الفصل الثامن
إمري لاكاتوش:١ العلم والعلم الزائف٢
الالتزامُ الأعمى بنظريةٍ ما ليس فضيلةً فكرية بل هو جريمةٌ فكرية.
إ. لاكاتوش
يُعَد احترامُ المعرفة من أخص خصائص الإنسان، والمعرفة في اللاتينية هي
scientia، ومنها أَتَت كلمة
science (علم) لِتَكون اسمًا لأَجَلّ صنفٍ من المعرفة،
ولكن ما الذي يُفَرِّق المعرفةَ عن الخرافة أو الأيديولوجية أو العلم الزائف؟ لقد حَرَمَت
الكنيسةُ الكاثوليكيةُ كلَّ مؤيدٍ لِنظرية كوبرنيقوس، واضطهدَ الحزبُ الشيوعيُّ أنصارَ
نظرية الوراثة المِندلية، باعتبار أن مذاهبَهم علميةٌ زائفة. إن التمييز بين العلم والعلم
الزائف ليس مشكلةً نظرية تليق بالمقاعد الوثيرة: إنها ذات صلةٍ اجتماعية وسياسية
خطيرة.
حاول كثيرٌ من الفلاسفة أن يحل مشكلة
التمييز problem of demarcation كما يلي: تُعَد عبارةٌ ما علمًا إذا كانت كثرةٌ كافيةٌ من الناس
تعتقد بها بشدةٍ كافية، (ولكن تاريخ الفكر يُنبِئنا أن كثيرًا من الناس كانوا على التزامٍ
تام باعتقاداتٍ باطلة)، وإذا كانت قوة الاعتقادات مِحَكًّا للمعرفة لَتَوَجَّبَ علينا
أن
نضع بعض الحكايا عن العفاريت والملائكة والشياطين والفردوس والجحيم، نضعها في مرتبةِ
المعرفة.
إن العلماءَ — بخلاف ذلك — شديدو الارتيابِ حتى بأفضل نظرياتِهم: فنظريةُ نيوتن هي
أقوى
نظريةٍ أنتجها العلمُ حتى الآن، ولكن نيوتن نفسَه لم يعتقد قَط أن الأجسامَ تتجاذب عن
بُعد،
ليست هناك إذن درجة من الالتزام بالاعتقادات تجعل منها معرفة. الحق أن السِّمة المميِّزة
للسلوك العلمي هي ارتيابية معينة حتى تجاهَ أَعَزِّ النظريات لدَى المَرء. ليس الالتزامُ
الأعمَى بنظريةٍ ما فضيلةً فكريةً، بل هو جريمةٌ فكرية.
بذلك قد تكون عبارةٌ ما زائفةً علميًّا حتى لو كانت «مقبولة» plausible للغاية ويعتقد بها الجميع، وقد تكون ذاتَ قيمةٍ علميةٍ حتى لو
كانت غيرَ معقولة ولا يعتقد بها أحد، بل قد تكون نظريةٌ ما على أعلَى قيمةٍ علمية حتى
لو لم
يكن ثمةَ من أحدٍ يفهمُها، بَلْهَ أن يعتقد بها.
إن القيمة المعرفية للنظرية لا شأن لها بتأثيرِها النفسي على عقول الناس، فالاعتقاد.
والالتزام والفهم حالاتٌ للعقل الإنساني، أما القيمةُ العلميةُ الموضوعيةُ للنظرية فشيءٌ
مستقل عن العقل الإنساني الذي يبتكرها أو يفهمها، إنما تعتمد قيمتُها العلميةُ على الدعم
الموضوعي الذي تمتلكه في دنيا الوقائع
facts، لا على أي
شيءٍ سواه، وكما يقول هيوم:
إذا أمسكنا في يدِنا أيَّ كتاب: في الإلهيات مثلًا أو في الميتافيزيقا المدرسية، فلنسالْ
أنفسَنا: هل يحتوي على أي استدلالٍ مجرد يتعلق بالكم أو العدد؟ لا، هل يحتوي على أي
استدلالٍ تجريبي يتعلق بالواقع والوجود؟ لا، إذن أَلقِ به في النيران؛ لأنه لا يحتوي
شيئًا
غير السفسطة والوهم.
