مشكلة التمييز بين العلم والعلم الزائف
حالما تعانقَ الفُرَقاءُ النظريون في ساحة التطبيق فثَم (مفارقةٌ) تُنادِي بمزيدٍ من العمل الفلسفي، وتهيب بنا أن ننظر في عقلنا الاستدلالي قدرَ ما ننظر في المشكلة.
(١) مفهوم العلم
كانت فلسفةُ العلمِ في السابق تنظر إلى العلم بوصفِه مجموعةَ معارف علينا أن نبحث لها عن تعريفٍ (مجردٍ قدرَ الإمكان) في حدودٍ من مفردات اللغة أو مادة الموضوعات التي يتناولها. أما الآن فَتُرَكِّز المداخلُ المعاصرةُ على العلم بوصفه شيئًا «يفعله» (يعمله) البشر ممارسةً بشرية، قد يبدو هذا تعريفًا دائريًّا خالِصًا ما دام علينا أن نمضي ونعرِّف العالِمَ بأنه «شخصٌ يفعل العلم»، غير أن الأمرَ خلاف ذلك؛ فليس هناك في الحقيقة صعوبةٌ تُذكَر في تَبَيُّنِ العلماء وتمييزهِم من بين عامة البشر، وبِوُسعِنا إذا تَبَيَّنَّاهم أن نقوم بدراساتٍ مفصَّلةٍ حول ما يفعلونه.
وللعِلم تاريخٌ طويلٌ ومعقد، وينعقد الاتفاقُ اليومَ على أننا لا يمكن أن نفهم طبيعةَ العلمِ المعاصرِ دون دراسة تاريخِه، مما يتضمن عمليًّا دراسةَ تاريخ علومٍ جزئيةٍ كثيرة، فالورقة الرابحة لِفَهمِ العلم المعاصر هي أن ننظر في نموه التاريخي، وبالمثل فهم العلاقة بين علمَين من العلوم، فخَيرُ مدخلٍ لذلك هو النظرُ في صِلاتِهما التاريخية. ومن المهم على كل حال أن نضع في اعتبارِنا أن الفلاسفة عندما يتحدثون عن فهم علمٍ من العلوم، فإنما يتحدثون عَما يفهمه شخصٌ غيرُ متخصص وغير مساهِم فيه، مما يتضمن النظرَ في مكان ذلك العلم في المجال الكلي للأنشطة الفكرية البشرية، أي إنهم لا يتحدثون عن ذلك النوع من الفهم الكائن لدى المساهِم في العلم والداخل في حلقتِه، فذلك شيءٌ مقصورٌ على العلماءِ ذاتِهم.
إن المفهومَ الأعرضَ للعلم هو الأفضلُ لنا حين نكون بصدد مشكلة التمييز؛ إذ إن هذه المشكلة مَعنِيَّةٌ بما هو أعمقُ من مجرد تحديد ما أسميناه — لأسبابٍ متعددة — عِلمًا؛ فنحن بعد كل شيء نريد أن نحدد أي الاعتقادات هي المُسَوَّغة إبستيميًّا.
(٢) على أي شيءٍ يقع التمييز؟
أي جانبٍ أو عنصر في العلم ينبغي أن تُطَبَّق عليه معايير التمييز؟
تَعَدَّدَت الآراءُ في ذلك؛ فهناك مَن ذهب إلى أن التمييز يجب أن يشير إلى برنامج البحث (لاكاتوش)، وهناك مَن قال: إنه يُطَبَّق على «الحقل الإبستيمي» أو المبحث المعرفي، أي مجموعةِ أشخاصٍ لديهم أهدافٌ معرفية مشتركة ومُمارَسات هذه المجموعة، وهناك مَن قال إنه يَسرِي على النظرية الفردة (بوبر)، أو على الممارسة (لوج، موريس)، أو على مشكلةٍ علمية (سيتونِن)، أو على بحث معين (كون). وربما يكون من الإنصاف أن نقول: إن معايير التمييز يمكن تطبيقها على كل مستوى من هذه المستويات الوصفية. أما السؤال الأصعب حقًّا فهو: أَيٌّ من هذه المستويات هو المستوى الأساسي الذي يمكن أن تُرَدَّ إليه التقييمات الواقعة على المستويات الأخرى؟
وقد نَزَعَت جميع العلوم إلى أن تكون «مؤسسة»، فرجل العلم رغم كل شيءٍ ليس مفكرًا منعزِلًا، بل هو مشارك في قسمٍ علمي بجامعة أو كلية، أو في مركز أبحاث، وله زملاء في التخصص يتبادل معهم المعلومات بشكلٍ رسمي وغير رسمي، ويشترك معهم في التجريب والبحث، ولكل فرع علمي أيضًا ما يُسمى «الكلية المحجوبة» أو «المَجمَع المحجوب»، وهو مجموع العلماء — أينما كان موقعهم — الذين يعتبرون أنفسَهم مضطلِعين بنفس النوع من العلم، يبقى أعضاء هذا المجمع غير المنظور على صلة من خلال الهاتف والرسائل وتبادل النسخ التمهيدية لمقالاتهم، والمشاركة في نفس الدوريات العلمية وقراءتها.
