توماس جيلوفيتش:١ كيف نَكشِف الدجل؟
(١) شيءٌ من لا شيء Something Out of Nothing
من طبيعة الفهم البشري الخاصة أن يفترض في العالَم نظامًا واطِّرادًا أكثر مما يجده فيه، ورغم وجود أشياءَ كثيرةٍ في الطبيعة فريدةٍ في نوعِها وعديمة النظير، فإن الذهن البشري يخترع لها أشباهًا ونظائرَ وصِلاتٍ لا وجود لها.
في عام ١٦٧٧م كتب باروخ سبينوزا عبارتَه الشهيرة: «الطبيعة تبغض الفراغ.» لكي يصف مجموعة من الظواهر الفيزيائية، وبعد ٣٠٠ عام من ذلك يبدو لنا أن عبارتَه تنطبق أيضًا على الطبيعة البشرية فهي أيضًا تبغض الفراغ. إن لدينا استعدادًا لأن نرى نظامًا ونمطًا ومعنًى في العالَم، ونحن نَضيقُ ذَرعًا ونتبرَّم إذا وجدنا عشوائيَّةً وشَواشًا ولا معنى. الطبيعة البشرية تَمقُت انعدامَ التنبؤ وغيابَ المعنى، ومن ثم فنحن نميل إلى أن «نرى» نظامًا حيث لا نظام، وأن نَتَبَيَّن أنماطًا ذاتَ معنى حيث لا يوجد غير الصدفة وتقلباتِها.
هذا النزوعُ إلى إضفاءِ النظام على المثيرات الملتبِسة هو شيءٌ مُبَيَّتٌ في الآلية المعرفية التي نستخدمها لِفَهم العالَم، ولعله قد تخلَّف فينا خلال التطور بسبب صفتِه التكيفية العامة. إن بِوُسعِنا أن نفيد من الظواهر المنتظمة بطرائقَ تتعذَّر علينا في حالة الظواهر المشتتة، وإن استعدادَنا لِكشف أنماطٍ وعَقد صِلاتٍ هو ما يؤدي بنا إلى الاكتشاف والتقدم، لكن المشكلة هي أن هذا الميل فينا هو من القوة والتلقائية بحيث يجعلنا أحيانًا نَتَبَيَّن اتساقًا حيث لا يوجد اتساق.
نعم، يفيدنا الميلُ إلى التِماس نظامٍ وتَبَيُّن أنماطٍ، يفيدنا بالغَ الفائدة، وبخاصة إذا أخضعنا حدوسَنا التي تتولد عن ذلك لاختبارٍ أكثرَ صرامةً (مثلما فعل سيميلويس وداروين مثلًا)، غير أننا في كثير من الأحيان نعامل نتاجَ هذا الميل لا كفرضياتٍ بل كحقائقَ ثابتة. إن استعدادنا لإضفاء النظام قد يكون من الفورية والجموح بحيث ينتهي بنا في أحيان كثيرة إلى الاعتقاد في وجود ظواهر لا وجود لها البَتة.
(١-١) تثبيت إدراكاتنا الخاطئة بنظرياتٍ عِلِّيَّة
إنَّ عجْزَنا عن تمييز ترتيباتٍ عشوائية للأحداث قد يحملنا على الاعتقاد بأشياءَ غيرِ حقيقية، فنرى أن شيئًا ما هو شيءٌ مرتب ومنظم وواقعي بينما هو في الحقيقة عشوائي ومختلط ووهمي، وبذلك يكون أداؤنا في واحدةٍ من المهام الأساسية في إدراك العالم وفهمه، ونعني مهمة تحديد ما إذا كان ثمة ظاهرةٌ هناك تستدعي الانتباهَ والتفسير، يكون أداؤنا في ذلك قاصرًا غيرَ محكَم.
وما إن يتعرف شخصٌ على نمطٍ عشوائي على أنه ظاهرةٌ واقعية حتى لا يعود نمطًا ملغَزًا وواقعةً معزولة عن العالَم، بل يتناوله سريعًا بالتفسير ويدمجه في نظرياته وقناعاته القائمة من قبل. عندئذ تعمل هذه النظرياتُ على الحيود بتقييم الشخص للمعلومات الجديدة بحيث يصبح الاعتقادُ الأول راسخًا بصلابة. هكذا يتشبث الناسُ باعتقاداتهم في وجهِ أَعتَى الأدلةِ المفنِّدة.
(١-٢) تحصين النظريات٧
مثل هذه الفروض التحايلية المقحَمة والمناورات التعريفية هي نوع من الغش والمماحكة، وهي إجراءات رخيصة ومبتذلة، وعلى العالِم الحق أن يتجنبها قدر المستطاع، ورغم أن الفروض العينية تُسْتَخْدَم بالفعل في بعض الأحيان وتؤدي إلى نجاحات كشفية كبيرة، فقد بذل كارل بوبر جهدَه لتحديد القواعد المنهجية لاستخدام مثل هذه الطرق بحيث تكون مشروعةً علميًّا وغيرَ معطِّلة لتقدم المعرفة العلمية أو مطيلة لعمر نظريات بائدة لا تريد أن تتنحى وتفسح الطريق لفرضيات جديدة أكثر قوة تفسيرية وأكثر اقترابًا من الحقيقة.
(١-٣) انحياز التأييد (التأييد دون التفنيد) confirmation bias٨
ولايزالون يتشبثون بعنادٍ بفكرةِ أن الإجابةَ الجيدة الوحيدة هي الإجابة بنعم، فإذا سألوني «هل العدد هو بين ٥٠٠٠ و١٠٠٠٠؟» فقلتُ: «نعم»، فإنهم يفرحون، وإذا قلت: «لا» يمتعضون، رغم أنهم يحصلون على نفس القدر بالضبط من المعلومات في كلتا الحالتَين.
ثمة فرضيةٌ في هذه البطاقات تقول بأنه: «إذا كان في البطاقة حرفٌ متحرك على أحد وجهَيها فإن على وجهها الآخر عددًا زوجيًّا بالضرورة.» والمطلوب من المشارك أن يقدم أسرع طريقة لاختبار هذه الفرضية (أو يُطلَب منه — بصيغة أخرى — تحديد بطاقتَين اثنتَين فقط عليه أن يقلبهما لكي يختبر صدق هذه الفرضية).
والآن ما هو مصدر الضلال هنا؟
لماذا نميل فعلًا إلى اختيار البطاقة 4 بدلًا من 7؟
يفكر الواحدُ منا بمثل هذه الطريقة: «إذا قلبتُ بطاقة العدد الزوجي ووجدتُ حرفًا متحركًا أكون قد أيَّدتُ العبارة.» غير أن العثور على مثالٍ يؤيد القاعدة لا يُثْبِتُ أن القاعدة صادقة، بينما العثور على مثالٍ واحدٍ يُكَذِّب القاعدة هو أمرٌ يكفي لأن يُثْبِت كَذِبَها على نحوٍ نهائي حاسم ويقضي عليها قضاءً مُبرَمًا.
انظر أيضًا إلى المثال التالي: فهذا سياسي يرى أن إلغاء الضرائب المحلية سوف يؤدي إلى انخفاض معدلات الجريمة، ومن ثم فقد طلب من الباحثين لديه أن يجمعوا أمثلةً لحالاتٍ أُلغِيَت فيها الضرائبُ المحلية ثم انخفضت معدلاتُ الجرائم. وجد الباحثون أن هناك مائةً من هذه الأمثلة، إذَّاكَ خلص السياسي إلى أنه مُحِقٌّ في افتراض أنه بخفضِ الضرائب المحلية يمكنه أن يقلِّص الجريمة.
