الباريدوليا هي ميلُ العقل البشري إلى إدراكِ نمطٍ مألوفٍ لِشيءٍ ما حيث لا وجودَ
في واقع
الأمر لِمثلِ هذا الشيء، من ذلك: رؤيةُ وجوهٍ أو حيواناتٍ أو أشياءَ في تشكيلاتِ السحاب
العشوائية، ورؤيةُ وجهٍ إنساني في القمر، وسماعُ رسائلَ خفيةٍ في الموسيقى التي تُدار
بسرعةٍ أكبرَ أو أصغر من المعتاد أو التي تُدار عكسيًّا، ومن ذلك رؤيةُ وجوهٍ أو أشكالٍ
مألوفة في الصخور وأجراف الجبال من جَرَّاءِ التآكل وعملِ الرياح وعوامل التعرية.
(٢) الأساس النيوروبيولوجي والتطوري
من شأن هذا النزوع الإدراكي — الباريدوليا — أن يحمل الناسَ على تأويل الصور
العشوائية أو التشكيلات التصادفية للضوء والظل كوجوه. يحدث ذلك كنتيجةٍ للطريقة التي
يعمل بها الدماغ. ثمة منطقة في الدماغ تُسمَّى «منطقة الوجه المغزلية اليمنى» right fusiform face area
متخصصة في معالجة الوجوه الحقيقية، وهذه المنطقة ذاتها تنشط عندما يرى الناسُ هيئةَ
وجهٍ داخل ضوضاءَ عشوائية، فإذا ما رأى الناسُ أيَّ دائرتَين صغيرتَين وخطٍّ تحتهما
داخلَ دائرةٍ كبرى فسرعان ما يميزون ذلك كوجهٍ دون أدنَى تردد، وقلما يستطيعون صرفَ هذا
التصور عن أذهانهم إنْ هُم حاولوا ذلك!
كانت الباريدوليا يومًا ما تُظَن عَرَضًا من أعراض الذهان، غير أنه قد تبيَّنَ اليومَ
أنها نزوعٌ بشري سَوِي، وفي كتابِه «عالمٌ تسكنُه الشياطين» يفسر كارل ساجان هذا الميلَ
المفرِط لِإدراك الوجوه بأنه قد نَجَمَ عن حاجةٍ تطورية لتمييز الوجوه بسرعة.
بإزاءِ الشيء الشبيه بالوجه تنشط عملياتٌ معرفيةٌ تنبه الملاحِظَ إلى هويةِ الشيء
وحالتِه الانفعالية (عدائية، عدوانية، إحباط … إلخ) في آنٍ معًا، ويتم ذلك حتى قبل أن
يَشرَع العقلُ الواعي في معالجةِ المعلومات أو حتى استقبالِها، ويبدو أن هذه القدرةَ
المُرهَفةَ الحادةَ هي نتاجُ دهورٍ من الانتخاب الطبيعي الذي يَجتَبِي الأشخاصَ الأقدرَ
على التعرف على الحالة الذهنية للغير (لأشخاصٍ مهدِّدين مثلًا)، والذي يتيح لهم فرصةً
للفرار أو للمعاجَلةِ بالكَرِّ والهجوم، وبصياغةٍ نيوروبيولوجية يمكننا القول: إن
معالجة هذه المعلومات على مستوى تحت-لحائي subcortical، ومِن ثم تحت-شعوري، قبل أن تمر إلى بقية الدماغ للمعالجة
التفصيلية، من شأنها التسريع بالحكمِ واتخاذِ القرار حيث تكون السرعةُ ضرورةَ
بقاء.
والحق أن أكثرَ الأخطاء الإدراكية شيوعًا (ومنها الباريدوليا) هي تلك الطرائق التي
خَدمَت الجنسَ البشري في مراحله الأولى وأعانته على البقاء حين كان الرهانُ الإدراكي
باهظًا.
٢ لقد ترسَّخَت في الدماغ البشري وتأصَّلت؛ لأنه لا ينسَى جميلَها القديم،
ولقد بَقِيَت به لأنه بَقِيَ بها!
