الحنين إلى الخُرافة
يظهر العلمُ منذ اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يفهم العالمَ كما هو موجودٌ بالفعل، لا كما يتمنى أن يكون.
(١) في البدء كانت الخرافة!
كانت وظيفةُ الخرافة — ولا تزال — تفسيرَ الوجود حيث لا تفسير، والتأثير فيه حيث لا تأثير، لقد كان الإنسانُ الأول مُلقًى في عالمٍ مبهَمٍ غيرِ مكترث، وكان عليه أن يبتكر شيئًا يفسر به ما يجري حوله، ويتحكم به في أرتال الأحداث التي تمضي غيرَ عابئةٍ به، فابتكر الأسطورةَ يتفهَّم بها هذا الوجودَ الملغَز، ويؤَوِّل بها هذا العالمَ الغريبَ الذي لا يُفصِح عن نفسه.
(٢) منطق الفكر الأسطوري
-
لم يكن الإنسانُ الأول يميز بين الذاتي والموضوعي؛ لأنه مغمورٌ بالظواهر وغيرُ قادر على الانسلاخ من الأحداث.
-
كانت «السببية» عنده مشخَّصةً مُغَرَّضة؛ فإذا بحث عن «السبب» فإنه يبحث عن اﻟ «مَن» لا عن اﻟ «كيف»، إنه يبحث عن إرادةٍ شخصية ذاتِ غرض تأتي فعلًا معينًا.
-
لم تكن قوانين الفكر الثلاثة: (الذاتية/عدم التناقض/الثالث المرفوع) تعمل في ذهنه، ومن ثم كان يَحتملُ التناقضاتِ ولا ينفرُ منها مثلما ننفر. كانت المتناقضات تتراصُّ في ذهنه في وئامٍ وسلام! كان بِوُسع الإنسان الأول أن يقدم جنبًا إلى جنب أوصافًا متباينةً لظواهرَ متماثلة، وإن يستلزم الواحدُ نفيَ الآخر mutually exclusive، كان يُسَلِّم بصواب عددٍ من المداخل إلى المشكلة في آنٍ واحد. إنه على إدراكٍ تام بوحدة كل ظاهرة طبيعية يراها في أزياء عديدة متباينة، ففي تعدد صور الظواهر إنصافٌ لما فيها من تعقيد.٣
-
لم يكن الإنسان الأول يميز بدقة بين الوهم والحقيقة (بين الحِلم non-veridical والعِلم veridical) ولا بين الأحياء والأموات! فحتى الموتَى موجودون على نحوٍ ما وقادرون على الفعل والتأثير!
-
لم يكن يُفَرِّق بين الرمز والمرموز إليه، فالرمز (الصنم مثلًا) والمرموز إليه (الإله) ملتئمان بحيث يغدو الواحدُ بديلًا للآخر.
-
كان «الجزء» عنده يمثل «الكل» ويقوم مَقامَه، فيمكن للاسم أو خصلة الشعر أو الظل أن يُعَد بديلًا للإنسان؛ لأن البدائي قد يشعر في أية لحظة أن خصلة الشعر أو الظل مترعٌ بحضرة الإنسان نفسِه، وقد يجابهه ﺑ «أنت» يحمل تقاطيعَ وجه ذلك الإنسان.٤
-
قد تتجسد الصفات والأفكار المجردة أمام الإنسان البدائي: العدل، الموت، الحياة … إلخ، من ذلك مثلًا أن جلجامش وُهِبَ فرصة لكسب الحياة الأبدية بأن يأكل الحياة كمادة، ويرى جلجامش «نبتة الحياة»، غير أن ثعبانًا يسلبه إياها، هكذا فإن التناول من مادة مجسمة هي الحد الفاصل بين الموت والخلود.٥
-
الأنثروبومورفيزم (الأنسنة) anthropomorphism، أي إضفاء صبغةٍ بشريةٍ (مشاعر، مقاصد، نوايا، أغراض …) على جميع الموجودات: الآلهة، الحيوانات، الجمادات … لقد كان إسنادُ فاعليةٍ بشرية للأشياء والظواهر هو استراتيجية إدراكية وتفسيرية عظيمة الفاعلية في ذلك الحين، فالإنسان يعيش في بيئة يشكل البشرُ جانبَها الأهم والأكثر تواترًا وأشد تأثيرًا، ومن ثم فلا مفر له من أخذ كل ما هو بشري في الاعتبار الأول، ولا مفر له في حالة عدم وضوح الرؤية من