التكوين
١
قال رواة الأخبار إنَّ الشيخ معتمد الدمنهوري صحا على توالي الطرقات، خافتة، كأنما يشغلها ألَّا توقظ سكان البيوت المجاورة. تثبَّت من الصوت. سبقَت البسملة نزوله من السرير النحاس إلى أرضية الحجرة المغطاة بالحصير. تنبَّه — وهو في السلمة الأخيرة المُفضية إلى الصالة التحتية — أنه يرتدي ثيابه الداخلية. فكَّر في أن يسحب عباءةً مُهمَلة على مسمار في الحائط. لإمامة الجامع هَيْبتها التي يجب أن يحترمها. عادت الطرقات، فبادَرَ إلى فتح الباب. غابت — في الظلمة المتكاثفة — ملامح الطارق. نسي إضاءة قنديل الباب الخارجي، وكانت الحارة مظلمة تمامًا.
حدق، فتبين الْتماعًا في عينَين يعرف صاحبهما، قبل أن يخمن، أو يتساءل، أو يرحِّب، فاجأته طعنةُ الخنجر، تلازمها صيحةٌ هامسة: هذه هديةُ الحسن بن عمار.
شقَّ الخنجر أسفل البطن، والجسد بطوله حتى أعلى الصدر. انبجس الدم نوافيرَ متلاصقة، وأعقب الشهقة المتألِّمة سقوط الرأس إلى الجانب، واصطباغ الجسد والدائرة الواسعة من حوله بالدم.
شرخَت الصرخة الصمت السادر، وإن لم تذبحه. مضت الخطوات مبتعدةً حتى تلقَّفها السكون والظلمة. لم يشعر بما حدث حتى الخفيرُ على باب الحارة، أسند عصاه الهائلة إلى جانب الدكَّة، وتعالى غطيطه.
•••
قال الرواة إنَّ شومان بائع الخبز هو أول مَن رأى الجسد المتكوِّم بين ضلفتَي الباب. أيقظَت صرخاته حتى خفيرَ الحارة الذي تلمَّست يده — بتلقائية — العصا المستندة إلى الجدار.
الشيخ معتمد الدمنهوري
توزعَت الأسئلة والأجوبة. انخرطت في المفاجأة والدهشة والذهول. تشابكت التخمينات، واختلطت؛ لبواعثِ ما حدث.
ألِفَ الناس إعلان موت أحد الأمراء. يخمِّنون أنه قُتل بأيدي أعوان خصومه من الوزراء والأمراء وقادة الجيش. الصراعات المعلنة، والمستترة، باب إلى حمَّامات الدم. الشيخ الدمنهوري لم يكن يحبُّ عِشرة الحكام، ولا صلة له بقيادات الحُكم. أيامه كأنها الورقة التي أُعيد نسخها: صحوه في صلاة الفجر، وسعيه إلى جامع الأزهر القريب. يعود إلى بيته في حارة الديلم فلا يغادره حتى أذان الظهر. يسرع في خطواته إلى الجامع ليؤمَّ المصلين. حلقته في الجامع الأزهر تدور على خمسة عشر عمودًا لكثرة الطلبة الذين قصدوه للإفادة من علمه. ربما تردد — بعد ذلك — على سُوق الورَّاقين. يقرأ في جديد المخطوطات حتى صلاة العصر. يمضي إلى جامع القرافة، فيؤمُّ المصلِّين، ويعود إلى البيت. ينشغل ما بين صلاتَي المغرب والعشاء بتلاوة القرآن، وكُتب الفقه والسُّنَّة وتاريخ الصحابة والأولياء. ركعات الشفع والوتر — عقب صلاة العشاء — آخِر ما يودِّع به يومه. يمضي إلى سريره، تسبقه غمغمات بالبسملة والحوقلة والمعوِّذتَين.
حزن الناس عليه لمَا وصلهم من بِرِّه وعطفه. عُرف عنه مَيْله إلى التفريج عن المكروبين. وكان عفيفًا عن المحارم، متقيًا في نفسه، ولا يرى إلا صالح الناس. لم يكن يردُّ السائلين، ولا يتعلل بظروفٍ تمنعه من مدِّ يد المساعدة. ظلَّ — حتى قُتلَ — عفَّ اللسان، لا يأذن للانفعال أن يغلبه. ربما تلقَّفَت أذنه ما يكره سماعه، فلا يتغيَّر على صاحب القول، أو يكتم انفعاله. صورته عند الناس وهو يجلس على بساط، وتحته سجَّادة، وبين يديه — وهو يستقبل القبلة — مصحف يتلو منه بأربع عشرة رواية. تجرَّد من نفسه ومصالحها؛ فجسده في الأرض، وقلبه في السماء. ترك فضول زينة الدنيا، وآثَرَ ما يبقى على ما يفنى، ولم يعدَّ أيامه، وعَدَّ نفسه من الموتى.
عُرف عنه ميله إلى العزلة، والْتزام الخلوة؛ فلا يختلط بالناس إلا لأداء الفرائض، أو لضرورة، مع إظهار التواضع ولِينِ الجانب. يشارك في أمور الدنيا بقدْرِ ما يُطلب منه في قضايا الدِّين، يعيب الْتماس الدنيا بعمل الآخرة، والتفقه لغير الدِّين، وأفعال أصحاب البدع، والآفات الباطلة، والمجاهرين بالمعاصي.
لم يكن يصدر إلا عن رأيه. عظاته تحضُّ على التذكير بالله، وعلى العمل بقواعد الدِّين، وتخويف الناس من يوم الحساب، وإن تحدَّث في معاني العدل، وواجبات الحكام، وحقوق المحكومين؛ وكان يأمر الوزراء والأمراء وكبار رجالات الدولة — في خطبة الجمعة بجامع القرافة — بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويصدع بالنكير عليهم.
اجتذبت مجالسه الوعظية انتباه الناس، حتى إنهم كانوا يغلقون دكاكينهم؛ فتخلو الأسواق في «بين القصرين والنحاسين والشماعين والقناديل والشارع الأعظم»، ويفرغون لسماع ما يقوله من الفوائد والكلام الحَسن.
تردد على مجلسه في جامع القرافة، العشرات من القضاة والمؤدِّبين والمعلمين والمشايخ والعدول والقرَّاء والنُّسَّاخ وأهل البلاغة والفصاحة. يلتفون حوله في نصف دائرة داخل الجامع ذي الزوايا المربعة، والأروقة على الجانبَين، والمنارة العالية، والباب ذي المصطبة العالية، والأبواب المصفحة بالحديد، المتباينة الألوان. موقعه خارج القرافة الكُبرَى، بعيدًا عن أسوار القاهرة، تخمينًا بغيابه عن النظرات المترصِّدة. هي مقبرة الخاصَّة والعوام من أهل مصر، ممتلئة بالأضرحة والمَشاهد والمساجد والأربطة، وتتصل بالقاهرة بالبنايات والقصور الجميلة، لكنها تظلُّ بعيدة عن مدينة الحُكم، وإن أُقيمت في الجامع صلاة الجمعة، وخرج له في ليالي الوقود مقرَّر من الزيت، وشملته صدقات الجوامع والمساجد والزوايا، وأُقيم فيه سماط ليالي الوقود، وله كذلك صدقة للفقراء، وأهل الرُّبُط التي حوله.
لماذا قُتل الشيخ معتمد الدمنهوري؟
٢
القاعة واسعة، أرضيتها من الرخام المعشق، الأبيض والأسود، تتناثر فوقها السجاجيد العجمية والحشايا، ويتداخل الزجاج في سقفها، يعكس أضواء القناديل الموزعة؛ فيهَبُ إحساسًا بالسحر. تتوزع في رحابتها أرائك ومقاعد مُزينة بالعاج والمرجان، وصناديق مزدانة بنقوش الذهب، وتتدلى من السقف ثُريَّات هائلة محمَّلة بقناديل الفضة. وتَزدان الجدران والأسقف بالفُسيفساء والنقوش والزخارف والمرايا والخشب المذهب. ينثر الخدم ماء الزهر والورد على رءوس الحضور، ويتضوع أريج العود والصندل والعنبر. وثمة فرقة موسيقية تعزف ألحانًا خافتة على الربابة والعُود والناي والقانون والصنج.
وضع الوزير الحَسن بن عمَّار على رأسه عمامة كبيرة زرقاء ذات طبقات، ينزل طرَفها فيدور حول الحنك، وارتدى عباءة من الحرير الأحمر، مطرَّزة بخيوط الذهب. وأحاط وسطه بطوق ذهب مرصَّع بالجواهر، وتدلَّى من جنبه سيف بمقبض ذهبي، ودسَّ قدمَيه في مركوب مُزيَّن بفصوص اللؤلؤ.
قال رواة الأخبار إن الخليفة العزيز بالله منَحَ ولاية عهده لابنه أبي علي منصور، منذ كان طفلًا في الثامنة. توفي العزيز بالله في بلبيس. كان قد وصل إلى بلبيس على رأس قواته، يصحبه ابنه أبو علي منصور، لدرء خطر غزو الروم للشام. لمَّا أحس بدنوِّ الأجل، وعليه الخِرَق والضماد، استدعى ابنه المنصور. وكان حَدَثًا دون الثانية عشرة. ضمه إليه وقبَّله: واغمِّي عليك يا حبيب قلبي.
ودمعت عيناه: امضِ يا سيدي والْعب … فأنا في عافية.
أردف وهو يمسك نفسه من الانفعال: امضِ يا سيدي والْعب، فأنا في عافية.
وانشغل الصبي باللعب، حتى أتاه نداءُ برجوان وهو في أعلى جميزة كانت في الدار: انزل … ويحك … الله الله فينا وفيك.
نزَلَ أبو علي منصور. وضع برجوان العمامة بالجواهر على رأسه، وقبَّل له الأرض، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
دفعه برجوان بترفُّق — على هذه الصورة — إلى حيث يقف الناس. أدركوا ما حدث، فقبَّلوا الأرض، وسلَّموا عليه بالخلافة، ولقِّب الحاكم بأمر الله. ظلَّ المنصور ساكنًا بما لا يحدث في مثل سنِّه.