كان ليوناردو دافنشي يوصي الفنانين الناشئين بطريقة وجدها «جزيلة الفائدة في استثارة
الذهن لشتى ضروب الابتكار: إذا نظرتَ إلى حائطٍ ملوث، أو حائطٍ مبنيٍّ من حجارةٍ خليطة،
فقد تجد فيه ما يشبه المناظرَ الطبيعية، من جبالٍ وأَنْهُرٍ وصخور وأشجار ووديان عريضة
وتلال في تشكيلات عديدة، أو لعلك ترى معاركَ ورجالًا يقاتلون أو وجوهًا وأزياءَ غريبة
في تنويعٍ لا ينتهي.» والأطفال يمتازون بهذا النوع من الرؤية، فالطفل الذي لا يتجاوز
الثالثةَ قد ينظر إلى قشرةِ برتقالةٍ على المائدة ويراها بوضوح، وفي الوقت نفسِه — في
قشرة البرتقالة ومن خلالها — يرى سفينةً في البحر، أو إنه حين يكون مع الكبار على
العشاء في الحديقة، يرى فُتاتَ الخبز والجبن على المائدة المجلوَّة كانعكاساتٍ للنجوم
والقمر.
٣
وقد سَجَّل لنا التاريخُ قديمُه وحديثه والإعلامُ بشتى ضروبه أمثلةً ووقائعَ من
الخيال والثيمات الدينية، وبخاصة ظهور وجوه لشخصياتٍ دينية وتجليها في ظواهر معتادة،
مثل: صورة يسوع، العذراء، كلمة «الله» … إلخ في الشجر والحجر والسحاب، بل على البيض
وعلى درقات السلاحف وفي قعر المِقلاة، ومن الأمثلة الطريفة ما حدث في سنغافورة في
سبتمبر ٢٠٠٧م حيث وُجِدَ بروزٌ لحائي متصلب على شجرة يشبه القرد؛ جعل المؤمنين يرتادون
الشجرةَ ويقدمون فروضَ الإجلال ﻟﻠ «الإله القرد»!
٤
والباريدوليا — إن شئنا الدقة — هي فرعٌ من ظاهرةٍ أعم هي اﻟ
apophenia، والأبوفينيا هي النزوع البشري إلى إدراك
أنماطٍ ذات معنى داخل المعطيات العشوائية أو الضوضاء المختلطة، من ذلك على سبيل المثال:
أن المقامرين يتصورون أنهم يرون أنماطًا في الأعداد التي تظهر في اللوتاري أو بطاقات
اللعب أو عجلات الروليت، ومن ثم يُكَيِّفون رهاناتهم وفقًا لهذه الأنماط (بينما الرمية
أو السحبة في القمار لا ضغط لها على ما سيحدث بعدها، فهي لا تقدم ولا تؤخر في احتمالات
الرمية أو السحبة القادمة ولا تؤثر على أرجحيتها أقل تأثير)،
٥ ومن ذلك قراءة الطالع والفنجان، وهي تقوم على تمييز أنماطٍ تُرَى في
التشكيلات العشوائية التي تبدو للناس لطخاتٍ تصادفية لا معنى لها.
(٣) الوَلَع باﻟ «أنماط» patterns
وقد أفاض ميشيل شيرمر
Michael Shermer في تبيان هذه
الظاهرة، وأسماها «الولع بالنمط»
patternicity،
٦ وعَرَّفها بأنها «الميلُ إلى إيجاد أنماطٍ ذاتِ معنًى في الضوضاء الفارغة.»
الاعتقادُ هو الأصل، الاعتقاد هو الوضع الطبيعي للإنسان، أما عدم الاعتقاد أو الشك، فهو
شيءٌ مُقلِقٌ وغيرُ مريح، وثمة دلائلُ قوية على أن معالجة القضايا الموجبة أيسر على
الدماغ البشري من معالجة القضايا السالبة.
