باري ل. بيريشتاين:١ الفرق بين العلم والعلم الزائف٢
تتمثل المعرفةُ في فهم الدليل الذي يؤسس الواقعة، وليس في الاعتقاد بأنها واقعة.
ليس العلمُ جِرابًا من الحقائق الثابتة، بل هو طريقةٌ في توجيه الأسئلة وتقييم شتى الأجوبة الممكنة، ولكي يتلافَى تحيزاتِ الباحثين وتوقعاتهم، ويتحاشَى التأثيرات العشوائية للبيئة، يتخذ العلمُ تدابيرَ وقائيةً صارمة؛ مشاعية المناهج والنتائج، التقييم الارتيابي للحصائل، إعادة التجربة بواسطة باحثين آخرين.
وفي خلال هذا الفحص المنظَّم للعالم الطبيعي يَعمِد العلماءُ إلى تعميم ملاحظاتهم الخاصة في محاولةٍ لصياغةِ قوانينَ عامة، وإذ تستوِي لهم هذه العلاقاتُ القانونية، وهذا الحشدُ من المعطيات الوثيقة، يقومون بصياغة نظرياتٍ قابلةٍ للاختبار تفسر الوقائعَ القائمة وتتنبأ — إن أمكن — بظواهرَ جديدةٍ ما كان يمكن كشفُها لولا هذه النظريات.
(١) التكنولوجيا الزائفة
(٢) أمثلة من العلم الزائف
سنضرب الآن أمثلةً من العلم الزائف المدعوم من الدولة والمدفوع بالأيديولوجية، وأمثلةً من سَقَطاتِ علماء حقيقيين وقعوا سهوًا في العلم الزائف، وأمثلةً من الباحثين المُنطَوِين غير المؤهَّلين ذوي الدعاوى المتهورة بأنهم على وشك اكتشافاتٍ لهم ستكون ثورةً في المجال.
-
أولًا: استثنائية ونادرة.
-
ثانيًا: كانت تحتكم إلى الدليل evidence لا إلى الحدس الشخصي الصِّرْف.
وكثيرًا ما يلجأ المفكرون الهامشيون الذين استُهزِئَ بأفكارهم إلى اتهام المؤسسة والقول بأن أفكارَهم رُفِضَت لا لِشيءٍ إلا لأن «المؤسسة العلمية» تقاوم الأفكارَ الجديدة على نحوٍ غير معقول، وبخاصة عندما تأتي من «الغرباء»، وقد أخذ باحثٌ نمسوي، هو وليم هونيج، أخذ هذه التهمةَ يومًا مأخذَ الجِد، ورغم أنه هو نفسه عالِمٌ تقليدي مرموق فقد أحس أن هذا الحشد الكبير من التأملات غير التقليدية قد تحتوي على بعض الأفكار النافعة التي يجري إغفالُها من جانب علماء التيار الرئيسي؛ لذا أسس هونيج في عام ١٩٧٨م مجلةً فريدةً اسمها «تأملات في العلم والتكنولوجيا»، وقصد بها أن تكون منبرًا للحجج والنظريات غير التقليدية التي يتعذَّر أن يمررها محررو المجلات المحكَّمة القائمة لكونِها مفرِطةً في التأمل، ومفتقرةً للبيانات الداعمة الكافية، ومناقِضةً للنظريات الراهنة المقبولة … إلخ؛ فلعل بين ركام الغُثاء ماساتٍ مغبونة، غير أنه بعد خمس سنوات من الصبر والإصغاء قرر هونيج الإقلاع عن مشروعه؛ فقد فشل في العثور على عبقريات حقيقية، وبدلًا من ذلك وجد تيارًا لا ينقطع من المهووسين وأشباه البرانويديين والناقمين، ربما تُصادف بينهم فردًا لديه فكرةٌ قد تكون مثيرةً، غير أنه عاجز عن تطويرها أو توصيلها للآخرين. أغلق هونيج مجلته وخَلَصَ إلى أن المفكر المجدِّد حقًّا سوف يجد في النهاية أذنًا صاغيةً عبر القنوات العلمية العادية.
وقد كان ظهور الإنترنت نعمةً كبرى لكل من يرغب في السباحة ضد التيار، ولم يحدث في التاريخ أن وجد الدخلاءُ مثلَ هذه الفرصة لبثِّ أفكارهم، غير أن المحبِط في هذا الأمر أن الكَمَّ نفسَه — كم التأمل النظري — جعل اكتشافَ اللآلئ بين الرَّوْث أصعبَ مما كان في أي وقتٍ مضَى.
(٢-١) العلم الزائف في البيولوجيا
الليسنكوية Lysenkoism
مذهب الخَلق العلمي scientific creationism
يُقدِّم لنا مذهب ليسنكو ومذهب الخَلق مثالَين ساطعَين لما يمكن أن يفعله بعضُ العلماء ذوي المكانة والإنجازات، وكيف يَلوُون بما تَعَلَّموه لكي يخدم قناعاتهم الدينية والسياسية. أما العلم العنصري النازي الزائف فيقدم مثالًا مؤلِمًا للويلات والمآسي التي يمكن أن تحدث عندما تتبنى الدولةُ الهُراءَ البيولوجي وتتصرف على أساسِه، وعندما تكون للأيديولوجية اليدُ العليا فوق الشك المنهجي وفوق الدليل.
(٢-٢) العلم الزائف في الكيمياء
الماء المتعدد polywater
إضافات غذائية حمقاء وعلاجات لجميع الأمراض
في حين أن فضيحة الماء المتعدد تبين لنا أنه حتَّى العلماءُ المرموقون أحيانًا ما يسلكون مسلكَ العلم الكاذب، فإن العلم الكاذب في معظمه يأتي من دخلاءَ يعتقدون أنهم قد أنجزوا كشوفًا يجرِي تجاهلُها — وربما قمعُها بلا هَوادة — من قِبَل «المؤسسة» الأنانية الضيقة الأفق، مثال ذلك أنه لا يكاد يمر عامٌ دون أن يُعلَن عن إضافةٍ جديدةٍ فريدةٍ سوف تُضاعِف كفاءةَ الوقود لآلة الاحتراق الداخلي، والقصة تصحبها في العادة ادعاءاتٌ بأن شركات البترول تضطهِد المكتشِف في محاولةٍ مستميتةٍ منها لِحمايةِ مكاسبِها المتضخمة.
وفي مجتمعٍ مفتونٍ بالنحافةِ فإن هناك دائمًا سوقًا جاهزةً للحبوب الجديدة المذهلة، والمراهم والكريمات التي تذيب الدهون (بغير حاجةٍ طبعًا إلى الرياضة والتقشف)، وكذلك الحال بالنسبة لِمنتجات التجميل التي تُزيل التجاعيد، فما تنفك تأتي وتروح أوتوماتيكيًّا. ليس ثمة دليلٌ وثيق على فاعلية هذه المنتجات؛ غير أن هذا لم يؤثر على مبيعاتها قَط، وما تزال مرائبُ السِّلَع عبر القارة تطفح بِسِقطٍ من هذه المنتجات أَلقَى به مستهلكون محبَطون.