قال الرواة إن موكب الخليفة، الحضرة الشريفة، العترة، الباب الذي عن طريقه تصل الشفاعة للمؤمنين من الله، الحاكم بأمر الله، مضى — في اليوم التالي — من بلبيس إلى القاهرة.
الموكب هائل، فخم، تظلِّله رهبة الموت وأبهة الخلافة. وُضِع جثمان الأب على ناقة، من ورائها الخليفة الابن، على رأسه المظلَّة، شِعار الفاطميين، يحملها زيدان الصقلبي، وبين يديه البنود والرايات. ارتدى زيَّ الخلفاء، وتقلَّد سيفًا، وأمسك برمح في يده، ومن حوله القادة والأمراء والوزراء والكتبة ومئات الجنود.
دخَلَ الموكب القاهرة عند مغيب الشمس. استقبله الناس خارج باب النصر بالتكبير ودعوات المغفرة للخليفة الراحل. أشرف المنصور على تغسيل أبيه، وتكفينه، ودفنه. ثم أعدَّ نفسه لمراسم البيعة.
قال الرواة إنه قد نُصِب للخليفة الصبي في صباح اليوم التالي، في الإيوان الكبير، سريرٌ من الذهب، عليه مرتبة مُذهَّبة.
دخل إلى الإيوان راكبًا، يرتدي البياض، اللون الذي يعارض به الفاطميون لونَ السَّواد العباسي، وعلى رأسه مُعمَّمة مشدودة بما لا يصحُّ إلا مع الخليفة الفاطمي، هي التاج الشريف، مرصَّعة بالجوهرة اليتيمة، تتوسط جواهر أخرى من الياقوت الأحمر. الناس وُقوف في صحن الإيوان. قبَّلوا الأرض، ومشوا بين يدَيه، حتى جلس على العرش. حضر في الليلة السابقة تجهيزَ أبيه، وغُسل قاضي القضاة محمد بن النعمان لجثمانه، ودفنه عشاء في تربة الزعفران إلى جانب أبيه المعزِّ.
سلَّم الناس على الخليفة الحاكم بأمر الله بالإمامة، وباللقب الذي اختير له. ونودي في القاهرة والبلدان أن الأمن موطَّد، والنظام مُستتبٌّ، فلا مؤنة ولا كلفة، ولا خوف على النفس أو المال.
أول ما أصدره الخليفة الحاكم بأمر الله — عقب اعتلائه كرسيَّ الحُكم — قرارٌ بتعيين محمد بن النعمان في القضاء، وأن يوكل إليه أمر الدعوة، والصلاة بالناس نيابة عن الخليفة أمير المؤمنين. ثم أصدر الخليفة سجلًّا آخَر بوراثته المُلك عن أبيه الخليفة العزيز بالله. وتضمَّن السجل وعدًا من أمير المؤمنين الحاكم بحُسن النظر إلى الرعية، وإعلانًا بإسقاط بعض المُكوس التي كانت بالساحل.
قال الرواة إن العزيز بالله أوصى بولده الصبي ثلاثةً من أهم رجاله: برجوان الصقلبي، خادمه وكبير خِزانته، الحسن بن عمَّار الكتامي زعيم كتامة، القبيلة المغربية الأهم، وسند الدولة الفاطمية منذ بَوَاكيرها، ومحمد بن النعمان، قاضي القضاة.
لاحَظَ الحسن بن عمار وبرجوان أن قاضي القضاة محمد بن النعمان آل إليه الكثيرُ من أمور الدولة، عقبَ إعلان سجل أمير المؤمنين بإقراره في المنصب؛ هو الذي تولى غسل الخليفة الراحل، وأوكل إليه أمر الدعوة، والصلاة بالناس نيابة عن أمير المؤمنين، وقراءة ما يُصدره أمير المؤمنين من سجلات.
كان ابن عمَّار وبرجوان يتنافسان في السيطرة على أمور الحُكم. بدَت إزاحة المنافِس الثالث لازمةً. جرَت المراسلات بينهما في هذا الاتجاه.
٣
قال الرواة إن المغاربة أجبَرُوا الإمامَ الحاكم بأمْرِ الله على اختيار الحَسن بن عمَّار للوَساطة. تخلَّفوا عن البيعة، وأصرُّوا على أن يُعفى الوزير عيسى بن نسطورس من منصبه، وأن يوكَل الأمر لواحدٍ منهم، وهو ما كانت وصية العزيز — في تأكيداتهم — قد رتبته.
تسلَّم الحسن بن عمار التقاليد من أمير المؤمنين، ولقَّبه الإمام بأمين الدولة. أدرك الخاصة والعامة مدى السلطات التي أتيحَت للحسن بن عمار.
قال الرواة إن عبد القادر السلاب دخَلَ على الحَسن بن عمَّار، بعد أن خلَّف وراءه الكثير من الدروب والعطفات المظلمة. جعَلَ ابن عمار من داره مركزَ الحُكم، في حارة كتامة، إلى الجنوب الشرقي من الجامع الأزهر.
– هل انتهى الأمر؟
قال السلاب: إنه يُلقي عظاته الآن على أهل الآخرة.
سأل ابن عمار: أنا لا أشفق على موت الشيخ، وإنما أسأل: لماذا الحرص على قتله ولم يكن له مشاركةٌ في مسائل الحُكم؟
لم يكن الحسن بن عمار يحب المغامرة، وإن أقدم على مغامرة، فلا بد أن تكون محسوبة. عُرف عنه وفاؤه للخليفة العزيز بالله. عمل على استرضائه بالهدايا والتُّحف يوصي باستجلابها من بلادٍ بعيدة، وبالدعوة للخليفة على المنابر، وفي الأسواق والميادين والتجمعات، وفرد أسمطة — باسم الخليفة أمير المؤمنين — حافلة بالمآكل الفاخرة والفاكهة والحلوى.
بنى للخليفة، الحضرة، منظرةً هائلة في ناحية المقس؛ للنزهة وللإشراف على الاحتفالات، ووداع الجيش في حملاته إلى خارج البلاد.
عُنيَ — منذ تولى المملكة الحاكم بأمر الله — باستعادة ما كانت تحظى به كتامة من مكانة طيبة. عشرون ألف فارس أتوا من القيروان في خدمة الخليفة المُعزِّ لدِين الله. بالإضافة إلى خمسة عشر ألف فارس من بلاد المصامدة بالمغرب. عمل الوزير ابن كلس على مقاومة كتامة، وإضعاف نفوذها، فجعل ابن عمار همَّه تسويدَ كتامة. قطع معظم ما كان مخصصًا لأولياء الدولة من الأتراك، وأوقف صرف العطايا للمشارقة، ودفَعَ بأحداث المغاربة إلى وظائف الدولة. عزَلَ المصريين من معظم الوظائف، وقتَلَ أعدادًا كبيرة منهم. أحلَّ المغاربة في وظائفهم، وفرَّق الأموالَ على طوائف المغاربة. تعاظَمَ نفوذهم على حساب الطوائف الأخرى. أساءُوا معاملتهم، وأهمَلَ الوزير ما أقدموا عليه من اعتداءات على أبناء البلاد وأبناء الطوائف؛ فلجأ الكثير منهم إلى الشام. قرَّب كتامة، وولَّى شيوخها الوظائف المهمة، وأهدى أكابرهم الكثير من جواري قصر الإمام، وأعتق جواري أخريات؛ ادِّعاءً بتوفير النفقة، فرَّق الكثير من جواري القصر، وباع آلاف الجواري والخدَم، وأعتق البعض، وبدَّل أوضاع البعض فصِرنَ من الجواري. وقطع أكثر ما في المطابخ، وباع الكثير من الخيل والبغال والنُّجب وغيرها.
وجَدَ في موت العزيز، وصِغر سنِّ الحاكم، ما يدفعه إلى السيطرة على الدولة والقصر. شغله إضعافُ سلطة الحضرة، وتجريده من قوته. في باله ما فعله ابن كلس من إضعاف نفوذ الخليفة العزيز حين كان في الوزارة. حاز ابن كلس من كلِّ شيء أعلاه، وترك للخليفة ما دون ذلك.
اتخذ لقبَ الوسيط، بمعنى أنَّ أمير المؤمنين جعله وسيطًا بينه وبين الرعية، وفوَّض إليه أمور الدولة. أهمَلَ اقتحامَ شيوخِ كتامة مجلسَ الحضرة، والتهديد برفض خلافة المنصور وقتله، ما لم يبعد المشارقة، ويعهد إلى شيخ كتامة أبي محمد بن عمار بأمر الحُكم. اتخذ ابن عمَّار لنفسه كذلك لقبَ أمين الدولة، فهو يقضي بما يرى أنه الصواب، وما يحتاج إليه العباد والبلاد. ردَّ إلى نفسه أمر المظالم بمصر والأقاليم. الكافة من الأمراء والأجناد والوُلاة والقُضاة والكُتَّاب لا يصدرون حُكمًا إلا بعد مطالعته بذلك.
آلَت إليه مصائر الشئون. غلب نفوذه على كلِّ نفوذ في الدولة، وصارت له الكلمة العليا. تضاءلت مكانة أمير المؤمنين بجانب مكانته.
أذِنَ لنفسه بأنْ يدخل القصر راكبًا، ويغادره بالهيئة نفسها. واتخذ حجرةً مجاوِرة لحجرة أمير المؤمنين، وألزم كلَّ من يمرُّ، أو يقف، في طريق موكبه، أن يترجَّل له، وخصَّ أعوانه بعطفه ورعايته.
قبض بيدَيه على كلِّ سلطان، وصرف الأمور بما يراه، وأشرف بنفسه على كلِّ صغيرة وكبيرة. زاد فخصَّ نفسه بما يتميز به حتى عن مقام الحضرة. صار الخليفةَ الفعلي، وتوارى الحضرة في الظل. وكان إذا خرج للنزهة، أو للتمشي في حدائق القصر، يغيب العمَّال عن أعلى الأشجار. مَن يُضبط في موقع مرتفع يواجه القتلَ، فارتفاع المكانة للوزير وحده.
