مقدمة في العلم الزائف
تِجارتان لا تَعرفان البَوار؛ تجارة الخُبز، وتجارة الوَهم.
(١) دلائلُ ومَخايِل
في القلب من العلم يَقبَع توترٌ جوهري بين موقفَين متناقضَين في الظاهر؛ انفتاح على الأفكار الجديدة مهما تكن غريبةً أو مضادةً للحَدس، وأقسَى تمحيصٍ ارتيابِي لِجميع الأفكار، قديمِها وجديدِها. هذا هو السبيل إلى غربلة الحقائق العميقة من الهُراء العميق. إن اجتماع التفكير الإبداعي والتفكير الارتيابي في آنٍ معًا هو ما يحفظ العلمَ في مِضمارِه.
ليست هناك معايير حاسمة تجزِم بأننا بإزاء علمٍ زائف، غير أن هناك أَمارات عامة تُهِيب بنا أن ننتبه ونرتاب، ليس بين هذه الأمارات ما هو «ضروري» ولا ما هو «كافٍ» للحكم بزيف الممارسة، غير أن اجتماعَ عددٍ وافرٍ منها قد يدنو بنا إلى مَشارف اليقين، وكأنه ضربٌ من «تحوُّل الكم إلى كيف».
-
يسرف العلمُ الزائف في استخدام الفرضيات الاحتيالية،١ والفرضية الاحتيالية أشبهُ بِرُقعةٍ مُفَصَّلةٍ على مَقاس الثغرة، الغرضُ منها حماية الدعوى من الدحض. ثمة فرضياتٌ احتياليةٌ أدت إلى كشوفٍ علمية حقيقية: عامل Rh في الدم كان فرضيةً احتيالية، ووجود كوكب نبتون كان فرضيةً احتيالية،٢ غير أن الفرضية الاحتيالية في العلم الحقيقي هي ذاتُها قابلةٌ للاختبار، أما في العلم الزائف فالأغلب أن تكون تَمَحُّكًا صِرفًا ولَجاجةً مجانيةً لا سبيل إلى اختبارها ولا غرض منها إلا التَمَلُّص والتَّخَلُّص، والتحَصُّن من التكذيب والتَشَفُّع للخطأ.
-
ليس من دَأب العلمِ الزائف أن يعترف بخطئِه ولا أن يُصَحِّح نفسَه، بينما العالِمُ الحَق مَيَّالٌ بطبعِه إلى تكذيب فرضيتِه. إن كلفةَ التصويب الذاتي باهظةٌ ثقيلة، ولكن العالِم الحقيقي على استعدادٍ دائمًا لِدفعِها عن طيب خاطر؛ ذلك أن من الصعب على النفس أن تُلقِي في اليَمِّ بما أنفقَت فيه جُهدًا ومالًا، واستثمرَت فيه أملًا وضَيَّعَت عُمرًا، يُقال لِهذه الظاهرة النفسية «أثر الكلفة الغاطسة».٣ إن واجبنا في مجال العلم أن نُبَجِّل الزميلَ الذي يعترف بخطئه ويُقلِع عن باطلِه، لا أن ندينه ونعاقبَه ونسلقَه بألسنةٍ حِداد. واجبنا أن ندخر الشجبَ والإدانةَ لأولئك الذين يُصِرون على الخطأ ويستميتون في تبريرِه.
-
يركز العلمُ الزائف على الأمثلة المؤيِّدة ويضرب صَفحًا عن الأمثلة المضادة، بينما العالِم الحق ينتحِي بغريزتِه نحو الأمثلة المفنِّدة، وينحني للخلف (على حد تعبير ريتشارد فيمان) عسَى أن يبرهن على أنه مخطئ. إنه يأخذ مسافةً من عملِه، ومِن عِزَّتِهِ بأي شيءٍ عدا الحقيقة. يتضمن ذلك أن عليه أن يصمِّم تجاربَ صارمةً تختبر فرضيتَه اختبارَ النار، وتُثبِت كذبَها إن أَمكَن.