يعتمد الحكم بما يُعَد ذا قيمة علمية على الموافقة أو الإجماع، غير أن العلماء لا يصلون إلى هذا الإجماع إلا بتقديم حجج مقنِعة لدعم وجهات نظرهم. وعلينا أن نُسَلِّم بأن في كل حقل علمي هناك دائمًا قلة من الشخصيات البارزة القوية تقوم بدور حارس البوابة وتتحكم في منافذ الدوريات والوظائف والاعتمادات المالية الخاصة بالبحث العلمي.
من الحق أن رجال العلم يميلون — كقاعدة عامة — إلى إعلاء شأن البارزين منهم وأخذهم بكثير من الجِد والاهتمام، وأن العلم ليس أكثر من غيره من الأنشطة البشرية حصانةً ضد «سماسرة النفوذ» الذين يتلذذون ببسط سلطانِهم. ومع ذلك فحين ننظر في الطريقة التي تقوم عليها المؤسسة العلمية، ندرك أنه ما من فردٍ أو جماعة بِمُكنتِها أن تعزز أو ترعى نتاجَ علمٍ رديء حتى لو شاء هذا الفردُ أو هذه الجماعةُ ذلك (حقًّا لقد استخدمت الحكومات الشمولية نفوذَها أحيانًا لِتغيير المَسار الطبيعي لعملية البحث العلمي أو التدخل فيها إن لزم الأمر، ولكن هذا لا يجب أن يبعث الشك في العلم وهو قائم في مؤسساته المعتادة). إن الأثر العلمي لا بد أن يُنشَر؛ وبالتالي لا بد أن يُعرَض للفحص والتمحيص من قِبَل أفرادٍ يهمهم ويعزز وظيفتَهم أن يكشفوا أيَّ أخطاءٍ فيه أو أوجه قصور. هكذا تكون الأشكال المؤسساتية للعلم هي التي تضمن أمانةَ ممارسيه، وهي تحقق ذلك بأن تعتمد على التنافس البشري المعتاد، وألا تسمح لأي دافعٍ آخر بأن يعلو عليه (بل لا يدفعنا كل هذا أن ننكر أن كثيرًا من العلماء ليس لهم من دوافع غير الاستطلاع المنزه عن الغرض والتكريس المخلص لحل المشكلات من أجل حل المشكلات).
(٣) معايير التمييز
(٣-١) معيار قابلية التحقيق verifiability
وهو المعيار الذي ارتكزت عليه الوضعية المنطقية (حلقة فينا)، وينص على أن العبارة العلمية تتميز عن العبارة الميتافيزيقية بأنها قابلة للتحقق التجريبي على الأقل من حيث المبدأ، فمعنى العبارة — عند الوضعيين المناطقة — هو طريقة تحقيقها؛ ومن ثم فليس هناك معنى لأي عبارة إلا إذا كان بإمكان المرء من حيث المبدأ أن يتحقق منها (تحققًا تجريبيًّا حِسيًّا بطبيعة الحال) أو يؤيدها بشهادة الخبرة والحواس. وكثيرًا ما كان يُسحَب هذا الرأي على التمييز أيضًا بين العلم والعلم الزائف، غير أن هذا الحديث غير دقيق من الوجهة التاريخية، فالحق أن معيار التحقيق في الوضعية المنطقية كان يهدف إلى حل مشكلةٍ مختلفةٍ تمامًا، هي مشكلة التمييز بين العلم والميتافيزيقا.