كان يعرف صلةَ القاضي عليِّ بن النعمان بالخليفة العزيز، فأبطل جلوسه للقضاء. أمَرَ، فدُسَّ السمُّ للقائد التركي أفتكين. أزاح عدوًّا أجهدَته عداوته. أفلح في السيطرة على الجيش، وقتَلَ أمراء الدولة، وصادَرَ أموالهم، وأوقَعَ بين كبار الكتبة؛ فالمعارك بين أعوانهم لا تنتهي، وزادت المؤامرات والاغتيالات. قضى على كل مَن توهَّم منافسته، حتى عيسى بن نسطورس قيل إنه قُتل بتدبيرٍ منه.
جمع كلَّ الخيوط في يده. لم يعُد يرجع إلى وسيطٍ ولا كاتبٍ ولا صاحبِ رأي. عيَّن أبا عبد الله الموصلي في الكتابة، وأنابه عنه في أخذ شكايات الناس ورقاعهم وتوقيعاتهم.
أشاع أعوانه أنه يملك قوةً روحية خارقة، لا يدرك أسرارَها غيره، وأنه أفلح — بإجادته السِّحر — في أن يتسلط على البشر والحيوان والطير. وأفلح — بما يملك من علم وقدرة على التخمين والاستنتاج والتنبؤ — أن يعرف حجم الأرض والبحر، ويُحصي نجوم السماء. وقيل إن بساطه السِّحري المجدول من ألياف، ينتمي إلى عوالمَ غير مرئية. كان ينقله — في يوم واحد — إلى الشام والحجاز، يطمئن على أحوال رعية الإمام، ويكشف تدابيرَ خصومه. وكان يدعو إلى الحفلات التي يقيمها أنواعَ الحيوان والطَّير والزواحف والشياطين والجان والأرواح.
قال السلاب: تعددَت زياراته إلى الحضرة، وخلَت قاعة الحُكم إلا منهما، لا يأذن السلطان لأحد بالدخول حتى يخرج الشيخ … اجتثثنا خطرًا لا نعرف ملامحه!
تبُودلَت الهمسات بأنَّ ابن عمَّار — لا سواه — الحاكم الفعلي للبلاد، لا يستشير سوى نفسه، ويرفض الآراء المخالِفة. استبد بالأمور. تحكَّمَ في القصر والدولة. توارى الإمامُ في الظِّل، فهو بلا حولٍ ولا قوة.
كانت له قدرةٌ على التأثير في مُحدِّثه، ربما تدفع البعضَ إلى تغيير آرائهم، واعتناق آراء مغايرة.
قال الرواة إن الحضرة الحاكم بأمر الله أهدى وزيرَه ابن عمار — مع خِلَع الوزارة — خمسين ثوبًا من البزِّ الرفيع، وفرَسًا عليها سَرجٌ مُذهَّب. نسي ابن عمار وضعه بالقياس إلى وضع أمير المؤمنين؛ اتخذ من دار الإمارة موضعًا يدير منه أمور الوزارة. تضم عدة قاعات ومساكن وحديقة واسعة، وتنقسم إلى قسمَين رئيسيَّين: دار الحرم، ودار السلام. يصلها بالجامع عند المقصورة، بجوار المحراب والمنبر. أما الخاصة والعامة الذين يقصدونه لمسائلهم، فيدخلون من الأبواب الجانبية والخلفية، كلٌّ حسب مكانته ووضعه.
أسرف في محاولاته لإضعاف القصر، وتعالى على رجال الدولة والشعب. كان يحرص على الأُبَّهة في موكبه، فالأمراء والعلماء وقادة الجند يذهبون إلى داره للسلام عليه، أو ينضمون إلى موكبه في سيره إلى قصر أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، والعودة منه. يتقدَّم موكبَه الأعلامُ والطبول والأبواق. من حوله الحُجَّاب ورجال الحاشية والحرس الخاص. يُلزمون كلَّ مَن تصادَفَ ركوبه دابة، أن يترجَّل، ويأخذ جانب الطريق.
لم يفرِّق بين العامة والخاصة، ولا بين الغوغاء والوجهاء والعلماء والأمراء وقادة الجند. لم يُلزم نفسه بدخول القصر من الباب المخصَّص له، ولا يدخل مترجِّلًا، وإنما يدخل على جواده من الباب الذي يجلس فيه خدَم الحضرة الخاصة، حتى باب الحجرة التي فيها أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله. ينزل، ويدخل لِلِقاء الحضرة. إذا انتهى اللقاء، يركب ثانيةً. يمضي إلى داره، يحيط به الحرَّاس والأعوان. يجِدُ — أمام الباب المغلق — جماعات من الفقهاء والعلماء والمتكلمين والتجار والقُوَّاد وأرباب الصنائع. يفتح الحُجَّاب أبواب الدار. يمضي إلى الداخل. يستقرُّ في مجلسه وقتًا قبل أن يأذن لشيوخ كتامة وللقواد — في البداية — بالدخول، يدخل من بعدهم العامة وأرباب الحِرف. يترك يده فيُقبِّلونها. يلخِّص له الكاتب أو الحاجب ما يسرده الناس؛ فيسهل عليه إصدار الحُكم.
كتب اسمه في المكاتبات بعد اسم أمير المؤمنين، ونقش اسمه ولقبه على الملابس الرسمية، وصكَّ اسمه على النقود، ونقَشَه على البنايات كالمساجد والمدارس والجسور وغيرها. حاول المداراة بإضافة عبارة «عبد أمير المؤمنين».
اتجه إليه الأدباء والشعراء بمؤلفاتهم وقصائدهم؛ فهو — في يقينهم — صاحبُ السلطة الحقيقية والقوة المسيطرة.
صارت لابن عمَّار الكلمة العليا في إدارة البلاد.
لم يكن الولاة يتصرفون إلَّا عند أمره. وكانت تُوضع على مكتبه — كل صباح — أوراق من القاهرة والولايات. تتحدث عن سَيْر الأمور، وما طرأ من مفيدٍ وضار. رَصدَ الجواسيسَ وكتبةَ التقارير والعيونَ. تفرَّقوا في الدروب والأسواق والجوامع والمساجد والزوايا والقرافة والمجالس والمواخير ودُور القمار وأماكن التجمعات. يُطلعونه على الأقوال، والشائع من الأخبار، وما يتهامس به الناس. يرصدون التصرفات والسكنات واختيار العزلة والذوبان في الجماعة، لا يُهملون شيئًا، مهما يبدو صغيرًا، أو بلا قيمة. صارت كلُّ أحاديث الولاة والكتبة والقادة وسائر الرعية في أذنَيه، قبل أن ينقضي النهار، مهما تكن تافهة.
قال الرواة إنَّ مَن دخل أقبيةَ قصره، لم يرَ النهار ثانية. وكان يدفع إلى مُعارضيه من الأمراء والعلماء والوجهاء بمَن يدسُّ السمَّ في طعامهم، يستصدر أحكامًا بزندقتهم من قاضي القضاة، يأمر مَن يقذف بكرات اللهب في باحات قصورهم؛ فتأتي النيران على كل ما في القصر. وكان يضع مُعارضيه من العوام في خزانات الماء المغلي، في قبوٍ أسفل القصر. يصبُّ الزئبق في عيونهم، يحشو جراحهم — بعد ضربات السياط — بخرق الملح. تعلو ملامحه نشوة وهو يشاهد تقلصات الوجوه وتوالي الصرخات. وكان يحرص على أن يراقب عمليات الإعدام في بقعة الدم.
خصص لنفسه بيتًا، تطلُّ مشربياته على المكان. يُعرف المشاعلي باسمه، وبثوبه الأسْوَد ذي القطعتَين، والحذاء الأسْوَد. يتابع عملية الإعدام منذ يساق المحكوم عليه من داخل الأقبية والسجون، حتى يفصل السيف رأسه عن جسده، مخلِّفًا نثارًا من الدم، وبُقعًا. يشاهد، ويعطي الأوامر، ويُبدي الملاحظات، ويظهر انتشاءه. لا يغادر موضعه حتى يأتي الجند، فيحملون الجثث. يمضون بها إلى المقابر. تدفن بلا صلاة عليها، ولا طقوس من أيِّ نوع. وكان يُلقي بالناس أحياء من أعلى الجبل. يظلُّون بلا دفن، تتناوشهم الكواسر، فلا يبقى سوى عظامٍ هشَّة، تختلط بتراب المقطم.
أمَرَ الحسن بن عمَّار أعوانه، فسرَت الشائعات في الأسواق بأن الشيخ معتمد الدمنهوري كان يقصد بعلمه الرياء والمباهاة والسمعة، وأنَّ العلم كان سبيله إلى الدنيا. اتهمَته الهمسات بإفشاء أسرار المجالس الخاصة في قصره، وإذاعتها بين الناس في الشوارع والأسواق وخلْفَ الجدران، وأنه كان يُسرف في التزيُّن ليحلو في أعين النساء القادمات لسماع الوعظ، أو للصلاة.
قرَّر المُكوس الباهظة على التُّجار والحِرَف. مَن يدفعها يشتري رُوحه، ومَن يتقاعس أو يتردد، فإن سيف المشاعلي جاهز، وبقعة الدم لا ترتوي، وكثرَت اعتداءات موظفي ابن عمَّار وأعوانه ومَن استمالهم من الزُّعْر والحرافيش. نهبوا البيوت، وسلبوا الأموال، وروَّعوا الآمِنين، وأعملوا فيهم الأذيَّة والقتل. تزايدَت أعداد المسمَّلة أعينهم، والمبتوري الأذرع والسيقان، والمقطوعي الألسن. تناثروا في الحنايا والزوايا، أو لزموا البيوت، أو لاذوا بالخلاء.