لقد أراد السياسي أن «يؤيِّد» فرضيتَه فحسب لا أن «يُفَنِّدَها»، وربما يكون بذلك قد ضَلَّ السبيل، ولعل باحثيه لو جَدُّوا في الطَّلَبِ لأتوا له بمائتَي حالةٍ ارتفعت فيها الجريمةُ بعد إلغاء الضرائب المحلية!
وتشير الدراسات الحديثة رغم ذلك إلى أنه بينما تسود مغالطة التأييد كحالةٍ مبدئية، فإن تكرار ورود البيانات المفنِّدة يُحْدِث تحولات في التفكير النظري، فالمسلك العام لدى الباحثين هو استبعاد البيانات المفنِّدة في البداية باعتبارها نتاجَ زللٍ أو سهو أو عوامل دخيلة، غير أن تكرار البيانات المفنِّدة وتراكمها وإلحاحها في الظهور يُحْدِث تغيرًا في استراتيجيات الاستدلال السببي.
(٢) نَرَى ما نتوقع أن نراه
سوف أراه عندما أعتقد به.
وتظهر المقايضات أيضًا في أحكام الحياة اليومية واستدلالاتها؛ فنحن حين نتخذ أحكامَنا وقراراتنا نستخدم لذلك قواعدَ واستراتيجياتٍ غيرَ صورية تُبَسِّط لنا المشكلات الصعبة تبسيطًا جوهريًّا وتتيح لنا حلها دون جهد وعناء زائدَين. هذه الاستراتيجيات ناجعةٌ في الأغلب الأعم، إلا أن فائدة التبسيط تأتي على حساب الدقة وتُورِثنا أحيانًا أخطاءً منهجية.
من ذلك أن لدينا قاعدةً تبسيطيةً تقول لنا: إن العِلل تماثل معلولاتها؛ فالمعلولات الكبيرة لا بد أن تكون لها عِللٌ كبيرة، وللمعلولات المعقدة علل معقدة، وهكذا ينطوي هذا الافتراض على بعض الحق ويُسَهِّل علينا الاستدلالَ العِلِّي بأن يحصر لنا عددَ العِلل التي علينا أن نضعها بالاعتبار، ولكن ليست جميعُ العلل تماثل معلولاتِها؛ فالفيروسات الدقيقة قد تسبب أوبئةً هائلة. ومن شأن التعويل الزائد على هذا الافتراض أن يدفع الناسَ إلى إغفال علاقاتٍ عِلية هامة وأن يرتئُوا علاقاتٍ لا وجود لها. هكذا نرى أن نفس المبدأ الذي يتيح لنا اتخاذَ أحكامٍ بسهولة واضحة ونجاح كبير هو أيضًا مسئول عن بعض أخطائنا المنهجية.
هذه المقايضة بين المزايا والنقائص تتجلى في أوضح صورة في التأثير الكبير الذي تُحدِثه توقعاتُنا وتصوراتُنا واعتقاداتُنا المسبقة على تأويلنا للمعلومات الجديدة، فحين يكون الناسُ بصدد فحص الأدلة المتصلة باعتقادٍ ما فإنهم يَجنَحون إلى رؤية ما يتوقعون رؤيتَه، واستنتاج ما يتوقعون استنتاجَه. إن المعلومات التي تتسق مع اعتقاداتنا المسبقة تنال منا القَبولَ بادِيَ الرأي، أما الأدلة المضادة لها فنحن نتناولها بالتمحيص النقدي ونُسقِطها من حسابِنا، وهكذا لا تؤتي المعلوماتُ الجديدةُ أثرَها فينا ولا تفعل فعلَها كما ينبغي لها، ولا تؤثر متضمَّناتُها على اعتقادنا كما يجب.
(٢-١) التحيز الملائم والتحيز غير الملائم
مثل هذا التعامل المتفاوت مع المعلومات الجديدة يصدم أغلبَ الناس للوهلة الأولى بوصفِهِ غيرَ مبرَّر وضارًّا أحيانًا، ويستدعِي في الذهن صورَ الأشخاص المتزمتين — على سبيل المثال — الذين لا يعبئون بالخصائص الفردية المميِّزة لشخصٍ ما بالقياس إلى تنميطٍ معينٍ إثني أو جنوسِي أو مهني غيرِ صائب، ويستدعِي في الذهن أمثلةً من أشخاص أو جماعات تتمسك تمسكًا أعمى بدوجما عتيقة الزي. إن الميل إلى تقييم الأدلة بطريقةٍ متحيزة قد تكون له عواقبُ وخيمة، وهو يقدم السنَدَ لكثيرٍ جدًّا من الاعتقادات الخاطئة وغير الدقيقة، على أن مسألة الحياد الذي يجب أن نتحلى به في تقييم المعلومات التي تؤيد أو تفند تصوراتنا المسبقة هي مسألة أدق وأعقد مما يظن معظم الناس.
هي مسألةٌ معقدة لأن من غير الملائم وغير الرشيد أن يمضي المرءُ في الحياة يَروز جميعَ الوقائع على السواء ويعيد النظرَ في اعتقاداته من جديد كلما واجهته واقعةٌ مضادة، فالحق أنه إذا كان اعتقادٌ ما قد لقي تدعيمًا طوال حياة المرء فمن الوجيه تمامًا أن يشك في أي ملاحظة أو تقرير يشكك في هذا الاعتقاد، وأن يقبل من فوره أي دليل يؤيد صدقَه. لقد كان تشكك العلماء في تقارير الاندماج النووي البارد تشككًا وجيهًا تمامًا؛ لأنه كان شكًّا قائمًا على أساسٍ نظري صلب يحدد ما هو ممكن من الأحداث وما هو غير ممكن. وكل منا له كل الحق في أن ينظر شَزرًا إلى دعاوى الأطباق الطائرة والطفو في الهواء والعلاجات المعجزية للسرطان. إن الأحداث التي تتحدى المعارف التي تأسست على نطاقٍ عريض ومَرَّت باختبار الزمن ينبغي التعاملُ معها بحذر، أما الأحداث التي تنسجم مع المعرفة القائمة فيمكن تقبلُها بصدرٍ أرحب.
غير أننا يجب أن نفرق بين الارتيابية المشروعة والانغلاق الذهني المَقِيت، بين تَشَكُّك العلماء في الاندماج البارد وتشكك رجال الدين في دعوى جاليليو بدوران الأرض ومركزية الشمس؛ ذلك أن رافضي الاندماج البارد حاولوا تكرار الظاهرة في مختبراتهم الخاصة، أما نقاد جاليليو فرفضوا النظرَ في البيانات ذاتِ الصلة. كما أن الأساس الذي تقوم عليه اعتقاداتنا المسبقة يضطلع بدورٍ كبير في تبرير الشك في المعارف الجديدة المخالِفة؛ فالظواهر التي حَظِيَت بتعزيز كبير ومتواتر وطويل الأمد — مثل تأثير الجاذبية — ينبغي ألا نتخلَّى عنها ببساطة أو نُعَدِّلَها لَدَى أول حفنة من الوقائع المضادة، أما أشكال التنميط العِرقي والجنوسي والمهني فهي على النقيض التام من ذلك؛ لأنها ترتكز في الغالب على أدلةٍ هزيلةٍ أو لا وجودَ لها على الإطلاق، ولنا من ثَمَّ أن نسارع بتعديلها أو التخلي عنها.
