في العلم والخرافة
(١) طريق العلم
كلما عرفتُ شيئًا تَكَشَّفَ لي أنني أجهل شيئَين، وكلما مَحَوتُ لي جَهلًا أَبدَيتُ جهلَين، كأنني أصارع «الهيدرا» الأسطوريةَ ذاتَ الرءوس السبعة كلما أَطَحتُ منها برأسٍ نَبَتَ مكانَه رأسان.
وهكذا كلما أَوغَلتُ في العلم تجَلَّى لي الجهلُ كأنه ماردٌ أسطوري يَطمِسني في ظِلِّه الهائل، ويحملني على الاستخذاء أمام جلالة العلم، وعلى التَّخَشُّع في رحاب الحقيقة.
(٢) الأمر الإبستمولوجي المطلق
افعلْ بحيث تستطيع أن تجعل باعِثَ فعلِكَ قانونًا كليًّا. (أي قانونًا شاملًا يُشَرَّع للإنسانية كلها، لا لفردٍ أو جماعةٍ بعينها.)
فَكِّرْ بحيث تكونُ على استعداد، من حيث المبدأ، لأن تُغَيِّر رأيَكَ إذا ما تَبَيَّنَ خَطَؤه.
(٣) ظاهرة القُبة الفارغة empty dome phenomenon
(٤) الاغتيال المعنوي
(٥) أيديولوجيا
إن مذهبًا لا يمكنه أن يصون نفسَه إلا بمراوغاتٍ معقدة هو مذهبٌ لا يَعدو أن يكون هُراءً.
(٦) المِيل الأخير
لماذا تَقدَّمَ العِلمُ العربيُّ حثيثًا ثم تَوَقَّفَ قبل أن يجتاز المِيلَ الأخيرَ إلى الحداثة؟
لأنه كان نَبتَةَ ظِلٍّ جَعَلَت تنمو بعنفوانٍ ثم توقفت؛ لأنها افتقدت الشرطَ النهائيَّ لكل نموٍّ مكتمل: الشمس، الحرية.
(٧) خيانة العقل
(٨) فهم الخرافة
(٩) بقاء الخرافة
ولقد أتى على الإنسان حينٌ من الدهر كان متروكًا وحدَه، أعزلَ أمام طوفان الماجريات الوجودية والأحداث الكونية، فهو ضعيفٌ عاجزٌ تجاه تهديداتها من ناحية، وهو جاهلٌ عَمٍ إزاء ألغازها من ناحيةٍ أخرى، فما عَتَّمَ أن أسلمَ نفسَه لأحضان السحر والتعزيم والأضاحي يلتمس لديها الأمانَ والسكينة؛ يشتريهما بمنطقٍ لا يُغنِي وحِجًى لا تُجدِي. ولقد كانت مقايضةً موفقةً وصفقةً رابحةً في حينها، غير أن هذه الطريقة في مهادنة المُلِمَّات ومعاملة الحادثات وتَفَهُّم الماجريات سرعان ما تزهق وتخسر مبرراتِها كلما تَمَكَّنَ الإنسانُ من السيطرة والتسيُّد وتقليم أظافر الطبيعة وفك أحاجيها وحل ألغازها بالعلم الدقيق والمنطق النزيه.
(١٠) أليثيا٣
لن تقوم لنا قائمةٌ ما لم تكن الماجرياتُ الأخيرةُ قد كَثَّفَت لأعيننِا العَشواء حقيقةً كانت ماثلةً على الدوام: وهي أننا غُثاء، حِلمُنا أطيَشُ من ريشة، وشوكتُنا أطرَى من نسمة، وظهرُنا أذَلُّ من بساط، وأننا لا نملك حتى أن نكبح صغيرَنا قبل أن نفكر في اللعب مع الكبار.
لن تقوم لنا قائمة ما لم ندرك أن معركتَنا الأولَى هي معركة بناءٍ وإصلاح لا هدمٍ وإفساد، وأن جهادَنا الحقيقي هو جهادُ أنفسِنا الجاهلة المظلمة القابعة في كهفها التاريخي تدغدغ ذاتَها وتداعب ظلَّها.
لن تقوم لنا قائمة ما لم ندرك أننا متخلفون: تَحَضُّرُنا وهمٌ وتَمَدُّنُنا «عِيرة»، وأننا ننجرف ولا نتقدم، ننفعل ولا نفعل، تطفح مقتنياتُ العلمِ الجديد على وجه حياتنا كأنها الداء، وتطفو بلا جذور على سطح بِركتِنا القديمة.
(١١) ما بَعد العقل
لم نَشبَعْ عقلًا بَعدُ فنستمرئ القفزَ مع الغرب إلى ما بعد العقل.
فإذا كانت قفزتُهم تَخَطِّيًا وئيدًا لِما استوعبوه وقطعوا شوطَه، وتجاوزًا سديدًا لِما عَرَكوه وخاضوا غِمارَه، فإنَّ قفزتَنا المقلِّدةَ ليست تخطيًا للعقل بل حذفًا وإغفالًا وتفويتًا، وضربًا من الغِش والتهرب.
وبينما يقفزون بسلامٍ إلى ما بعد العقل نَتَرَدَّى نحن بِطيشِنا فيما قبل العقل، ونسقط بسلامٍ في حِجر الخرافة.
(١٢) في الانحطاط
الأكثرُ انتشارًا اليومَ في المجتمع العربي — ضمن مقاييسه وأوضاعه الثقافية — هو بالتأكيد الأقل حداثةً وجذرية.