رفَعَ الناس شكاياتهم إلى مقام الإمام عن طريق ابن عمَّار — لم يكن ثمَّة طريق سواها — فأهمل معاينتها، والتحقيق فيها، وتقديمها. أغمض عينَيه عن أذيَّة أعوانه على آحاد الناس وجماعاتهم. وبلغ تعظيمه لنفسه حدَّ رفض التخلص من الخليفة الحاكم بقتله. لا رأفة بالخليفة، أو خوفًا من النتائج، وإنما استصغارًا لشأنه. وجد في صِغر سنِّ الخليفة باعثًا لقتله؛ يصبح هو سيد البلاد والعباد، وتدين له مطلقًا مقاليد الأمور. حَجرَ على الإمام الطفل، وقلَّص دوره، ونقل الدواوين، وعطَّل الكثير من رسوم الدولة.
ومضَت الفكرة في رأسه لقول شيوخٍ من أصحابه: لا حاجة لنا إلى إمام نقيمه ونتعبد له. بدا الولد — في عينَيه — أصغرَ من أن يؤبه له.
قال: وما قدْرُ هذه الوزغة حتى يكون منها ما نخاف؟!
ثم ألقى بالسؤال لنفسه: لماذا لا أقتل الجرذَ الصغير قبل أن يصبح أسدًا؟!
٤
الإيوان الكبير، في القصر الكبير. قاعة مسقوفة بقبوة، تدلَّت منها، ومن الجدران، آلافُ القناديل والشموع، وتوزَّعَت في الأركان مباخرُ العُود والعنبر — تُفضي إلى بهوٍ بعِقدٍ مقوَّس نصف دائري — سُدَّت نهايتها بجدار.
خرج أمينُ الملك — بعد أن اطمأن أمير المؤمنين في مجلسه — إلى الأمراء والوجهاء وأصحاب العمامة. أعلمهم — ليقفوا إجلالًا — بجلوس الإمام على سرير الملك. ثم أشار إلى زمام القصر وزمام بيت المال. رفع كلٌّ منهما جانب الستر.
بدا أمير المؤمنين أبو علي منصور الحاكم بأمر الله متكئًا على الشُّبَّاك. يظل في مجلسه محجوبًا بستر، لا يرفع إلا عند اكتمال الحضور. تحوطه شارات الخلافة: الخاتَم، البُردة، العمامة، القضيب، ثياب الخلافة، الأعلام الملوَّنة. سرير الملك يشغل عرض القاعة، ارتفاعه أربعة أذرع، مُغطًّى بالذهب الإبريز من جهاته الثلاث، ومرصَّع بألفٍ وخمسمائة وستين قطعةَ جوهر من سائر الأنواع والألوان.
استفتح المجلس قرَّاء الحضرة بتلاوة آيات من القرآن الكريم.
سرير الملك، تخت مرتفع من الذهب، عليه مرتبةٌ ذهبية. وضَعَ أمير المؤمنين على رأسه عمامة التاج الشريف، رُصِّعت في مقدمتها بالجوهرة اليتيمة، تحيط بها في هيئة حافر، جواهر من ياقوت أحمر. يقف من له رسم الوقوف، ويجلس من يُؤذَن له بذلك.
كان ابن عمَّار يحرص على أن تظلَّ لأمير المؤمنين شاراته وأحواله التي تقتضيها الأبَّهة والبذخ. يختص بها، ويتميز عن الخواص والعوام وأصحاب العمائم وأرباب الأقلام والسيوف.
لم يعُد الناس يذكرون — ولا أمير المؤمنين نفسه — اسمَ المنصور. هو الخليفة الحاكم بأمر الله، أول إمامٍ فاطمي وُلد في مصر.
قال الرواة إنَّ وعي أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، كان أكبرَ من سِنِّه. يلحظ، ويتأمل، ويستخلص العِبَر. أذاه ما نقَلَه إليه خدَمُه من الهمسات التي تنعى تضاؤل سُلطة أمير المؤمنين أمام سلطان ابن عمَّار، وتضخُّم نفوذه؛ هو صاحب الحلِّ والعَقْد والأمر والنهي والتحكُّم بالديار المصرية.
بدا أبو علي منصور الحاكم بأمر الله، داخلَ القصور الفاطمية، كالمحجور عليه، أُلعوبةً في يدِ الوزير. يضع ابن عمار توقيعه على مراسيم يُصدرها، ويولِّي مَن ينفِّذ أهواءه، ويعزل مَن يرفضها. الحسن بن عمَّار بابٌ مغلق في طريق مستقبل الحاكم، عليه أن يفتحه.
قال الرواة إن حداثة سِن الحضرة لم تحُلْ دون أن يكون أحرص الجميع على تحقيق العدل والمساواة بين أبناء المملكة، وميله إلى إقامة الحدود، وإعزاز الدين، ومجانبة الأهواء، وإن ذابت أوامره في ألاعيب ابن عمَّار ووسطائه وكُتَّابه؛ يفوتونها، يزوِّرونها، يتحايلون عليها، فلا تنفَّذ.
أبو محمد الحسن بن عمَّار، شيخ كتامة، وسيِّدها، أول مَن تلقَّب من رجال الدولة. قرَّب إليه شيوخ كتامة. ولَّاهم الوظائف المهمَّة. قلَّل من شأن الأتراك والديلم، وحجب عنهم الفرص. زاد، فأساء معاملتهم. ألجأهم للهرب إلى الشام.
هل كان تحريض ابن عمَّار وراء دخول مقدَّمي كتامة على الخليفة الحاكم بأمر الله، وفرض تولية شيخهم أبي محمد بن عمَّار الوزارة. لقَّبه — كما طلبوا — بأمين الدولة. الشائعات تتهامس بها الأفواه. تصل إليه في القصر، يتأملها، يفكر في ردِّ فعلها المناسب.
شمل المكان بعينَين تطمئنان إلى جلوس العلماء والوزراء والأمراء، كلٌّ في مكانه. اتجه إلى الحاجب بنظرةٍ متسائلة: أين الوزير الحسن بن عمَّار؟
قال الكاتب عبد الغني مرزوق: اعتذَرَ بحُمَّى مفاجئة.
قال في نبرةٍ صارمة: هاتوه، ولو في صحبة طبيب.
٥
قال الحضرة: مَن الذي قتَلَ الشيخ الدمنهوري؟
فاجأ السؤالُ الحسنَ بن عمَّار.
سكَتَ بمفاجأة السؤال.
قال صاحب الشرطة العليا: هل مات الشيخ معتمد الدمنهوري؟
قال ابن عمَّار: لعلَّه في خلوة.
ثم في لهجةٍ معتذرة: إنه — كما تعلمون — يميل إلى الاختفاء والظهور.
وسَّط الإمام الهواء براحته: الرجُل أبعدُ ما يكون عن الادِّعاء في أيِّ شيء.
وداخلَت صوته ارتجافة: وهو قد قتل.
قال ابن عمَّار: أعِدُ مولاي بأن أدفع بالجاني إلى بقعة الدم قبل أن يأتي الصباح.
– لا يشغلني إعدامه … أريد اسمه، ولماذا ارتكَبَ فعلته.
لوَّن ابن عمَّار صوته: كان اشتغال الشيخ بالدِّين سبيلَه إلى مآربَ أخرى.
كان ابن عمَّار قد خصَّص جنديًّا يرتدي زيَّ العوام، يتجسَّس على أفعاله، فلا تغيب لحظة من لحظات حياته. يُبلغه بما يراه في نهاية كلِّ يوم؛ ما يخمِّن خطورته، ينقله إليه لحظةَ وقوعه.
– أعرف الرجُل … كان طاهرَ العلن والسريرة.
استقبل عينَي الإمام الغاضبتَين بنظرةٍ هادئة: مولاي … هذا ما ينسبه كلُّ امرئ إلى نفسه.
صرخ الإمام: هاتوا الجاني أمامي قبل أن تسلِّموه إلى المشاعلي.
أراد ابن عمَّار أن يقول شيئًا. تراجع أمام النظرات المشتعلة في عيني الإمام.
صفَّق أمير المؤمنين إيذانًا بانتهاء المجلس. تلا قُرَّاء الحضرة آيات من القرآن للختم، ثم أرخى الستر ثانيةً على مجلس أمير المؤمنين.
قيل إن ابن عمَّار لجأ إلى وسائل المنجِّمين فأثَّروا في نفْسِ الإمام، وغيَّروا خاطره على الشيخ معتمد الدمنهوري. وجَدَ في قتله عقابًا يستحقُّه. وقيل إنَّ الإمام أظهر الرضا، وإنْ أضمر ما لم يبُح به لأحد.
بدا الحزن على جميع الناس — بعد مقتل الشيخ معتمد الدمنهوري — وعزَّى بعضهم بعضًا. كثر الآخذون لطريقه، وانتشروا في أرجاء البلاد. لم يقتصر وجودهم على الفسطاط والقاهرة، وإنما نقلوا كلماته إلى الناس في المدن والقرى البعيدة.
قيل إن الشيخ أفتى بقتل الحسن بن عمَّار. وجد في أقواله وتصرفاته مروقًا عن الدِّين، فأحلَّ الخلاص منه. هو ساحر، والسحرة ملعونون في القرآن، واتهمه بأنه يبيع الولايات، ويعزل الولاة، ويعيدهم إن دفعوا ما يسدُّ عينه، ويغري على سائر الرعية مَن استمالهم من الزُّعْر والحرافيش، للاعتداء على حُرُماتهم، وسلب ما يمتلكون. تعددَت أعمال النهب وانتهاك الحرمات. صار من المألوف أن يغادر المرء بيته، فلا يعود إليه. يقتله، أو يغيب في المجهول، مَن لا يتكلمون، أو يُفصحون عن هويتهم.
تهامست الاتهامات بأن الفاطميين ليسوا — كما يزعمون — من آل البيت، بل هم من الزنادقة والملاحدة، وإن استتروا بالدعاوى الكاذبة. عادت بهم بعض الهمسات إلى أصولٍ يهودية أو مجوسية. أنكرَت نسبتهم إلى عليٍّ وفاطمة. أرجعوا نسبتهم إلى ميمون القداح. فارسي، مجوسي، من الأهواز. تظاهَرَ بالإسلام والتشيع لآل البيت. أودعه المنصور سجن الكوفة. لمَّا خرج زعم أنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. ثابر على دعوته حتى نجحَت في عهد أولاده الخلفاء الفاطميين.