وانظر أيضًا إلى هذا العنوان: «إدارة إنبي تهدد بالانسحاب من الدورة»: ليس في الألفاظ ذاتها ما يُتيح لنا أن نحدد هل تتحدث العبارةُ عن شركة «إنبي» أم عن فريق «إنبي» الرياضي، إلا أن معرفتنا المسبقة بما هو معقول وما هو غير معقول تتيح لنا للتو ودون عَناء أن نستنتج الاستنتاج الصحيح.
إن السياق والمعرفة المسبقة والتوقعات والتحيزات هي عُدَّتُنا للفهم، وقد ثبت أن من أصعب الأمور أن نبرمج حتى أكثر الحواسيب تطورًا على أن تَعقِد مثلَ هذه الاستدلالات البسيطة، فبدون هذه القدرة على استخدام السياق والتوقعات التي تتخطى المعلوماتِ المُعطاة لَكُنا أغبياء بنفس الطريقة التي يتصف بها الحاسوبُ ذو القدرة الحوسبية العالية بأنه «غبي». إن نظرياتنا وتصوراتنا المسبقة و«تحيزاتنا» — على عجزها في بعض الأحيان — هي ما يجعلنا أذكياء فَطِنين.
•••
حين نواجِه معطياتٍ تحتمل معنيَين فنحن ندركها — ببساطةٍ — على النحو الذي يلائم تصوراتِنا المسبقة، أما حين نواجِه معطياتٍ غيرَ ملتبِسة ولا تحتمل إلا معنًى واحدًا فإننا نتقبلها دون نقدٍ إن كانت متسقةً مع توقعاتنا وبنائنا الأيديولوجي، أما إذا كانت مضادةً لذلك فنحن نعرضها للتمحيص النقدي ونمنحها المزيدَ من جهدِنا الذهني حتى نَرُدَّها متسقةً مع توقعاتنا وتصوراتنا الأصلية.
(٢-٢) تجارب بحثية: لماذا يتشبث الناس باعتقاداتهم السابقة رغم الأدلة الجديدة؟
كانت نتائج هذه التجربة مثيرة: فقد كان المشاركون يعتبرون الدراسة التي قدمت دليلًا متسقًا مع اعتقادهم السابق (بِغَض النظر عن نوع هذه الدراسة) كقطعة بحثية جيدة الإجراء تقدم دليلًا هامًّا يتعلق بمدى فاعلية عقوبة الإعدام، وكانوا — في المقابل — ينقبون عن عيوب عديدة في البحث الذي كان يناقض اعتقاداتهم الأولى. كان التأثير النهائي لهاتَين النتيجتَين أن مواقف المشاركين صارت مستقطَبة، فالتعرض لحشدٍ مختلط من الأدلة جعل كلا الطرفين أكثرَ اقتناعًا بصواب اعتقاداته الأصلية.
نخلص من ذلك إلى ما يلي: حين يُواجَه المَرءُ بخليطٍ من الأدلة: سلبية وإيجابية، فإنه يقبل الإيجابيةَ فورًا على عِلاتها، أما السلبية — أي المضادة لِمنظومتِه الاعتقادية — فيُعمِل فيها التأويلَ حتى يَردَّها إيجابية، من هنا يَخلص كلُّ طرفٍ من الخصوم في المناظرات الفكرية وهو أكثرُ اقتناعًا بِمذهبِه! ومن هنا يُبرِّر الرأيُ ذاتَه ويُخِلِّد الاعتقادُ نفسَه.
وتتجلى هذه الظاهرة في أوضح صورة في تاريخ المحاولات العلمية لربط حجم الدماغ والجسم بالذكاء والشخصية (ومن ثم بالقيمة الاجتماعية). هنالك نجد أمثلة لميل الباحثين إلى تحدي النتائج الصادمة وإعادة تأويلها بينما هم يَغُضون الطرفَ عن عيوبٍ والتباساتٍ مماثلة إذا كانت مريحةً لهم ومسايرةً لاعتقاداتهم.
ولكن ربما يكون صمام الأمان الأساسي والأهم في المشروع العلمي هو اشتراطه تحديد معنى شتى النتائج والمآلات على نحو موضوعي ومسبَق إن أمكن، وبعبارةٍ أخرى: أن نحدد مقدمًا وعلى نحوٍ دقيق ماذا يمثل نجاحًا وماذا يمثل فشلًا، ماذا يُعَد تحقيقًا للفرضية وماذا يُعَد تكذيبًا لها، لا أن نتلقى النتائجَ ثم نُؤَوِّل معناها تأويلًا يَسْلُكها بِعَنَتٍ في توقعاتِنا المبدئية ويَقسِرها على الانسجام مع فرضيتنا الأولى.
وبعبارةٍ أخرى: فإن توقعاتنا عُرضةٌ في كثير من الأحيان لأن تَلقَى تأييدًا من أي حصيلةٍ كانت من بين مجموعةٍ متباينةٍ من الحصائل بعد الواقعة، بعضُها لم نكن لِنَقبَلَه قبلها كمعيارٍ للنجاح. هَب أن متنبِّئًا تنبأَ بوفاة سياسي شهير هذا العام. إن من الأهمية بمكانٍ أن نحدد إذَّاكَ نطاقَ الأحداث التي سوف تمثِّل نجاحًا للنبوءة، وإلا فسوف ننبهر انبهارًا زائدًا بأي صلة واهية بين النبوءة وبين أي حدث لاحق: قد يموت اقتصاديٌّ كبير فنقول صدقَت النبوءة، وقد يموت رجلُ أعمالٍ كبير كان يعمل في شبابِه بضعَ سنواتٍ في سفارة مصر بالصين فنقول: صَدَقَت النبوءة، وقد تجري محاولةُ اغتيالٍ فاشلة لِسياسي شهير فنقول: صدقت النبوءة … إلخ. من البَيِّن أننا إذا لم نحدد مقدمًا جميعَ المآلات المحتملة التي تُعَد نجاحًا للنبوءة فلن يعود الاختبار موضوعيًّا وسوف تَلقَى النبوءةُ تأييدًا ظاهريًّا سهلًا من أَيِّما حدثٍ يحدث.
هكذا نتبيَّن أن غموضَ الدعوى وعدم تحددها يجعل من العسير تكذيبها ومن اليسير العثور على ما يؤيد جوانبَ منها بشكلٍ أو بآخر، وهذا مما يقصِّر على العَرَّافين وقُرَّاءِ الطالع طريقَهم ويُيَسِّر مهمتَهم؛ فَهُم يقولون للناس كلامًا عامًّا غيرَ محدد، ويتكفل الناس بالبحث في ذاكرتهم وأفهامِهم والعثور على مؤيِّداتٍ لهذا القول العام.
ولهذه العملية صولاتٌ أخرى كثيرة، منها: اعتقادُ الناس بالطبيعة النبوئية للأحلام، وبوجود معنًى ومغزى للأحداث التصادفية، وقد لعبتْ دورًا في بعض الأمور الخلافية العلمية، مثل الدعوى القائلة بأن الضغوط النفسية تسبب السرطان، فكثيرًا ما تُدَعَّم هذه الدعوى بالملاحظات المسجَّلة بوجود صدمات نفسية معينة حدثت قُبَيلَ بداية حالة سرطان فردية، ولكن ما دمنا جميعًا نُبتَلَى بصدماتٍ متنوعة من وقت لِآخر فإن من الممكن دائمًا ربط السرطان بحدثٍ صادمٍ معَيَّن.
(٣) الاعتقاد فيما يُقال لنا
الشيء المزعج في أمر «الحقيقة» هو أنها في الغالب غير مريحة، وكثيرًا ما تكون فاترةً مُمِلَّة، إنما يريد العقلُ الإنساني شيئًا أكثرَ إيناسًا وأكثر تَلَطُّفًا.
