بين اللاعبين
حرمت — فيما حرمت — لذة اللعب، فلا أعرف نردًا، ولا ألعب شطرنجًا، ولا علم بي بألعاب «الورق» على اختلاف ألوانها وتعدد أشكالها.
وأخيرًا رماني الحظ بليلة جمعت نخبة من الأصدقاء هواة اللعب، جلست بينهم كما يجلس الأصم بين متحدثين، أو الأعمى بين رسامين، أو المتزمت بين حشاشين. يحركون الورق ولا أفهم، ويصيحون ولا أعلم، ويتضاحكون ولا أفقه، ويزعم أحدهم أنه كسب ولا أدري لم كسب، وآخر أنه خسر ولست أعلم لم خسر، وتبرمت بجلوسي بينهم، وزاد في تبرمي أنهم لم يشعروا بوجودي، ولم يأبهوا بحضوري. ففكرت في حيلة أهرب بها من هذا المأزق — فكرت أن أعتذر وأخرج، فحالت حوائل، وفكرت أن أتعلم اللعب، فقلت: أبعد أن شاب قرناها؟ وقلت: أحتال في أن أصرفهم عن اللعب، ثم قلت: أي حق لك في أن تحكّم ذوقك في أذواقهم، وتحرمهم من ملذاتهم؟ وأخيرًا اهتديت إلى فكرة غريبة، فكرة مظلمة، فكرة تدل على صدق المثل: «يموت الزامر وإصبعه تلعب»، هي أن أنقل المكتبة والجامعة ولجنة التأليف إلى غرفة اللعب، فإن لم يمكن ذلك ماديًّا فليكن خياليًّا، فلأتخيل أن كل هذه الأشياء في هذه الحجرة، وأني جالس على مكتبي، وأن كرسيَّ هذا هو كرسي المكتب، وأن مائدة اللعب هي المكتب، وأن لعبهم هو موضوع الدرس، وأن الدرس درس فلسفة، وأن موضوع درس الفلسفة هو «فلسفة اللعب بالورق». فماذا يمكن أن تقول؟ وهب أن أمامك ورقًا وقلمًا فماذا تكتب؟ وقلت: أجعل من هذا موضوعًا يعجب المتظرفين في وضع أسئلة الامتحانات في الشهادات. ألن تسمعهم يقولون: «هبك وردة قطفها قاطف فماذا كنت تقول؟» ويقولون: «هبك فقيرًا كسبت ورقة «يا نصيب» فماذا أنت فاعل؟»، وهبك وهبك إلى آخره، فقلت: إذا كان «البدع» بدع «هبك» المتسلطة على هذا الزمان، فقل مثلهم: هبك سخيفًا تدرّس درس فلسفة على لعب الورق. فماذا أنت قائل؟ قلت: أقول.
ثم تساءلت: هل أكتب كما يكتب التلميذ موضوع الإنشاء، فيبدؤه بجمل فخمة ضخمة عوده إياها مدرس الإنشاء، كأن أقول: «لا يخفى على الفطن اللبيب، واللوذعي الأريب، والنحرير الأديب» إلخ، أو أكتب كما يكتب مدرس الإنشاء على السبورة مما يسميه «عناصر الموضوع» فيكتب نقطًا ويعددها بالأرقام؟ وأخيرًا قلت: إن هذا وذاك لم يبلغ من السخافة الحد الذي أرتضيه، فلتكن سخافتك ابتكارًا لا تقليدًا، فقلت: إن لعب الورق يمثل القَدَر، فالقدر يُعز من يشاء ويُذل من يشاء بلا قيد ولا شرط؛ فمفرق الأوراق، كموزع الأرزاق، يعطي هذا أوراقه فتكون رابحة، وهذا أوراقه فتكون خاسرة، وهذا أوراقه فتكون بين بين. وقد يكون مَن أخذ الأوراق الرابحة أحق إنسان بالخاسرة، ومن أخذ الأوراق الخاسرة أحق إنسان بالرابحة! ولكنه القدر لا يُسأل عما يفعل، ومفرق الأوراق لا يُسأل عما يفعل!