الرهان على التفسير الأنثروبومورفي. لقد تَحَلَّى الإدراك الأنثروبومورفي بقيمة بقاءٍ جعلت الضغوط التطورية تنتخب أولئك الذين اتبعوا مبدأ السلامة وراهنوا على الرؤية الأنثروبومورفية. وهكذا ورثنا عن أسلافنا هذه النزعة الطبيعية: أن نخطئ — إن أخطأنا — في جانب السلامة، وهكذا صار مُبَيَّتًا في الدماغ البشري أن يتوسم وجودَ بَشَرٍ آخرين أو آثار بشر في الظواهر الطبيعية. لقد أورثَنا أسلافُنا إرثًا ذهنيًّا مغلوطًا حين تصوروا العالمَ الطبيعي على شاكلة بيئتهم البشرية، ذلك التصور الذي أعانهم على البقاء واجتَبَته ضغوطُهم الانتخابية الخاصة بزمنهم. إن حقيقة أن معظم عمليات الكون وظواهره تنجم عن قوى لا شخصية ذاتية التنظيم لا عن أفعالٍ قصدية، هذه الحقيقة هي شيء لا يقع لنا على نحوٍ طبيعي غَرَزي. لقد استغرق الأمرُ قرونًا طويلةً من التجريب الدقيق والعمل النظري الشاق لكي تُسفِر الحقيقةُ عن وجهها. على أننا حين نُسلِم فروضَنا للنظام الصارم للعلم الطبيعي الحديث نحس باغتراب عن عملياتنا الفكرية الطبيعية، وذلك عندما نكتشف كم هي متمركزة على الإنسان نظرتُنا إلى العالم، وكم هي أنثروبومورفية هذه النظرة في حقيقة الأمر.
(٣) انعتاق الفكر العلمي من الخرافة
(٤) تشارلس فرانكل، طبيعة اللامعقول ومصادره
يتساءل تشارلس فرانكل: ما الخَطب؟! ما الذي يجذب المثقفين إلى اللامعقول ويُنَفِّرهم من العقل والعقلانية؟ ما الذي أَدَّى بشريحةٍ من عِلية الناس ومن خِيرة الأكاديميين إلى اليأس من العقل، والمَوْجَدة على العلم ومنهجه؟ وكيف يتأتَّى ذلك من أناسٍ ينتمون إلى جامعاتٍ ومؤسساتٍ جَعَلَت التزامَها الرسمي والتقليدي ممارسةَ البحث العقلاني والتبشيرَ به؟ إنهم يتخذون من اللامعقول موقفًا مؤصَّلًا ومُفَصَّلًا يؤكدونه باعتزازٍ ويذودون عنه ببسالة، ويرون إلى العلم، بل إلى كل التحليل المنطقي والملاحظة المنضبطة ومعايير الحجة السديدة ومثال الموضوعية، يرون إلى كل ذلك على أنه تجهيلٌ منظَّم يُضِلُّنا عن طبيعة العالم الحقيقية وعن متطلباتنا الإنسانية الأصيلة!
وبرغم اللغة الجديدة التي تكتسي بها هذه الحركة، فإن دعائمها الأساسية التي تقوم عليها لا تَعدو أن تكون — في حقيقة الأمر — مقولاتٍ قديمةً يمكن أن تجدها في رسائل التصوف الكلاسيكية وفي أقوالِ كثيرٍ من الفلاسفة والشعراء التقليديين، وإن الأقاويل المتمردة على طرائق تفكير الحضارة الصناعية الغربية، تلك الأقاويل التي تطالعنا كل شهر أو كل أسبوع، إنْ هي إلا صِيَغٌ مستحدَثةٌ، ومهذبة في العادة، لآراءٍ تَعُود إلى العبادات السرية الإغريقية وإلى الفيلسوفَين قبل-السقراطيين هيراقليطس وبارمنيدس.
(٥) الدعاوي الأساسية للامعقول
-
من هذه القضايا فكرةُ أن العالَم الذي يعيش فيه الإنسانُ ينقسم إلى عالَمَين: عالَمِ المظهر وعالَم الحقيقة أو الواقع؛ الأوَّل: تَسِمُه الصدفةُ والشك واللايقين والبرود والاغتراب، أما الثاني: فيتبدَّد فيه الشك، ويفقد الزمنُ والموتُ وَخزَهما، وينغمد المرءُ في عالَمٍ موافقٍ لأعمقِ رغباتِه، ويذوب الخِلافُ والاضطرابُ في حِسٍّ شاملٍ بالانسجام والاتساق.