(٢-٣) العلم الزائف في الفيزياء
أشعة إنْ N-rays
وهي من أقوى الأمثلة على علماء مرموقين يسلكون مسلكَ أصحاب العلوم الزائفة، ففي منعطف القرن العشرين، وفي أعقاب اكتشاف الألماني رونتجن لأشعة إكس، أعلن عالِمٌ فيزيائي فرنسي مرموق صاحب كشوف هامة عديدة في مجالِه — هو رينيه بلوندلو — أنه اكتشف صنفًا آخر من الأشعة أَطلَق عليه أشعة إنْ نِسبةً لجامعة نانسي التي ينتمي إليها، وقد بَيَّنَ الفيزيائي الأمريكي روبرت وود في النهاية أن «ملاحظات» بلوندلو كانت نِتاجًا لكلٍّ من التفكير الآمِل وبعض التحريفات الدقيقة التي تحدث طبيعيًّا في الإدراك البصري.
-
ضرورة إعادة التجربة replication على نحوٍ مستقل (والتي تَمَّت في الحقيقة على يد مختبَراتٍ أخرى ذات مكانة ولم يُعثَر فيها على شيءٍ من قَبيل أشعة إنْ).
-
ضرورة «مَيكَنة تسجيل البيانات» وذلك لِتَجَنُّب الميل البشري لِرؤية ما نحن مُهَيَّئون لرؤيتِه.
-
ضرورة التجارب الضابطة.
-
ضرورة التحليلات الإحصائية المتقَنة.
صنوف خيالية من الطاقة fantastic energies
والحق أنه لا توجد أدلةٌ وثيقة على أن هناك أعدادًا من السفن أو الطائرات تختفي في هذه المنطقة أكبر مما هو حادث في أي طريقِ سفرٍ مطروقٍ بنفس الدرجة ومعرَّض لنفس الأحوال الخاصة بالطقس والمَد.
ثمة ثلاثة صنوف فقط من الطاقة يعرفها العلم: الطاقة الكهرومغنطيسية وطاقة الجاذبية والطاقة النووية (القوية والضعيفة)، فإذا ما سَمِعتَ مِن أي دَعِيٍّ عن صنفٍ رابع من الطاقة فتَحَسَّس مسدسَك.
التصوف وميكانيكا الكوانتم
الاندماج البارد Cold Fusion (طاقة مجانية للجميع)
وهو مثالٌ آخَرُ على المنطقة الرمادية بين العلم والعلم الزائف يلحق بمثال «الماء المتعدد»، في عام ١٩٨٩م طلع عالِما كيمياء من جامعتَين مرموقتَين في الولايات المتحدة وبريطانيا، وهما: بونز ومارتن فليشمان، طلعا على مجتمع الفيزياء بإعلانٍ مذهل إن صحَّ سيكون إعلانًا بنهاية أزمة الطاقة إلى الأبد، فقد أعلنا (في الصحافة الشعبية أولًا وليس من خلال مجلة محكَّمة، وإن ظهرت الأبحاثُ المحكَّمة لاحقًا بالفعل) أنهما قد تَوَصَّلا إلى الاندماج النووي بجهازٍ زهيد الثمن في مختبَرٍ كيميائي عادي. كان هذا شيئًا لافتًا للغاية بالنظر إلى أن عقودًا من الجهود المتضافرة بِمُفاعِلاتٍ باهظة التكلفة لم تحقق غيرَ تقدمٍ محدود باتجاه تحقيق اندماجٍ نووي متصِل.
(٢-٤) العلم الزائف في الطب
يرتع الدجلُ ويصولُ صولتَه في المناطق التي لايزال الطب فيها عاجزًا قليلَ الحيلة؛ فَيَتَلَقَّف المريضَ في حضيض اليأس عَقِبَ تشخيصِ مرضِه الفتاك، ويغمره بوعود شفاءٍ أوسعَ كثيرًا مما يَشِي به حالُه، بوعودٍ ما كان للمريض أن يبتلعَها لو أنه كان بمعنوياته المعتادة.
ربما تكون السلوَى التي يقدمها العلمُ الزائف في الحالات التي يُسلِّم فيها الطبُّ بعجزِه، ربما تكون شيئًا لا ضيرَ فيه، غير أن استنزافَ مال المُعوِزين فيما لا طائل منه، وصَرفَ الناس عن مظان العلاج الحقيقي إلى متاهات الوهم، تلك أشياءُ لا تُرضِي العقلَ والضمير. يروي باري بيرشتاين قصةَ فتاة في السادسة عشرة أَودَى الدجلُ بحياتِها، وقد كانت حالتُها مواتيةً تمامًا لِزراعةِ كبد منقذةٍ للحياة، ولكن إيمانَ والدَيها الراسخ بالطب البديل صرفَهما عن ذلك إلى التماس العلاج في عيادةٍ بالمكسيك ترتكز في علاجها على غذاء نباتي غريب مع حقنٍ شرجيةٍ متكررة من القهوة!
العلاج المِثلي homeopathy
يوصي العلاجُ المثلي بأن تُعالَجَ الأمراضُ بواسطة القوى الفاعلة التي من شأنها أن تُفاقِم الأعراضَ، غير أنها تُعطَى في محاليلَ مخففةٍ تخفيفاتٍ قصوى يكاد لا يبقى فيها شيءٌ من المكوِّن النشِط، وهو قريبٌ من قولِك: إن بَصقةً في ميناء فانكوفر ﺑ «كندا» كفيلةٌ بأن تلوث خليجَ طوكيو!
يفترض العلاجُ المثلي أن الماء النقي يمكن أن «يتذكر» شيئًا ما قد احتواه يومًا، ويظل بالتالي يؤتِي أثرَ المادة الغائبة! ولكي يُقَطِّروا هذه «الذاكرة» ينخرط المعالجون المثليون في طقوسِ تحضيرٍ عجيبةٍ تتطلب عددًا ضخمًا ولكن دقيقًا من التخفيفات، وعددًا مُحَدَّدًا من رَجَّات الزجاجة عند كل تخفيف. هذه الشعائر الكوميدية، مقرونةً بتفسيراتهم المتمَحَّلة لِفاعلية إكسيرِهم المزعوم (مع التسليم بأنه لم يَعُد ثمة مكوناتٌ نشِطةٌ باقية) هي العلامة التحذيرية التي ينبغي أن تثير شكوكَ المستهلِك الفَطِن بأن الأمر ينطوي على علمٍ زائف.