(١٣) مُرَحَّل بدرجة أستاذ
(١٤) التجهيل الغالي
… فهو يتخرج غيرَ قادرٍ لا على القراءة ولا على الكتابة!
أما هذا التعليم العالي (كما ينادونه) فهو لِقاحٌ ضد العلم وتحصينٌ منه، وضمانٌ بأنه قد أُمِنَ شَرُّه وتَمَّ احتواؤه، ودعاءٌ بأن يقطعَ اللهُ دابرَه ويستأصلَ شأفتَه، إنه تعقيمٌ ذهنيٌّ منظَّم، وتجهيلٌ باهظُ التكلفة.
(١٥) «أَعْلَمَة» الخلافات الأكاديمية
الخلافُ الأكاديمي ينبغي أن يبقَى أكاديميًّا.
وإخراجُه إلى وسائل الإعلام هو لونٌ من اللعب القذِر وضَرْبٌ تحت الحزام.
(١٦) وَهْم الموضوعية
هذا العالمُ كما ندركه هو صورتُنا الرمزيةُ للعالم الموضوعي المستقل عنا.
حين تتفرس طويلًا في أي بناء علمي أو صرحٍ فكري سيكون بِوُسعك أن تتبين ملامحَ العقلِ البشري بكل خطوطه وزواياه وأقطاره ماثلةً أمامكَ كأنها منعكسةٌ في صفحةِ المرآة، فالعقل لا يملك أن يَسُلَّ نفسَه من العالم ويتنصل من الظواهر ليراقبَها بِحَيدةٍ وبراءة. إنه مخلوطٌ بالأشياء يرى ذاتَه في الأشياء وترَى فيه ذاتَها الأشياء.
(١٧) العملية نجحت والمريض مات
إذا كانت النظريةُ فاشلةً على الصعيد العملي فهذا يكفي لإثبات أنها على خطأ نظري، وهذا بِغَض النظر عن أي شيء هو مغزى إجراء التجربة العلمية.
(١٨) سَطوة التأويل
غير أن النفوس الغيورة لا تهتم بالبراءة، ولا تَجيئها نوباتُها عن سببٍ، بل تَغارُ لأنها تَغار، وما الغَيرةُ إلا بهيمةٌ شاذة تُلَقَّح من نفسها وتتولَّد من ذاتها.
ليست هناك حقائق، هناك فقط تَأويلات.
مَن رآكَ مِن حيث هو فإنما رأَى نفسَه.
(١٩) تعريب العلم
تعليم الأمة بلغتها ينقل العلمَ بكليَّتِه إليها، أما تعليمها إياه بِلغةِ غيرِها فإنه ينقل أفرادًا منها إلى العلم.
أن نُعَرِّب العلمَ يعني أن نُعَلمِن العربية، أي نعلمن عقولَنا وأُطُرَنا الذهنية ومورفولوجيتَنا الدماغية. أما أن نتحدث العلمَ بالإنجليزية وعقولُنا مصبوبةٌ بلغةٍ كهفيةٍ حُرِمَت دهورًا من النور فَتَعاطَت الوهمَ وتَقَولَبَت بالخرافة، فذاك انفصامٌ معوِّقٌ يجعلنا غرباءَ على العلم مهما حفظناه وتَقَوَّلناه، ويجعلنا عاجزين عن الإضافة الحقيقية إليه والإبداع الأصيل فيه، وهو واقعٌ صلبٌ لا محل فيه لِجَدَلٍ ولا نملك وجهًا لِنقاشِه.
(٢٠) جسارة العلم (من رسالة في المشترَك الإنساني)
…
لماذا تُصَنِّفون شعاعَ الضوء، فإذا أتَى من عندنا فهو نورٌ وإذا أتى من عند غيرنا فهو «استلاب»؟! النورُ نور، والقيمةُ شيءٌ كوني، والمطلَقُ لا وطنَ له، والحكمة ضالة المؤمن، وما حيلتُنا إذا كان أغلب الكشوف والمعارف في لحظتنا الراهنة يأتي من الشمال ويشرق من الغرب؟ أَنُوليه ظهرَنا وما ننفك نداعب ظِلَّنا على جدار كهفنا، ونكتفي بما عندنا مما لو كان ينفع ما كان هذا حالنا؟ أم نخرج إليه وننغمد فيه ونَتَمَلَّكه ونُحِيله إلى كياننا وبِنيَتِنا فنكون منه ويكون منا، وبهذا وحده نضيف إليه ونسهم في بناء الحضارة بسهمٍ بدلًا من أن ننخر فيها وننطح أركانها، فِعلَ العجزةِ البُلَهاء المُفلِسين المفسدين؟
بل نخرج إليه ونتملكه، هكذا كان أجدادُنا في عصر الاجتهاد يحبون النورَ ويفتحون نوافذهم على الجهات الأربع، ويتشربون ثقافات الأمم وينهلون من العلوم بلا عُقَد، ولا ينخذلون مثلما ننخذل ولا يعانون من «رُهاب الضوء» (الفوتوفوبيا) الذي أصابنا واستحكم فينا مِن طول انكفائنا على ذاتنا وإلفِنا لفكرِ الكهوف.
هذا استلابٌ آخر، وإنْ كان مقلوبًا يقف على رأسه فإذا عدلتَه وجدتَ أنه استلابٌ كأيِّ استلاب.
…