أدانت الهمسات ما يفعله أعوانهم من قطع الطُّرق على المارَّة، وترويع الآمنين، وإظهار الفسق، ونهْبِ ما بأيدي الناس، وما في الأسواق والدكاكين. انتشرَت المنشورات التي تُلغي النسب الفاطمي، وتطعن في أصول الخلفاء الفاطميين، وشرعيَّة الإمامة التي يدَّعونها، وأنهم بلا ذِكر في الأصول والفروع، وما أوهموا به العوام من أنهم نسل عليِّ بن أبي طالب أباطيلُ تغيب عنها الصحة.
تكررَت المزاعم بأنَّ الخليفة الحاكم بأمر الله وريثُ قوم من اليهود أو المجوس اندسوا على الإسلام؛ ليفسدوه وينقضوه، فهو قد عُني باجتثاث الدِّين الإسلامي من جذوره، وقتَلَ أعدادًا كبيرة من الفقهاء والأئمة والمُحدِّثين والصالحين، قُرئ البيان العباسي، وما أشار إليه من أنَّ «هذا الناجم بمصر هو منصور بن نزار المتلقِّب بالحاكم — حكَمَ الله عليه بالبوار والدمار — ابن معد بن إسماعيل بن محمد بن سعيد — لا أسعده الله — وأن مَن تقدمه من سلفه الأرجاس الأنجاس — عليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين — خوارج لا نسَبَ لهم في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإن ما ادَّعوه من الانتساب إليه زور وباطل، وإن هذا الناجم في مصر هو وسلفه كفار فُسَّاق زنادقة ملحدون مُعطِّلون، وللإسلام جاحدون. أباحوا الفروج، وأحلوا الخمور، وسبُّوا الأنبياءَ، وادَّعوا الربوبية». قسوة الكلمات تنقص منها، ولا تضيف إليها. تسِمها بالزيف والافتعال. قيل إن مَن وقعوها أُكرِهوا على توقيعها، أو أنهم ليسوا على علمٍ بمسائل النسب والتاريخ.
٦
المهدية نسبة إلى المهدي. المهدي هو القائم بأمر الله سعيد الخير. سمَّى نفسه المهديَّ، حتى ينطبق عليه الحديث القائل «يخرج من صُلبي مَن يكون اسمه كاسمي، واسم أبيه كاسم أبي، يملؤها عدلًا كما مُلئَت جورًا»، وإن راجت مزاعمُ أنَّ عُبَيد الله المهدي كان ابنًا لجارية من جواري جعفر الصادق. وكان أبوه رجلًا يهوديًّا أحبها، ونام على فراشها. دعا المهديُّ لأبنائه الواحد تلوَ الآخَر، فلم يبقَ منهم أحد.
عُبَيد الله المهدي الإمام الظاهر الأول، أمير المؤمنين. أظهره الله بالحق ليمتلك أبناء فاطمة الأرض جميعًا. سمى خلافته العلوية والفاطمية.
حرص الفاطميون — بعد عُبَيد الله — على لقب الخلافة. اعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاد علي، وإن خرجَت فبظلم. خلافة الفاطميين وحدها هي الأجدر بالطاعة من جميع المسلمين. أعدُّوا — في ضوء المُعتقَد — للسيطرة على أملاك العباسيين في الشرق، وأملاك الأمويين في الغرب. غزوا مساحات هائلة من أراضي المغرب، واستولوا عليها. وقال المهدي: لنملكنَّ أنا وولدي ولد العباس، ولتدوسنَّ خيولي بطونهم.
المهدية عاصمة الفاطميين من قبل أن يقود جوهر الصقلي قوات المعز لدين الله إلى مصر.
شيَّدها المهديُّ في العام الثالث بعد الثلاثمائة للهجرة، على طرف الساحل الشرقي لإفريقية. فوق جزيرة تتصل بالبر، كأنها كفٌّ تتصل بزند.
تأمل عُبَيد الله موضع الجزيرة المتصلة بالبر. وجد راهبًا في مغارة، فسأله: بمَ يُعرف هذا الموضع؟
قال الراهب: إنه جزيرة الخلفاء.
اجتذب الاسم عُبَيد الله، فأزمع أن يتخذها دارًا لمملكته.
أمضى الإمام المهدي شطرًا هائلًا من حياته في القضاء على ما لقيه في المغرب من مشاغباتٍ وفتن، وفي بناء المدينة الحِصن ضد هجمات المُغيرين. بنى بها قصرًا كبيرًا ومسجدًا جامعًا ودار صناعة وإهراءات، وجلب إليها الماء الجاري من قرية ميانش، يصبُّ في صهريج داخل المدينة، ناحية الجامع. يرفع الماء — بالدواليب — من الصهريج إلى القصر. نقَرَ ميناءها في الصخر.
قال وهو يشاهد اكتمال بنائها: اليوم أمنتُ على الفاطميات.
لم تكن المهدية مدينةً في أول الأمر، مثلما لم تكن القاهرة مدينةً حين أُنشئت. بُنيت المدينتان كحِصنين في البداية. تحولت كلٌّ منهما — شيئًا فشيئًا — إلى عاصمة لدولتها.
انتقل عُبَيد الله إلى المهدية بعد خمسة أعوام. ظلَّت مدينةَ المواجهة ضدَّ هجمات البيزنطيين. يفِدون من جنوب إيطاليا، ومن صقلية. جاوز الفاطميون المُدافِعة، فسيطروا على الحوض الغربي للبحر المتوسط، ومدُّوا نفوذهم على جزيرة صقلية، وأخفقوا — مرات كثيرة — في فتح مصر.
لم تعُد دولة الفاطميين — منذ بنائها — تخشى خطر الأغالبة والأدارسة في المغرب، ولا الأمويين في الأندلس، والعباسيين في بغداد. لولا المهدية، المدينة، الحصن، ما قامت لدولة الفاطميين قائمة، أو لاندثرت بعد سنوات قليلة من نشوئها.
قال الرواة إن الثورات المغربية وضعَت حُلم الدولة الفاطمية في دائرة المستحيل. توالت ثورات البربر، والثورات التي لقيَت تأييد السُّنة من أهل المغرب. بدت مصر بوابةَ تحقيق ما يتطلع إليه الفاطميون في المشرق. توالي حملات المهديِّ إلى مصر يعني الإفادة من ثرواتها في تحقيق أهداف الخلافة، وفتح الشام، وامتلاك الحجاز، والمُضيِّ في الطريق إلى العراق.
قبل وقت صلاة المغرب ليلة الثلاثاء، النصف من ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، توفي أبو محمد عُبَيد الله بالمهدية. أخفى ابنه أبو القاسم ما حدث لمراجعة الأمور، والإعداد للخطوات التالية.
أفلح العباسيون في صدِّ هجمات الفاطميين، وتقلَّص مُلكهم في المغرب بتلاحق الثورات. لم يعُد إلا مدينة المهدية التي أنشأها الإمام الفاطمي الأول عُبَيد الله المهدي، في أول خلافته.
هل هو الجد الأعلى للفاطميين؟ وهل ينتسب المهديُّ إلى آل البيت؟ وهل المهديُّ هو الإمام الشرعي، أو أنه حل — متنكرًا — في منصب الإمام، لمَّا أسكت الموت الإمام الحقيقي؟
لم يحاول الفاطميون ذِكر نسبهم: كيف ينكشف أولئك الذين سترهم الله؟
رفع المُعِزُّ سيفه، عندما سُئل عن نسبه، وقال: هذا نسبي.
ونثر على السائلين قطعًا من الذهب، وقال: هذا حسبي.
ليست الفاطميين تسميتهم الوحيدة. هم فاطميون نسبةً إلى فاطمة الزهراء ابنة النبي، وزوج الإمام علي. ثمَّة تسمية العلويين نسبة إلى علي بن أبي طالب، وثمة الإسماعيلية نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق. صلة القرابة ببيت الرسول من نسل فاطمة الزهراء والإمام عليٍّ هي مبعث التسميات كلها. حتى تسمية الشيعة؛ لأنهم شيعة الإمام.
قبل أن يصل جيش الفاطميين إلى الإسكندرية يمضي منها إلى الجيزة، ويعبر النيل، ليضع — في الليلة نفسها — أساس مدينته القاهرة، كان المغرب هو مهد الدولة الفاطمية واستمرارها. دام ملك المهديِّ في هذه المنطقة أربعًا وعشرين سنة. لمَّا تُوفي في العام الثاني والعشرين بعد الثلاثمائة للهجرة خلفه ابنه القائم، ثم خلف القائم ابنه المنصور، وخلف المنصور ابنه المعز. وفي عهده نقل الفاطميون مُلكهم إلى مصر.
قال الرواة: ثمة العشرات من أشياع أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله زاروا المهدية. قطعوا الصحراء من جيزة مصر إلى الإسكندرية، منها عبروا الصحراء بين مضارب وخيام وقبائل وواحات وقرًى ومُدن حتى طالعَتهم رائحة البحر. البحر يحيط بهم من ثلاث جهات. وثمَّة سور من الحجارة الصغيرة يحيط بها، يمتدُّ إطلالها على البحر. له — من الغرب — بابان من الحديد؛ زِنة الواحد منهما ألف قنطار. تبدو منيعة، ومحصَّنة، بأبراج مدوَّرة ومربعة. من جانب البرج حائطٌ يخترقه الباب، ومن الجانب الغربيِّ باب زويلة، أو باب الفُتوح.
وقَى السورُ المهديةَ هجماتٍ كثيرة، بحرية وبريَّة. يمتدُّ فوق البرزخ الذي يصل المهدية بالبر، وفوق الردم الذي أضاف إلى مساحة الأرض من البحر، تدعمه أبراجٌ كثيرة. فيها القصور العديدة لأبي سعيد وبقة وقاساس والغيطنة، وفيها الأسواق والحمَّامات، لكلِّ طبقة سوقٌ خاصَّة بها، وفيها الصهاريج، والمياه الجارية، وأقبية المُؤن. على مقربة منها مدينة زويلة، باسم قبيلة البربر التي تواليه. بينها وبين المهدية مُصلَّى العيدَين.