علاجات دجلية للسرطان
الكيروبراكتيك
يقع الكيروبراكتيك في منطقة رمادية، فقد يفيد في حالات معينة ولكن أساسَه المنطقي دجلٌ بحت، فتداولُ المفاصل له تاريخٌ طويل ويبدو أنه مفيدٌ علاجيًّا لعددٍ محدود من الاضطرابات العضلية الهيكلية، ولا شك أن الممارسين الذين يقصرون جهودَهم على مثل هذه الحالات يقدمون بعضَ العَون، وإنما يكمن الدجلُ في أولئك الذين يناصرون الكيروبراكتيك على أنه نظامٌ علاجي متكامل يمكن استخدامُه لجميع الأمراض، بما فيها الأمراض المُعْدِية والأورام الخبيثة ومرض السكر وأمراض المناعة … إلخ. مثل هؤلاء كثيرًا ما يتجاوزون نطاقَ قدرتِهم ويَصرِفون الناسَ عن العلاجات الطبية المُثبَتة التي يمكن أن تقدم لهم عَونًا حقيقيًّا، كما أن هناك حالات كثيرة تم تسجيلُها أوقعَ فيها هؤلاء المعالجون ضررًا خطيرًا إذ تَعَرَّضوا للفقرات التي تعاني من أمراضٍ أخرى لا يحيط بها تدريبُهم المحدود.
ومن دواعي القلق أيضًا ولوعُ كثير منهم بأجهزةٍ تشخيصيةٍ مُرِيبة ومكمِّلات غذائية مشكوك في فاعليتها، وقد أدى الموقفُ اللاعقلاني لمهنة الكيروبراكتيك ضد تحصين الأطفال وضد المضادات الحيوية (باستخدامِها السديد)، وهو الموقف الذي يقوم على رفض النظرية الجرثومية في المرض؛ أدى هذا الموقف إلى أضرارٍ حقيقية.
ليست هذه النظريةُ اليوم أكثرَ معقوليةً من الفكرة العتيقة القائلة بأن الأمراض تسببها الشياطين. صحيح أن ممارساتهم قد تخفِّف بعضَ حالات آلام أسفل الظهر مثلًا، ولكنها تُحدِث ذلك لأسبابٍ لا تَمُت بِصِلةٍ للنظرية الدخيلة التي يتخذها هؤلاء لتسويغ علاجِهم.
التداوي بالأعشاب herbalism
ولكن الحاصل هو أن معظم الأعشاب التقليدية لم يتم اختبارُها جيدًا من حيث السلامة والفاعلية؛ ليظل التداوي بالأعشاب خليطًا غيرَ منفصل من العلاجات بعضُها آمِنٌ وفعال، وبعضُها بلاسيبو خامل، وبعضُها موادُّ خَطِرة. ومن الصعب في أغلب الأحيان — إن لم يكن من المستحيل — أن تحكم أيٌّ من هذه المواد ينتمي إلى أيٍّ من هذه الفئات، ومن الأخبار المبشِّرة أن محاولاتٍ قد بدأَت — وبخاصةٍ في الصين — لتطبيق المناهج العلمية الحديثة لفصل العقاقير العشبية الفعالة عن البلاسيبو، وعزل المكونات الفاعلية عن غيرها من المكونات. ولا غَروَ أن يُعَد أولئك الممارسون التقليديون حول العالم الذين يناوِئون هذه المحاولات ويتشبثون بتفسيراتِهم السحرية السافرة عن تأثيرات مستحضراتهم، لا غَرْوَ أن تُعَدَّ ممارساتُهم عند ذوي النزعة العلمية دَجلنةً أو علمًا زائفًا على أفضل تقدير.
تأثير الحالة النفسية على المرض الجسمي
تُفضِي هذه المحاولات إلى تشجيع الناس على تحسين أسلوب حياتهم وتَحَمُّل قدرٍ أكبرَ من المسئولية عن صحتها الجسمية الخاصة، غير أن الجانب السلبي في ذلك أنها أَدَّت إلى عودة الاعتقاد الخرافي القائل بأن الناس تمرض «لأنها تستحق ذلك»، وبحسب أجندة «العصر الجديد» يمثل هذا شطرًا من رغبةٍ شديدة في استعادة بُعدٍ أخلاقي في تشغيلات العالَم الطبيعي. يشير معالجو «الطب البديل» إلى أن الأمراض يمكن شفاؤها بالضحك أو الصلاة أو معايشة الأفكار السارة أو ممارسة الخيال الذهني، إلا أن العواقبَ غيرَ المقصودة لهذا الاتجاه هي أنه عندما تفشل هذه الطرائق في وقف مسار العِلل الخطيرة يميل المرضى — على الأرجح — إلى تأنيبِ أنفسِهم على نحوٍ غيرِ مُنصِف على الإطلاق، ويفترضون مُسايِرين في ذلك فكرة «العصر الجديد» عن القُوَى الأخلاقية الضابطة للعالَم الطبيعي؛ يفترضون أن تقصيرَهم الأخلاقي كان مسئولًا بالتأكيد عن حدوث مرضِهم بل عن عدم شفائهم منه أيضًا، ذلك حقًّا لونٌ من إضافة الإهانة إلى الأذى.
(٢-٥) العلم الزائف في السيكولوجيا
التنجيم astrology
ما زال عددٌ مذهِل من الأفراد المتعلمين تعليمًا جيدًا لا يرون بأسًا في استخدام النظريات السحرية في السلوك التي تشكل سيكولوجيا العالم القديم لكي يفسروا السلوك الإنساني هنا والآن. إن التنجيم علمٌ زائفٌ رائجٌ رواجًا هائلًا، ويدَّعِي دعاوى عريضة، وقد خضع لاختبارات تجريبية عنيفة وثبتَ فشلُه وانعدام جدواه، ورغم ذلك فقد بقي التنجيمُ في أذهان الكثير من المتعلمين طريقةً مقبولةً لتفسير شخصياتنا ونوازعنا.