ولكن ما هو التفكير (الاستدلال) التجريبي؟ إذا نظرنا إلى التراث العريض للقرن السابع
عشر
في السحر فسنجده مليئًا بملاحظاتٍ دقيقةٍ وأدلة مسترسلة بل وتجارب، وقد كان جلانفيل —
فيلسوف الرابطة الملكية المبكرة — يعتبر السحرَ هو نموذج التفكير التجريبي. إن علينا
أن
نُعَرِّف التفكيرَ التجريبي قبل أن نبدأ في حرق الكتب على طريقة هيوم.
في التفكير العلمي تواجَه النظرياتُ بالوقائع، ومن الشروط الأساسية للتفكير العلمي
أن
النظريات يجب أن تدعمها الوقائع، والآن كيف بالضبط يمكن للوقائع أن تدعم النظرية؟
لقد اقتُرِحَت أجوبةٌ مختلفةٌ عديدة على هذا السؤال، كان نيوتن نفسُه يعتقد أنه أثبتَ
قوانينَه من الوقائع، وقد كان فخورًا بأنه لا يتفوَّه بمجرد فرضيات، وكان يزعم أيضًا
أنه
استنبطَ قوانينَهُ من «الظواهر» phenomena التي قَدَّمَها
كبلر، غير أن فخرَه كان هُراءً؛ لأن الكواكب وفقًا لِكبلر تتحرك في مسارات بيضاوية
(إِهلِيلَجِيَّة)، بينما هي وفقًا لنظرية نيوتن لا تتحرك في مسارات بيضاوية إلا إذا لم
يُربِك بعضُها بعضًا في حركتِه، ولكنه يُربِك، وهذا ما جعل نيوتن يضع نظرية اضطراب perturbation theory يترتب عليها أنه ليس ثمة كوكب
يتحرك في مسارٍ بيضاوي.
بِوُسعِ المرءِ اليومَ أن يبرهن بسهولةٍ على أنه لا يمكن استقاءُ قانونٍ طبيعي صحيح
من أي
عددٍ متناهٍ من الوقائع، إلا أننا ما نزال نقرأ عن نظرياتٍ علميةٍ يُبَرهَن عليها من
الوقائع، فلماذا هذه المقاومةُ العنيدة للمنطق الابتدائي؟
ثمة تفسيرٌ معقولٌ جدًّا، وهو أن العلماءَ يريدون أن يجعلوا نظرياتِهم جديرةً بالاحترام
ومستحقةً للقب «علم»، أي لقب المعرفة الأصيلة، ولكن أهم معرفةٍ في القرن السابع عشر،
أوانَ
وُلِدَ العلم، هي المتعلقة بالرب والشيطان والفردوس والجحيم. وهذه معرفةٌ عواقبُ الخطأ
فيها
وخيمة، فإذا أخطأ المرءُ في حدوسه الافتراضية عن الإلهيات فإن عاقبةَ خطئِه هي الدينونة
الأبدية، غير أن «التنوير» Enlightenment ذهبَ إلى أننا
جهلاءُ وغير معصومين في الأمور الثيولوجية، ومن ثم فليس ثمة ثيولوجيا علمية، ليس ثمة
معرفة
ثيولوجية؛ فالمعرفة لا يمكن أن تكون إلا عن «الطبيعة»، ولكن هذا النوع الجديد من المعرفة
يجب أن يُخضَع للمعايير التي استقوها من الثيولوجيا على نحوٍ مباشر: يجب أن تُثبَت إثباتًا
لا يقبل الشك، يجب أن يحقق العلمُ نفسَ اليقينية التي أفلتَت من الثيولوجيا. لم يكن يُسمَح
للعالِم الجدير بهذا الاسم أن يُخَمِّن، بل عليه أن يبرهن من الوقائع على كل عبارة يَفُوه
بها، كذا كان معيارُ الأمانةِ العلمية. النظرياتُ غير المُثبَتة بالوقائع كانت تُعَد
دجلًا
آثمًا، هرطقةً في المجتمع العلمي.