بُنيت المهدية أولَ ما بُنيت في حدود غلوة سهم. ظلَّت عاجزةً عن أداء دور العاصمة. أمرَ المهديُّ بتوسيع مساحتها. ردم البحر مقدار المدينة، وأدخله فيها. فاتسعَت، وبنى موضعَ ما ردم الجامع الكبير، ودار المحاسبات، وبيوت الجند والناس، والأسواق، والحمَّامات، ودكاكين التجار ومخازنهم، ومساكن التجار وأصحاب الحِرَف والفلاحين؛ فيخف العبء عن المهدية، ولتعزل بين الناس والمرافق. بين المدينتَين قَدْر طول ميدان.
قال المهدي: إنَّ أموالهم عندي وأهاليهم هناك، فإن أرادوني بكيد وهم بالمهدية، خافوا على حرمهم هناك، وبنيتُ بيني وبينهم سورًا وأبوابًا، فأنا آمن منهم ليلًا ونهارًا؛ لأني أفرِّق بينهم وبين أموالهم ليلًا، وبين حرمهم نهارًا.
أفلحَت ثورة أبي يزيد، صاحب الحمار، في هزيمة جيوش القائم بأمر الله في معظم المعارك، لكنَّ حصار أبي يزيد استمر على المهدية ثمانية أشهر، دون أن تنفُذ قواته إلى أبعدَ من حي زويلة. ظلَّت المدينة حصينة، منيعة. لم ينتقل الخلفاء العُبيديون من المهدية إلى صبرة إلا بعد أن اطمأنَّت نفوسهم على تلاشي ثورة صاحب الحمار، واستقرار الأمن في بلاد المغرب.
الخلافة الفاطمية، الإمبراطورية الفاطمية، هي ما كان يتطلَّع إليه الفاطميون بديلًا لخلافة العباسيين. العودة إلى الشرق أمل السيادة في العالَم الإسلامي. يرون في أنفسهم أصحاب الحقِّ الإلهي في حُكم الأقطار الإسلامية. انتسابهم إلى فاطمة بنت الرسول يهبُهم حقَّ السيادة والسيطرة، وفرض ما يجدِّد كل الإسلام.
قال المعزُّ لرسول إمبراطور بيزنطة: لتدخلنَّ عليَّ وأنا ملك لمصر.
مهَّدَ بالدعاة في اتساع الأراضي العباسية. وأنفذ للإخشيديين من يثير القلاقل؛ فتُخلي الطريقَ لجيوشه. حتى الدنانير الفاطمية، تحمل مصر مكانًا للضرب قبل أن يصل الفاطميون إليها. روَّجها الدعاة على مَن وجدوا فيهم استجابة، وفرَّق الدعاة بنودًا لنشرها إذا قارب الجند الفاطميون مصر.
بدا التحرك نحوَ مصر محتمًا، بعد أن تلقَّى المُعِزُّ في إفريقية، كتبًا من شيعته تقول: إذا زال الحجر الأسود — يقصدون كافور الإخشيدي — ملك مولانا المعزُّ الدنيا كلها. وتلقى رسائل من مصريين يدعونه لتسلُّم مصر. ضعف الخلافة العباسية تزايد، وغابت الشخصية المؤثرة بعد وفاة كافور، ونقصَت مياه النيل، وارتفعَت الأسعار، وتفشَّت الأمراض، واشتدَّ الوباء، وكثر الموت، وتفاقمَت الفتن والقلاقل والاضطرابات، وبذر الدعاة في التربة المهيَّأة للاستزراع، وسعى يعقوب بن كلس لتذليل العقبات.
دخل الجيش الفاطمي مصر يوم الثلاثاء السابع عشر من شعبان في العام الثامن والخمسين بعد الثلاثمائة.
قال الرواة إنه لم يطأ الأرض — بعد جيش الإسكندر — أكثر عددًا من ذلك الجيش. وكان انتقال المعز إلى مصر آخِر صلة الفاطميين بإفريقية. نقَلَ معه كلَّ ذخائره وأمواله — ألْفُ حِمْلِ مال، وأنواع الخيل والسلاح والمدد ما لا يوصف — حتى توابيت آبائه المهدي والقائم والمنصور حملها معه. صارت مصر دار خلافة، بعد أن كانت دار إمارة.
رأى الأشياع قصر عُبَيد الله — يقطن فيه الآن والٍ من السُّنَّة — به طيقان الذهب، وتصِل فسحةٌ بينه وبين قصر ابنه، ورأوا الحجرة الفقيرة، المفروشة بالصوف والشَّعر اللبود. جعلها المعزُّ — فترة إقامته في المهدية — مسكنًا له. أمر — في يومٍ بارد — بإدخال بضعة شيوخ من كتامة إليها. أدخلهم الجند من باب غير الذي جرى الرسم به. استقبلهم في مجلسه الفقير، بين يدَيه مرقع ودواة وكتُب، ومن حوله أبواب فُتحت إلى مدى النظر على خزائن كتب.
قال: يا إخواننا، أصبحت اليوم في مثل هذا الشتاء والبرد، فقلت لأم الأمراء — وإنها الآن بحيث تسمع كلامي — أترى إخواننا يظنون أنَّا في مثل هذا اليوم نأكل ونشرب ونتقلَّب في المثقل والديباج والحرير والفنَّك والسَّمُّور والمسك والخمر والغناء، كما يفعل أرباب الدنيا؛ ثم رأيت أن أنفُذ إليكم فأحضركم لتشاهدوا حالي إذا خلوتُ دونكم، واحتجبتُ عنكم، وأني لا أفضلكم في أحوالكم إلا فيما لا بد لي منه من دنياكم، وبما خصَّني الله به من إمامتكم، وأني مشغول بكتُبٍ ترِد عليَّ من المشرق والمغرب أجيب عنها بخطِّي، وأني لا أشتغل بشيء من ملاذ الدنيا، إلا بما صان أرواحكم، وعمَّر بلادكم، وأذلَّ أعداءكم، وقمع أضدادكم، فافعلوا يا شيوخ في خلوتكم مثلَ ما أفعله، ولا تُظهروا التجبرَ والتكبُّر، فينزع اللهُ النعمةَ عنكم، وينقلها إلى غيركم، وتحنَّنوا على مَن وراءكم مِمَّن لا يصل إليَّ، كتحنُّني عليكم؛ ليتصل في الناس الجميل، ويكثر الخير، وينتشر العدل، وأقبِلوا بعدها على نسائكم، والْزموا الواحدة التي تكون لكم، ولا تشرهوا إلى التكثُّر منهنَّ، والرغبة فيهنَّ؛ فيتنغص عيشكم، وتعود المضرَّة عليكم، وتُنهكوا أبدانكم، وتذهب قوتكم، وتضعف نحائزكم (أصولكم)، فحسب الرجُل الواحد الواحدة، ونحن محتاجون إلى نُصرتكم بأبدانكم وعقولكم، واعلموا أنكم إذا لزمتم ما آمُرُكم به، رجوتُ أن يقرِّب الله علينا أمْرَ المشرق، كما قرَّب أمْرَ المغرب بكم، انهضوا رحمكم الله ونصركم.
عرف أبو علي منصور بأمر تلك الحجرة، وبأمر اتخاذ المعز لدين الله حياة التقشُّف، قبل أن ينشأ الميل إلى البذخ بنقل الخلافة إلى مصر.
تطلع منصور إلى ما كان يحياه جده المعز في المهدية من تقشف، وأهمل الترف الذي خلَّفه أبوه. وكان يُبطئ من خطواته وهو يتقدم موكبه إلى خارج القصر الفاطمي، يرنو إلى ما رصده أبوه من طلسمات على أبواب القصر. يثق أنَّ ما فيها من قوة روحانية يقهر الأعداء، ويسحق المنافقين.
٧
بدت العلاقة كأصفى ما تكون بين ابن عمَّار وبرجوان، حتى لقبُ ابن عمَّار في سجل تعيينه بأمين الدولة، لم يُبدِ برجوان اعتراضه عليه، ولم يبدِ انشغاله بأنَّ اللقب كان أول ما حصل في الدولة الفاطمية. لكن التنافس — في الحقيقة — كان بلا حدود.
ارتكن برجوان إلى قربه من الخليفة الصبي، وتأثيره فيه، وقدرته على توجيهه، وإن لم يكتفِ بأن يكون وصيًّا على الخليفة الصغير. قرن الوصاية بمراقبة ابن عمار. لم يغب عنه تغليب الوزير للمغاربة على بقية الخلق. قوَّاهم بالخيل والسلاح. علا شأنهم، فأسرفوا في الإيذاء، وطرحوا فكرةَ خَلْع الخليفة، وقتله. لم ينشغل برجوان بتهديد ابن عمَّار للخليفة الحاكم قدْرَ انشغاله بتهديد الرجُل له نفسه، لمكانته ووظيفته ومستقبل أيامه.
اتسع نفوذُ كتامة؛ دانت لزعمائها الأمور، وشحب نفوذ برجوان والصقالبة إلى حد التلاشي. لكنَّ برجوان ظلَّ على أمله في أن تُبدِّل الرياح اتجاهها. ظلَّ يرقب ابن عمار، ويدسُّ له بين الأمراء والكتبة وقادة الجند. أفلح — بالفعل — في أن يحيك خيوط الدس والتآمر. نضجت الثمرة، وما عليه إلَّا أن يلتقطها.
تنبه ابن عمَّار إلى الإشارات والإيماءات ونُذُر العاصفة التي تستهدف وجوده. أخَذَ للأمور عدَّتها، وتحوَّط للصِّدام المتوقَّع.
لم ينتظر برجوان الفرصةَ فيوقع بابن عمَّار، وإنما أتى بها. ضمَّ إلى قيادته الأتراك والديلم، مقابلًا لنفوذ المغاربة. تبادَلَ الرسائل مع منجوتكين قائد الأتراك بالشام عن جرائم المغاربة في حقِّ الخليفة والخلق. دعاه للقدوم إلى مصر؛ كي ينقذ الخليفة. لبَّى منجوتكين طلَبَ برجوان. ضمَّ إليه الكثير من قوات الشام، وخرج قاصدًا مصر.