علم الخطوط graphology
علم ذو قرابةٍ وثيقة بالتنجيم، يدَّعِي أن شخصيتنا وقدراتنا ومستوانا الأخلاقي يمكن تُبَيُّنُها من هيئة خط يدِنا، وهو أيضًا قد خضع للبحث وانفضح زَيفُه تمامًا، غير أن هذا لم يَزَع الكثيرَ من رجال الأعمال والوكلاء الحكوميين الذين لا يزالون يستعينون بمُحلِّلي الخطوط في اتخاذ قرارات تتعلق باختيار العاملين. وقد سقطت قلةٌ من المؤسسات الشرطية والمحاكم ضحيةً لهذه المنظومة الزائفة في قراءة الشخصية. إنهم يزعمون قدرتهم على كشف الخيانة الخبيئة والانحراف الجنسي وإدمان العقاقير والفسق السلوكي … إلخ، من خلال نظرةٍ إلى أسلوب الشخص في الكتابة بخط اليد. ليس يخفَى احتمالُ إضرارِ هؤلاء بسمعة الناس وبتقدم المهن والأعمال، وقد بلغ توقحُ إحدى شركات تحليل الخطوط إلى حد تقديم فصول دراسية للمعالجين تدربهم على كيفية كشف الذكريات المكبوتة عن الإيذاء الجنسي في الطفولة، وذلك من خلال فروقٍ طفيفة في خطوط الضحايا المفترَضين. إن التشهير بأناسٍ أبرياء وبقدراتهم ومكانتهم الأخلاقية بالاستناد إلى هذا العلم الزائف (ذلك التشهير الذي ربما لا يدري ضحيتُه أن خط يده قد عُرِضَ على مُحَلِّل خطوط)، مثل هذا التشهير لا يفترق عن إصدار الأحكام على اجتهاد الشخص وأمانته ولياقته لوظيفةٍ ما بالاستناد إلى لون بشرته أو بنسبة الجينات اليهودية فيه!
شرائط العون الذاتي تحت-الشعورية
تقاليع السيكولوجيا الشعبية، خلق ذاكرة كاذبة، الباراسيكولوجيا
خلق ذاكرةٍ زائفة
مثل ذلك يحدث أيضًا مع الذين يتذكرون أنهم اختُطِفوا بواسطة كائنات فضائية آذتهم وانتهكتهم قبل أن تطلق سراحهم، ومثل هذه الطرائق الزائفة قد شاركت في ذيوع الأفكار الموهومة عن الأطباق الطائرة والكائنات الفضائية … إلخ.
الباراسيكولوجيا
ظواهر صادقة تفسيرها خُرافي
-
أولًا: أنهم لا يدركون أن هناك تفسيرات علمية قويمة لهذه الظواهر تغنينا عن اللجوء إلى الخرافة.
-
ثانيًا: أنهم لا يريدون أن يبذلوا جهدًا ويبحثوا عن هذه التفسيرات العلمية من مصادرها الصحيحة.
تندرج تحت هذه الفئة خبرات الاقتراب من الموت ومعاينته (وربما العودة من البرزخ)، وخبرات مفارقة الجسد، والمشي في النار (وهي ظاهرة يمكن تفسيرها بمبادئ فيزيائية معروفة جيدًا).
رؤية العالَم التي تجمع كل هؤلاء
الصفة الأساسية لحقول الاعتقاد عند أنصارها هي أن الدليل شأنٌ شخصي وذاتي، أي إنهم يَدْعُون إلى استخدام معايير عاطفية للتمييز بين الحق والباطل. تذهب حقول الاعتقاد إلى أن المشاعر والحدوس الشخصية هي أسسٌ مقبولةٌ لليقين، أو على حد تعبير كُتّاب «العصر الجديد»: «أنت تخلق واقعَك الخاص.» من المألوف بين هؤلاء أن تنكر وجودَ واقع خارجي مشترك، وأن تستهجن أقل انخراطٍ في البحث الموضوعي الهادئ، وعليه فإن حدوس أي فرد عن الواقع مساويةٌ في صوابها لحدوس أي شخص آخر، وليس للعلم أن يَدَّعِي أيَّ مصداقيةٍ خاصة. و«الحقيقة» عند هؤلاء النسبويين المتطرفين هي مجرد انعكاس لعلاقاتِ القوى القائمة في المجتمع عند أي لحظةٍ معطاة. مثل هذا المنظور يدفع المرءَ دفعًا إلى أن يتساءل كيف يتسنَّى لِمَن يتبنى هذا الموقفَ أن يُثبِت أن أيًّا من أفعال شخصٍ مثل هتلر كان خطأً أخلاقيًّا!
يُغرَم خصومُ العلم بِذِكر بعض الأمثلة المؤسفة لِمواقف «الحرس القديم» من العلماء الذين ظلوا متشبثين بنظرياتٍ قديمة أَمَدًا أطولَ مما يجب بالنظر إلى الأدلة الجديدة المتاحة التي تُقَوِّض تلك النظريات، وهم بالطبع غير مُولَعِين بنفس الدرجة بِذِكر الأمثلة الكثيرة الأخرى لفروعٍ علميةٍ كاملة غَيَّرَت قناعاتِها بسرعة مشهودة عندما وُوجِهَت بنتائجَ جديدةٍ ثورية، مثل: قبول الفيزيائيين لميكانيكا الكوانتم، أو مثل المراجعة السريعة للتصور الطبي لقروح المعدة بعد اكتشاف باري مارشال أنها بسبب بكتريا هِليِكوباكتر بايلوري. ونحن هنا نتحدث عن المعايير المثالية للسلوك العلمي، تلك المعايير التي تميز العلمَ عن باقي مجالات الخطاب البشري.
(٣) أمارات العلم الزائف
(٣-١) أمارات حقول العلم الزائف
وكما قلنا من قبل: قد يَزِل العالِمُ أحيانًا ويَحِيد عن الجادة العلمية، ومن العدل كشفُه وتقويمُه، ولكن ما دام الحقلُ الكلي، المنظومة، المؤسسة، ماضيةً على الصراط العلمي تصحح الأخطاءَ وتُراجِع الدعاوى، فليس من الإنصاف وَصمُها بالعلم الزائف الذي تكون فيه هذه الانحرافات هي الأصل وهي المعيار.
(٣-٢) الانعزال
من مظاهر القوة في العلم أن أفرعَه العديدة مترابطة فيما بينها يدعمُ أحدُها الآخر، وهي إن لم تتساند ويخصِّب أحدُها الآخر فهي على الأقل لا تتناقض فيما بينها. أما العلومُ الزائفة فالأمرُ فيها غيرُ ذلك؛ فهي عادةً منعزلةٌ عن التيار الرئيسي للبحث ومنظماتِه، وعن العاملين في الحقول الأكاديمية ذات الصلة، وبسبب هذا القصور في الحوار تميل العلوم الزائفة إلى اقتناء عددٍ كبيرٍ من المصطلحات والتعريفات الشاذة، وتكثر فيها التعبيراتُ والتقنيات غير المألوفة، وقلما يشارك أصحاب العلوم الزائفة في الرابطات العلمية المعنية بالموضوعات ذات الاهتمام المشترك. والحق أن كثيرًا منهم مناوئ على نحوٍ سافر للتاريخ البحثي السابق في المجالات التي تتصل بمجالهم اتصالًا وثيقًا. إنهم لا يقفون على أكتاف العمالقة — كما فعل نيوتن فيما يقول — بل يفَضِّلون أن يقفوا في وجهِهم.