ليس غير سقوط النظرية النيوتنية ما نَبَّهَ العلماءَ في هذا القرن (العشرين) إلى أن
معايير الأمانة عندهم كانت يوتوبية، فَقَبْلَ أينشتين كان معظمُ العلماء يعتقدون أن نيوتن
قد فَكَّ شفرةَ القوانين النهائية للرب عن طريق البرهنة عليها من الوقائع. في بدايات
القرن
التاسع عشر أَحَسَّ أمبير أن عليه أن يُسَمِّي كتابه عن تأملاته في الكهربية المغناطيسية:
النظرية الرياضية في الظواهر الكهربية الديناميكية المستنبَطة تمامًا من التجربة، ولكنه
في
نهاية الكتاب يعترف عَرَضًا بأن بعض التجارب لم تُجرَ على الإطلاق، وأنه حتى الأدوات
الضرورية لم تُشَيَّدْ!
فإذا كانت جميع النظريات غيرَ قابلةٍ للإثبات على حد سواء، فما الذي يُفَرِّق المعرفةَ
العلمية عن الجهل، ويميز العلمَ عن العلم الزائف؟
أحدُ الأجوبة عن هذا السؤال قَدَّمَه في القرن العشرين «المناطقة الاستقرائيون» inductive logicians. شَرَعَ المنطقُ
الاستقرائي في تحديد احتمالية شتى النظريات وفقًا للدليل الكلي المتاح، فإذا كان الاحتمال
الرياضي لِنظريةٍ ما عاليًا فإنها تتصف بأنها علمية، وإذا كان الاحتمال منخفضًا أو صفرًا
فهي غير علمية؛ وعليه فإن السمة المميِّزة للأمانة العلمية هي ألا تقول أي شيء ليس عاليَ
الاحتمال على أقل تقدير، ولمذهب الاحتمالية probabilism
مَلمَحٌ جذاب؛ فبدلًا من إضفاء تمييز أبيض/أسود بين العلم والعلم الزائف يقدم مذهب
الاحتمالية مُتَّصَلًا يمتد من النظريات الرديئة ذات الاحتمالية الضئيلة إلى النظريات
الجيدة ذات الاحتمالية العالية، غير أنه في عام ١٩٣٤م أعلن كارل بوبر — أحد أعظم الفلاسفة
نفوذًا في زمننا — أن الاحتمالية الرياضية لجميع النظريات — العلمية والعلمية الزائفة
—
بالنظر إلى أي قدرٍ من الأدلة هو صفر، فإذا صَحَّ قول بوبر تكون النظريات العلمية ليست
فقط
غير قابلة للإثبات على السواء، بل أيضًا غير محتملة على السواء. الأمر بحاجةٍ إلى معيارٍ
جديد للتمييز. واقترح بوبر معيارًا مذهِلًا نوعًا ما: فقد تكون نظريةٌ ما علميةً وإن
لم تكن
ثمة ذرةٌ من الدليل في صالحها، وقد تكون زائفةً وإن كانت جميعُ الأدلة المتاحة في صَفِّها.