رَكبَ إلى المسجد الجامع بثيابِ المصيبة، وجمع الناس، وذكَّرهم جميلَ العزيز إليهم. ثم ذكر تغلُّب ابن عمَّار على المُلك وسوء سيرته، وما يلقاه الأئمة المقيمون بمصر من الذلَّة والهوان، وبكى بكاءً شديدًا رقَّت له القلوب، وخرق ثيابه.
اقتدى الناس بمنجوتكين في البكاء، وتمزيق الثياب، وأجابوه إلى الطاعة، وبذْلِ المُهَج من غير الْتماس عطاء ولا مئونة، فشكرهم، وعاد إلى داره. وأجمع أمره للسير، فسار إلى الرملة.
أبلغت الأعين ابن عمار بما دبره برجوان ومنجوتكين. أراد أن يوقف العاصفة في بداياتها. بعث قواته من المغاربة بقيادة أبي تميم سليمان بن جعفر بن فلاح. جرى قتال في رفح، وثانٍ في ظاهر عسقلان، وهُزم منجوتكين في المعركتَين، وأُسر، وتشرذمَت قواته.
أعلن ابن عمَّار العفو عن منجوتكين. وأوعز إلى الإمام الحاكم، فأمَّن منجوتكين على نفسه وعياله وأمواله، فاستُقدم إلى القاهرة، ونزل في دار ملكية، ولم يبخل عليه الحاكم بالعطف والرعاية حتى مات — بعد عشرة أعوام — ميتة طبيعية.
قال الرواة إنَّ برجوان سكت عن تدبير ابن عمَّار للأمور، وتسييره لها، لكنَّ النفس المتغيِّرة لم تترك طبيعتها؛ بذل الدسِّ والوقيعة والتآمر. اجتمع الأتراك والديلم والمشارقة والحجرية والسود والسرائيون وعبيد الشراء على حرب المغاربة. هاجم النهَّابة وأحداث الغلمان دار ابن عمَّار وإسطبلاته، ودار غلامه رشا. نالوا بالأذى مَن كانوا فيها، ونهبوا محتوياتها، وحطموا الأبواب والنوافذ. لجأ ابن عمَّار إلى الاختفاء؛ فأتاح لبرجوان أن يمسك زمام الأمور. هُزم الوزير الحسن بن عمَّار، ولاذ بالفرار، واستولى برجوان على الوزارة.
برَّر برجوان عزلَ ابن عمَّار بأنه لم يوقِّر مكانة نفسه شيخًا وسيدًا لكتامة، وأنه أول مَن تلقَّب من رجال الدولة. حابى المغاربة — في ظِل الإمام الحاكم بأمر الله — وأساء إلى المصريين والمشارقة، واستبدَّ بالأمور.
قال الرواة إن برجوان أقصى ابن عمَّار، وأنقذ أمير المؤمنين. أظهر أمير المؤمنين، وأجلسه، وجدَّد البيعة له. وقال الرواة إن ابن عمَّار أقدم على عزل الحضرة؛ فكان لا بد من عزله هو. لكنَّ نذُر التمرُّد في معسكر كتامة، دفعَت الإمام الحاكم إلى إعادة ابن عمَّار لمنصبه، وردِّ ما كان يتمتع به من امتيازات. ونهى برجوان الغلمان الأتراك عن الشغب، والتعرض لكتامة والمغاربة، وأجرى الرسوم والرواتب التي كان ابن عمَّار قد قطعها، وأجرى لابن عمَّار نفسه وآل بيته ما كان يجري لهم أيام الخليفة العزيز بالله.
أقام ابن عمَّار بمصر الفسطاط سبعة وعشرين يومًا، ثم لزم — بأمر أمير المؤمنين — داره بالقاهرة. لا يركب، ولا يجتمع به، سوى خدَمِه. أُطْلِقت له فيها رسومه وجراياته وجرايات حشمه على رتبه في أيام نظره.
٨
قال الرواة إن قاضي القضاة محمد بن النعمان رحل عن الدنيا. لم يثبت إن كانت الوفاة طبيعية، أم أنها بتدبيرِ خصوم.
رجَّح الاحتمال الثاني ما أُعلِن عن الأموال الكثيرة لليتامى في ذمَّة قاضي القضاة. عُرِف عن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله — منذ جلس على كرسي الملك — حرصه على أموال المسلمين. ليس ما يملكونه في بيت المال وحده، وإنما ما يحملونه في بيوتهم، ويورِّثونه لأُسرهم وأقاربهم. ولم يعرف عن الحضرة أنه أعدم، أو سجن، مَن أخلص في عمله، ولزم الحدود، ولم يتصرف في أموال الناس.
كان محمد بن النعمان حريصًا على ارتداء فاخر الثياب: الدراعة والعمامة بغير الطيلسان الذي يميِّز العلماء. وكان يكثر من استعمال الطِّيب والبخور في مجالسه، ويهبُ الصدقات والأعطيات دون حساب.
ما خلَّفه قاضي القضاة محمد بن النعمان بعد وفاته، فاجأ الحضرة، وفاجأ الجميع. عُرِف أنَّ في ذمته أموالًا كثيرة لأُسر مات أربابها.
أمر الحضرة، فخُتم على أمتعة ابن النعمان. فبيعت، وذهَبَ ثَمَنها إلى من استُلبَت حقوقهم. وأمر أمير المؤمنين أن تُوْدَع أموال اليتامى في دارٍ خاصة بزُقاق القناديل؛ فلا يزعم الحفاظَ عليها أحدٌ. إذا أراد أوصياء اليتامى أن يحصلوا على ما ينفقون منه عليهم، جرى الأمر أمام أربعة من ثِقات القاضي.
استدعى برجوان أبا عبد الله الحسين بن علي بن النعمان إلى إيوان أمير المؤمنين.
دخل بطِيء الخطوة، محنيَّ الرأس. قبَّل قدمَي الإمام، وترقَّب الأمر. خلع عليه الحضرة خِلعًا نفيسةً، وأمَرَ، فضوعفَت له أرزاق عمِّه وإقطاعاته، وندبه لقضاء مصر وأعمالها.
«هذا ما عهد به عبد الله ووليه المنصور أبو علي الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، للقاضي حسين بن علي النعمان، حين ولَّاه الحُكم بالمُعِزِّية القاهرة ومصر، والإسكندرية وأعمالها، والحرمَين حرسهما الله تعالى، وأجناد الشام، وأعمال المغرب، وإعلاء المنبر، وأئمة المساجد الجامعة، والقومة عليها، والمؤذِّنين بها، وسائر المتصرفين فيها، وفي غيرها من المساجد، والنظر في مصالحها جميعًا، ومشارفة دار الضرب وعيار الذهب والفضة، مع ما اعتمد أمير المؤمنين وانتحاه، وقصده وتوخَّاه، من اقتفائه لآثاره، وانتهائه إلى إيثاره، في كل عليَّة للدولة ينشرها ويحييها، ودنيَّة من أهل القبلة يدثرها ويصفيها، وما التوفيق إلا بالله ولَّى أمر أمير المؤمنين عليه توكله في الخيرة له، ولسائر المسلمين فيما قلَّدهم إياه من أمورهم وولَّاه … أمره بأنْ يتقي الله عز وجل حقَّ التقوى، في السِّر والجهر والنجوى، ويعتصم بالثبات واليقين والنُّهَى، وينفصم من الشبهات والشكوك والهوى، فإن تقوى الله تبارك وتعالى موئلٌ لمَن وئل إليها حصينٌ، ومعقلٌ لمَن اقتفاها أمين، ومِعوَل لمَن عوَّل عليها مَكين، ووصية الله التي أشاد بفضلها، وزاد في سناها بما عهد أنه من أهلها …»
قال أمير المؤمنين: قد أرحتُ عليك، فلا توجِد سبيلًا إليك، بتعرُّضك لدرهمٍ من أموال المسلمين؛ فقد أغنيتُك عنها.
وخلع الإمام على القاضي ثيابًا بيضاء، ورداء مكسوًّا بالبياض، وعمامةً مذهَّبة، وقلَّده سيفًا، وحمَّله عطايا كثيرة.
قال الرواة إن ابن النعمان ألزم نفسه وعمَّاله بالمحافظة على أموال اليتامى. أودعها في الدار التي حدَّدها أمير المؤمنين بزُقاق القناديل، وحرص على تقديم الأرقام المفصَّلة لكل تصرُّف. واستخلف في قضاء الفسطاط أبا عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر، وفي قضاء القاهرة أبا الحسن مالك بن سعيد الفارقي. وغلظت — في هذا المجال — أحكامه.
تحقَّقَت لأبي عبد الله الحسين بن علي بن النعمان مكانةٌ طيبة في نفس الحضرة، عندما زاوَجَ بين القضاء وأمر الدعوة، وتنظيم قراءتها في مجالس القصر. حُمدَت سيرته، وتمتَّع في نفس الإمام بحُرمة وافرة، وعظمة زائدة. صار من أقرب المقربين إلى نفس الحضرة، يجالسه، ويسامره، ويؤاكله، ويركب في موكبه. ولم يكن الحضرة يردُّ له شفاعة.
كان يعقد مجلسه في الجامع الجديد، أو في بيته. مرتين كل أسبوع. يضاعفهما — إن تضخمت القضايا — إلى أربع مرات؛ وفتَحَ بابه للقاصدين، وعُرف عنه كثرة البر والصلاة والإحسان، فهو يطلق الأموال والطعام والملابس للموظفين المسلمين والقبط، ويفرِّق الخِلَع وصُرر المال على الفقهاء والقضاة وأرباب العلم. وكان يحرص على أداء الصلاة في الجامع الأزهر، وفي القبلة الفاطمية تحديدًا. وكان يبدِّل ملابسه، ويغيِّر من هيئته وشارته. يدخل في هيئةٍ أخرى وشارةٍ أخرى. يرتدي ملابس التُّجَّار، ويجول في الأسواق ليلًا، يتشمم الأخبار، ويرتدي ثياب الصيادين، وزي الحرافيش والسابلة العاديين، أو يرتدي زي المتسولة. رتب عيونًا على الولاة والعمال، وجعل جماعات من السُّعاة، للتعرف على أحوال الناس في البيوت والأسواق.