-
يقدم العلماءُ الزائفون أطروحاتٍ مقطوعةَ الصلة بكل المعارف القائمة، ويزعمون دائمًا أن أعمالهم قائمة على نماذج إرشادية جديدة تمامًا؛ وهُم مِن ثم يُطلِقون مزاعمَ يقتضينا قَبولُها الإطاحةَ بكل ما نعلمه عن العالَم، ويَدَّعون أنها اختراقات أو «تحولات في النموذج».٦ إن تحولات النموذج لَتحدث في تاريخ العلم، ولكنْ على فَترةٍ ونُدرة، وتتطلَّب دليلًا قويًّا وتجاربَ فاصلةً جيدةَ التصميم قابلةً للتكرار، عملًا بالقاعدة القائلة بأن «الدعاوى الهائلة يلزمها دليلٌ هائل».٧
-
يستند العلماءُ الزائفون في إثبات فرضياتهم إلى «النوادر الفردية وشهادات الآحاد»،٨ وهي أشياءُ لا تَصلح بذاتها كدليل، وإنْ كانت مُلهِمةً أحيانًا في سياق الكشف،٩ وذاتَ فائدة أحيانًا في توضيح ما قد ثبت بالدليل؛ ذلك أننا لا تَصِلنا في العادة إلا الشهاداتُ الإيجابية، أما الشهاداتُ السلبية فسوف تحتجب تلقائيًّا. هَبْ أن ألف شخص تناولوا علاجًا مزعومًا، وأن عشرةً منهم فقط اعتقدوا أنهم آنَسوا فائدةً منه فقدموا لنا عشرَ شهاداتٍ فردية مؤيِّدة لفاعلية العلاج، إن التسعمائة والتسعين الذين لم يُشفوا — وهم الأغلبية العظمَى — لن تَراهم مِن بَعدُ ولن تسمَعَ لهم رِكزًا (بيانات محجوبة).١٠ من ذلك تتجلى لنا أهمية «المجموعات الضابطة»١١ في التقييم الصحيح لأي دعوى تتعلق بفاعلية علاج جديد.
-
يُولَع العلماءُ الزائفون باستخدام رِطانات مبهَمة، ويخترعون معجمَهم اختراعًا على حد تعبير روري كوكَر (الطاقة الكونية الحيوية، الطاقة، مستويات، تعاطفات، منظومة خط الزوال، التكبير السيكوتروني …) لكي يتشبهوا بالعلماء الحقيقيين ويوهموا الناس بأنهم منهم، ويميلون إلى المزاعم العريضة و«نظريات كل شيء»، والادعاء بأن إجراءً هزيلًا معيَّنًا يحل شتى المشكلات، وبأن عقارًا لا أصل له يَشفِي جميع الأدواء، بينما يتسِم العلمُ الأصيل بالتواضع والأناة والاقتصاد في الزعم، ويتوفر في الأغلب على مشكلةٍ واحدة في الوقت الواحد.
(٢) المُقام في الفجوات
-
في المجال العلاجي يرتع الدجل وتعلو نبرتُه في نطاق الأمراض المستعصية الغامضة التي لا يزال البحثُ الطبي يقاربها بأناةٍ وحذر: السرطان، الشقيقة، التهاب المفاصل، الإيدز … إلخ. يريد الدجل أن يتلَقَّف أناسًا مذهولين بالمرض متخبطين في اليأس متنازِلين عن المنطق.
-
وفي صدد نظرية التطور يحلو للفكر الخرافي الإشارة إلى الفجوات غير المفسَّرة في سِجِل الحفريات، ويتمنى من أعماق قلبه أن تبقى إلى الأبد غيرَ مفسَّرة.
(٣) الحِس المشترك
يظن عامةُ الناس أن الحِس المشترك مُرشِدٌ وَثِيقٌ لِفَهم الظواهر وتقييم العالَم الطبيعي، ونحن نُسَلِّم بوجاهةِ المخزون البشري من الحكمة الشاملة لجميع الناس والموَرَّثة عبر الأجيال، والتي أعانت الكائناتِ البشريةَ على البقاء وعلى الإبحار في عالمٍ معقَّد.
إن الأرض لَتبدو مسطحةً للحس المشترك، والشمس تدور حول الأرض فيما يظهر للحس المشترك، والأشياء المتحركة تتباطأ تلقائيًّا في مَرأَى الحِس المشترك إلى أن تتوقف (بينما هي في الحقيقة تتحرك إلى ما لا نهاية ما لم يَحُل دون ذلك حائل)، والذاكرة تبدو كشريط تسجيل للحس المشترك، والأضداد تتجاذب فيما يظن الحس المشترك، والعين الرجراجة دليل الكذب لدى الحس المشترك … إلخ.