-
ومنها أن الناس تأخذ المظهرَ على أنه الواقعُ؛ لأن تعريفاتهم للواقع تقوم على افتراضات مسبقة متحيزة تفرضها عليهم ثقافتُهم وطبقتُهم وشئونُهم العملية، يقول ر. د. لانج: «ليس ثمة «حالة» من قبيل «الشيزوفرينيا» (الفُصام)، وهذا النعت إنما هو واقعةٌ اجتماعية، والواقعة الاجتماعية إنما هي «حدثٌ سياسي».»١١ ويقول تيودور روزاك: «يرسم «الواقع» تخومَ ما يمكن أن يُسَمَّى الرؤية الجمعية، حدود الخبرة السوية».١٢ لكل واحد من أنصار اللامعقول طريقتُه الفُضلَى في الانفلات من عبودية التحيز الجمعي، غير أنهم يتفقون في أننا لا نَبلُغ الحقيقةَ والواقعَ إلا عندما نُقارِب الخبرةَ بانسلاخٍ من العقل. يقول روزاك منتقدًا فرويد: «إن الشيءَ الذي لم يرغب فرويد قَط في مواجهته وجهًا لِوجه هو حقيقة أن الخط الذي نرسمه بين العالَم الخارجي هناك والعالم الداخلي هنا قائمٌ بالضرورة على افتراضاتٍ ميتافيزيقيةٍ لا يمكن أن تخضع هي ذاتُها للبرهان العلمي».١٣
-
ومنها أن الطبيعة البشرية تُبدِي هذه الثنائية الأنطولوجية بين المظهر والواقع. ثمة معركةٌ تدور رحاها داخل كل شخص بين «الدماغي» و«العاطفي»، بين «الوعي» و«الحَدس»، بين «الإمبيريقي» و«الطرَبِي»،١٤ وعندما يحاول الجانب العقلاني أن يَمُد نطاقَه خارجَ حدودِه المستحقة فإنه يهين الإنسان ويبخس قيمة الطبيعة.
-
ومنها أن العلامة المؤكدة على أننا قد ضَلَلنا السبيلَ هي عندما نصل إلى حالاتٍ من الوعي يتمايز فيها الذاتُ والموضوع، وهكذا يجب طرح الثقة بالعلم من حيث المبدأ؛ لأنه يقوم على التمييز بين الذاتي والموضوعي، يقول كورت باك في وصف التأثيرات المشتِّتة التي تعوق حركة «تدريب الحساسية» sensitivity training: «علينا أن نرفض الجانب الفكري من الحياة، أو — باللغة الجسدية — نرفض تأثير اللحاء (لحاء المخ) cortex … أن نتملص من الإلحاح على الفكر، على قدرات صناعة الأدوات عند الحيوان البشري، عن التصنيف، وباختصار: عن توسُّط أي خبرة خلال التفكر، وندفع المشاركين في اتجاه الخبرة المباشرة التي لا تُقَلَّب في الفكر ولا تُحَلَّل».١٥
كذلك نعرف أننا ضَلَلنا السبيلَ أخلاقيًّا وعاطفيًّا — وفقًا لِحركة اللامعقول — عندما نشعر بالانفصال عن إخوتنا من بني الإنسان أو نغترب عن الطبيعة أو ننقسم داخل أنفسِنا. ليس ثمة تنافر بين المخلوق البشري وبيئتِه، وإذا وُجِدَ تنافرٌ فالبشر هم المسئولون عنه. عندما لا نَقنَع بمكانِنا في مخطط الأشياء يكون سببُ ذلك أننا سمحنا للحالة «العقلانية» للفهم أن تسُود على غيرها من حالات الفهم. إن أعظم حقيقة تَعَلَّمَها الجنس البشري من التصاقِه القديم بالطبيعة هي حقيقة الوجود الروحي، وإذا نسينا ذلك فسوف نفقد الكمال النفسي، ومن المتيقَّن أن ما يسلبنا الكمالَ النفسي لا يمكن أن يكون حقًّا.