(٣-٢) كارل بوبر: معيار قابلية التكذيب falsifiability
لم يَرُق مبدأُ التحقيق لكارل بوبر، فقام بتفنيده تفنيدًا منطقيًّا مفصَّلًا، واستبدل به مبدأً جديدًا، هو مبدأ «قابلية التكذيب»، ومُفادُه — ببساطة — أن من صفة العبارة العلمية الأصيلة أن تشير إلى أمثلةٍ لِمَا تكون عليه حال الأشياء لو أنها كانت كاذبة، أي تخبرنا بشيءٍ محدد يُكذِّب النظرية إذا ما لاحظناه.
- الأولى: فئة كل القضايا الأساسية التي لا تتسق معها (أي التي تمنعها النظرية من الحدوث)، ونحن نطلق عليها فئة «المكذِّبات بالقوة» potential falsifiers.
- الثانية: فئة كل القضايا الأساسية التي لا تناقضها (أو التي تسمح بها)، ويمكننا أن نضع هذه بصورة أكثر إيجازًا بالقول: تكون النظريةُ قابلةً للتكذيب إذا كانت فئة مكذِّباتها بالقوة غير فارغة.
ذلك أن كل نظرية علمية أصيلة هي نوع من «المنع» أو «الحظر»: إنها تمنع أشياء معينة من أن تحدث، وكلما زاد ما تمنعه النظرية زاد نصيبها من الأصالة العلمية، أما النظرية التي تسمح بكل شيء و«تمرِّر» كل شيء وتفسر كل شيء فهي لا تقول شيئًا، ولن تكون نهايتُها المنطقية سوى أن تلحق بتحصيلات الحاصل.
وكذلك الشأن بالنسبة لدرجة «احتمالية» الفرضية باصطلاح بوبر: يذهب بوبر — وهو ما يبدو مفارقة للنظرة الأولى — إلى أن النظرية الأكثر احتمالًا هي الأقل في المحتوى المعلوماتي، والعكس بالعكس؛ ومن هنا كانت الفرضيات غير المحتملة هي الأفضل من الوجهة العلمية والأكثر إثارة لاهتمام العلماء الحقيقيين، فمثل هذه الفرضيات الجريئة البعيدة الاحتمال تملك قوةً تنبؤيةً عالية، وهي بالتالي أكثرُ قابلية للدحض، وبالطبع يُشغَف العلماءُ بالفرضيات البعيدة الاحتمال القريبة رغم ذلك من الحقيقة، أي التي صمدت لأَعتَى اختبارات التكذيب، مثل نظرية أينشتين عن «التواء المكان» بفعل الكتل الكبيرة.
تأمَّلْ فرضيةً أخرى، وهي الفرضية القائلة بأن «منطقة بروكا» هي التي تتحكم في إنتاج الكلام، فلكي يبرهن المرءُ على هذه الفرضية فلن يكفيه أن يعثر على ارتباط موجب بين حالات تلَفِ منطقة بروكا وبين فقدان الكلام، فلا بد للمرء أن يكشف ما إذا كان هناك مرضى بتلفٍ في منطقة بروكا بدون فقدان للنطق، وأن يكشف ما إذا كانت هناك حالات فقدان نطق مع تلف في مناطق أخرى، عندئذ سيكون الفشل في التكذيب ذا دلالة، بعكس تجميع الحالات المؤيِّدة. تفيد دعوى بوبر أن العالِم إذا قبِل الفرضيات عن طريق إيجاد أمثلة مؤيدة فسوف ينتهي به المطاف إلى قبول ما لا يُحصى من الفرضيات الكاذبة والسير فيما لا يُحصى من الطرق المسدودة. أما إذا ظفر بفرضيةٍ صمدت لمحاولات عنيفة لتكذيبها، فعندئذ يمكنه قبول هذه الفرضية، لا باعتبارها صادقة، ولا باعتبارها مؤيَّدة، بل باعتبارها أفضلَ فرضيةٍ متاحة حتى الآن. لقد أتى بوبر بتصور للتبرير مختلف عمن قبله، وخلص من ثم إلى آراء مختلفة تمامًا حول ديناميات العلم وبنيته وديناميات المعرفة وبنيتها على وجه العموم.