يعني ذلك أن الصفة العلمية أو غير العلمية للنظرية يمكن أن تتحدد بمعزِلٍ عن الوقائع،
وفقًا
لِبوبر فإن النظرية تكون «علمية» إذا كان المرءُ مستعدًّا لأن يحدد مقدمًا تجربةً (أو
ملاحظة) فاصلةً بوسعها أن تكذِّب النظرية، وتكون «علمية زائفة» إذا كان رافضًا تحديدَ
مثل
هذا «المُكَذِّب بالقوة» potential falsifier، ولكن إذا
كان الأمرُ كذلك فنحن إذَّاكَ لا نميِّز النظريات العلمية عن العلمية الزائفة، أو نميز
المنهج العلمي عن المنهج غير العلمي، فتكون الماركسيةُ علميةً عند البوبري إذا كان
الماركسيون مستعدين لتحديد وقائع من شأنها إذا لُوحِظَت أن تجعلهم يتخلون عن الماركسية،
فإذا كانوا يرفضون ذلك تصبح الماركسيةُ علمًا زائفًا. إن من المثير دئمًا أن تسأل
الماركسيَّ ما هو الحدثُ المدرَكُ الذي يمكن أن يجعلك تهجر ماركِسِيَّتَك: فإذا كان صاحبُنا
ملتزمًا بالماركسية فإنه ملزَم بألا يحدد وضعًا يمكن أن يُكَذِّبَها وبأن يجد ذلك فِسقًا
عن
النظرية. هكذا قد تتحجَّر قضيةٌ ما إلى دوجما علمية زائفة أو تصبح معرفةً أصيلةً وفقًا
لما
إذا كنا مستعدين لِذِكرِ أحوالٍ قابلةٍ للملاحظة من شأنها أن تُفَنِّد القضية.
إذن هل معيارُ قابلية التكذيب عند بوبر هو الحل لِمشكلة تمييز العلم عن العلم الزائف؟
كلا، ذلك أن معيار بوبر يتجاهل العناد الشديد الذي تتحلى به النظرياتُ العلمية. إن للعلماءِ
جلدًا سميكًا، فهُم لا يهجرون نظريةً لِمجرد أن الوقائع تناقضها، ودَأبُهم في هذه الحالة
إما أن يبتكروا فرضيةَ إنقاذٍ معينةً لِتفسيرِ ما يسمونه إذَّاكَ مجرد «شذوذ» anomaly، وإما أن يتجاهلوا ذلك وينصرفوا إلى مشكلاتٍ أخرى.
لاحِظ أن العلماءَ يتحدثون عن «شذوذات»، عن أمثلة مستعصية، لا عن «تفنيدات». صحيح أن
تاريخ
العلم يعج بأوصاف لتجارب فاصلة يُزعَم أنها قتلت نظريات، غير أن هذه الأوصافَ مُلَفَّقةٌ
بعد أن تم التخلي عن النظرية بوقتٍ طويل. ولو أن بوبر كان قد سأل يومًا عالِمًا نيوتنيًّا
تحت أية ظروف تجريبية سيكون حَريًّا به أن يتخلى عن نظرية نيوتن، لارتبَكَ بعضُ العلماء
النيوتُنيين ولم يُحِيروا جوابًا شأنهم شأن بعض الماركسيين.
ما هي إذن السمةُ المميِّزة للعلم؟ هل علينا أن نستسلم ونوافق على أن الثورة العلمية
ما
هي إلا تغيرٌ غير عقلاني في الالتزام، ما هي إلا تحولٌ ديني؟ لقد خَلَصَ توماس كون —
وهو
فيلسوفُ علمٍ أمريكيٌّ بارز — إلى هذه النتيجة بعد أن اكتشف سذاجةَ مذهب التكذيب falsificationism عند بوبر، ولكن إذا كان كون صائبًا
فليس ثمة تمييزٌ صريحٌ بين العلم والعلم الزائف. ليس ثمة تمييز بين التقدم العلمي والانحطاط
الفكري. ليس ثمة معيارٌ موضوعيٌّ للأمانة، ولكنْ أي معايير يمكنه عندئذ أن يقدمها لِتمييز
التقدم العلمي عن التنَكُّس الفكري؟
لقد تقدمتُ في السنوات القليلة الأخيرة بمنهجٍ لِبرامج البحث العلمي يحل بعضَ المشكلات
التي لم يتمكن كلٌّ من بوبر وكون من حلها.