-
يترتب على ذلك أن جميع المشكلات الإنسانية: المعرفية والعاطفية والاجتماعية، مَرَدُّها إلى فقدان الانسجام (الهارمونية): الانسجام بين الإنسان وبيئته، بين رأسِه وقلبِه، بين أفكارِه وغرائزِه. هكذا تُقَدِّم لنا حركةُ اللامعقول صورةً للحياة الصالحة: إنها حياةٌ خِلوٌ من الاضطراب والضيق، حياةٌ منعتقة عن طريق النشوة الانفعالية أو التأمل الجَذِل، من الندم على الفائت ومن تنغيص القرارات وأخطار اللامعصومية، ومن السهل — سواء اتفق المرءُ مع اللامعقول أو اختلَف — أن يفهم لماذا كان للامعقول جاذبيةٌ دائمة. إنها تقدم رؤيةً لِضَربٍ من السلام والقبول والالتزام غير المشروط، انتَفَت فيه الأخطارُ والآلام والهموم المعتادة للوجود البشري.
(٦) تفنيد أسس اللامعقول
-
إذا فحصنا القضية الأولَى — قضية التمييز بين «المظهر» و«الواقع» — لَوَجدنا أن هذا التمييز هو شيء لا ينفرد به تيار اللامعقول، فالعملية العلمية ما تَنفَكُّ تفعل الشيءَ نفسَه، وذلك بطريقتَين؛ الأولى: أنها تقاوم أو تعيد تأويل البنية الكثيفة لِحواسِّنا (تأملْ كوبرنيقوس وجاليليو على سبيل المثال)، والثانية: أنها تخترق ستار الاعتقاد القائم، مستبدِلةً بالأفكار المدعومة بالرأي التقليدي أو السلطة الرسمية أفكارًا أخرى تستند إلى أدلةٍ مستقلةٍ وغيرِ شخصية.
كما أنه من المُحال — كما بَيَّن مفكرٌ مثل هيدجر وجادامر من بعدِه — أن يقوم أيُّ بحثٍ من أي نوع دون فروض مسبقة، فهل كل فروضٍ مسبقة — لمجرد أنها فروضٌ مسبقة — هي إقحاماتٌ لا أساسَ لها على طبيعةِ الأشياء؟ الحق أن الفروض المسبقة في العلم وفي غيرِهِ من المناهج العقلانية، هي فروض مدعومةٌ بخبرةٍ ناجحةٍ في الماضي، وهي بَعدُ عُرضةٌ لِضوابط التحقق والتمحيص والتصحيح أو الرفض، وهي لا تُستبقَى إلا بقدر ما تَثبُت لاختباراتٍ قاسيةٍ متتالية، وبقدر ما تُبدِي نجاعةً تفسيريةً وتنبؤية تفوق ما تُبديه أيةُ افتراضات بديلة. الفروض المسبقة — إذن — ليست خَبطَ عشواء، وإنما لديها ما يُزَكِّيها مِن قَبلُ، وما يَعجِمُها مِن بَعدُ ويختبرُها اختبارَ النار، فالمجتمع العلمي ليس ناديًا مغلقًا منكفِئًا على رؤيةٍ للعالمِ ضيقةٍ منعزلة تتَأبَّى على أي اختراقٍ أو ثورة، بل إن التاريخ الفكري للعلم هو سلسلة من الثورات، بينما الفكر اللامعقول ما ينفك يدور حول نفسِه، يدور ولا يَثُور.
(٧) السيكولوجيا الثنائية للامعقول
مِن الوجهة العملية فإن تيار اللامعقول يُهِيب بالمجتمع ألا يتجشم حفظ النظُم ومدونات الأخلاق واللياقة التي ثبتَ أنها ضروريةٌ لِدَعم عاطفة العقل، قانعًا في ذلك بالمعقولية الصميمة للغريزة الإنسانية، والتماثل الأصلي المقدَّر بين حاجات الطبيعة البشرية وبين طبيعة العالَم!
إن العقل في حقيقة الأمر — وبِعَكس ما تراه حركة اللامعقول — لا يَدسُّ نشازًا بل يُضفِي التوافق، أما النشاز فيأتي من عواطف الدرجة الأولى، من الاندفاعات الآلية التي يتنافر بعضُها مع بعض.
(٨) اللامعقول والخطيئة الأصلية
صفوة القول أن العالَم — عند نصير اللامعقول — خيرٌ، وإن الإنسان، الإنسان العقلاني، هو الذي جعله، عن عمد، شرًّا، إن اللامعقول — من وراء جدلياته الطويلة وبلاغته المستغلقة — هو محاولة لِحَل المشكلة القديمة: مشكلة «الشر»، ولإعادة طرح الأسطورة القديمة: أسطورة «السقوط».