في كتابه «الحدوس الافتراضية والتفنيدات» يروي بوبر رحلةَ عقلِه مع الأفكار العلمية، يقول بوبر: «في صيف عام ١٩١٩م بدأ يداخلني شعورٌ بعدم الارتياح لهذه النظريات، وبدأ يخامرني شك حول ادعاءاتها للمنزلة العلمية. ربما أخذت مشكلتي في البداية شكلًا بسيطًا: «ما خَطْبُ هذه النظريات؟ ولماذا تبدو مختلفةً عن النظريات الفيزيائية، عن نظرية نيوتن، وبصفة خاصة عن نظرية النسبية؟» ولكي تتضح هذه المقارنة لا بد أن أُفضي بأن أغلبنا في ذلك الوقت ما كان يمكن أن يقول: إنه يعتقد في «صدق» نظرية أينشتين في الجاذبية. من هذا يتبين أن ما كان يؤرقني ليس هو الشك في «صدق» تلك النظريات، بل هو شيء آخر، ولا كان ما يؤرقني هو مجرد الشعور بأن الفيزياء الرياضية أكثر دقة من الصنف الاجتماعي أو النفسي من النظريات. لم يكن همي إذن هو مشكلة الصدق (في هذه المرحلة على الأقل)، ولا مشكلة الدقة والقابلية للقياس، بل هو بالأحرى شعوري بأن هذه النظريات، وإن اتشحت بوشاح العلم، تشبه الأساطير البدائية أكثر مما تشبه العلم، تشبه التنجيم أكثر مما تشبه علم الفلك.
هكذا بدأت الشرارة الأولى في ثورة بوبر المنطقية على العلم الزائف. لقد استوقفه التباين الشديد بين الماركسية والفرويدية من جهة، ونظرية أينشتين من جهة أخرى. كان الماركسيون والفرويديون يرون أينما نظروا تأييدات لنظرياتهم، «بينما جهد أينشتين غايةَ الجهد لكي يصوغ تنبؤًا بالغَ الدقة والتحديد وقابلًا للملاحظة ومن شأنه إذا كذبته الملاحظةُ أن يدحض النظريةَ ويأتي عليها.» لم يكن الفارق الذي استرعى انتباه بوبر في هذا الأمر فارقًا سيكولوجيًّا يتعلق بالنزاهة العلمية في مقابل العناد والمكابرة وعدم الرغبة في الاعتراف بوجود حالات لا تؤيد النظرية، وإنما الفارقُ منطقيٌّ محض يتعلق بطبيعة البنية المنطقية للنظرية الماركسية والفرويدية ذاتها والتي تجعلها «محصنة» من التكذيب. يقول بوبر في «منطق الكشف العلمي»: «إن النسق الذي ينتمي إلى العلم التجريبي ينبغي أن يكون في إمكان التجربة أن تكذبه، وهكذا فعبارة «قد تمطر السماء هنا غدًا أو لا تمطر» لن تُعتبر عبارة تجريبية؛ لسببٍ بسيط وهو أنها لا يمكن تفنيدها، على العكس من عبارة «ستمطر السماء هنا غدًا» التي ستُؤخذ على أنها عبارة تجريبية. أما العلم الزائف فهو يرفض من حيث المبدأ السماح بإجراء عملية التكذيب على قضاياه؛ فقضايا التحليل النفسي مثلًا لا تعدو أن تفسر الأوضاع الممكنة للأشياء دون أن تشير إلى حالة الأشياء الملاحَظة، ومن ثم لا يمكن تكذيبها بالملاحظة. إن النسق النظري للتحليل النفسي كله نسق لا وصفي، فهو يتساوق مع كل ملاحظة ممكنة، ويلائم الشيءَ ونقيضَه، ولا يقدم لنا ما عسى أن تكون عليه الأشياءُ الملاحَظة لو أن قضاياه كانت كاذبة. إن الفارقَ يجب أن يُحدِثَ فارقًا، ولو كانت قضايا التحليل النفسي تقول شيئًا محددًا عن عالم الواقع لتسنى لها أن تحدد مشاهدات ممكنة كانت حَرِيةً أن تقع لو أنها كانت كاذبة، أي أن تحدد لنا أي فارق كان يحيق بعالَم الشهادة لو أن ما تُنْبِئنا به النظريةُ كان مجانبًا للحق وكانت الأمورُ تسير في حقيقة الأمر على وتيرةٍ أخرى.»
توماس كون
هذه الطبيعة المعيارية لنظرية بوبر في التكذيب لم تُقابَل بارتياح من جانب الكثير من الفلاسفة؛ ذلك أن رفض نظريةٍ علمية ما بناءً على تنبؤ كاذب، هذا الرفضُ من شأنه أن يؤدي إلى استبعاد أغلب النظريات العلمية الأصيلة، ففي الأيام الأولى لنشأة أي نظرية علمية قد تكون هناك كثير من التجارب التي تناقض النظرية، غير أن النظرية قد تُطوَّر لتفسر هذه الدحوضات المبكرة بطريقة علمية.