ونتيجةً لهذا الانعزال يبدو أصحابُ العلم الزائف عندما يجادلون نقادَهم جاهلين جهلًا عجيبًا بالمفاهيم الأساسية لمجالِهم، تلك المفاهيم التي ينبغي أن يكونوا مُلِمِّين بها، وأن تكون عونًا لهم في البحث، وهم قلما يستخدمون المعرفةَ الراسخة من المباحث العلمية المعترف بها استخدامًا ملائمًا، وإذا احتكموا إليها فغالبًا ما يكونون انتقائيين أو عتيقي الزي ومنقطعي الصلة بالجديد في هذه المباحث.
ونادرًا ما يُسَلِّم أصحابُ العلمِ الزائف نتائجَهم وعملَهم النظري إلى مجلاتٍ أكاديمية محكَّمة، والأرجحُ أن يظهر عملُهم في الصحافة العامة أو في مجلاتٍ مملوكةٍ لهم وتابعةٍ لمنظماتِهم ذاتِها، أو لدى ناشرين مأجورين. ومن أمارات العلمِ الزائف أيضًا أن الكتب الدراسية التي يستخدمها ممارسوه، والكتب الشعبية في الموضوع التي كُتِبَت لعامة الناس، هي غالبًا نفس الشيء، وهذه الأمارةُ تجدها بصفةٍ خاصة في علم الخطوط.
-
العِلِّيَّة تتجه من الماضي إلى المستقبل (سهم الزمن)؛ ومن ثم فلا يمكن لحدثٍ ما أن تكون له معلولاتٌ سابقةٌ على حدوثِه.
-
لا يمكن لأي حدثٍ تم في تاريخٍ معين أن يسهم في تسبيبِ حدثٍ يبدأ في تاريخ لاحق ما لم تكن الفترةُ بين التاريخَين مشغولةً بالطريقة التالية: لا بد أن يبدأ الحدث عمليةً (أو تغيرًا بنيويًّا) يستمر خلال هذه الفترة الفاصلة ويسهم في بدء الحدث اللاحق.
-
لا يمكن لأي حدث يحدث في مكان وزمان معينَين أن يُحدِثَ معلولًا في مكان بعيد ما لم تكن الفترةُ الفاصلة بين الحدثَين مشغولةً بسلسلة عِلِّية من الأحداث تحدث متتاليةً ومستمرة بين الزمنَين والمكانَين.
-
لا يمكن لحدثٍ عقلي أن يُنتِجَ أي تغيير في العالم المادي على نحوٍ مباشر إلا تغييرات معينة في دماغ الشخص نفسِه، أي دون تَوَسُّط جهدٍ عضلي.
-
العقل يعتمد على الدماغ، أي إن الدماغ السليم الناشط شرطٌ ضروري لأي حدثٍ ذهني.
-
لا يمكن لشخصٍ أن يدرك حدثًا أو شيئًا فيزيقيًّا إلا بواسطة الإحساسات التي يُنتِجها الحدثُ أو الشيءُ في دماغِه؛ فلا بد أن توجد سلسلة عِلية فيزيقية من الأحداث تَصِل الحدث/الشيء بأعضاء الحِس والمسار الحِسي والمنطقة الدماغية المستقبِلة.
-
لا يمكن لشخص أ أن يَعرف خبرات شخص آخر ب إلا بسماع أو قراءة إفادات ب أو بتأويل إيماءاته وتعبيراته … إلخ، أو بالاستدلال من أدلة مادية تركها ب.
-
لا يمكن لشخص أن يتكهن بما سوف يحدث إلا مصادفةً، أو بالامتداد الاستقرائي من اطِّراداتٍ سابقة.
-
لا يمكن لشخصٍ أن يعرف الأحداثَ التي مضت، ما لم يكن قد خَبَرَها في ذلك الوقت وفي جسمه الحالي وتركت أثرًا فيزيقيًّا باقيًا (ذكرى) في دماغه، أو أُخبِر عنها ممن خَبَرَها، أو استدل عليها استدلالًا.
(٣-٣) عدم القابلية للتكذيب non-falsifiability
مثلما بَيَّنَ كارل بوبر، كل تفسير لا يشير إلى مجموعة من البيانات التي يمكن أن تفنِّده هو ليس تفسيرًا على الإطلاق، ومهما تراكمت الأمثلة التي تؤيد تفسيرًا نظريًّا ما فإنها لا تعدو أن تُقوِّي تَوَقُّعَنا الذاتي بأن النظرية صحيحة، في حين يكفي مثالٌ مفنِّدٌ واحد لأن يقوِّض المشروع كله، ويُسقِطَه بالضربة القاضية، ويقضِي عليه قضاءً مُبرَمًا.
-
كيف نعرف أن هناك كبتًا يفعل فِعلَه؟
-
نعرف ذلك لأنه لا يوجد دليل على وجود عقدة أوديب!
هكذا يُعَد غيابُ الدليلِ داعمًا للنظرية!
هذا التمنُّع على التفنيد، هذه الحصانة ضد التكذيب، هذا اللون من العجز عن إثبات خطأ النظرية (من حيث المبدأ، من حيث الصياغة) هو سبب كافٍ لإعلانِها نظريةً غيرَ علمية.
وعلاوة على عدم القابلية للتكذيب فإن معظم العلوم الزائفة تزعم أنها نظرياتٌ شاملة تضم كل الأشياء، وإن شيئًا يَدَّعِي أنه يفسر كل شيء لَهو — عادةً — شيءٌ لا يفسر أي شيء.
(٣-٤) إساءة استخدام المعطيات
(٣-٥) العلوم الحقيقية تراكمية ومُصحِّحة لذاتِها بعكس العلوم الزائفة
تتسم العلومُ الزائفةُ بأنها راكدةٌ ولا يبدو أنها تتقدم، ولا يبدو أن مفاهيمَها المحوريةَ ومناهجَها وتفسيراتِها تتغير استجابةً لِظهور نتائجَ تجريبيةٍ جديدة أو تطورات تكنولوجية أو نظرية جديدة. ولا تُبدِي العلومُ الزائفةُ بعامةٍ تلك الإثارةَ الفكريةَ أو الخلافَ الفكري الذي يميز حقولَ البحث المشروعة. وعِوَضًا عن فتح أصقاعٍ جديدة تميل العلوم الزائفة إلى الاتكاء على تفسير «النصوص المقدسة» التي سرعان ما يتعلم معتنقوها ألا يسألوا أو يعدِّلوا. كذلك القِدَم يُوَقَّر لِذاتِه، بافتراض أنه ما دام المبحثُ قد عُمِّرَ كلَّ هذا الزمن فلا بد أنه صحيح: من ذلك أن المنجمين يفتخرون بأن التنجيم كان قائمًا لآلاف السنين، وهم قلما يتريثون ليدركوا أن العنصريةَ والتحيز الجنسي — بلهَ الاعتقادَ بسطحيةِ الأرضِ وبالأرض كمركزٍ للكون — كانا أقدمَ حتى من ذلك.
