآن لو انتصر المسلمون في وقعة «تور»، وتحقق ما توقعه الكاتب من فتح المسلمين أوروبا كلها وتديّنها بالدين الإسلامي؟ وماذا كان يكون موقف المدنية الحديثة الآن؟
الحكم على ذلك في منتهى الصعوبة؛ لأن أحداث التاريخ وتقلبات الأوضاع الاجتماعية تخضع لآلاف الآلاف من المؤثرات، وبعض هذه المؤثرات في غاية الخفاء وغاية التعقيد. هذا إذا كانت الأحداث بين أيدينا وتحت سمعنا وبصرنا، فكيف إذا فرضناها فرضًا وتخيلناها خيالًا؟ اعتبر ذلك بما هو حادث اليوم في العالم، فكل المقدمات ماثلة أمامنا، ومع هذا يختلف رجال التاريخ والسياسية والاقتصاد والاجتماع العالمون ببواطن الأمور؛ هل تؤذن هذه المقدمات بحرب شعواء عاجلة تأكل الأخضر واليابس، أو لا تؤذن بحرب، وستنفرج الأزمات ويسود السلام على الأقل عهدًا طويلًا؟ إن كان ذلك والشواهد ماثلة والأدلة حاضرة، فكيف بشئون عالم سحيق في القدم، غير معروفة جميع ظروفه وأحواله، نفرض فيها النتائج كما نفرض المقدمات، ونتخيل ما يحدث قبل أن يحدث، ومع هذا فنحاول الإجابة، ولنقس ما لم يكن على ما كان.
•••
لقد جرى المسلمون والمسيحيون شوطًا في السباق، والتقيا في أثنار الطريق، وإن لم يلتقيا في البدء؛ فقد بدأ المسيحيون شوطهم قبل المسلمين بأكثر من ستة قرون حتى جاء الإسلام، فبدأ سيره وجرى طلَقا يفتح ويدعو ويؤسس مدنية ويعدّل مدنيَّة حتى حاذى النصرانية وجرى بجانبها، فماذا كان بعد ثلاثة قرون من الإسلام وتسعة من النصرانية؟ رأينا حضارة بغداد في عهد العباسيين، وحضارة القاهرة في عهد الفاطميين، وحضارة قرطبة في عهد الأمويين، لا يدانيها في ذلك حضارة في العالم، سواء في العلم والفن، وآلات القتال، ومظاهر اللهو والترف، ومظاهر الجد والعمل.
لقد ذابت مدنية اليونان ومدنية الرومان في أوروبا، ولم يكن لهما نظير في الشرق، ومع ذلك لم يسبق الغربُ الوارثُ الشرقَ المبتكر.
وظل الغرب يتتلمذ للشرق قرونًا طويلة، يجلس رجاله إلى ابن رشد يأخذون فلسفته، وينقلون إلى لغاتهم كتبه، ويدرسون كتب ابن سينا في الطب في جامعاتهم، ويأخذون من رياضي الشرق وفلكييهم إلى عهد قريب، ويطيرون في مدنيتهم الحديثة من على أكتاف الشرقيين؛ فماذا كان يمنع المسلمين أن يصلوا إلى مدنية مثل المدنية الحديثة أو خير منها إذا استمروا في طريقهم ولم تعقهم عوائق خارجة عن دينهم، وخارجة عن عقليتهم؟
لم يمنعهم الإسلام أن يطلبوا العلم في شتى ألوانه، ولا أن يعكفوا على فلسفة أرسطو وأفلاطون وغيرهما، ولا على رياضة أقليدس وفيثاغورس وأضرابهما. ولم تستعبدهم هذه الأسماء الرنانة كما استعبدت عقول أوروبا في القرون الوسطى، فنقدوا أرسطو وأفلاطون وأقليدس وبطليموس، وعدلوا بعض نظرياتهم، وأبطلوا بعضها، وغزا عقلهم نواحي العلم، كما غزا جيشهم نواحي العالم، وكان كثير من المسلمين إذا قالوا: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» فعقولهم بعدُ حرة في كل تفكير، طليقة من كل قيد.
لقد نسي الغرب تاريخه إزاء الشرق، ونسي الشرق تاريخه إزاء الغرب، ولم ينظر كلاهما إلا إلى حاضره؛ فَزُهِي الأول وتعاظم، وذلَّ الآخر واستكان، وجهل كل أن الشرق كان يتقدم الغرب في السباق، إلى القرن الخامس عشر؛ ولولا نكبة العنصر المغولي والعنصر الآري الذي يفخر به الكاتب لظل الشرق في طريقه وفي تقدمه، لولا مصيبة التتار التي أتت على خير للمسلمين وأضعفت قوتهم وأذلت نفوسهم، ولولا حكم الأتراك للشرق وما جر من فساد وفوضى واضطراب، ولولا جناية الغرب على الشرق بما جرعته من غصص وما سلكت معه من منهج يتلخص في إضعافه عقليًّا وروحيًّا، واستغلاله ماديًّا، لولا ذلك كله لتقدم الشرق بخطواته الواسعة، ولكان ذلك من خيره وخير العالم. إذًا، لكان للعالم مدنيتان تتسابقان في البناء: مدنية أساسها الإسلام والروحية الشرقية والعقلية الشرقية، ومدنية أساسها المسيحية والعقلية الغربية، ولانعدم الاحتكار وما يجر من أضرار، وما يفقد من تنافس.