-
عشوائية العينة.
-
إجراءات أخذ العينة الممَثِّلة، كمًّا وكيفًا وبعد انقضاء زمن.
-
مَيكنة تسجيل البيانات (لِتَجَنُّب ميل البشر لرؤية ما هم مُهَيَّئون لرؤيته).
-
المجموعة الضابطة ذات العَمَى المزدوج.١٥
-
الدلالة الإحصائية.
-
التحديد المسبق لما عساه أن يؤيد الفرضية وما عساه أن يفندها.
-
مراجعة النظراء.
-
تكرار التجربة.
والضمانة الكبرى بعدُ للأداء العلمي القويم هي الصفة المؤَسَّسِية للعلم؛ فالعبرة إنما هي بِعلمية المؤسسةِ الكلية لا العالمِ الفرد، بالعقلانية والموقف النقدي المبيَّت في المؤسسة ككل؛ ذلك أن العلماء بشر، وعُرضة من ثم للتقصير في اتباع الطريقة العلمية، شأنهم شأن المهنيين من كل صنف. ثمة صمامات أمان في قلب المنظومة تتمثل في السياسات الرقابية للوكالات العلمية المانحة ومؤسسات البحث والدوريات تكشف صراع المصالح لدى الباحثين. إن الحاضنة العقلانية هي الكفيلة بِرَدِّ كلِّ انحراف إلى الجادة، ورَدِّ كلِّ مَيلٍ إلى القَصد وكلِّ زَيغٍ إلى سَواء الصراط، وهي الكفيلة بمنع ما هُيِّئَت له عقولُنا من مَزالق، وهي الكفيلة بالحفاظ على صفة «التصحيح الذاتي» وضمان الصفة الديمقراطية للعلم.
(٤) وَعثاء التطور
ولقد بَقِيَت به لأنه بَقِيَ بها.
***
ثم إن هذه «الأنماط» أو «المخططات» أو «النماذج» — أو ما شِئت — تجد طريقَها إلى اللغة البشرية، حيث تُعَمَّر طويلًا بعد أن تكون أسبابُها الموضوعية قد تبدلَت أو زالت، فاللغة ليست مخزونًا مباشرًا لما هو موجود، بل هي بالأحرى مخزون أثري وتاريخي جزئيًّا لِما تَراءَى للبشر يومًا أنه جديرٌ بالحديثِ عنه والقولِ فيه. هذا الطابع التاريخي التذكاري التراكمي للغة هو ما يجعل تنقيتَها من التعبيرات المتنافرة مع قناعاتِنا الحالية أمرًا بالغَ الصعوبة.
(٥) ضرورة دراسة العلم الزائف
لا نعدم بين العلماء وفلاسفة العلم مَن يرى أن دراسة أمارات العلم الزائف هي تَزَيُّد لا داعيَ له، وتَرَفٌ نظري لا ضرورة فيه، فضلًا عن استحالتِه لِعدم وجود معيارٍ ضروري ولا كافٍ يَفصِل بين العلم واللاعلم، وقد ذكرنا من هؤلاء، على سبيل المثال لا الحصر: ماكنالي وفيربند وإليزابيث سبري، غير أننا نرى — آخذين بالاعتبار وجاهةَ كل ما يقولون — أن هذا الاتجاه هو الترفُ بِعينِه: إن المجتمعات لَتَتَرَدَّى في هاوية التخلف، والناس تموت موتًا حقيقيًّا، من جراء الافتتان بالعلوم الزائفة واتباع أباطيلها. يقول إمري لاكاتوش في حديثه «العلم والعلم الزائف»: «إن حق الحزب الشيوعي في تقرير ما هو علمٌ ويُنشَر وما هو علمٌ زائفٌ ويُعاقَب ظَلَّ حقًّا قائمًا، كما أن المؤسسة الليبرالية الجديدة في الغرب لها الحق أيضًا في أن ترفض مَنحَ حرية الحديث لما تعتبره علمًا زائفًا (مثلما رأينا في حالة الجدل المتعلق بالذكاء والعنصر)، من أجل ذلك فإن مشكلة التمييز بين العلم والعلم الزائف ليست مشكلةً زائفة تليق بالفلاسفة النظريين في مقاعدهم الوثيرة، إن لها منطوياتٍ أخلاقيةً وسياسية هي من الخطورة بمكان.»