(٣-٦) العلوم الزائفة تدغدغ الاعتقادات المريحة
-
أن الشفاء يمكن إحداثُه دون ألم ودون انتظار ودون جهد (مثال ذلك: المعالجون بالإيمان، اللمسة العلاجية، علاجات السرطان الدجلية، العلاج المِثلِي … إلخ).
-
الموهبة والمعرفة والحكمة … يمكن اكتسابُها للتو واللحظة بطرائق سِرِّية لا تتطلب تضحيةً أو مجهودًا (مثال ذلك: موالِفو الدماغ، العقاقير الذكية، الشرائط تحت الشعورية، وأغلب منتديات العون الذاتي).
-
الحنين إلى المطلق: الحقائق المريحة القديمة للماضي يمكن تدعيمُها علميًّا، فلا تعود مقبولةً كمجرد موضوعات للإيمان بل يصبح لها سندٌ من العلم.
-
بوسعنا أن نحصل على تنبؤ تام بالمستقبل يتيح لنا أن نؤَمِّن سلامتَنا ورفاهَنا المادي نحن ومَن نحب (الإيقاعات الحيوية الشعبية، علم الخطوط، علم النجوم …)
-
هناك طرقٌ لا تخطئ للتكهن بحقيقة الأشخاص والتنبؤ بما سوف يفعلون (علم الخطوط، علم النجوم، قراءة الشخصية في السيكولوجيا الشعبية …)
-
ليس ثمة حدود للقدرة البشرية والإنجاز الإنساني (منتديات تحسين الذات في السيكولوجيا الشعبية، شرائط العون الذاتي تحت الشعوري).
-
أزمة الطاقة يمكن التخلص منها إلى الأبد (البارافيزياء، آلات الحركة الدائمة، قوة الشكل الهرمي، الاندماج البارد …)
-
رغم أننا أفسدنا كوكبَنا وأوغلنا في الحروب فإن هناك عوالم أخرى أو أبعادًا أخرى قد حَلَّت هذه المشكلات وترغب في أن تأخذنا تحت جناحها (علماء الأطباق الطائرة، وسطاء الاتصال بالموتى channelers …)
-
الموت لا يلدغ، فإن شخصياتنا سوف تستمر في الحياة (دراسات ما قبيل الموت، الاتصال بالموتى عبر وسيط channeling، الروحانيات spiritualism …)
(٤) أمارات ممارِس العلم الزائف
هناك سماتٌ تميز ممارسي العلم الزائف لعل بعضَها قد أفصح عن نفسه فيما سبق من حديثٍ عن نِتاجِهم، وكما أن أمارات العلم الزائف لا يتعين أن تجتمع كلها في مبحثٍ واحد، كذلك الحال بالنسبة لأمارات ممارِس العلم الزائف؛ فالحق أن بعض هذه العلامات قد توجد بدرجةٍ محتملة في بعض ممارسي العلم الحقيقي، فلا يحق لنا أن نلصِقَ بشخصٍ صفةَ الدَّجلنة ما لم يجتمع منها عددٌ كبير وبدرجةٍ زائدة.
(٤-١) التحَجُّر (اللااختراقية/اللانفاذية) impenetrability
إن درجةً معينةً من العزم الموطَّد والانغلاق على النقد ربما تكون ضروريةً من أجل مُضِيِّ معظم الباحثين فيما يتطلبه أغلبُ العمل العلمي من الكدح ساعاتٍ طويلةً مُضجِرة، وقد وُجِدَ أن كثيرًا من العلماء الناجحين يتميزون بِسَماكة الجِلد والاعتداد بالنفس وقدرٍ غيرِ قليل من الرغبة في الترقِّي. وإنما تبدأ المشاكل عندما يؤدي الشَّطَطُ في هذه الميول إلى أن يناصر الباحثُ قضايا شائنةً أو أن يغضَّ الطرفَ عن دلائلَ ناصعةٍ على بطلان ما يمضي فيه. وكلما كان هذا الذي يمضي فيه امتدادًا مباشرًا لأيديولوجيته أو منظومته الاعتقادية المحورية؛ زاد احتمال أن تَحُولَ تحيزاتُه دونَ موضوعيتِه. كثيرًا ما تكون العلومُ الزائفةُ نتاجًا للاعتقادات الجوهرية للمُمارِس، وفي هذه الحالات فلا جَدوَى لأي دليلٍ أو حجة في تغييرِ فكرِ المؤمنِ الحقيقي.
(٤-٢) التفكير السحري magical thinking
وكثيرًا ما يكون هذا موازيًا لرغبةٍ في إعادة دَسِّ بُعدٍ أخلاقي في النظرة الآلية السائدة عن العالم الطبيعي (والتي يرونها أبردَ وأضيقَ مما يَوَدُّون). إنهم يريدون عالَمًا قُواه الكونية (أيًّا ما تكون) تميِّزُ القيمةَ الأخلاقيةَ للأفراد وتُثِيبُها الثوابَ العدل. يريدون أن يكون بنو الإنسان كائناتٍ خاصةً لا مجردَ بيادق عالَمٍ طبيعي غير شخصي، وبدلًا من التسليم بأننا نِتاجُ قوى طبيعية وخاضعون لنفس القوانين الكونية شأننا شأن الأشياء غير الحية؛ فإنهم يفضلون الاعتقادَ بأن بِوُسعِ الناس أن يقهروا هذا الطغيانَ بالأفعال الخيِّرة والأفكار الحسنة، وهم في هذا على خلافٍ مع النظرة العلمية القائلة بأن الكائنات البشرية تطورت من نفس المكونات والعمليات التي تشمل بقيةَ الكون، والتي — للأسف — لا تُقَيِّض لهم وضعًا فريدًا أو حماية.
هذه الرؤية للعالم تقوم على الاعتقاد بأن الاستبصار والحدس والإلهام الذاتي المباشر، هي مصادر المعرفة اليقينية، وإذا تضارب الحدس مع العقل فإن الحدس هو المرشد الأوثق إلى الحقيقة. الاستنارة (الحكمة) عند دعاة هذا الرأي أمرٌ مفاجئ ومكتمل، والسبيل إليها أخلاقي لا فكري، وبالتالي فإن الجهد الفكري ليس يُجدِي في مقاربة الحكمة بل قد يُعيقها، وهذا بالطبع مناقِض للنظرة العلمية التجريبية التي تتخذ الملاحظة والاستدلال المتدرج والتحليل والحجة والاختبار كمصادرَ أوثق للمعرفة (أي إن التعلم شيءٌ بطيءٌ مجهِد ويتطلب الانتباه، وبعبارة أخرى: التعلم تراكمي ويتم بواسطة المحاولة والخطأ). ويُسلِّم التجريبيون بأن البدايات الزائفة والأخطاء سوف تقع وهذه ينبغي تصويبُها بمزيد من العمل الجاد.