في أزمنة العلم العادي يسلِّم العلماءُ تسليمًا بالنظريات التي تعمل بها تجاربُهم. في هذه الفترات فإن العلماء الأفراد لا يقومون بتفحص صواب القوانين المسلَّم بها (الفيزيائيون مثلًا لا يحاولون تكذيب قوانين الديناميكا الحرارية) وإنما ينصرفون إلى الألغاز التي يطرحها النموذج الإرشادي (البرادايم) العلمي الراهن، أي إنهم يركزون على استخدام النظريات المقبولة والمتاحة كوسيلةٍ لحل الألغاز، وليس على الشك في تلك النظريات وامتحانها، كما أن فشل النظرية في تقديم تفسير لحل لغزٍ ما لا يُعَد فشلًا للنظرية بل للعالِم.
وأوضح مثال تمييزي يقدمه كون هو مقارنته بين علم الفلك والتنجيم: فالفلك منذ القدم كان نشاطَ حل ألغاز، وكان من ثَم علمًا، فإذا ما فشل فلكيٌّ في تنبؤ كان هذا يُعَد لغزًا بِوُسعه أن يحله بمزيدٍ من القياسات — مثلًا — أو بإجراء تعديلاتٍ في النظرية. أما المنجِّم فليس لديه مثل هذه الألغاز؛ إذ إن أي فشل معين — في مجال التنجيم — لا يُفضِي إلى بحث ألغاز؛ إذ لا يمكن لأي إنسان — مهما بلغت مهارتُه — أن يستخدم هذا الفشل في محاولةٍ بنَّاءةٍ لِمراجعةِ تعاليم التنجيم؛ لذا فإن التنجيم — وفقًا لتوماس كون — لم يكن قَط علمًا.
وقد استُهدِفت وجهة رأي توماس كون للنقد الشديد من جانب فلاسفة العلم (وإن كانت — ربما — الرأي الأكثر قبولًا بين العلماء اليوم)؛ فهي ترتكز على مجتمع من العلماء قد يكون عُرضةً لقيمٍ وتوقعات اجتماعية، والكثيرون يرون ذلك أمرًا مفرِطًا في الذاتية. على أن هذا مردودٌ عليه بأن عضوية هذا المجتمع لا تتم كيفما اتفق بل تتطلب تعليمًا طويلًا وممارسةً مكثفة، كما ذهب آخرون إلى أن تعريف كون للعلم يكاد يكون «هو ذلك الذي يفعله العلماء»، وهو عندهم تعريف دائري غير مريح (انظر ردنا على ذلك فيما سبق).
إمري لاكاتوش
يتألف برنامج البحث وفقًا لإمري لاكاتوش من: نواة صلبة وحزامٍ واقٍ ومساعِد كشف (مختصَر ذهني).
-
(١)
أما النواة الصلبة hard core فهي القوانين الأساسية جدًّا للبرنامج البحثي، مثل:
-
في فلك كوبرنيقوس: دوران الأرض حول الشمس الثابتة، دوران الأرض حول محورها مرةً في اليوم.
-
في الفيزياء النيوتونية: قوانين الحركة، قانون الجاذبية.
-
في المادية التاريخية عند ماركس: فرضية أن التغير الاجتماعي يفسره صراع الطبقات، والطبقات تتحدد طبيعتها وصراعها بالبناء التحتى (الاقتصادي).
-
-
(٢)
وأما الحِزام الواقي protective belt فيتكون من فرضياتٍ مساعدة auxiliary hypotheses تساعد على تدعيم قوانين النواة الصلبة. هذه الفرضيات المساعِدة هي التي يقع عليها العبءُ وتُحَمَّل التبِعةَ عند تعارض برنامج البحث مع معطيات الملاحظة، فهي تمتص محاولات تكذيب النواة الصلبة، وهي لذلك عُرضةٌ للتغيير أو التعديل لكي تستوعب الشذوذات وتَفدِي النواةَ الصلبة.
-
(٣)
وأما مساعِد الكشف heuristic — بإيجازٍ شديد — فيعمل كمرشِدٍ يساعد العلماءَ في تحديد التجارب الممكنة وفحص الشذوذات، وتطوير دعم إضافي لكلٍّ من الحزام الواقي والنواة الصلبة.