حين يعتزم المرءُ أن يروِي لرفاقِه واقعةً يكون قد وضع نفسَه في موضعٍ حَرِج، فالواقعُ فاترٌ مُمِل، وبه جوانبُ غامضة، وجوانبُ لا معنَى لها، وجوانب ناقصة أو معتمة غير مُضاءة، من هنا يجد الراوي نفسَه مضطرًّا — ربما دون أن يَعِي ذلك — إلى أن يُعمِلَ خيالَه فيقوم بِلَيِّ الوقائعِ وتعديلِها وتفصيلها حتى تَستوِي له قصةٌ متماسكةٌ وممتِعةٌ وآسرة للانتباه.
في الواقعة الحقيقية نشأ لدى ألبرت بالفعل خوفٌ من الفأر بعد تكرار الصوت العالي سبعَ مرات في بداية التجربة، وهو خوف استمر قويًّا خمسة أيام أخرى أثناء اختبار متابعة، في هذا الوقت أبدى ألبرت أيضًا خوفًا قويًّا من أرنب وكلب ومعطف من جلد الفقمة، و«استجابة سلبية» أقل حدة لقناع بابا نويل، وأبدى استجابة وُدِّيةً جدًّا لِقوالبَ خشبيةٍ ولِشَعر مساعدي واطسون.
غير أنه بعد خمسة أيام أخرى كانت استجابة ألبرت للفأر طفيفةً بحيث قرَّر المختبِرون أن «يُنعِشوا الاستجابة» بأن يَقرِنوا الفأر بالصوت العالي مرةً أخرى، وهو ما فعلوه أيضًا لأول مرة مع الأرنب والكلب (وبذلك لم يعد الأرنب والكلب منبهَين صالحين في أي اختبارات تعميم تالية)، وفي اختبارٍ أخير بعد ٣١ يومًا أبدى ألبرت خوفًا لدى ملامسة الفأر والأرنب والكلب والمعطف وقناع بابا نويل، إلا أنه شَرَع أيضًا في التواصل مع نفس الأرنب ونفس المعطف، وبعد هذه المجموعة الأخيرة من الاختبارات على ألبرت الصغير أخرجته أمه من المستشفى الذي كانت تُجرى فيه الدراسة، ولم يَعُد متاحًا لأية تقييماتٍ لاحقة.
لماذا تعرضت قصة ألبرت الصغير لهذه التحريفات مِرارًا؟ لا شك أن كثيرًا من التحريفات قد أُدخِلَت لكي تجعل من قصة ألبرت الصغير «قصة جيدة». ثمة جوانب عديدة لما يشكِّل قصةً جيدة، نجد كثيرًا منها في وصف خبرات ألبرت كما دَبَّجَها واطسون ورينور: وصف يقدم قصةً مترابطة بسيطة لكيف يمكن اكتساب الرهابات، قصةً ذات نهاية متسقة (بل سعيدة).
والآن نَعرِض لِهذه العناصر وغيرها مما يشكل قصةً جيدة، ويعنينا بدرجةٍ أكبر أن نبين كيف يمكن لرغبتنا في سرد قصة جيدة أن تنال من دقة المعلومات التي نتلقاها عن غيرنا (بالوساطة/بالنقل/بالعَنعنة/باليد الثانية). إن كثيرًا مما نعرفه في عالم اليوم لا يأتينا من خبرةٍ مباشرة، بل يأتينا مما قرأناه ومما أخبرَنا غيرُنا. وإن أغلب اعتقاداتنا يتأسس على أدلة لم نجمعها بأنفسِنا؛ ومن ثم فإن إلقاء الضوء على الطرائق التي يمكن أن تضلنا بها معلومات العنعنة من شأنه أن يتيح لنا فهمًا أفضل لمصدرٍ شائعٍ للاعتقادات المغلوطة وغير الدقيقة.
(٣-١) آليات تكوين قصة جيدة
لَكأنه يُعمِل إزميلَه في حجر الواقعة، يُبرِز، ويَطمِس، حتى يَستَوِي له تمثالُ ذهنِه كيانًا ماثِلًا بالتمام والرونق.
-
أن تكون الرسالةُ مفهومةً لا تتطلب تَضَلعًا معرفيًّا من جانب المستمع.
-
ألا تكون — رغم ذلك — مثقلةً بتفاصيلَ كثيرةٍ وكأنها تفترض في المستمع جهلًا شديدًا.
(٣-٢) الإبراز Sharpening والطمس Leveling في روايات العَنعَنة
ولنا في حالة «ألبرت الصغير» مثال جيد: صحيحٌ أن ألبرت أصابه شيءٌ من الخوف من الفأر، وأن خوفه تَعَمَّمَ بعضَ الشيء إلى كياناتٍ أخرى، غير أن مدى هذا الخوف ومدى تعميمه لا نجد عليهما إلا دليلًا غيرَ متسق وغير مفهوم. ولأن هذه التناقضات تعترض القصة الرئيسية حول القلق الشرطي الكلاسيكي فقد جَرُؤَ كثيرٌ من الكُتَّاب على إزاحتها جانبًا. إن تقرير واطسون الأصلي يذكر أن خوف ألبرت كان بحاجة إلى «إنعاشه» بعد بضعة أيام، وأن الصوت العالي أيضًا قد قُرِن مباشرةً بالأرنب والكلب أيضًا، ورغم ذلك فإن التقارير اللاحقة لواطسون نفسه — ولغيره من المؤلفين — لم تتطرَّق لذلك، لقد طُمِسَت هذه التفاصيل من الرواية.
من التجليات الشائقة لعمليتي الإبراز والطمس انطباعاتُنا عن الأشخاص الذين سمعنا بهم ولم نعرفهم معرفةً مباشرة، عندما تُتاح لنا مقابلتُهم شخصيًّا. إننا كثيرًا ما نُصاب بخيبةِ أمل إذ نجدهم أقلَّ بكثيرٍ مما وُصِفوا به، إيجابًا وسلبًا؛ ذلك أن الراوي إذ يحكي لنا عن شخصٍ آخر وعن أفعالِه فإن وصفَه يميل إلى أن يتركز على الشخص لا على السياق الذي حدثت فيه الأفعال، وهو بذلك «يُبرِز» الشخصَ وأفعالَه بينما «يطمس» السياقَ المحيط وشتى الظروف المخفِّفة؛ ذلك أننا نميل إلى أن نعزو التصرفات للشخص (إبراز) وليس لِمُتطلباتِ السياق وإملاءاتِ الظروف (طمس).
(٣-٣) تحريفات في خدمة «الإبلاغية» والتسلية
من أجل جودة القصة ينبغي ألا تبهظ المستمعَ بتفصيلاتٍ صغيرة كثيرة؛ لذا فإن كثيرًا من التفصيلات الخاصة عن الأشياء التي تَعمَّمَ إليها خوفُ ألبرت الصغير قد «طُمِسَت» في كثير من التقارير اللاحقة عن النتائج التجريبية، غير أن هناك معايير أخرى يجب استيفاؤها حتى يكونَ التواصلُ ذا قيمة، أهمُّ هذه المعايير: جَعْلُ التواصلِ مُبلِغًا (مفيدًا) ومسليًا، فإذا خرج المستمِع من التواصل مستفيدًا «معلومات» أو مستمتعًا فقد كان التواصل مستحِقًّا لوقتِه وانتباهِه، وقد حقق المتحدِّث واحدًا من أهم المطلوب منه.