(٤-٣) الدوافع الخَفِية
كثيرًا ما يكون لأنصار العلم الزائف رهانٌ ماليٌّ في الدعاوى التي يؤيدونها، ومن شأن هذا أن يَجرَح موضوعيتَهم. صحيحٌ أن العلماء التقليديين لديهم أيضًا مصالحُ ماليةٌ في عملهم في هذه الأيام، ومن ثم يتعين أن تخضع دعاويهم للتمحيص بنفس الدرجة لكشف أي تحيزات من جانبهم عن قصدٍ أو عن غير قصد، إلا أنه يجب أن نلاحظ أيضًا أنه في المجالات العلمية المشروعة هناك بعضُ صمامات أمان ضد ذلك مُبَيَّتة في صميم المنظومة: السياسات الرقابية للوكالات العلمية المانحة ومؤسسات البحث والمجلات تجعل كشفَ صراعِ المصالحِ لدى الباحثين أكثرَ رجحانًا، أما أصحاب العلم الزائف فإنهم — في الغالب — يمارسون عملَهم خارج هذه المنظومة، وهم من ثَم غيرُ مضطرين إلى كشف أي تورطاتٍ من هذا النوع.
(٤-٤) انعدام التدريب الرسمي
أغلب ممارسي العلمِ الزائف هم من أصحاب التعليم الذاتي، وكثيرًا ما تكون مؤهلاتُهم لا علاقةَ لها بالمجالات التي يقدمون فيها دعاويهم المشكوك فيها، فالمؤهلات الممتازة في مجالٍ ما ليست ضامنةً بالضرورة للكفاءةِ المماثلة في المجالات غير ذات الصلة، مثال ذلك أن وليم شوكلي، الحائز على نوبل لمشاركته في اختراع الترانزستور، قد مضَى بعد ذلك يتحدث حديثًا أسقفيًّا عن الأساس الجيني للفروق العنصرية في الذكاء!
وكثيرًا ما يقابل ملاحظو الدجلنة أشخاصًا دُخَلاءَ على المجال يتباهون بانعدام تعليمهم الرسمي، زاعمين أن ذلك يتيح لهم أن يُضفوا على عملهم نظرةً جديدةً غيرَ متحيزة، وأن الجهل بالإنجازات السابقة في المجال يتيح لهم أن يروا الحقائقَ التي خَفِيَت عن أولئك الذين انغسلت أدمغتُهم بطرائق التدريب القياسية.
(٤-٥) عقلية المتَخَندِق bunker mentality
بالإضافة إلى افتخار أصحاب العلوم الزائفة بعُزلتِهم، التي يَعُدُّونها علامةً على الاستقلال الصارم، فإنهم قمينون أيضًا أن يروا عدمَ الاعتراف بهم على أنه ناتجٌ عن اضطهادِهم أو قمعهم من جانب «مؤسسة» عدائية، ومن ثم فإن من علامات صاحب العلم الزائف تلك الرغبة في الانغماس في نظرياتِ مؤامرةٍ غاشمة، وإلا فكيف يُفَسَّر عدم تقبل شخصٍ يعتبر نفسَه جاليليو جديدًا أو أينشتين أو باستير؟ ليس هؤلاء مُولعين فحسب بدعاوى العظمة، بل كثيرًا ما يُبدون أيضًا كراهةً زائدةً للاعتراف بالجهل.
(٥) أمارات محتوى العلومِ الزائفة
(٥-١) عدم القابلية للتكرار
(٥-٢) حجم الظواهر المزعومة يرتبط عكسيًّا مع صرامة الضوابط التجريبية
(٥-٣) معلولاتٌ كبيرة لِعِللٍ صغيرة
(٥-٤) ادِّعاء الدقة في القياس
(٦) معايير السلوك في العلوم الزائفة
(٧) أخطاء الاستدلال البشري وتحيزاته
(٧-١) مشاعية التمحيص public scrutiny
من المتطلبات الرئيسية في العلم أن تكون مناهجه وبياناته متاحةً مبذولةً مَشاعًا. كثيرًا ما يراوغ أصحابُ العلم الزائف حين يَطلُب نقادٌ مسئولون أن يفحصوا أجهزتَهم أو بياناتهم الخام، وهناك قصصٌ مأثورة لمثل هذا الروغان من التمحيص.
(٧-٢) السِّرِّية والتوجس
(٨) الحاجة إلى الارتيابية
(٨-١) فضيلة الشك
الشك نوعٌ من الفكر النقدي كمقابل للفكر الدوجماطيقي الإيقاني، وما نشأ الفكر الحق إلا ليدمغ الدوجماطيقية، وما الفلسفة الأصيلة إلا تمرد على نزعة الموقنين الذين يبدءون تفكيرهم من نقطة معينة يسيرون بعدها سيرًا حثيثًا سَلِسًا دون أن يقلق خاطرَهم تحليل هذه النقطة أو نقدها. هي تمرد على الدوجماطيقية الساذجة عند رجل الشارع المتعصب لآرائه الواثق في ذكائه ثقةً مفرطة، وهي تمرد على الدوجماطيقية المادية عند الرجل العملي الشديد الارتباط بالعالم الواقعي الشديد الإنكار لغيره، وتمرد على الدوجماطيقية الدينية عند رجل الدين المتزمت وعند أشباه الفلاسفة من المتكلمين الذين يتخذون نقطة بدئهم من تصور ديني معين يسلمون به تسليمًا ثم يقيمون عليه بناءً استنباطيًّا شاهقًا زاخرًا بالتفسيرات الهينة والحلول السهلة لكل مشاكل الفلسفة التي تعترضهم.
(٨-٢) صنفان من الشك
-
الشك المذهبي (الفلسفي) عند أمثال فرون وأنيزيديموس وأجريبا وسكتس أمبريكوس، وهم ينكرون إمكان المعرفة ويرون أن البشر يفتقرون إليها وأن كل دعوى تفيد معرفةَ شيءٍ ما هي دعوى باطلةٌ بلا استثناء. هو إذن شك حاسم ونهائي، حقيقي وأصيل، غاية ومذهب.
-
والشك المنهجي (الديكارتي) وهو وسيلة ومنهج، وشيء عابر مؤقت ريثما يجد المرءُ مبدأً وطيدًا ينكسر الشك دونه.
وقد ذهب برترند رسل إلى أن من الضروري أن نمارس الشك المنهجي — كما فعل ديكارت — لكي نتحرر من قبضة العادات الذهنية، ومن الضروري أن ننمي الخيالَ المنطقي لكي يكون لدينا عددٌ من الفروض ولا نكون عبيدًا لفرضٍ واحد، ذلك الذي يجعله الحس المشترك سهلًا على التحليل.
(٨-٣) جوهر الموقف الارتيابي في العلم
-
(١)
الدعوى الهائلة يلزمها دليلٌ هائل Extraordinary claim requires extraordinary evidence.