وقلت: إن اللعب بالورق — في هذه الحجرة — كاللعب بورق الحياة، لا يستطيع أحد اللاعبين أن يغير أوراق لعبه، بل هو مكلف أن يلعب بها، وبها وحدها، وإنما مهارته تقدر بلعبه بهذا الورق، لا باللعب بما يتمنى من ورق. فكذلك الإنسان في الحياة، هو مكلف أن يلعب بورقه، وإنما كل مهارته في أن يلعب على أحسن وجه. فإذا كان ذا كفاية محدودة كلف أن يلعب بهذه الكفاية خير لعب. وليس له أن يطمح في أن يلعب لعب النابغين. وإن خلق ضعيفًا في عقله قويًّا في يده، أو ضعيفًا في يده قويًّا في قلبه، فليعرف ما هو قوي فيه، وما هو ضعيف فيه، ثم يلعب بما عنده خير لعب. فإن كان قويًّا وأراد أن يعمل عمل القوي في عقله، كان كمن يريد أني لعب بورق غيره، وهذا غير جائز في باب اللعب في الحجرة، فكذلك لا يجوز في باب اللعب في الحياة.
وقلت: إن الورق الرابح في يد اللاعب الخائب قد يؤدي إلى الخسارة، والورق الخائب في يد اللاعب الماهر قد يؤدي إلى الربح، فكذلك اللاعب في الحياة، قد يجدّ ذو الكفاية المحدودة وينظم أعماله وأوقاته، فإذا هو خيرٌ ألف مرة من ذي الكفايات النابغة، أضاعها وأهملها ولم يحسن استعمالها.
وقلت: إن اللاعب الماهر في هذه الحجرة قد يصاب بالخسارة في أول الأمر وفي بعض أدوار اللعب، ولكنه يجدّ ويستخرج كل مهارته وكل نبوغه، فإذا هو رابح آخر الأمر. وكذلك اللاعب في الحياة، قد يصاب بصعاب وعقبات، وقد يظهر إخفاقه في بعض المحاولات، ولكنه لا ييأس، ويتعلم من إخفاقه، فإذا هو آخر الأمر ناجح.
وقلت: إن فلانًا هذا اللاعب في الحجرة قد غش مرة في لعبه، فأبدل ورقة بورقة ففقد ثقة اللاعبين، فهم يلاعبونه بحذر ويراقبونه في لعبه ولا يأمنون جانبه. وقد حاول مرارًا بعدُ أن يحسن سمعته فلم يفلح، وحاول مرارًا أن يصدق فكان أثر الكذبة مرة أفعل من أثر الصدق مرارًا. وهكذا اللعب في الحياة العامة، يزل المرء مرة فيفقد ثقة إخوانه والمتعاملين معه، ولا يكسب ثقتهم بعدُ إلا بعد عناء إن أمكن.
وقلت: هؤلاء اللاعبون في الحجرة يصفقون للرابح منهم مهما كان ضعيفًا في اللعب، ولا يصفقون للاعب المجيد إذا خسر. وكذلك شأن اللاعبين في الحياة، فالناجح هو الماهر وهو الكفء وهو كل شيء، والخاسر هو الخائب، وهو الذي لا يصلح، وهو لا شيء. فأين العقلاء من الناس الذين يصفقون للماهر ولو خسر، ويحتقرون الخائب ولو نجح؟ هؤلاء لم يوجدوا بعدُ.
ورأيت من اللاعبين من هو واسع الصدر، واسع المغفرة، يكسب فيضحك، ويخسر فيضحك، ينظر إلى اللعب على أنه مسلاة له ولإخوانه، مثَّلَ دور الرابح أو الخاسر كما يلعب الممثل دوره في المسرح، لا يهمه إن كان يمثل ملكًا أو يمثل سائلًا، وإنما يهمه أن يلعب دوره في إتقان، ويدخل السرور على النظَّارة بإجادته. ومنهم من هو ضيق الصدر، شديد التكلف، أناني، شديد الأنانية، يأخذ اللعب بغم، شديد المشاكسة، يحقد إن خسر، ويطغى إن غلب، ويحوّل ميدان اللعب إلى ميدان قتال، ومجال التسلية إلى مجال منافسة. فقلت: كذلك الـ.
وهنا تصايح اللاعبون إعلانًا بانتهاء اللعب، وتعالت الضحكات، وتتابعت النكات، واختلفت سيما الوجوه، فمنها ناضرة زاهرة، ومنها عابسة قاتمة.
وأيًّا ما كان فقد ظفروا بلعب ظريف وتسلية خفيفة، وظفرت بدرس ثقيل وفلسفة سخيفة.
لست أدري أينا كان أربح، فعلم ذلك عند القارئ.