بول ثاجارد
- الأول: أن النظرية لا تتقدم.
- والثاني: أن رابطة الممارِسين له لا يحاولون أن يطوروا النظرية في اتجاه حل المشكلات، ولا يهتمون بمحاولة تقييم النظرية في علاقتها بالنظريات الأخرى، وهم انتقائيون في التفاتهم إلى التأييدات والتفنيدات.
والفارق الكبير بين مقاربة ثاجارد ومقاربة لاكاتوش هو أن لاكاتوش حَرِيٌّ أن يَعُد المبحثَ الذي لا يتقدم مبحثًا زائفًا حتى لو كان ممارسوه يعملون بجِد لتحسينه وتحويله إلى مبحث متقدم.
جورج رايش
مِرتون
-
العمومية/العالمية universalism يفيد هذا المعيار أن دعاوى الصدق — أَيًّا كان مصدرُها — يجب أن تخضع لمعاييرَ لا شخصية مسبقة. يتضمن ذلك أن قبول الدعاوى أو رفضها يجب ألا يستند إلى الصفات الشخصية أو الاجتماعية لأنصارها.
-
الشيوعية communism (وهو تعبير ربما غير موفَّق، ولعل تعبير «المشاعية» communality هو أحصَرُ لِما عَناه مِرتون)، يفيد هذا المعيار أن الكشوف الجوهرية للعلم هي منتوجات التعاون الاجتماعي، ومن ثَم فهي تنتمي للمجتمع وليست مملوكة لأفراد أو جماعات. وهذا — كما بَيَّنَ مِرتون — لا يتفق مع نظام البراءات الذي يقصر حقوقَ الاستخدام على المخترعين والمكتشفين.
-
الارتيابية المنظَّمة organized skepticism ويتضمن هذا المعيار أن العلم يسمح بتمحيصٍ مستقل للاعتقادات التي تُكِنُّها المؤسساتُ الأخرى باعتزاز، وهذا ما يضع العلمَ أحيانًا في صراعٍ مع الأديان أو الأيديولوجيات الأخرى.
وقد عَرَضَ مِرتون هذه المعايير بوصفِها تنتمي إلى سوسيولوجيا العلم، وبالتالي على أنها بيانات إمبيريقية حول ما هو كائن في العلم الفعلي لا ما ينبغي أن يكون، غير أن معاييره كثيرًا ما يرفضها السوسيولوجيون بوصفها مفرطةً في التبسيط، وليس لها تأثير يُذكَر في السجالات الفلسفية حول مسألة التمييز، ويبدو أن فاعليتها في هذا السياق الأخير لم تُستكشَف بما فيه الكفاية.
(٣-٣) مقاربات المعايير المتعددة
-
الاعتقاد في «السلطة»: ثمة «كبيرٌ» عارفٌ (أو كبراءُ عارفون) لديه قدرة خاصة على تحديد ما هو حق وما هو باطل، وعلى الآخرين أن يتقبلوا أحكامَه، عليهم السمع والطاعة.
-
تجارب غير قابلة للتكرار: يُعَوِّل العلمُ الزائفُ على تجارب لا يمكن أن يُعيد الآخرون إجراءَها والخروج منها بنفس النتائج
-
أمثلة معطوبة تُستخدَم رغم أنها لا تمثل الفئة العامة التي يشير إليها البحث.
-
عدم الرغبة في الاختبار، فلا تُختبَر النظرية رغم أن من الممكن اختبارَها.
-
عدم الاكتراث بالمعلومات المفنِّدة: إغفال الملاحظات أو التجارب التي تخالف النظرية.
-
حيلة مُبَيَّتة built-in subterfuge: يتم إعداد الاختبار بحيث لا يَسمح إلا بتأييد النظرية (لا تسمح النتائجُ بتفنيد النظرية على الإطلاق).
-
التخلي عن التفسيرات القائمة دون القيام مقامها: يتم التخلي عن تفسيراتٍ وجيهةٍ للأمر دون إحلال شيءٍ محلها، بحيث إن النظرية الجديدة لَأَعجزُ من سابقتِها على التفسير.
المفارَقة paradox
سَبَقَ أن لاحظ توماس كون أنه رغم أن معيارَه ومعيار بوبر مختلفان للغاية فإنهما يؤديان إلى نفس الاستنتاجات فيما يجب أن يُعَد علمًا أو يُعَد علمًا زائفًا!