أما البروفيسور سكوت ليلينفِلد فيذهب إلى ضرورة تدريس خصائص العلم الزائف من أجل الفهم القويم للعلم، الذي لن يبلغ تمامَه إلا بفهم نقيضه: العلم الزائف (وبضدها تتميز الأشياء)، ومن أجل غرس الفكر النقدي في عقول الطلاب الذين يلتحقون بالجامعة وأذهانُهم متخمةٌ بالخرافات والأساطير الحديثة.
وقد أشرنا في هذا الصدد إلى دراسات إمبيريقية حديثة تثبت أن دراسة التمييز بين العلم والعلم الزائف تُفضِي إلى صَرف الناس عن تبني الاعتقادات الخرافية، وإلى تَحَسُّن القدرة على تقييم أخطاء الاستدلال في المقالات العلمية، والتعرف على الأخطاء المنطقية فيها، وتقديم تفسيرات بديلة لنتائج البحث.
وفي عالمنا الجديد الذي تمطرنا فيه الوسائط الإعلامية بوابلٍ من الخرافات الجديدة، وسيولٍ من الغثاء المنفلِت والنظريات الزائفة والدجل الوَقاح، لم تَعُد مشكلةُ التمييز بين العلم واللاعلم ترفًا بل قضية مُلِحَّة، وضرورة تعلو على كل ضرورة.
إن من حق الناس أن تتلقى المعلومات الصحيحة، وأن تؤسس قراراتها واعتقاداتها على بياناتٍ صادقة لا زيف فيها ولا خداع. من حق المرضى أن يتلقوا العلاج الحقيقي، ومن حق المُصَوِّتين أن يُدْلُوا بأصواتهم بناءً على حقائق. إن الأمية العلمية تقتل الفكرَ النقدي وتُخلِّف أجيالًا تدمن الوهمَ وتراهن على الباطل وتختار لِأُمتِها المَسارَ المُهلِك. الاقتراعُ العام في مثل هذه الأجيال إنْ هو إلا استقواءٌ بالجهل وتَجيِيرٌ للأمية وتَدويرٌ لِعوادِم الانحطاط.
(٦) جاذبية الخرافة
للخرافة جاذبيةٌ هائلة، ومهما تقدم العلم فسوف تظل الخرافةُ تحتل أعَزَّ الأمكنة من قلوب البشر وأعمقَ الأغوار من أنفسهم؛ ذلك أنها هي الأصل وهي العِلم الأقدم، وهي التي قدمت للإنسان الوعدَ والسلوى يومَ كان مُلقًى هَمَلًا في عالمٍ موحِشٍ ملغَزٍ خَطِر. والوعد — حتى لو كان كاذبًا — ليس بالشيء الهَيِّن، فهو للنفوس المغلوبةِ على أمرِها أنيسُ الأيام وسميرُ الليالي.
يُفتَتَن بعضُ الناس بالخرافة؛ لأنها مثيرةٌ للدهشة زاخرةٌ بالغرابة، ولِهؤلاءِ نقول: إن العلمَ يفوقُها في هذا المضمار فتنةً وإدهاشًا ويَزيد عليها بأن غَراباتِ العلمِ حَق. إن نظرةً في تلسكوبٍ أو مجهر لَتُلقِي بالمرء في عوالمَ فاتنةٍ بديعةٍ ملونةٍ أنعمَ من أهداب الحُلم وأغربَ من نَسْج الخيال، غير أنها حَق: أطراف الكون القَصِية، تشكيلات الأنجم والمجرات، تلافيف الدماغ ومَسالكه ودُروبه، العالم تحت الذري، العالم الجِيني، قصة التطور تقرؤها منقوشةً في أحافير الصخور وأنوية الخلايا، أعاجيب لم يَجُد بمِثلِها خاطرٌ ولم تتفتق بمثلِها قريحة.