أولًا: أنا أزعم أن الوحدة الحقيقية للإنجازات العلمية الكبيرة ليست فرضيةً منعزلة،
بل هي
«برنامج بحث» research programme، فالعلم ليس مجرد
محاولة وخطأ، ليس سلسلةً من الحدوس الافتراضية والتفنيدات: «كل البجع أبيض» قد يُكَذِّبها
اكتشافُ بجعةٍ واحدة سوداء، ولكن هذه «المحاولة والخطأ» التافهة لا تَرقَى إلى أن تكون
علمًا. العلمُ النيوتُنِيُّ مثلًا ليس — ببساطة — مجموعةً من أربعة حدوس (قوانين الحركة
الثلاثة وقانون الجاذبية)، فهذه القوانين الأربعة لا تشكل إلا «النواة الصلبة» hard core للبرنامج النيوتُنِي، غير أن هذه النواة الصلبة محميةٌ
بشدة من التفنيد بواسطة «حزام واق» protective belt من
الفرضيات المساعدة auxiliary hypotheses، بل أهم من
ذلك أن برنامج البحث لديه أيضًا «مساعد كشف» heuristic، أي
آلية حل مشكلات قوية. من شأن هذا المساعد الكشفي — بمساعدة تقنيات رياضية معقدة — أن
يهضم
الشذوذات، بل ويحوِّلها إلى دليلٍ إيجابي. مثال ذلك أنه إذا كان ثمة كوكبٌ لا يتحرك كما
ينبغي له بالضبط، فإن العالِمَ النيوتُنِي يكبح حدوسَه المتعلقة بالانحراف الجوي، والمتعلقة
بانتقال الضوء في العواصف المغناطيسية، ومئات من الحدوس الأخرى التي هي جميعًا جزء من
البرنامج، بل هو قد يبتكر كوكبًا ما زال مجهولًا ويحسب موضعَه وكتلتَه وسرعتَه من أجل
أن
يفسر الشذوذ.
فلننظر الآن في نظرية نيوتن في الجاذبية والنظرية النسبية لأينشتين وميكانيكا الكوانتم
والماركسية والفرويدية، إنها جميعًا برامج بحث، لكلٍّ منها نواةٌ صلبة مميزة يحميها بعنادٍ
حزامٌ واقٍ مَرِن، ولكل منها آليةٌ معقدة لِحَل المشكلات خاصة بها، ولكل منها — في أي
مرحلة
من نموها — مشكلات لم تُحَل وشذوذات لم تُستَوعَب. جميع النظريات بهذا المعنى تُولَد
مفنَّدة وتموت مفنَّدة، ولكن هل هي جيدة على حدٍّ سواء؟ لقد كنتُ حتى الآن أصف ماذا تكونه
برامج البحث، ولكن كيف يمكن للمرء أن يميز البرنامج العلمي أو المتقدم عن البرنامج الزائف
أو المتنكس؟
على خلاف بوبر، لا يمكن أن يكون الفارق هو أن البعض ما زال غيرَ مفنَّد بينما البعضُ
الآخر قد تم تفنيدُه. عندما أصدر نيوتن كتابَه «المبادئ» Principia كان من المعروف للجميع أنه لم يتمكن من تفسير حتى حركة القمر
على نحوٍ قويم. والحق أن حركة القمر فَنَّدَت نيوتن. وقد فَنَّدَ كوفمان — وهو فيزيائي
بارز
— نظريةَ النسبية لأينشتين في العام نفسِه الذي نُشِرَت فيه، ولكن جميع برامج البحث التي
أُقَدِّرها لديها خاصةٌ مشتركة: أنها جميعًا تتنبَّأ بوقائع جديدة، وقائع إما لم تخطر
في
حُلمِ أحدٍ وإما قد ناقضتها بالفعل برامجُ منافسةٌ أو سابقة. في عام ١٦٨٦م مثلًا، عندما
نشر
نيوتن نظريتَه في الجاذبية، كانت هناك نظريتان راهنتان فيما يتعلق بالمُذَنَّبات: الأكثر
رواجًا منهما تَعتبِر المذنبات إنذارًا من ربٍّ غاضب يُنذِر بأنه سوف يضرب ويُوقِع كارثة.