- (١)
إما أن هناك تمييزًا مطلقًا ولكن لم يُكتشَف بعدُ، والأمرُ مسألة وقت.
- (٢)
وإما أن التمييز المطلق لا وجود له.
فيربند
ماكنالي
يقول ماكنالي: إن المقاولين الدهاة قد طوروا وسوَّقوا طرائق علاجية جديدة يُوصَف بعضها بأنها معجزات علاجية حقيقية لشكاوى متنوعة. وقد كانت هذه الظاهرة آسرةً لانتباه ممارسي العلم في مجال السيكولوجيا، الذين عمد كثير منهم إلى نقد هذه المقاربات بوصفها «علمًا زائفًا»، غير أن هناك مقاربة بديلة أبسط من ذلك لفضح الطرائق المريبة في علم النفس الإكلينيكي. إن علينا حين نصادف دعاوى هؤلاء المقاولين ألا نضيع وقتنا في محاولة تحديد ما إذا كانت تُصنَّف كعلمٍ زائف، بل نسألهم: كيف تعرف أن هذا التدخل العلاجي الذي تقوم به يؤتي أثره ويفعل فعلَه، ما «دليلك؟»
-
بممارسيه.
-
أو بنظرياته.
-
أو بطرق بحثه.
-
(١)
غير أن العلم الزائف لا يُعَرَّف بممارسيه الأفراد،١٧ فكثير من العلماء العظام في تاريخ العلم كانوا يعتنقون بعض الأفكار الواضحة الزيف (على الأقل بمقاييسنا الحالية). لقد بدأ الفلكيون الأوائل كمنجمين، بل إن روادًا علميين — مثل بويل وليبنتز ونيوتن — كانوا يبتلعون بسذاجة كل أصناف الحكايا العجيبة عن العالم الطبيعي التي تشبه تلك التي نراها في الأقراص التي تُباع اليوم في السوبر ماركت.ومن الأمثلة الرائعة لعالِمٍ أمريكي جمع بين العلم الأصيل والزائف كوتون ماثر Cotton Mather. كان لهذا العالِم إنجازات علمية مُقَدَّرة، غير أن له مئات الإصدارات التي احتوت على كثير من الدعاوى الغرائبية (ثعابين ذات رأسين، أطفال مسحورين طاروا كالإوز برفرفة أذرعهم مثل أجنحة الطير … إلخ).
إذن تعريف العلم بممارسيه لا يفي بالغرض؛ لأن العالِم الحقيقي والعالِم الزائف قد يكونان نفس الشخص!
-
(٢)
والعلم لا يُعَرَّف بالنظريات الفردة (على طريقة بوبر)؛ ذلك أن قابلية التكذيب falsifiability معيارٌ متساهلٌ جدًّا؛ لأن بوسع أي نظرية دجلية أن تُعَدِّل من حالها وتستعين بفروض مساعدة لِتَجَنُّب التكذيب، وبوسعها أن تحدد ما يمكن أن يُعَد ملاحظةً مكذِّبة.
-
(٣)
ولا طرق البحث يمكن أن تُعَرِّف الدجل؛ فقد تكون النظرية قابلة للتكذيب ولكن أنصارها ينخرطون في محاولات احتيالية (أد هوك) ad hoc للتخريج المتخلِّص من الملاحظات المضادة. والحق أن العلماء ينخرطون في المناورة التحايلية طوال الوقت، وقد تكون مناورتهم مثمرةً كما في حالة اكتشاف كوكب نبتون بفضل فرضية تحايلية بَعدِية قُدَّت لِتَرُمَّ خللًا حسابيًّا وتفسر ملاحظاتٍ شاذة. قد يُرَد على ذلك بأن هناك فرقًا بين الأدهوك المشروع وغير المشروع، ولكن هذه المقاربة تجرد مِحَك الأدهوك من قوته وفعاليته في رأي ماكنالي.
إليزابيث سبري
-
يُصادِر بأن التمييز موجود.
-
ويصادر بأن العلم في جميع الأزمان صحيح والعلم الزائف في جميع الأزمان غير صحيح.
-
ويصادر بأن المجتمع العلمي دائمًا لديه أساسٌ جيد لاعتقاداته ومجتمع العلم الزائف لا أساس لاعتقاداته.
-
ويصادر بأن هناك تمييزًا مطلقًا بين أعضاء المجتمع العلمي وأعضاء مجتمع العلم الزائف، بل بأن هذين المجتمعين موجودان بالتمام والكمال.