ومن الطرائق التي يمكن أن تجعل الرسالةَ أكثرَ إمتاعًا وإبلاغًا أن تزيد مباشرِيَّتها، فما حدث لغيري يمكن أن يُحكَى على أنه حدث لي شخصيًّا، وما حدث لشخصٍ ما في مكتب عمي يمكن أن يُحكَى على أنه حدث لِعَمي نفسِه. من شأن هذه التبديلات أن تُعلِيَ من حضرة المتحدث وتضعَه في مركز الضوء، وقد تكون الغايةُ منها أكثرَ براءة: أن تجعل الحكايةَ أكثرَ إمتاعًا وأقوى بلاغًا إذ تجعلها أكثرَ نصوعًا وعيانية.
فلتَشُكَّ — إذن — في الرواية بقدر طول سلسلة العنعنة؛ لزيادة احتمال وقوع تحريف في موضع ما من هذه السلسلة الطويلة، وليس يكفي أن تَسمع الروايةَ من مصدر ثقة عندك؛ فربما يكون قد سَمِعَها من مصدرٍ آخر أقلَّ مصداقية.
وكثيرًا ما تتردد حكايةٌ مقبولةٌ عقلًا، ينسبها كلُّ راوٍ ﻟ «صديق له» أو «صديق أخيه» أو «زميل في العمل»، وتتعدد المصادرُ بدرجةٍ تفوق احتمالَ وقوعِها لكل هذا العدد وبنفس الحبكة الواحدة، من أشهر هذا الصنف من الحكايا: حكاية المرأة التي ينصب شابٌّ شباكَه ليوقِعَها، وبعد أن يقضي منها وَطَرَه تختفي مِن عندِه تاركةً له في الصباح رسالةً (على الفراش أو على مرآة الحمام) تقول: «مرحبًا بك في عالَم الإيدز.»
مثل هذه الحكاية المعقولة من شأنها أن تراودَ الخواطرَ الروائية المبدِعة وتتواردَ فيها، وأقربُ إلى الاحتمال في معظم الحالات أنها اختُرِعت من أجل العِظَةِ أو المغزى الأخلاقي الذي تحمله.
(٣-٤) تواطؤ ضمني على الكذب!
لا شك أن الرغبة في التسلية قد تجعل المتحدِّث يضحِّي بالدقة، وبشيءٍ من الحقيقة؛ من أجل الإمتاع، وكأن هناك تعاقدًا ضمنيًّا بين المتحدث والمستمِع على أن من حق الراوِي أن يَمُطَّ الحقيقةَ ويتبسَّط فيها ابتغاءَ الترويح والإيناس. يتبدَّى ذلك في أوضح صورة في حكايا الصحف الصغيرة الرخيصة التي تخلط درهمًا من الحقيقة بقنطارٍ من الكذب. لقد تعاقد الناشرُ والقارئُ عقدًا غير مكتوبٍ على أن الروايات لا يلزم بالضرورة أن تكون صادقةً مادامت مسليَّة.
ويعلم كل مَن عَمِل في وسائل الإعلام الجماهيرية أن هناك ضغطًا هائلًا على العاملين لتوفير مادةٍ للتو واللحظة: لتوفيق نهاية الوقت، أو لملء ساعةٍ، أو لِخَلق فراغٍ إعلاني … إلخ، وكثيرًا ما تكون الحاجةُ إلى مادةٍ مناسبةٍ أكبرَ كثيرًا من الوقائع الصادقة المتاحة. إن إلحاحَ النشر قد يَضطَر الإعلامَ إلى التخفف من الموضوعية والرصانة في أحيانٍ كثيرة.
(٣-٥) أنا أكذب «له» لا أكذب «عليه»!
(٣-٦) كيف ينبغي تقييم دعاوي العنعنة في وسائل الإعلام؟
-
انظر في المصدر: تَمَعَّن في مصدر الرواية، وانظر إن كان مصدرًا خبيرًا حقًّا مضطلعًا بالشأن الذي يتحدث عنه، فإذا كان الحديث — مثلًا — عن مدى انتشار الإيدز، فالأَمثَل أن يكون المتحدثُ متخصصًا في الوبائيات epidemiology، وليس في العلاج الجنسي أو في الغناء أو التمثيل، واعلم أن وسائلَ الإعلام بارعةٌ في الإيهام بوجود مصدرٍ خبير حيث لا خبرة، أو حيث الخبرةُ هي في مجالٍ آخر، أو — في أفضل الأحوال — في مجالٍ قريبٍ ولكن مغايِر (مجالُ العلاج الجنسي مثلًا غيرُ مجال وبائيات الأمراض الجنسية).
-
ثِق بالوقائع ولا تثق بالإسقاطات: حتى إذا كنتَ تُصغِي إلى متخصصٍ حقيقي، فمن الحصافة أن تثق فيما يرويه من وقائع وأن تتحفظ — بعضَ الشيء — فيما يتعلق بتنبؤاته بما سيحدث في المستقبل، فكم أخطأ خبراءُ الأرصاد في تنبؤاتهم بطقس الغد! وكم أخطأ خبراءُ الاقتصاد في قراءة مآلات الأمور الاقتصادية وفقًا للمؤشرات المتاحة، وبصفةٍ عامة: كنْ حذرًا تجاه أولئك الذين يحدثونك عن المستقبل.٣٤
-
كُن بالمِرصاد لأي إبراز أو طمس، حتى فيما يُنقَل عن الإحصاءات العلمية المتخصصة؛ فقد تعاني هذه الإحصاءات إبرازًا وطَمسًا حين يتناولها مَن ينقل «عنها»! من ذلك أن يصدر عن مركز وبائيات متخصص تقريرٌ يقول: إن هناك عددًا يقع بين ٥٠٠٠٠٠ و١٥٠٠٠٠٠ من المصابين بالإيدز في الولايات المتحدة، إن العدد الأكبر هنا هو الأكثر إثارة، ومن ثم فإن الصحف — في الأغلب — سوف تُسقِط من حسابها هذا النطاقَ الرقمي العريض وتذكر العدد الأكبر فقط، وتكتب أن مركز الوبائيات قد أصدر تقريرًا بأن هناك مليونًا ونصف مليون حالة إيدز في الولايات المتحدة. وبصفة عامة: علينا توخي الحذر تجاه أي عبارة تقول: «عدد يبلغ كذا» أو «يصل إلى كذا» مبرِزةً الحدَّ الأقصى لكي يسترعِي انتباهَنا، وطامسةً كل ما عدا ذلك.