(٧) طرائف تاريخية٢١
(٧-١) مرهم السلاح٢٢
من العلاجات التي راجت في القرن السابع عشر مرهمٌ خاص مُعَد من تركيبةٍ مسجلة معقدة، من عناصر يصعب الحصول عليها، زعموا أنها لا تؤتي مفعولَها إلا إذا اتُّبِعَت وصفتُها بدقة، وعجيبُ أمرِ هذا المرهم أنه لا يُدْهَن به الجرح بل السلاح الذي أحدَثَ الجرح! وقد صَدَّق عليه فرنسيس بيكون نفسُه، أبو التجريب العلمي الحديث ومؤسسُ الفلسفة الاستقرائية! الذي كان متشكِّكًا في البداية ولكنه اقتنع بنفس الطريقة التي يقتنع بها كثيرٌ من عِلية المتعلمين في زمننا الحديث بممارساتٍ تبدو مزرِية: لقد شاهد النتائجَ مباشرةً، شاهدها بأم عينِه، وآمنَ مِن ثم بأنها صادقة بالضرورة.
كيف يمكن لشخصٍ في طبقة بيكون التعليمية أن يَسقط في مثل هذه الممارسة السخيفة؟! الحق أن مرهم السلاح أقنعَ المتشككين إذ شاهدوا بأعينِهم نتائجَه المُذهِلة، لقد كان علاجًا ناجعًا حتى إذا كان الشخصُ الجريح لا يَدرِي أنه يعالَج، بل قيل: إنه كان ناجعَ التأثير حتى على الحيوانات (وهي نقطةٌ وجَدَها بيكون دامغةً إذ بَدا أنها تَستبعد عاملَ الإيحاء)، أما حالات الفشل فكانت تُفَسَّر — استبعاديًّا — بوجود خطأ في إعداد التركيبة المعقدة للمرهم.
(٧-٢) جَرَّارات بيركينز٢٤
ذاع صيتُ جرارات بيركينز وانتشرت في أوروبا ونالت شهاداتِ آحادٍ إيجابيةً عديدة وسجلت مبيعات هائلة، ولكي يدحض أنصارُ الجرارات اعتراضَ الشكاك بأن الشفاء يحدث بسبب الإيحاء الإيجابي فقد زعموا أن حيوانات — كالخيول — قد تَمَّ علاجُها بنجاح بواسطة تلك الجرارات.
أما الذي قَضَى على هذه التقليعة في النهاية وأَبطلَ أسطورتها فهو أن عددًا من الأطباء المتشككين صنعوا زوجَين من الجرارات من الخشب وأسبغوا عليها بالطلاء مظهرَ المعدن، فإذا بالجرارات المزيفة تؤتي نفسَ الأثر الشفائي العجيب، ولما كان الأثرُ العلاجي يُعزَى إلى المعدن فقد تم بذلك تكذيب الدعاوي العلاجية، وبحلول عام ١٨١٠م كانت جرارات بيركينز قد أُسدِلَ عليها الستار.
(٧-٣) المِزمَرية وتدويراتها
لماذا يقع الأذكياءُ في «المِزمَريات»؟
-
فض حساسية وإعادة معالجة حركة العين EMDR.
-
البرمجة العصبية اللغوية NLP.
-
علاج حقل الفكر thought field therapy.
-
موالفة الدماغ brain tuning.
-
إلخ إلخ.
(٨) سِحر النوادر الفردية وشهادات الآحاد
(٩) سطوة الواقعية الساذجة
ونحن نُسَلِّم بأن الملاحظة المباشرة هي نقطة بدايةٍ ممتازة، على أن نتفطَّن إلى أن الملاحظة التي لا يعقبها اختبارٌ صارم ونظرٌ نقدي في تفسيرات بديلة قد تُفضِي إلى نتائجَ مغلوطةٍ تَضُر بالمرضى أو تُضيع وقتَهم ومالَهم على أقل تقدير، في مثال «مرهم السلاح» سالف الذكر شاهد بيكون بعينِه نجاعةَ الإجراءات، ولكنْ فاتَه التفاتٌ إلى الفائدة الممكنة لعملية تنظيف الجرح وتضميده.
إن كثيرًا من الممارسين الإكلينيكيين واقعيون ساذجون بهذا المعنى، فَهُم يُسَلِّمون تسليمًا بما يشاهدونه في خبرتهم دون أن يفكروا في تفسيراتٍ بديلة: فنحن لكي نَعقِد استدلالات عِلِّيَّة فإن لِزامًا علينا أن نصمم تجاربَ جيدةً تضع بالاعتبار التفسيراتِ البديلةَ وتُقَيِّض لها مجموعات ضابطة.