•••
بل يخيل إليّ أنه لو انتصر المسلمون لكانوا أسرع خُطًى إلى المدنية؛ فقد عاقت نهضة أوروبا عوائق ليست عند المسلمين، لقد عاقها قرونًا طويلة سلطة الكنيسة وحجرها على العقول والآراء، وتدخلها في كل شأن من شئون الحياة بقوة وعنف، والإسلام لا يعرف سلطة لرجال الدين، ولا يقر بوساطة بين العبد وربه. وعاق أوروبا نظام الطبقات وسلطة الأشراف والنبلاء، والإسلام لا يعرف هذا النظام، ويقرر أن المسلمين سواء تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم. ولم تتخلص أوروبا من هذه العوائق وأمثالها إلا بعد جهد جهيد، وأنهار من دماء، وجسور من رءوس.
فلما خلصت أوروبا من هذه العوائق أو كادت، اخترعت «الوطنية» فكانت مصيبتها الكبرى وعلتها العظمى، أشعلت نار القومية، وجعلتها أساس التربية وأساس الاقتصاد، وتسابقت الأمم في الوطنية فتسابقت في التسلح، فما تنقضي حرب حتى يبدأ الاستعداد لحرب شر من الأولى. وهكذا ظلت المدنية الأوروبية التي يغار عليها الكاتب بين حرب واستعداد للحرب، وأفراد من كل أمة تتحكم في مصير الشعوب، وتطيح برءوسها، وتفرض الضرائب الفادحة لتنشئ بها أساطيل وقنابل وغازات وطائرات وغواصات ومدرعات، لتتعاون كلها على حصد الأرواح حصدًا، وتحرم الأب من أبنائه والأبناء من آبائهم، ومن نجا من القتل وقع في أسر البؤس والحزن والهم. والعلم الذي اخترع لخدمة الإنسانية، استخدم لإفناء الإنسانية؛ وهذه خلاصة المدنية، وهذا ما جلبته الدعوة إلى الوطنية.
•••
لقد فتح المسلمون الأولون فارس والشام ومصر والأندلس وغيرها، فلم يفقدوها شخصيتها، ولا حرموها علمًا ولا ثقافة، ولا سلبوها حريتها؛ ومن أسلم فالعالم الإسلامي كله له، ومن لم يسلم ودفع الجزية فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وظلت هذه البلاد المفتوحة كلها تشترك في بناء المدنية الإسلامية على قدم المساواة؛ فعلماء فرس وعلماء شاميون وعلماء مصريون، وفنانون من كل صنف، وممسكون بزمام الحكم من كل قطر؛ ولكن لما فتح الغرب الشرق حرمه العلم إلا بحساب وفي حدود معينة، ومنعوا أهله حرية القول والتفكير وحمل السلاح إلا بمعيار ضيق، وأخصبوا أرضهم وأجدبوا عقولهم؛ لأن أرض الشرق للغرب وعقل الشرق على الغرب؟ فلو فتح المسلمون أوروبا — كما توقع الكاتب — لحفظوا لأوروبا شخصيتها وأوسعوا في علمها وثقافتها، وتركوا لها حريتها في أكثر شئونها، ولم يمنعوا نبوغ من استعد للنبوغ، ولا حجروا على عقل ولا تفكير، ولا كانوا يستغلون أرض أوروبا للشرق، إنما كانوا يستغلون الشرق والغرب للشرق والغرب. ودليلنا على ذلك أن جميع البلاد التي فتحها المسلمون الأولون ظلت زاهية مزدهرة بعد فتحهم بأحسن مما كانت قبل فتحهم، وأن الشرق كاد يموت بعد أن فتحه الغرب لولا لطف الله وبقية من مناعة الفتح الأول.
وأهم فرق بين الفتحين أن مدنية الإسلام كانت تنظر إلى العالم الإسلامي كله كوحدة، خير الجزء خير الكل، وشر الجزء شر الكل، والمدنية الحديثة تنظر إلى العالم من خلال القومية؛ فخير تونس والجزائر ومراكش وسوريا لفرنسا لا لهذه البلاد، وخير طرابلس لإيطاليا لا لطرابلس، وخير الهند لإنجلترا لا للهند، وهكذا جريًا على الأسلوب الحديث في النزعة الوطنية؛ ولهذا نَعِمَ الشرق في حكم العرب، ولم ينعم الشرق في حكم أوروبا، ولا يمكن أن ينعم هؤلاء ولا هؤلاء إلا بإحلال الإنسانية محل الوطنية، ودون ذلك أهوال.
ثم ما الذي كان يمنع العرب من استكشاف أمريكا، ورَحّالوهم كابن جبير وابن بطوطة لم يكن يدانيهم أحد من رحال الغرب في عصرهم؟ على أن فكرة استكشاف أمريكا إنما دعا إليها، وحث على تحقيقها، نظرة كروية الأرض التي أثبتها جغرافيو العرب، وبرهن عليها فلكيو العرب.
•••
أخشى أن يكون «الكاتب الفاضل» قد استحضر في ذهنه عند كتابة المقال صورة العالم الإسلامي الحاضر، ولم يستحضر العالم الإسلامي الغابر، فرأى ما عليه المسلمون اليوم من فقر عقلي، وفقر مالي. فأشفق على أوروبا أن يحكمها هؤلاء فيقلبوا غناها فقرًا وعلمها جهلًا وقوتها ضعفًا، وفاته أنه يتكلم عن «عبد الرحمن» وعن جنود «عبد الرحمن» وهؤلاء كانوا أقوياء في غير ضعف، أغنياء في غير فقر، علماء في غير جهل، وقد مرنت عقولهم في غير جمود، وطلبوا الخير للعالم من غير قيود، فهل يعيد التاريخ نفسه؟