-
احترِس من شهادة الآحاد testimonial حين تكون ناصعةً براقةً تجذب الانتباه، وبخاصة في عملية تقدير «انتشار» prevalence شيءٍ ما، فمن شأن وسائل الإعلام أن تحاول إحداث انطباعٍ قوي لدينا بخطورة مشكلة ما عن طريق نشر شهادة ناصعة لفردٍ معين عانَى من هذه المشكلة. إن لنا أن نتأثر بعمقٍ بهذه الشهادة ونتعاطف بشدة مع هذا الفرد، ولكن ليس يعني ذلك أن نتركَ هذا التأثرَ أو هذا التعاطفَ يُحَرِّفُ تصورنا ﻟ «مدى انتشار» هذه المشكلة.٣٥
(٤) الاعتقاد في ممارسات صحية «بديلة» غير فعالة
(٤-١) عقولٌ راجِحة تتبنى اعتقاداتٍ غيرَ راجحة
لماذا يَرُوجُ هذا الدجل؟ لماذا يُعرِّضُ الكثيرون أنفسَهم لمثل هذه العلاجات الباهظة الثمن، والمؤذية في كثير من الحالات؟ لا بد أن هناك شيئًا ما في هذه العلاجات يجعلها تبدو فعالة، أو تبدو ممكنة الفاعلية، حتى وإن لم تكن كذلك، ما هو هذا الشيء؟ ماذا في هذه العلاجات، وفي طبيعة المرض، وفي طريقة تفكير الناس، مما يجعل الكثيرين يعتقدون في الجدوى العلاجية لممارسات صحية من الثابت أنها عديمة الفاعلية؟
قد يقول قائلٌ: إن سببَ رواجِ هذا الدجل هو أن ما يقدمه شديدُ الإغراء: إنه لا يَعرِض للمرء وهو في كامل رشده وذروة معنوياته، بل يَعرِض له وهو منهَكٌ يائس لا يُلام على التجريب، ولا يُعاتَب على أي محاولة حتى إن بَعُد احتمالُ نجاحِها، فلحظات اليأس تُهِيبُ بإجراءاتٍ مستيئسة، والغريق يتعلق بقشة، يعتقد في القشة! إن الممارسات الطبية البديلة تقدم أملًا حيثما وقف الطب التقليدي عاجزًا: في حالات التهاب المفاصل مثلًا وحالات السرطان والشيخوخة.
كل هذا حسنٌ وجميل، غير أن سؤالنا الحقيقي غير ذلك: لماذا تبدو هذه العلاجات الزائفة فعالةً؟!
(٤-٢) بعد ذلك إذن بسبب ذلك
الحق أن أي «علاج» يدخل أثناء توهج الأعراض يمكن أن يبدو ناجعًا ما دام التوهجُ يتبعه الهدوءُ النسبي على كل حال، وحتى عندما يفشل العلاج ويتبعه تدهورٌ أو موتٌ يمكن تأويلُ الفشل بطريقةٍ لا تَمَس الإيمانَ بنجاعةِ العلاجِ بِحَد ذاتِه!
(٤-٣) تبرير الفشل (انتزاع النجاح من بين أنياب الفشل)
-
فقد يٍقال: إن المريض شَرَع في تناول العلاج متأخرًا جدًّا بعد أن تمكن منه المرض.
-
وقد يُقال: إن إيمانَ المريض غيرُ خالص، يقول المعالج الروحي ج. روجرز: «إذا لم أَقدِر على شفائهم فهناك إذن خللٌ ما في أرواحِهم.»٤٣ وتقول كاترين كولمان: «أنا لا أشفِي أحدًا … الروحُ القُدُس يَشفِي مِن خِلالي.»٤٤ من هنا كان من بين أهم مبادئ حركة العلاج الكلِّي holistic مبدأ يقول: «أن تَعرِف أي نوع من المرضَى لديه المرض أهم بكثير من أن تعرف أي نوع من المرض لدى المريض.» فلعلهم لم يستغرقوا في «التأمل» بما يكفي، أو لم يبلغوا التكامل الصحيح بين العقل والجسم والروح، أو لم يستخلصوا «المعنى» الصحيح من مرضهم. إن العلاج صحيح ولكن المريض غير قادر على تطبيقه كما يجب، أو العلاج صحيح ولكن الممارس العلاجي لا يفهمه ولا يطبقه بكفاءة.
أليس هذا صيغة أخرى من قولنا: «العلاج صحيح ولكن المريض لا يجيد أن يتعالَج!» أو «العملية نجحت ولكن المريض مات!» هكذا يُلامُ أيُّ شيء عدا «النظرية» القابعة وراء الدجل.
حتى المريضُ قد يتهم نفسَه حين يفشل العلاج، ويَصلَى تقريعًا ذاتيًّا كان منه بُد: «يبدو أني لم أكن تَقِيًّا كما يجب.» «أَبلِغوا المعالجَ أن العلاج كان فاعلًا وإنما الخطأُ خطئي … إلخ.» ولا نهاية لحيلِ التأويل التي تفسر فشلَ العلاج تفسيرًا يُبَرِّئ العلاجَ نفسَه. وكلما كان معيارُ النجاح غامضًا كان من السهل أن تستبينَ دلائلَ عليه، وأن تُؤَوِّل كل شيء مضاد تأويلًا يستبعد الفشل؛ لهذا السبب بالتحديد لا تقدم أغلبُ الممارسات الصحية البديلة علاجاتٍ محددةً لاضطرابات محددة، بل تَعِد بإحداث شيء من «حسن الحال» أو «الأداء الأعلى» أو «التكامل الأفضل» … إلخ من الفوائد الغامضة. إن الفوائدَ الغامضة صعبةُ الدحض؛ لذلك لا يورط الدجالون أنفسَهم في تنبؤاتٍ محددة قابلة للتحقق منها، ومن هنا لا ينبري المعالجون الروحيون إلا للأمراض الملتبِسة غير المرئية حيث التحسنُ أيضًا غامضٌ غيرُ مرئي: عِلل من قبيل الشقيقة، السرطان، التهاب المفاصل، التهاب الجراب، ضعف السمع … إلخ؛ من أجل ذلك يشترط علينا المنهجُ العلمي القويم أن نحدد بشكلٍ دقيقٍ ومسبَق ماذا عساه أن يُعَد — أو لا يُعَد — نجاحًا أو فشلًا، وبغير هذا التحديدِ المسبقِ فإن أمانينا يمكن أن تضربَ على أبصارِنا غِشاوةً، وتوقعاتنا يمكن أن تحملنا على تَوَهُّم نجاحٍ ما في أي إجراءٍ علاجي كان.
(٤-٤) هالة المقبولية
نحن نعتقد في أشياءَ معينة لأنها ينبغي أن تكون صحيحة: نعتقد مثلًا أن تحليل خط اليد (أو مختلف الاختبارات الإسقاطية) يقدم استبصارات عميقة في شخصية المرء، ذلك أن منطقها الذي تقوم عليه يبدو معقولًا؛ فالأشخاص «ينبغي» أن يَتركوا آثارًا من أنفسِهم في استجاباتهم الظاهرة. بالمِثل يعتقد معظم الناس أن أكل لحم الثور يسهم في مرض القلب؛ لأن الدهن على جوانب شريحة اللحم (أو في قعر المقلاة) يبدو قمينًا جدًّا أن يسد الشرايين التاجية، فالشيء الدبِق والمتجلط خارج الجسم ينبغي أن يكون دبقًا ومتجلطًا داخله أيضًا، هكذا يمضي التفكير. إن الأشياء التي ينبغي أن تكون صحيحةً كثيرًا ما تكون صحيحة، ولكن في أحيان كثيرة أيضًا يُغَشِّي حِسُّنا بما ينبغي أن يكون صحيحًا على إبصارنا لِواقعِ الحال، وبخاصة عندما تكون النظرياتُ التي تُوَلِّد حِسَّ المعقولية نظرياتٍ سطحيةً نوعًا ما.
هذا الميل إلى الاتكاء بشدة على ما يبدو مقبولًا قد أسهم في عدد من الاعتقادات الخاطئة عن الصحة. ثمة نظريات عامة غير رشيدة عن الطبيعة أو عن طريقة عمل الجسم جعلت أفكارًا معينةً تبدو معقولة، مما أدى بدورِه إلى تبني ممارساتٍ خرقاءَ عديدة، من هذه النظريات العامة نظرية تقول: إن المعلولات يجب أن تشبه عِلَلَها: أعراض المرض، إذن يجب أن تشبه سببَها أو تومئ إليه على نحوٍ ما، وبالمثل أعراض المرض ينبغي أن تشبه علاجَها أو تومئ إليه على نحوٍ ما.
