نسبية الذاكرة!
(١) ما الذاكرة؟
يا أيامَ ذلك العام، اخْتَزَنَتْكِ ذاكرتي، ومن صورتِكِ انمَحَتْ رويدًا رويدًا السترةُ المهترئةُ الحائلةُ اللون، واحتَفَظَتْ به، وهو يَنْضُو عنه سترتَه المهترئةَ، ويستوي أمامي بالغَ الكمال، مثل تحفةٍ لا تشوبها شائبة.
ثمة وهمٌ متوارَثٌ، رَوَّجت له زمنًا نظرياتٌ سيكولوجيةٌ عتيقة، يقول بأن الذاكرة البشرية أشبه بشريط التسجيل الذي يسجل كلَّ ما يرِد عليه دون أن يَخْرِمَ منه شيئًا، وأن كل منبه ورد على عقل الإنسان هو مسجَّلٌ فيه بشكلٍ ما وبدرجةٍ ما. وإن تكن أغلبُ المادة المسجَّلة محفوظةً في مستوًى عميق من باطن العقل؛ وهي من ثم قابلة للاسترجاع. أما المادة المحفوظة في ظاهر العقل فهي قابلة للاستدعاء بدقةٍ ما دام الشخص يتمتع بكفايةٍ عقليةٍ تامة ونزاهةٍ تعصمه من الكذب ولَيِّ الحقائق. وأما المادة المحفوظة في أعماقٍ سحيقةٍ من باطن العقل — وبخاصة إذا كانت مؤلمةً قد نالها الكبتُ وجعلها في حصنٍ منيع — فهي قابلة للاستعادة بواسطة تقنيات سيكولوجية من قَبيل التوجيه اللفظي وحفز التخيل والتنويم … إلخ.
-
الذاكرة الصريحة وتتضمن تسجيل المعلومات.
-
الذاكرة الضمنية وتتضمن تسجيل الخبرات.
والذكريات الضمنية ليست أكثر دقة من الذكريات الصريحة؛ فقد يتسنى لنا أحيانًا أن نتذكر بنودًا من المعلومات بدقة كبيرة، أما الذكريات الخاصة بأحداث الحياة فهي دائمًا عرضة للخطأ، كما أن الأحداث المصحوبة بانفعالٍ قوي ليست أفضل تذكرًا من الأحداث الخالية من الانفعالات. وقد دلت الدراسات الإمبيريقية على أن شهادة الشهود قد تكون محرفة بدرجة تدعو للدهشة، كذلك تثبت الدراسات أن استدعاء الأحداث التاريخية الدرامية هو أيضًا تشوهه المخططات المعرفية المسبقة.
وصفوة القول أن الذاكرة ليست تسجيلًا سطحيًّا لمثيراتٍ خام، فما يُذخَر في الذاكرة هو في الحقيقة بناءاتٌ تَمَّ تشييدُها وفقًا للمخططات المعرفية، وهي نتاجٌ ثقافي بالدرجة الأساس.
(٢) الدراسات الثقافية للذاكرة
وقد قام س. ف. نيدل بتجارب ميدانية وسط كل من اليوروبا والنيوب في نيجيريا. وهما شعبان يختلفان اختلافًا صارخًا في نواحٍ عديدة على الرغم من أنهما يعيشان جنبًا إلى جنب وتحت نفس الظروف العامة، ولديهما أنظمة اقتصادية وتنظيمات اجتماعية متشابهة ويتحدثان لغات متقاربة. يتميز دين اليوروبا بنسق تراتبي هرمي معقد من الآلهة لكل إله فيه واجباته ووظائفه المحددة، وقد طور اليوروبا فنونًا تشكيلية واقعية ومسرحًا واقعيًّا. وعلى النقيض من ذلك كان دين النيوب يتمركز حول قوة غامضة مجردة غير شخصية، وكانت الأشكال الفنية لديهم متطورة جدًّا في الفنون الزخرفية، ولم يكن لديهم تراث مسرحي شبيه بما لدى اليوروبا.