الإنسانُ كائنٌ «يريدُ» أن يعتقد. ثمة جهازُ اعتقادٍ في الدماغ البشري. الدماغ آلةُ
اعتقاد، آلةُ تمييزِ أنماط، تَصِل النقاطَ وتخلق معنًى من الأنماط التي تراها في
الطبيعة. نحن رئيسياتٌ تلتمسُ «النمط» pattern، وإذا
غُمَّ عليها النمطُ تخترعه، وجميع الكائنات الحية — في الحقيقة — على هذا المنوال؛ فهي
تستخلص من تعاقبات الأحداث «أنماطًا» تتوقعها وتتنبأ بها وتُكيِّف عليها سلوكَها، الأمر
الذي يُعينها على البقاء والإنسال. يتوقعُ كلبُ «بافلوف» الطعامَ كلما سمع الجرسَ
ويَسيلُ لعابُه. تربط الكائناتُ بين المنبه والنتيجة، بين السلوك والمكافأة. إذا
وَضَعتَ حمامةً في قفص وعلَّمتَها أن تسلك سلوكًا معينًا تَعقبه مكافأةُ الطعام فإنها
تتبنَّى هذا السلوكَ وتكرره، فإذا حرمتها مِرارًا من المكافأة فإنها تخترع سلوكًا
جديدًا مِن عندها تتوسم فيه النجاح؛ تلتف مرتَين مثلًا ثم تنقر الزرَّ بمنقارها مرتَين
عسى أن يواتيها الطعام. تلك هي مُسَوَّداتُ الخرافةِ والطقوسِ الخرافية مسجَّلةً
محفورةً في سلوك أبسط الكائنات.
ثمة دلائل تشير إلى أن مادة «الدوبامين» هي الموصِّل العصبي المسئول عن إدراك النمط،
فإذا كانت هذه المادةُ زائدةً عن الحد في مساراتها العصبية المقدَّرة أدى ذلك إلى
التشوش والإفراط في تَبَيُّن «أنماط» حيث لا نمط، وذلك هو «الذهان» psychosis وما يَصحبه من «هلاوس» hallucinations سمعية أو بصرية … إلخ، و«ضلالات» delusions فكرية تُؤَوِّل الواقعَ على غير وجهِه، أما الحد المعتدل من
الدوبامين فهو وسيطُ الإبداع وما يصحبه من رؤية أنماطٍ جديدةٍ صائبة لا يكتشفها غير
المبدعين من الناس، وأما النقص الشديد في هذا الموصِّل العصبي فيؤدي إلى الجمود والتصلب
والبلادة وعدم إدراك الأنماط والتشكك في وجودها عند رؤيتها.
غير أننا لِسوء الحظ لم نطوِّر في أدمغتنا شبكةَ كشفٍ للزيف نميزُ بها بين الأنماط
الحقيقية والأنماط الكاذبة، ليس لدينا «كاشفُ خطأ» يعدِّل آلةَ تمييزِ الأنماط. من هنا
تأتي حاجةُ العلم إلى اتخاذ آليات تصويب الذات؛ من قبيل تكرار التجربة ومراجعة النظراء
والمجموعة الضابطة ومحاولات التكذيب والتجربة الفاصلة … إلخ.
على أن التمييزَ الخاطئ لا يزيحنا من «المَجمَع
الجِيني» gene pool، ولم يكن يمكن — من ثم — أن يُستبعَد من جانب التطور، فحيثما
كانت كلفةُ الشك أبهظَ من كلفةِ الاعتقاد حُسِم الأمرُ لصالح الاعتقاد: إذا استشعرَت
أذناك حفيفًا في العشب قد يكون الريحَ وقد يكون حيوانًا مفترسًا، فمن الحصافة أن تتصرف
على اعتباره حيوانًا مفترسًا، فإن أصبتَ نجوت بعمركَ ومَرَّرتَ جيناتِكَ، وإن أخطأتَ
لم
تخسر شيئًا يُذكَر. نحن «نراهن» wager على النمط،
والانتقاء الطبيعي يجتبي الأمهرَ مِنا في تمييز الأنماط ولو جانَبَه الصوابُ في معظم
تمييزاته!
التطور — إذن — لا يستصفي الصوابَ دائمًا وينفي الخطأ، وإنما يأخذ الأمورَ على علاتها
ويروزُ المواقفَ على الجملة، ويخلطُ الارتباطاتِ العِلِّيَّةَ الصحيحة بالارتباطات
الخاطئة ما دامت الارتباطاتُ الضروريةُ للبقاء واقعةً في شبكتِه وداخلةً في حَوزتِه
ومتضمَّنةً في اعتقاده. من هنا تجد الارتباطاتُ الزائفة — الخرافةُ — مبرِّرًا
تطوريًّا، وتظل قابعةً في سراديب العقل البشري إلى أمدٍ بعيد. لقد انسرَبَت الخرافةُ
في
اﻟ «ما بَين» وتربَّعت على العوالم العميقة من العقل، ومهما حاول الفكرُ العلمي طردَها
تبدَّلَت على عينِه وأنسَلَت سلالاتٍ جديدةً أقدَرَ على البقاء وأمنَعَ على الزوال
والفناء.