هذه العلاجات تتغافل حقيقة أن الجسم يُحَوِّل معظم المواد التي يتناولها، ومن ثم فإن أية خواص تكون لها خارج الجسم يمكن أن تتغير جذريًّا أو تختفي تمامًا داخله، فالخل مثلًا يتحول بعد عملية تكسير أَيضية من حمض خفيف إلى بقايا قلوية، وفي غياب هذا الفهم فإن الناس يستمرون للأسف في تجريب علاجات عبثية؛ لأنها تبدو ذات معنى حدسي ما.
وقد أسهم التنظير السطحي أيضًا في الاعتقاد الشائع بأن علينا دوريًّا أن «ننظف» دواخلَ أجسامنا، فمثلما ننظف محرك سيارتنا وجهاز تسجيلنا كل فترة، فإن قناتنا الهضمية يمكن أيضًا أن تستفيد من عملية تنظيف منزلي عابرة، في سبيل ذلك يتناول البعض كمياتٍ كبيرةً من الماء، ويتلقى البعض حقنًا شرجية أو يأكلون الزبادي. ثمة معنى حدسي ما في كثير من هذه التقنيات، غير أن جاذبيتَها استعاريةٌ أكثر منها منطقية. يقول الناس إنهم «يكسحون» السموم بحقنة شرجية موسمية، ورغم أن استعارة الشطف هذه تبدو مقنعة فإن أجسامنا ليست بالضرورة بهذه البساطة في تشغيلاتها، فمع أن تراكم السموم في الجسم هو شيء يجب اجتنابه بالتأكيد، فقد تطوَّر الجسمُ لكي يقوم بهذه الوظيفة بكفاءة عالية للغاية، ومن ثم فإن عملية السمكرة التبسيطية من جانبنا يمكن أن تعيق هذه العملية بقدر ما تساعدها.
نخلص من كل ذلك إلى أن علينا أن نتبيَّن ما إذا كانت اعتقاداتُنا (عن الصحة أو غيرها) ناجمةً أساسًا عن حِس بمعقوليةٍ سطحية. علينا أن نحاذر من مبدأ «الشبيه يلائم الشبيه»، إن هذا المبدأ كان من أسباب مقاومة الناس في البداية للنظرية الجرثومية في المرض. لقد بدا للناس حقًّا أن من غير المعقول أن معلولًا «كبيرًا» مثل الموت والعجز يمكن أن يكون ناشئًا من علَّة «صغيرة» كالكائنات الميكروسكوبية. إن العلل كثيرًا — بالطبع — ما تماثل معلولاتها، ولكن هناك استثناءات تكفي وأكثر لأن تستدعي بعضَ الحذر وبعض الارتيابية الصحية.
(٤-٥) الطب «الكلي» في «العصر الجديد»
(٤-٦) الجانب الوجيه في الطب الكلي
-
أول هذه المزايا توكيد الطب الكلي على أن يأخذ المرءُ دورًا إيجابيًّا مسئولًا في تحديد مسار علاجه، فمهما بلغ اهتمامُ الطبيب وعطفُه فهو لن يفوق اهتمام المريض بنفسه؛ ومن ثم فإن مصلحة المريض تقتضي أن يَعلَمَ جيدًا عن طبيعة مرضه ويُحفَّز لاتخاذ دورٍ إيجابي في تحديد مسار العلاج. إن الأطباء بشرٌ، وعُرضة لارتكاب أخطاء وأخطاء فادحة أحيانًا، وينبغي النظر إليهم لا كمعصومين ومجترِحِي معجزات، بل كمستشارين ذوي عِلم يساعدون المريض في معركته مع مرضٍ معين.
-
والمَزِيَّة الثانية للطب الكلي توكيدُه على الوقاية، إن الوقاية أقل كلفةً وأقل كراهة، ويمكن أن تكون أكثر فاعلية، ربما يندهش الكثيرون حين يعلمون أن التقدم الصحي الذي حدث في القرنَين الأخيرَين مصحوبًا بإطالة معدل الأعمار لا يُعزَى إلى تقدم العلاج الدوائي والجراحي بقدر ما يُعزَى إلى الإجراءات الوقائية المتنوعة: الصرف الصحي، تنقية المياه، بَسترة اللبن، تحسن الأطعمة … إلخ. الحق أن زيادة معدل الأعمار يعود بالدرجة الأولى إلى انخفاض نسبة الوفيات بين الأطفال بفضل هذه الإجراءات الوقائية وبفضل إدخال الفاكسينات التي تَقِي أيضًا من الأمراض المُعدِية في سن الشباب.
-
والمزية الثالثة أنه يساعد المريض على التماسك أمام المرض والعجز والألم. إن الطب التقليدي على تقدمه الملحوظ ما زال يقف عاجزًا تجاه الكثير من الأمراض الجسمية ولا يقدم إلا شيئًا من إبطاء التدهور يتكبد فيه المريض نظامًا مرهِقًا من الأدوية المزعجة والتشوه الجراحي، وعلى الناس أن تمشِي بِدائِها فترةً أطول. هنا يتقدم الطب الكلي بخدمة كبيرة؛ إذ يجعل قدرة الناس على مسايرة المرض، من خلال التأمل والاسترخاء العضلي والخيال الإيجابي، أمرًا أكثر يُسرًا وإرضاءً.
(٤-٧) الطب الكلي والمناعة النفسية
يؤمن الممارسون الكليون بأن العقل يمكن أن يؤثر على الجسم على نحوٍ لا يمكن تقييمُه بدقة في وقتنا الحالي. ثمة أطروحة علمية رصينة تقول بأن مزاج المرء وشخصيته يمكن أن يؤثِّرا في الأداء الوظيفي لجهاز المناعة، وثمة صيحات شعبية متحمسة تقول بأن الانسجام الروحي والتكامل الأخلاقي لهما تأثيراتٌ مماثلة. والكُلِّيُّون من كلا الطرفَين يحاجُّون بأن الخيال الذهني قد يمنع المرض العضوي أو يوقفه.
الحالة النفسية لها تأثيرٌ على جهاز المناعة، هذه حقيقة معروفة منذ سنين (التوتر العصبي يمكن أن يؤدي إلى المرض)، ولكن ثمة مبالغات يُشيعُها المتحمسون في هذا الصدد (دخول امتحان/كتم الغضب/التسلط على الغير/العزلة الاجتماعية … من شأنها تثبيط المناعة، بينما الاسترخاء/الخيال الذهني/مشاهدة فيلم كوميدي … من شأنها حفز المناعة)، هذه المبالغات وأمثالها تتركنا مع وجودٍ غير وجودِنا الذي نعرفه، وعالَمٍ غير عالمنا، عالم لا يمرض فيه — غالبًا — إلا التعيس وغير الاجتماعي والمكبوت، عالم يمكن فيه لأفكارنا المحضة تخفيف ضراوة المرض. هذه المبالغات تأخذنا بعيدًا عن واقع عالمِنا الذي يَضرب فيه المرضُ عشوائيًّا ويتفاقم بلا رحمة، ويعتل فيه المرءُ رغم سلامة حالته النفسية وارتفاع معنوياته وحرصه على دوام صحته.