(١٠) انحياز التأييد٣٥
يغلب علينا في الممارسة الإكلينيكية أن نلتفت إلى النجاحات، وأن نغضَّ الطرفَ تلقائيًّا عن ضرباتنا الخائبة، وهذا لون من «انحياز التأييد»: أن نركز على ما يؤيد اعتقاداتنا ونغُض الطرفَ ونضرب صَفحًا ونَطوِي كَشحًا عن الأمثلة المضادة أو نفسرها تفسيرًا غرضيًّا استبعاديًّا متخَلِّصًا. أما العالِم الحق فإن الحقيقةَ أحَبُّ إليه من نفسِه، والكشف عن الحقيقة أهَمُّ عنده من إثبات صواب ملاحظاته المبدئية. العلماء الحقيقيون لديهم مَيلٌ غَرَزِي إلى إثبات أنهم على خطأ!
هل يتعلم الإكلينيكيون حقًّا من الخبرة؟ الخبرة قِيمةٌ لا تُنكَر، غير أن الاعتداد بخبرة سنواتٍ طويلة من الممارسة الإكلينيكية دون إقامتِها على الدليل لا يَعدو أن يكون اعتدادًا بسنواتٍ طويلة من «انحياز التأييد»!
(١١) الحَرَج من تغيير الرأي
فَكِّرْ بحيث تكون على استعدادٍ مِن حيث المبدأ لأن تُغَير رأيَك إذا ما تَبَيَّنَ خَطَؤه.
وعلى طريقة إيمانويل كَنْت: إن شيئَين يملآن عقلَه بالإعجاب والإجلال المتجدِّدَين والمتزايدَين على الدوام: السموات المرصَّعة بالنجوم من فوقه، والقانون الإبستمولوجي المطلق في داخله.
(١٢) فخ التبرير٣٨
حين ينفق المرءُ الكثيرَ من الوقت والمال والعمر مستثمرًا في مشروعٍ ما فإن من الصعب عليه جدًّا أن يعترف بزيفِه إذا تَبَيَّنَ له، وبدلًا من الاعتراف فإنه يتمادَى في تبرير باطلِه بالانخراط في انحياز التأييد، وفي التفسير الاستبعادي للأدلة المضادة، وفي غير ذلك من الاستراتيجيات المُغالِطة.
يتَجَذَّر الاستثمار في العلم الزائف، ويترسخ الالتزامُ به أكثر فأكثر من خلال اللقاءات والمؤتمرات، حيث يَعرِض الأشخاصُ خبراتهم الإيجابية مع عِلمِهم المزعوم، ويتقلَّبون في دفء الأمثلة المؤيدة والنوادر الفردية وشهادات الآحاد.
(١٣) هذا الكتاب
هذا الكتاب — في شطرٍ كبيرٍ منه — عبارة عن فصول متفرقة توجِز إسهامَ ثلة من كبار المفكرين والعلماء وفلاسفة العلم في مسألة التمييز بين العلم والعلم الزائف: توماس جيلوفيتش، باري بيريشتاين، كارل بوبر، إمري لاكاتوش، سكوت ليلينفِلد، روري كوكر، جون كاستي، ماريو بَنج، ريتشارد ماكنالي، أنتوني براتكانيس، فالكتابُ — بمعنًى ما — مزيجٌ من التأليف والتصنيف شأن بعض أعمالي المبكرة، ومن حيث هو فصول متفرقة في موضوعٍ واحد لم تكن ثمة مندوحة عن شيءٍ من التداخل، أرجو أن يكون تداخلَ تَبيينٍ وزيادةَ خير.
ويبقَى أن أُوَجِّهَ عنايةَ العالِمِ الحقيقي نفسِه إلى أن أدهَى تمثلات العلم الزائف وأخفاها هو ثقتُكَ الزائدةُ ببضاعتِك، وتقديرُك المبالَغ فيه لِعلمِك، ثرائه وسَدادِه وطولِ ذراعِه، فتُفتِي فيما لا تعلم، وتقدم لمجتمعِك أفكارًا غيرَ مُجدِية، وخُطَطًا غيرَ رشيدة.