أما الأقل انتشارًا — وهي نظرية كبلر — فكانت ترى أن المذنبات أجسامٌ سماويةٌ تتحرك في
خطوطٍ مستقيمة. أما وفقًا لنظرية نيوتن فإن بعضها يتحرك في قطوعٍ زائدة hyperbolas أو في قطوعٍ
مكافئة parabolas بلا عودةٍ أبدًا، والبعض الآخر يتحرك في مسارات بيضاوية معتادة،
وقد عقد هالي Halley — الذي يعمل ببرنامج نيوتن — حساباتِه
القائمة على ملاحظة تمدد مختصر في مسار مذنبٍ معين، وخَلَصَ منها إلى أنه سوف يعود بعد
٧٢
سنة، وحسبَ الدقيقةَ التي سوف يُرَى فيها مرة ثانية في نقطةٍ من السماء حدَّدَها جيدًا.
كان
هذا شيئًا لا يُصَدَّق، إلا أنه بعد ٧٢ عامًا، بعد وفاة كلٍّ من نيوتن وهالي بزمنٍ طويل
عاد
مذنب هالي كما تنبأ هالي بالضبط. كذلك تنبأ العلماءُ النيوتُنِيون بوجود كواكب صغيرة
(وبحركتها الدقيقة) لم تُلاحَظ من قبلُ قَط. أو فلننظرْ إلى برنامج أينشتين: لقد اجترحَ
هذا
البرنامجُ تنبؤًا مذهِلًا بأن المرءَ إذا قام بقياس المسافة بين نجمَين بالليل وقياس
المسافة بينهما بالنهار (إذْ هما مَرئيان أثناء كسوفٍ للشمس) فإن القياسَين سوف يختلفان!
لم
يفكر أحدٌ قَط أن يقوم بهذه الملاحظة قبل برنامج أينشتين. هكذا نرى أنه في البرنامج البحثي
المتقدم تؤدي النظريةُ إلى اكتشافِ وقائعَ جديدة مجهولة حتى الآن. أما في البرامج المتنكسة
فتُلَفَّق النظرياتُ، لا لِشيءٍ إلا لكي تستوعبَ الوقائعَ المعروفة، فهل تنبأت الماركسيةُ
—
مثلًا — في يوم من الأيام بواقعةٍ جديدة مذهِلة تنبؤًا ناجحًا؟ كلا، إن لها تنبؤاتٍ مخفِقةً
شهيرة: تنبأت بالفقر المطلق للطبقة العاملة، وتنبأت بأن أول ثورة اشتراكية سوف تحدث في
المجتمع الأكثر نموًّا صناعيًّا، وتنبأت بأن المجتمعات الاشتراكية ستكون خاليةً من الثورات،
وتنبأت بأنه لن يكون ثمة صراعُ مصالحَ بين البلاد الاشتراكية. هكذا كانت التنبؤات المبكرة
للماركسية جريئةً ومذهِلة غير أنها أخفقت. وقد قام الماركسيون بتفسير كل إخفاقاتهم:
فَسَّروا ارتفاعَ مستوى معيشة الطبقة العاملة باختراع نظرية في الإمبريالية، بل فسروا
لماذا
وقعت أولُ ثورة اشتراكية في روسيا المتخلفة صناعيًّا، وفسروا برلين ١٩٥٣م وبودابست ١٩٥٦م
وبراغ ١٩٦٨م، وفسروا الصراعَ الروسي الصيني، ولكن فرضياتهم المساعدة auxiliary hypotheses جميعًا تَمَّ طبخُها «بعد الحدث» لكي يحموا النظريةَ
الماركسية من الوقائع، فإذا كان البرنامجُ النيوتُنِي قد أدى إلى وقائع جديدة فإن البرنامج
الماركسي قد تقهقر خلف الوقائع وجعل يركض بسرعة لكي يلحق بها.