(٩) بروميثيوس وآكل اللوتس
(١٠) لِمَ اللامعقول؟
ثمة ملامح خاصة للمشهد الراهن تساعدنا في تفسير الرواج الكبير للامعقول، ونوعية الجمهور واللغة والأسلوب الخاص لهذا اللامعقول، بين هذه الملامح: الحاجات التسويقية وعادات الاقتصاد التنافسي وخصوصيات وضع الشباب وثقافة العقاقير وشغف لاهوتيي التحرير في التوحد مع ما هو جديد أو ما يبدو جديدًا.
وهناك عوامل أخرى، منها: الأذى الذي ألحقته التغيرات التكنولوجية المنفلتة، ومنها بعض العلماء الذين زَلَّت أقدامُهم إلى مواقف علمية زائفة، ومنها الأذى الذي ألحقه بالعلم بعضُ العلماء، وبخاصة من علماء الاجتماع، الذين بالغوا في تقدير ما لديهم من علمٍ صحيح وقابل للتطبيق فتقدموا — بثقة — بحلولٍ لمشكلات اجتماعية تَبَيَّنَ أنها ليست أكثر من خليط من الأمل الكاذب والأحكام الأخلاقية الضيقة.
حين نتفحَّص طبيعةَ حجج اللامعقول ندرك أن النزاع بين مؤيدي المناهج العقلانية ومعارضيها يُمثِّل انقسامًا قديمًا في الروح الغربية: في الخلافات بين السوفسطائيين والفيثاغوريين، بين المسيحيين الأرسطيين والمسيحيين الأوغسطينيين، بين الدومينيكان والفرنسيسكان، بين كولِريدج والنفعيين، بين هنري برجسون وبرتراند رَسِل. في هذه الخلافات نجد تكريرًا متعاقبًا لنفس الدراما، وهي تعلو لِدرجة الحُمى عندما يتسارع الكشف العلمي وتبدو الكشوفُ التي يصنعها العلمُ هادمةً أكثر فأكثر للاعتقادات الموروثة أو العقائد الاجتماعية أو عادات الفعل أو القوانين، ومقوِّضة لصواب الآمال والضغائن القديمة ووجاهتها. في مثل هذه الظروف يقدم اللامعقول وعدًا بالانفراج والمناعة، ورغم أن اللامعقول لا يشير إلى شرٍّ ما إلا على نحوٍ أخرق، فالحق أن هذا الشر قائمٌ هناك. لقد دأب المنهجُ العقلاني على التركيز فيما يؤدي إلى تقدم المعرفة والتقنية، وقلما التفت إلى فحص الأغراض التي تُسَخَّر لها هذه المعرفة وهذا الذكاء، ومن الطبيعي أن العلم في هذه الحال سيبدو بالضرورة أشبه بفرانكنشتاين عند من يتهددهم العلم.
وفي خاتمة مقالِهِ يضيف تشارلس فرانكل ملاحظةً أخيرة، هي أنه كثيرًا ما تنجم الخلافاتُ بين المعقول واللامعقول — على الأقل في حالاتها الأخف — عن نوع من سوء التفاهم، فالاختلاف في بعض الأحيان لا يَعدو أن يكون اختلاف ذائقة واختلاف أسلوب؛ فيؤخَذ ذلك على أنه اختلافٌ أخلاقيٌّ ومعرفي جوهري، وعلى الذين لا يطيقون اختلافَ الذوق والأسلوب أن يأخذوا بمبدأ التعايش: عِش ودَعْ غيرَك يَعِش.
(١١) بقاء الخرافة بين الشرق والغرب
حين تنكص المجتمعات الصناعية الكبرى إلى بعض مظاهر التفكير الخرافي (قراءة الطالع، الأرواح والأشباح، الأطباق الطائرة، الذين هبطوا من السماء، الجلاء البصري، الحاسة السادسة … إلخ) فإنما تفعل ذلك لعجزٍ اجتماعيٍّ لا لعجزٍ معرفي أو فكري. يتمثل هذا العجز الاجتماعي في عدم القدرة على التحكم الواعي في مسار المجتمع، وفي القوى التي تسيطر عليه. ويظل الفكرُ الخرافي هناك ظاهرةً هامشية لا ضرر منها ما دام أسلوب الإنتاج السائد لا يسمح بوجود عناصر غير محسوبة أو غير متوقعة، وما دامت الحياة اليومية ذاتها تخضع لنظام محدد لا مجال فيه للاستثناءات أو الانحرافات، والمجرى العام للحياة يخضع للضوابط العقلية والتخطيط المدروس.