قام نيدل بتأليف قصة يمكن استخدامها لاختبار التذكر في كلتا الجماعتَين، وقد جاءت النتائج مؤكدة لتوقعاته: فقد تذكر اليوروبا البنية المنطقية للقصة والعبارات ذات الدلالة والأحداث الحاسمة في مجرى القصة ولم يأبهوا للكليشيهات غير الدالة، بينما تذكر النيوب الكليشيهات كما هي بالضبط وأقحموا على القصة عناصر من عندهم تخلق صورة ملموسة حية لوقائع القصة.
(٣) قلم (الذاكرة الشفاهية)
إن قلمي أَمهرُ مِني.
ليس ثمة مِن سبيل إلى تفنيد عالم الشفاهية الأولية، وكل ما تستطيع أن تفعله هو أن تُدبِر عنه نحو عالم الكتابية.
كان الماضي يُخني على الحاضر والمستقبل، ولا يَسمح لشيءٍ جديدٍ أن يُولَد … اللفظةُ المَحكِيةُ لا تَدخل وحدها أبدًا، بل تَجُر معها عالمًا بأسرِه، عالمًا قديمًا لا يريد أن يزول.
حين اختار الإنسانُ أن يتكلم اختارَ أن يُبدِعَ نفسَه.
وحين اختار أن يَجبُل أدواتٍ يَعجِنُها بِفِكرِه ويمدها بينه وبين العالم فقد اختار أن يُضَخِّمَ دماغَه ويُفسِحَ نطاقَه ويطبعَ بَصمةَ عقلِه على الطبيعة.
وحين اختارَ أن يتخذَ قلمًا، أن يَصِلَ أطرافَه بهذه القصبةِ النحيلة، ويُطيلَ أناملَه بهذا السِّنِّ المُستَدَق؛ تضاعفت مهارتُه، وطال مَرمَى فكرِه، وبَعُدَ شوطُ طموحِه ومَنالُ عقلِه.
كان القلمُ مِفتاحَ الانعتاقِ من السجنِ الشفاهي الذي كان مرتهَنًا فيه دهورًا!
كانت الشفاهيةُ قَيدًا خَفِيًّا يُكَبِّل العقلَ والوجدانَ ويَفرض عليهما ضوابطَ صارمةً وأحكامًا مُبرَمة.
لا مندوحة للمرء في الثقافة الشفاهية من أن يَصب تفكيرَه نفسَه داخل أنماطٍ حافزة للتذكر وقابلة للتكرار الشفاهي. هنالك يتعين عليه أن يَجْبُلَ مادةَ الفكر في أنماطٍ ثقيلة الإيقاع، متوازنة، أو في جملٍ متكررة أو متعارضة أو مسجوعة، أو في ثيماتٍ ثابتة، أو في أمثالٍ رنانة سهلة الترديد، وهو مدفوع بحاجته التذكرية إلى أن يلصق بالأشياء أوصافًا صارخةً فاقعًا لونُها، وأن يضفي الإيقاعَ ويتشبث به كأنما يحبس فيه الطليقَ ويعبِّئ السائب! وأن يستعين بحركات الجسم وإشارات اليد كأنه يُثَبِّتُ بها الكلمات ويسد عليها كل مَهرَب، أو كأنه يكمل بها رسمَ موقفٍ وجودي يسهم فيه الجسدُ بقسطٍ كبير.
تُهيبُ الشفاهيةُ بالمرء أن يفكر بعقل الجماعة، وأن يعتصم بالأنماط الواردة والنماذج المألوفة والصيغ الجماعية الثابتة، والنعوت الموزونة يلصقها بالحق أو بدونه! إن الحاجة التذكرية هنا هي التي تُملِي تركيب العبارة وتحدد مجالَ الفكر الذي يمكن للمرء أن يروده.