فإلى أن تصلنا نتائج مَزيدة في حقل المناعة السيكولوجية ينبغي أن نضع باعتبارنا فكرتَين؛ الأولى: أن معظم الدعاوى المتطرفة عن مدى تحكم العقل في الوظيفة المناعية (وهي دعاوى تروق دعاةَ الطب الكلي الذين ليسوا متخصصين في هذا المجال) هي دعاوى لا أساس لها على الأرجح، والثانية: أن العالَم الذي تتضمنه هذه الدعاوي هو عالَمٌ غير مرغوب فيه، عالم ينقلب فيه حال المرء العضوي لدى تقدمه لامتحانٍ عسير أو إلقاء كلمة أمام منتقِدين أو علمه بوفاة كلبه، أو لدى تعرضه لِعُسرٍ أو قلق أو غضب … إلى آخِرِ ذلك من الانفعالات الواردة بكثرة في مسيرة الإنسان والملازِمة لعملية الحياة؛ إذ يبدو أن لمصلحة التطور ألا يرتبط جهازُ المناعةِ كلَّ الارتباط بالحالة النفسية وتقلباتها وأن يكون له بعضُ الاستقلال على أقل تقدير.
(٤-٨) الجانب الآثم من الطب الكلي
يُلِح الطب الكلي على أن الفردَ هو — في حقيقة الأمر — طبيبُ نفسِه، وأن عليه من ثم أن يتبنى أسلوبَ حياة صحيًّا وأن يُلِمَّ بأبعاد مرضه وبتفاصيل الخدمة الصحية المقدمة له. ويؤكد الطب الكلي على أن السواء الذهني والروحي شرط ضروري لتحقيق السواء البدني والكفاءة الجسمية، وأن الأفكار والمشاعر الملائمة من شأنها أن تدعم الصحة.
رغم أن هذا الحديث يبدو جميلًا ومقبولًا، فإن المبالغة فيه ترتكب إثمًا غائرًا غيرَ مرئي؛ فهي تَحمِل المرضَى — ربما بِنِيَّةٍ طيبة — على أن يلوموا أنفسَهم على مرضِهم، وتُسَوِّغ أن يلومَهم الآخرون. المريض إذن هو الذي جَلَبَ على نفسِه المرض، والعاجز إذن جلب على نفسه العجز … لا شيء يَحِيق بالمرء إلا والمرء هو مَن استدعاه.
إن الطب الكلي — شاء أم أبَى — يبث في المريض اعتقادًا بأنه السبب في مرضه، وأن عيوبَه النفسية والروحية هي التي انهارت به في هاويةِ المرض وأَورَدَته المَهالِك، وهو بذلك يضيف التقريعَ الذاتي إلى محنة المرض.
وما دامت علاقة الحالات النفسية بالمرض غامضةً ما تزال، فليكن خطؤنا في جانب الحذر ولنَكُفَّ عن اعتبار المرضَى مساهمين — نفسيًّا وروحيًّا — في إحداثِ مرضِهم. إن حِمْلَهم لَثقيلٌ بما يكفي، ولا وجهَ بَعدُ لِإضافةِ الإهانة إلى الأذى.
(٥) دور العلوم الإنسانية في مواجهة الاعتقادات المريبة
الغرضُ الحقيقي للمنهج العلمي هو أن يبرهن لك على أن الطبيعة لم تخدعْكَ لِتَجعلَكَ تظن أنك تعرف شيئًا ما أنت في الحقيقة لا تعرفه.
ستظل الناسُ دائمًا تُفَضِّل الأبيض والأسود على ظلال الرمادي.
وستبقَى الناسُ تُضفِي بِنيةً وترابطًا على الأنماط العشوائية المحضة، فذاك شيءٌ مُبَيَّت في تكويننا ومتأصِّل في آليتِنا المعرفية، ولا يُرجَى له أن يزول تمامًا على الإطلاق.
وستبقى الناسُ تتأثر بما حدث أكثر من تأثرها بما لم يحدث، وستبقى مُغرَمةً باستقاء نتائجَ مما وقع تحت ظروفٍ راهنةٍ دون أن تقارنها بما كان عساه أن يقع تحت ظروفٍ بديلة، فيبدو أن هذه ميولٌ غائرةٌ من الصعب اقتلاعُها.
هذه الأسبابُ التحتية للاعتقادات المغلوطة لن تزول ببساطة، ويتعيَّن — من ثم — كبحُها بِعاداتٍ ذهنيةٍ تعويضية تعزز استخدامًا أصوبَ للعقل؛ لكي نتجنب الاعتقادات الخاطئة، بعبارةٍ أخرى: فلا بد لنا من اكتساب عاداتٍ ذهنيةٍ معينة يمكنها أن تَرُمَّ شتى أوجهِ القصور في قدراتنا الاستدلالية اليومية.
ما هي العادات الذهنية الضرورية؟ وكيف نكتسبها؟
وسَبَقَ أن نَبَّهنا إلى المَيل البشري لإضفاء نظامٍ على أي مجموعةٍ من المثيرات، وإسباغ معنى على أية ضوضاء لا معنى لها، وإلى أهمية اعتبار فرضية «الصدفة المحضة»، وعدم الاندفاع في الحكم والسلوك.
(٥-١) أهمية تعليم العلم
ومن مخاطر الأمية العلمية وانعدام الفكر النقدي: خلقُ أجيالٍ لا يُؤمَن اقتراعُها في الأمور المعقدة التي تزداد تعقيدًا في عالَمنا التكنولوجي الجديد، مثل هذه الأجيال جديرةٌ بأن تختار للأمة مساراتٍ مُوبِقةً أو معطِّلةً على أحسن تقدير. وهذا وحدَه مَدعاةٌ قويةٌ لِبَث الفكر العلمي والنقدي في أي مجتمع يريد أن ينهض وأن يبقى ناهَضًا.
ولكن هل جميع العلوم تُنَمِّي الفكرَ النقدي على حَدٍّ سَواء؟
وقد خَلَص الباحثون إلى أنه:
«يبدو أن العلوم الاحتمالية كالسيكولوجيا والطب تعلِّم الطلابَ أن يستخدموا القواعدَ الإحصائية والميثودولوجية في المشكلات العلمية ومشكلات الحياة اليومية، في حين أن العلوم الحتمية كالكيمياء والمباحث غير العلمية كالقانون لا تؤتي أثرًا في طلابها في هذه النواحي (ص٤٣٨) … إن رفاهية عدم التعرض للمشكلات المضطربة التي تنطوي على قدرٍ كبيرٍ من اللايقين وشبكةٍ معقدة من العِلل؛ تعني أن الكيمياء لا تُعَلِّم شيئًا من القواعد ذات الصلة بالحياة اليومية» (ص٤٤١).
(٥-٢) واجب العلماء الاجتماعيين
وعليه فقد يكون أفضل ما يقدمه علماءُ الاجتماع لطلابهم ولعامة الناس هو: تطورهم الميثودولوجي، طريقتهم في النظر إلى العالم، العادات الذهنية التي يُنَمُّونها، العملية أكثر من المحتوَى. إن الكثير مما نعرفه حاليًّا عما هو حق وما هو باطل سوف يتغير بالتأكيد في السنوات المقبلة. الأمر الأهم إذن ليس اطِّراحَ اعتقاداتٍ خاطئة معينة (وإن لم يَخلُ ذلك بالتأكيد من بعض الفائدة) بل خلق فهمٍ لكيفية تكويننا للاعتقادات الخاطئة، ولكي ندرك تعقيدات العالم وتعقيدات الخبرة البشرية يتعين علينا أن نفهم كيف يمكن أن تضللنا الأدلةُ الظاهرية لخبرة الحياة اليومية. وهذا بدوره يتطلب أن نفكر تفكيرًا واضحًا حول خبرتنا، ونضع افتراضاتنا موضع تساؤل، ونضع على مِحَك النقد كلَّ ما نظن أننا نعرفه.