كلما شَطَّت الدعوى عن المألوف وناقضت الحدسَ وأسرفت في الابتعاد عن المعرفة القائمة القابلة للإثبات بسهولةٍ ويسر؛ كان المرءُ بحاجةٍ إلى دليلٍ أنصعَ وأقوى يبرهن عليها ويُثبِت أنها ليست من قبيل الخطأ أو الغش من جانب صاحب الدعوى. إن علينا أن ننظر فيما يتعين علينا أن نرفضه إذا قبلنا الدعوى الغريبة قدرَ ما ننظر في الدليل المقدَّم في حقها.
-
(٢)
عبء البرهان يقع على صاحب الدعوى وليس على متلقيها.
البينةُ على مَن ادَّعَى The burden of proof (onus probandi) lies on the claimant.إنما تقوم الدعوى أو تسقط بناءً على نوعية الدليل المقدم في صفها. ليست مهمةُ الارتيابي أن يبرهن للمدَّعِي على أن دعواه غيرُ صحيحة، إنما يقع عبءُ الدليل على المدَّعِي.
-
(٣)
يجب أن تكون الدعوى قابلة للاختبار (من حيث المبدأ على الأقل)
وفوق كل شيء يجب أن تكون قابلةً للتكذيب falsifiable، كما أنها يجب أن تُصاغ بوضوح وبطريقةٍ متينةٍ منطقيًّا، وأن يُصَرَّح بما عساه أن يُعَد دليلًا لها، وما عساه أن يُعَدَّ دليلًا ضدها. -
(٤)
يجب أن يكون الدليلُ مَشاعًا ومتاحًا لجميع النقاد الأكْفاء
فالعلم نشاطٌ عام مَشاع، قائم على الثقة، وباستثناءاتٍ نادرةٍ جدًّا، فإن كل من يأبى أن يسمح لمنافسين خطرين أن يلاحظوا طرائقَه البحثية أو أجهزتَه، أو يَطَّلِعوا على بياناته الخام؛ فإن دعواه لا تُلزِم أحدًا، وموقفه قرينةٌ ضد علميةِ دعواه. ثمة احتمالُ الغش بطبيعة الحال، وثمة الاحتمال الأكبر وهو أن تكون النتائجُ الخاطئة بسبب متغيراتٍ دقيقة غير منضبطة خفِيَت على المجرِّب ونَدَّت عن ملاحظتِه.
(٩) ما الضَّير؟!
يلهو الأطفالُ بِرَمي الضفادع بالحجارة بينا الضفادعُ تموتُ جِدًّا لا لَهوًا.
ربما ينظر بعضُ العِلية من العلماء إلى العلم الزائف باستخفافٍ وخُلُوِّ بالٍ، بل قد يولونه غيرَ قليلٍ من الرِّثاءِ والشفقة، ولسانُ حالِهم يقول: «هَوِّنْ عليك؛ ما الضير؟ هذا عبثُ أطفالٍ لن يَضُرَّ العلمَ شيئًا.»
نعم، الدجلُ لن يضر العلمَ شيئًا، ولكنه يُلحِق أفدحَ الضررِ بالمجتمع.
قد يكون الضررُ في الحالات الفردية هَيِّنًا محتمَلًا، ولكن ضرر الانتشار الواسع للعلم الزائف هو ضرر فادح، وعواقب تَفَشِّي الدجل في أوصال المجتمع هي عواقبُ وخيمة. الدجل الطبي يُخَلِّف موتًا مجانيًّا ومعاناةً كان منها بُد، والعلاج النفسي الزائف قد يزرع ذكرياتٍ كاذبةً بانتهاكاتٍ موهومة، وتحليلُ الخطوط قد يلوث سمعةَ أبرياء … إلخ. إن تَفَشِّي الأمية العلمية في المجتمع يُضَعضِعُه ويهبطُ به.
بعض مآثم الأمية العلمية
-
خداع العامة: من حق الناس أن تتلقَّى معلوماتٍ صحيحةً تَبنِي عليها اعتقاداتِها وقراراتِها. لن يرتقِي البشرُ بِنَشر المعلومات الكاذبة سواء حَسُنَت النيةُ أم ساءَت.
-
خسارة وقت ومال: العلوم الزائفة مَضيَعةٌ للوقت وخسران لمالٍ كان يمكن أن يُنفَقَ في المضمار الصحيح. حين يمتنع المرضَى عن التماس العلاج الطبي الموثَّق ويُترِعون جيوبَ الدجالين بأموالهم بينما تتفاقم حالاتُهم المرَضية ولا تعود تستجيب للعلاج الطبي الصحيح … حين نستعين بمستنبئ الآبار لتحديد مواقع الحَفر … حين نستعين بمحَلِّل الخطوط لانتقاء العاملين … إلخ.
-
قد يُفضِي تَفَشِّي الأمية العلمية في الحكومات إلى استراتيجياتٍ موبِقة تَعود بالضرر على الأمة قبل كل شيء (اذكُرْ مآثِمَ النظريات العلمية الزائفة في ألمانيا النازية وروسيا السوفيتية)، الشوكُ لا يُثمِر عنبًا، يقول سارفيبالي ر. كريشنان: «عندما نعتنق الأباطيلَ فسوف نرتكب الفظائع.»
-
العلوم الزائفة تزرع الأملَ الكاذبَ والرجاءَ غيرَ المستجاب، وعند خيبة الوعود ينقلب المرءُ على نفسِهِ بالتأنيب والتقريع واللوم؛ فيضيف الإهانةَ إلى الأذى.
-
من شأن الأمية العلمية أن تسلب المواطنَ قدرتَه على الاختيار في القضايا السياسية المُلِحَّة والاقتراع المصيري الطارئ. إن غياب الفكر النقدي يجعل المواطنَ ريشةً في مَهَبِّ الدجلِ يقذف بها حيث شاء. المواطنُ الأميُّ علميًّا يُصَوِّت للقرارِ الخطأ والشخصِ الخطأ. المجتمع الأمي علميًّا مؤهَّل دائمًا للتصويت المدمِّر، يمضي به إلى الهَلاك الآجل مثلما يتهادَى قطيعُ السوائم بِثقةٍ وَخُلُوِّ بالٍ … إلى المذبح.
-
Alcock, J. (1981) Parapsychology: Science or Magic? Oxford: Pergammon Press.
-
Hansel, C. E. M. (1980) ESP and Parapsychology: A Critical Re-evaluation. Buffalo, NY: Prometheus Books.
-
Hyman, R. (1991) The Elusive Quarry: A Scientific Appraisal of Psychical Research. Buffalo: Promtheus.
Human Inference: strategies and shortcomings of social judgement, by Richard Nisbett and Lee Ross, Bentley Historical Library, University of Michigan, Prentice-Hall, INC., Englewood Cliffs, New Jersey, 1980.