مُجمَل القول أن السمة المميزة للتقدم التجريبي ليس تحقيقاتٍ تافهة؛ فبوبر على حق
في أن
هناك الملايين منها، فلَيسَ نجاحًا للنظرية النيوتنية أن الأحجار عندما تسقط تقع تجاه
الأرض
مهما تكرر ذلك، غير أن ما يُسمَّى «تفنيدات» refutations
ليس السمة المميزة للإخفاق التجريبي كما كان يبشِّر بوبر؛ إذ إن جميع البرامج تنمو في
خضم
دائم من الشذوذات. أما الفيصل حقًّا فهو التنبؤاتُ المذهِلة المباغِتة المشهودة؛ فقليلٌ
منها يكفي لقلب الميزان، وحيثما تخلفت النظريةُ وراء الوقائع نكون بإزاء برامج بحث متنكِّسة
بائسة.
والآن، كيف تحدث الثورات العلمية؟ إذا كان لدينا برنامجان للبحث متنافسان: أحدهما
يتقدم
بينما الآخر يتنكس، يميل العلماءُ إلى الالتحاق بالبرنامج المتقدم. هذا هو الأساس المنطقي
للثورات العلمية، ولكن في حين أنه من الأمانة الفكرية أن نُبقِي على السجِل معلَنًا،
فليس
من الخيانة أن نتمسك ببرنامجٍ متنكِّس ونحاول تحويلَه إلى برنامج متقدم.
وبخلاف بوبر فإن منهج برامج البحث لا يقدم عقلانيةً فوريةً، فالمرء ينبغي أن يعامل
البرامجَ المبرعمة بتساهل: فقد تأخذ البرامجُ عقودًا قبل أن تقف على قدمَيها وتصبح متقدمة
تجريبيًّا، والنقد الهام هو دائمًا نقدٌ بَنَّاء: ليس ثمة تفنيدٌ بدون نظريةٍ أفضل. كما
أن
توماس كون مخطئ في اعتقاده أن الثورات العلمية تغيراتٌ لاعقلانية مفاجئة في الرؤية. إن
تاريخ العلم يدحض كلًّا من بوبر وكون: فالتفحص الدقيق لتجارب بوبر الفاصلة وثورات كون
يتكشف
أنهما خرافتان؛ ذلك أن ما يحدث عادةً هو أن البرامج البحثية المتقدمة تحل محل البرامج
المتنكِّسة.
ولِمشكلة التمييز بين العلم والعلم الزائف متضمناتٌ خطيرةٌ أيضًا بالنسبة لِمَأْسَسَةِ
النقد. لقد مَنَعَت الكنيسةُ الكاثوليكيةُ نظريةَ كوبرنيقوس سنة ١٦١٦م؛ لأنه قِيل: إنها
علميةٌ زائفة، ثم حُذِفَت عام ١٨٢٠م من قائمة الممنوعات؛ لأنه بحلول هذا التاريخ اعتَبَرَت
الكنيسةُ أن الوقائعَ قد أثبَتَتها فأصبحت من ثم علمية. وفي عام ١٩٤٩م أعلَنَت اللجنةُ
المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي أن علم الوراثة المِندِلي علمٌ زائف، وساقَت دعاتِه
— مثل
فافيلوف Vavilov — إلى القتل في معسكرات الاعتقال،
وبعد قتل فافيلوف أُعِيد تأهيل علم الوراثة المِندِلي، ولكن حَقَّ الحزب في تقرير ما
هو
علمٌ ويُنشَر، وما هو علمٌ زائفٌ ويعاقَب ظل حقًّا قائمًا. تمارس المؤسسةُ اللبرالية
الجديدة للغرب أيضًا الحق في أن ترفض منحَ حرية الحديث لِما تَعتبرُه علمًا زائفًا، مثلما
رأينا في حالة الجدل المتعلق بالذكاء والعنصر. لم يكن ثمة مَناصٌ من أن تستند جميع هذه
الأحكام إلى ضربٍ من معيار التمييز. من أجل هذا فإن مشكلة التمييز بين العلم والعلم الزائف
ليست مشكلةً زائفة تليق بالفلاسفة النظريين في مقاعدهم الوثيرة. إن لها مُنطَوَياتٍ
أخلاقيةً وسياسيةً هي من الخطورةِ بِمكان.