ومن سمات الحفظ الشفاهي أنه يخضع للتغير نتيجة للضغوط الاجتماعية المباشرة. لا يملك الراوي الشفاهي روايتَه ملكيةً تامةً أبدًا، إنه منغمسٌ في تفاعلٍ مباشر مع مستمِعٍ حي، ومن شأن توقعات المستمعين واستباقاتهم أن تعمل على تثبيت الموضوعات والصيغ. ينجرف المتحدثُ الشفاهي بعقل الجماعة ويميل لِمَيلِ الجمهور ويقول ما يريد منه الجمهورُ أن يقوله، يقول «ما يطلبه المستمعون!» إن جاز التعبير. وحين ينقطع الطلب على سلسلة من الأنساب (سلسلة المهزومين مثلًا) تميل هذه السلسلة للاختفاء أو التحوير. هكذا تسمح الثقافةُ الشفاهية للأجزاء المؤلمة من الماضي بأن تُنْسَى بسبب مقتضيات الحاضر المستمر، وهكذا تُحَتِّمُ الشفاهيةُ دائمًا شيئًا من الكذب والتحوير والتحريف بحكم طبيعة الذاكرة الشفاهية ذاتها.
وبحكم طبيعة الذاكرة الشفاهية، وابتغاء العون التذكري، تلجأ الثقافةُ الشفاهية إلى المبالغة البطولية، وتضخيم الشخصيات إيجابًا وسلبًا، والتهويل والإغراب والاستقطاب الذهني، وما يقتضيه ذلك من الإفراط في المدح والقدح والحب والبغض والوُد والشنَآن؛ ذلك أن من الاقتصاد العقلي أن تسرف في الوصف كي تدخر في الجهد التذكري، وأن تحول العادي إلى غير عادي، وأن تزيد من ثقل الشخصيات وتمد من أقطارها وتُبرِز من آثارها حتى تتيح لها الدوام والبقاء، فهي على كل حال لن تبقى إلا ببقاء الذاكرة ولن تذهب إلا بذهابها.
في المجتمعات الشفاهية لم يكن للمعرفة سِجِلٌّ إلا عقول الشيوخ وسَدَنة الماضي وحَفَظَة الحكمة، وكان على هؤلاء ترديد حكمة الماضي مِرارًا وتكرارًا حتى لا يُرخِي عليها النسيانُ سُدولَه. كان عبءُ الحفظ ثقيلًا لا يترك للذهن فُسحةً للتجديد أو مُراغَمًا للتجريب. هذا مَرَدُّ الصبغةِ المحافِظة وسطوة التقاليد وقداسة السن في البيئة الشفاهية. لقد كان الماضي يُخنِي على الحاضر والمستقبل ولا يسمح لشيءٍ جديدٍ أن يُولَد.
حين اختار الإنسانُ أن يتخذ قلمًا اختار الانفصال عن الوسط الطبيعي، اختار أن يقيم في العَراء، في بَرد الموضوعية، في طقس التجاوز والنقد؛ نقد الصور السائدة من الفكر والوجود. والقلم، شأنه شأن الآلة الموسيقية وشأن كل عَتادٍ تقني، يتحول من خلال التدريب والحِذق إلى عضوٍ جديد يُضاف إلى أعضائه، يُثرِي عالمَه ويوسع نطاقَ وجودِه.
حين اختار الإنسانُ أن يتخذ قلمًا كان يؤسس لموضوعيةٍ لم تعرفها الثقافاتُ الشفاهية، وكان يُحِدُّ من تَدَخُّلِ عالم الشئون اليومية وشحناتِها الانفعالية في نشاط الفكر المجرد والتأمل الرياضي والخيال العلمي. لا يتسنى للعلم أو الفكر أن ينمو على نحوٍ مطَّرِد إلا مع توافر المصطلح الحيادي الصلب، و«القَطيعة» مع اللغة الدارجة السائلة، وتوافر حد أدنى من الانفصال عن مقتضيات الشفاهية، وعن المعاني الارتباطية للفظةِ المحكية التي لا تَدخل وَحدَها أبدًا، بل تَجُرُّ معها عالَمًا بأسرِه، عالمًا قديمًا لا يريد أن يزول.