إن كلًّا من هذه المتضمنات عُرضةٌ لأمثلةٍ مضادة وانتقاداتٍ وتناقضات أساسية: فهناك أزمنة يكون فيه ما نسميه اعتقادات «علمية» غيرَ مبرَّر جيدًا، ويكون فيه المجتمعُ العلمي غيرَ موجود وجودًا مكتملًا، وكذلك هناك أمثلة تكون فيها الاعتقادات «العلمية الزائفة» صحيحة ومبَرَّرة نسبيًّا، ويكون المجتمع موجودًا وجودًا مكتملًا. يتضح ذلك في التحليل التاريخي الذي قدمه توماس كون. مثال ذلك أنه قد أتى حينٌ من الدهر كان المجتمعُ فيه ينظر إلى التفسير البطلمي للسموات على أنه علمي، بينما نرفض اليوم هذه الدعوى (أي إن ما يَعُده المجتمعُ علمًا في يومٍ ما قد يتغير بتغير المجتمع).
لقد أدلَى كلُّ فيلسوفٍ بِدَلوِه في مشكل التمييز، فماذا قدَّموا؟
-
إن نظرية بوبر كانت قمينةً أن تُقصِي معظمَ البرامج العلمية الناشئة قبل النضج!
-
ونظرية كون — إذا قبلنا نقد لاكاتوش لها — لا تقدم تمييزًا قويًّا على الإطلاق.
-
ونظرية لاكاتوش لها أثرٌ جانبي غيرُ موفَّق إذ قد تَصِمُ بالزيف مشروعًا علميًّا جديرًا بِنَعت «علمي» لا لِشَيءٍ إلا لأنه توقف عن التقدم.
-
أما نظرية ثاجارد فهي في أفضل الأحوال تقدم لنا «متَّصَلًا» continuum أو «طيفًا» spectrum ولا يمكنها أن تقدم تمييزًا مطلقًا.
نخلص من ذلك إلى أنه لا داعي للقلق حول مشكلة التمييز؛ فنحن كفلاسفةٍ ينبغي أن ننصرف إلى بحث صواب الحجة، وليس إلى ما إذا كانت هذه الحجة نابعةً من علمٍ أو من علمٍ زائف. نحن حُرَّاس بوابة «المعرفة السليمة» لا بوابة العلم.
هل يوجد تمييزٌ «بين العلم والعلم الزائف»؟ ذاك حديثٌ يلائم السياسة/ الاقتصاد/الاجتماع، ولكنه غير ذي صلة بالفلسفة! إن التمييز لا يقدم بذاتِه دليلًا على صحة أو صواب دعوى، وعلى الفلسفة أن تركز سعيَها في التمييز بين الاعتقادات الصائبة والاعتقادات غير الصائبة، أي في مَد خط بين الدليل المقبول والدليل غير المقبول، والتفريق بين الدعاوى الغامضة والدعاوى المُحكَمة … إلخ. هذه هي الأسئلة التي تحمل دلالةً فلسفيةً وإبستمولوجيةً حقيقية، وهذه هي الحَلبة الصحيحة لِصَولَةِ الفلسفة وجَولتِها. وإذا كان إمري لاكاتوش قد خَلَصَ في مقاله «العلم والعلم الزائف» إلى أن التمييز بينهما هو مشكلة فلسفية حقيقية، فقد خَلَصنا إلى أنها مشكلة حقيقية، ولكنها مشكلة اقتصادية/اجتماعية/سياسية، وليست مشكلةً فلسفية. أما البديل الذي ندعو إليه فهو أن يُعنَى فلاسفةُ العلم بتأسيس المعايير التي يُقَيَّم بها صوابُ الاعتقاد، وقوة الدليل الداعم لهذا الاعتقاد، ومدى الإحكام والضبط والدقة التي يتعين أن يتصف بها لكي يكون اعتقادًا صائبًا. هذه هي الأسئلة التي تُعَد الفلسفةُ مؤهَّلةً لِتناولِها، ويُعَد الفيلسوفُ مُهَيَّأ للإجابة عنها.
Thagard, P. (2–13). Why Astrology Is a Pseudoscience. In M. Curd, J. A. Cover & C. Pincock (comps.), Philosophy of Science: The Central Issues (2nd ed. pp. 27–36). New York, NY: W. W. Norton & company. (Original work published 1978).