عهدٌ وثيق
التقيا في الصباح على ميعاد؛ لينجزا عملًا سريعًا لم يستطيعا أن يعملاه أثناء الأسبوع لكثرة شواغلهما، وتوزع جهودهما، فهما أيام العمل كالحصان، قد شدت يداه ورجلاه، بل وشعره، بحبال وخيوط تجذبه إلى جهات مختلفة متناقضة، يمينًا ويسارًا وأمامًا وخلفًا، فهو لا يستطيع أن يقطع شوطه ويبلغ مداه.
فليكن يوم الجمعة الخالي من أعباء «الوظيفة» المخصص للراحة، هو يوم إنجاز العمل المتأخر الذي لا بد أن يكون.
بدآ في الصباح، ولذهما العمل وطاب، واستغرقا فيه، فلم يشعرا بوجودهما ولا بزمانهما ولا بمكانهما، ولا بأي شيء حولهما. وأفاقا كأنهما كانا في حلم لذيذ، فإذا أرجلهما مثلوجة من رطوبة المكان، وبطونهما خاوية من تفاهة الإفطار، وعقولهما مجهدة من كثرة العمل. والتفتا لما عملا وما بقي، فوجدا أن لم يتم من العمل إلا نصفه أو أنقص منه قليلًا.
إذّا فلنشحذ عزائمنا، ولا نفترق حتى يتم عملنا، ولنتكلم في التليفون ألا ينتظرونا في الغداء، ولنأخذ غداءنا في مطعم قريب نستريح بعده قليلًا، ثم نستأنف العمل حتى يتم، ولننم بعد ذلك في راحة ضمير وعناء جسم، فذلك خير من أن ننام في راحة جسم وعناء ضمير.
•••
محل لطيف ورائحة شواء تدخل الخياشيم فيجري لها الريق وتتفتح الشهية، ورنين أشواك وملاعق، ومنظر أكلة يبشر بأنهما سيلعبان هذا الدور قريبًا.
يا غلام! هيئ لنا مكانًا منفردًا وإن غلا ثمنه، وأكثر لنا من الكوامخ من كل صنف، طحينة، ولبن، ومخللات، وابعث لنا برئيسك سريعًا.
وفي لحظة واحدة تم كل ذلك، فهيئ المكان وأعد إعدادًا حسنًا، وصفت عليه الأطباق والشوكات والسكاكين والملاعق وإبريق الماء النظيف الرائق، تسطع عليه الشمس فيلمع كالدر، وامتلأت المائدة بالكوامخ، وإن تظرفت فقل: «السلطات» المختلفة، والعيش المقبب. وحضر سيد الخدم في سرعة عجيبة!
رطل ونصف من الكباب، ليس بالسمين، ولكن.
نعم.
بسرعة مدهشة تساوي سرعتك في سؤالنا.
خمس دقائق فقط وإن تأخرت فعشر، ولكن لا تزد فوراءنا عملٌ ينتظرنا، والساعة الآن الواحدة والنصف.
«حاضر». في أقل من ذلك يحضر الطلب.
وأخذا يداعبان العيش المقبب والسلطة واستساغا الطعم فزادا، وحلا الحديث فتحدثا، وراعى (ح) صديقه (م) فلم يتحدث في الفلسفة، وكلما انحدر إليها من غير شعور تنبه إلى قول صاحبه فعدل، وتخلل الحديث فكاهات ظريفة استثارت الضحك العميق، حتى خيل إليهما أن لو حضر لهما خروف مشوي لا رطل ونصف لأتيا عليه.
ودخلا في الحديث من باب إلى باب، والضحك يتتابع و«السلطة» والخبز يضؤلان. وإذا بالحديث يدور حول الغضب وأسبابه ونتائجه، وإذا بالسيد (ح) يقول: ألاحظ أن المصريين سريعو الغضب، فهم يغضبون من أقل شيء ومن لا شيء! ثم إذا غضبوا لم يقفوا عند حد؛ فشبانهم إذا غضبوا حطموا ودمروا، وصغارهم إذا غضبوا صاحوا بكل ما يستطيعون من قوة، وضربوا الأرض بأرجلهم، وقد يضربون الحائط برءوسهم، وشيوخهم إذا غضبوا أفسدوا عملهم وأضاعوا صداقتهم، ولم يفرقوا بين العمل العام والعلاقات الشخصية، ولا أدري أذلك ناشئ من حرارة جوهم وطبيعة مزاجهم، أم هو يرجع إلى التربية! فإني أرى أن البلاد الباردة يغلب عليها ضبط العاطفة وقلة الانفعال، فهل هذا كسبوه من برودة البلاد أو من تعويدهم أطفالهم ألا يبالغوا في الانفعال؟ لقد حُدِّثت عن مدرس إنجليزي أراد طلبته أن يغيظوه، فوضعوا له حذاءً باليًا على مكتبه، وظنوا أنه يهيج لذلك ويخبط ويضرب، ويُجري تحقيقًا دقيقًا فيمن دبر هذه المكيدة، ومن وضع الحذاء، ونحو ذلك من أسئلة لا تنتهي، فما إن دخل المدرس الفصل ورأى الحذاء على مكتبه حتى أخذه بيده ووضعه على الأرض، وقال: «تحدثت إليكم في الدرس الماضي عن كذا» واستمر في درسه، فصفق الطلبة إعجابًا بمسلك أستاذهم وضبط عواطفه! ولو حدثت هذه الحادثة في مصر لمدرس مصري لانقلبت السماء على الأرض، وقامت لها المدرسة وقعدت، ولشغلت المدرسة أسابيع، وقد تشغل وزارة المعارف أيضًا!
ودَقّ بالملعقة على الصحن، فلم يسمع أحد، ثم دق ودق فحضر الخادم.
– نعم!
– مضت ساعة الأكل لم يحضر. ناد رئيسك.
وتتابع الحديث ولم يحضر أحد، وبعد قليل دخل خادم آخر عليهما، وظن أنهما انتهيا من أكلهما وشربهما. وأنهما يعطلان الغرفة أكثر مما يلزم، فسألهما: هل يريدان قهوة، ومن أي نوع هي!
وتتابع الحديث ثانية أو ثالثة. لا أدري!
ونظر (ح) في الساعة فإذا هي الثالثة، فقام ولحقه (م) ونزلا يستفسران عما تم. فإذا سيد الخدم قد نسي الطلب ولا أكل ولا إعداد ولا توصية.
وانفجر السيد (ح) انفجارة كالبركان إذا قذف، ودوَّى صوته في بهو المكان كله يهدد ويؤنب، وبهت الحاضرون، وتصلبت الأيدي على الملاعق، ووقفت اللقم في الأفواه، وسكتت الأسنان عن المضغ، وحدقت العيون في هذا الصارخ وهذا المصروخ فيه، وانقلبت صالة الأكل إلى صالة محاضرات يشرح فيها ما يجب على الوطنيّ أن يعمل لسمعة وطنه، أو فصلًا في مدرسة يؤنب فيها الأستاذ تلاميذه.
وساد الجميع رهبة. ماذا حدث؟ وماذا كان؟
– لا مؤاخذة.
وخرجا …
والآن إلى أين؟