حرص على مجالس قراءة القرآن الكريم، يَعْقدها في القاعة الكُبرَى بالقصر، وعُني بالاختلاط بالعلماء والفقهاء، وأخلص في تلقِّي علوم الدين كالتوحيد والفقه والتفسير، وفي تعلُّم النحو والبلاغة. عزف عن أمور الدنيا، وقَصرَ همَّته على كَسْب سعادة الآخرة، الباقية. ألِفَ أولاد الناس والعَوَام رؤيته يؤدي رياضات النُّسك والتسامي، يحاول استكناه ما لا يعرف، يتطلع إلى النجوم، ويقرأ في علم الغيب. يحاول التسامي عن احتياجات البشر ودناءة نفوسهم.
جزيرة الروضة هي المنتزه الذي تستريح إليه نفسه، يجتذبه إليها كثرة المناظر والبساتين. خصَّص مجلسه فيها للاطلاع على فتوح الإسلام وآداب العرب وأخبارهم، وللترويح عن النفس من مشاغل العمل.
٩
أطالت الجارية خيرات النظر — في وقفتها وراء النافذة — على القصر الكبير، والأبنية المحيطة. وثمَّةَ حرس القصور الفاطمية ينفخون الأبواق، ويدقُّون الطبول والكوس. يدورون حول القصور في خطواتٍ وئيدة، ثابتة، إلى ما بعد انبلاج الصبح. كان غبار الجياد قد تحوَّل — في بدايات النهار — إلى غيمةٍ من رمالٍ في مدى الأفق.
سبَقَ الوزيرَ برجوان في رحلة الصيد عددٌ كبير من الفرسان وحاملي الصقور والسِّهام والرِّماح والحِراب. يتقدَّم الجميعَ كلابُ الصيد. غرَسَ المِهماز في بطن الجواد، وانطلق به في أفق الخلاء. سبَقَه عشرةٌ من الركابية، وتبعه — بعد أن غادر الباب الخارجي للقصر — مجموعاتٌ أخرى. يقصد برَّ الجيزة بالقرب من الأهرام، ينصب أعوانه الخيامَ. يقضي سحابة النهار في لهوٍ وصيد وقنص، ثم تُفكُّ الخيام قبل أن يحلَّ الغروب.
كان يحب الخيل والصيد. وكان أعوانه يكثرون من التردد على أسواق الخيل والمهمازيين واللجميين والجوخيين.
قصر اللؤلؤة قلعةٌ هائلة، ذات أسوار عالية، في جوانبها أبراج محكمة. يقف فيها رُماة السهام والرمال والنبال. لا تُقاس به قصور السلطان. يضم عشرات الأجنحة والحجرات، والحُجَّاب الذين يرتدون ألبسة الحرير والديباج، ويحملون السيوف المذهَّبة، والآلاف من الخَدَم والجواري والخيل والسروج المطلية بالذهب، ويتردد عليه المغنِّيات والقِيان والمُنشدون وضاربو الدفوف وعازفو العُود والموسيقيون الجوَّالون والسَّحَرة والمنجمون ومفسِّرو الأحلام والحواة والبهلوانات.
همست لنفسها: لقد احتكر الثروة والسلطة.
بعد أن ولي الوزارة، أخذ البيعة للخليفة الحاكم بأمر الله من جديد. قدَّم البيعة وجوه كتامة وقوَّادها، والمشارقة، بالإضافة إلى عامة الناس.
اكتفى بعزل ابن عمَّار، فلم يحاول أذيَّته. زاد فأحسَنَ معاملته. أبقى على الرواتب والإقطاعات التي كانت له في أيام العزيز، لكنَّه اشترط الولاء سمة لتصرفاته، وعدم الخروج عن إطار الطاعة.
مال إلى الملاينة والتيسير على الناس. منَعَ الخلقَ من نهب دار ابن عمار. أعاد الرسوم والرواتب التي قطعها ابن عمار عن أصحابها. قرَّب المشارقة، وأعاد المصريين إلى ما كانوا يشغلونه من وظائف.
قال الرواة إنَّ برجوان حاوَلَ — ومارَسَ ضغطًا في بعض الأحيان — على الحضرة، حتى يمنحه لقبًا ينفرد به، ويعتز. فلمَّا أدركه اليأس قنَعَ بلقب الأستاذ الذي كان يحمله بالفعل، وإن سمَّى كاتبه أبا العلاء فهد بن إبراهيم: الرئيس؛ وترك له أمورَ الدولة، فأحسن إدارتها، وأحكَمَ سيطرته عليها. ظلَّ هذا هو لقب أبي العلاء، بعد أن وُلِّي الوساطة مع حسين بن جوهر، وإنْ قرن اسم ابن جوهر على المنابر — فيما بعد — وانفرد باللقب، واعتز به.
تعرفَت إلى حياته من بدايتها، منذ قدومه خصيًّا صقلبيًّا أبيض، وتنشئته في القصر، وارتقائه في الخدَم حتى بلغ مرتبة الأستاذية، وتقريب الخليفة العزيز بالله له، حتى ولَّاه إمارةَ القصر، وعيَّنه وصيًّا على ابنه منصور بعد وفاته، وخلَعَ عليه لقب «الأستاذ»، وأولاه ثقته، وعَهدَ إليه بأمورٍ مهمة. تدخَّل في أمور الحكم حتى بعد أن تولى ابن عمار أمور الوساطة. تولى الوزارة بعد أن رفع ابن عمَّار من منصبه. أعاد تدبير الأمور في القصر الملكي. يجلس في دهليز القصر، ويجلس الرئيس فهد في الدهليز الأول، ينظر في الشكاوى والتظلُّمات. يعرض على برجوان ما يرى أنه يستحقُّ أن يُرفع إلى مقام أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله. يخرج الأمر بما يكون العمل به.
عُرفَ عنه الكفاية والدهاء والدراية بشئون الحُكم. أقام في قصر اللؤلؤ الذي شيده العزيز بالله. بدا منافِسًا لقصر أمير المؤمنين. الحرَّاس يبلغون الآلاف من العبيد والمماليك الوزيرية. وأفاد من منصبه في تحقيق التعاظم للثروة التي جمَعَها: أكثر من مائتَي مليون دينارٍ ذهبًا، وخمسين أردبًّا من الدراهم الفضية، واثنَي عشر صندوقًا من الجواهر، والكثير من العقارات والأراضي والماشية والإسطبلات وأهراء الغِلال والمخازن الممتلئة بالثياب وأنواع الطعام بما يكفي احتياجات مصر والقاهرة عامًا أو يزيد.
صار له العديد من الدُّور والقصور في مصر والقاهرة والأقاليم. حُلِّيت بالنفائس والرِّياش الفخمة، وألِفَ مجالس السمر والشراب والمعاشرة والمعاقرة، وحفلات الرقص والغناء. كان يقدِّم لأضيافه الشراب في كئُوس الذهب أو الفضة المُرصَّعة بالجواهر، ويقدِّم الضيافات الكثيرة، والأطعمة، والحلويات. وكان كلِفًا — رغم عاهته — باقتناء الجواري. يقتني البارعات في الحُسن والخِلال، وصاحبات الأصوات الجميلة، واللائي يُجِدنَ الرقص. ينفق على شرائهن الأموال الوفيرة، وما لا يقوى عليه أحد. وامتلك الكثير من السرج والفرش والشكيمة والجراب والزمام.
قيل إنه نثَرَ على الحاضرين في حفل سمر. بالإضافة إلى النقود والمجوهرات. أوراقًا بأسماء ضِياعٍ، ليس على مَن يأخذ الورقة إلَّا أن يضع اسمه عليها، فتصبح في حوزته.
مال — بهمسات الأعوان وتحريضاتهم وغوايتهم — إلى أفعال ابن عمَّار. سار في الطريق التي سبقه إليها سلفه. أفلح — في مدًى قصيرٍ للغاية — في إبعاد أهل الحلِّ والعقد، وقطْعِ الجسور بين الحضرة وكبار الموظفين. حتى أُمُّ الحضرة حرَّصَ برجوان على أن يُبعد تأثيرها عن أمور الحُكم، لا تتدخل بالرأي أو التوجيه. استولى على الأمور، واستبدَّ، واستأثر بأموال الدولة. ومال إلى اللهو والطرب، وسماع الغناء، والتسلي بالرقص، ومعاقرة الخمر. وكان يقضي جانبًا كبيرًا من وقته في رمي النشاب واللعب بالرمح والصولجان، واستعمال الدبوس، ومشاهدة المصارعة وتطيير الحمام والمناطحة بالكباش والثيران والمناقرة بالديوك. وغلبَتْه النشوة — ذات ليلة — فأمَرَ خدَمَه أن يملئوا الحمَّام بالخمر ليستحمَّ فيه.
كان النساء وخدَمُ القصور والحُجَّاب ينقلون إليه ما تتلقَّاه أسماعهم، كل الهمسات والحوارات والشائعات، وإن لم يكن يحبُّ من خدَمِه أن يأتوه بخبرٍ يضايقه. صار متحكمًا على القصور السلطانية، لا يدخل ولا يخرج شخص ولا شيء إلا بمعرفته وإذنه.
تحقَّقَ له الأمر والنهي والتحكم في مقاليد البلاد.
لم يكن شيخُ طائفة في الجيش مثلَ ابن عمار. ألَّف لنفسه جيشًا خاصًّا، عُرفت الحارة التي يقيم فيها أفراده باسم برجوان. بثَّ الأعين المتلصِّصة والآذان المتسمِّعة في الأسواق والميادين، وعلى نواصي الحارات، وفي المساجد والجوامع والزوايا والخانقاوات، يُحصُون على الناس أنفاسهم، يصيخون السمعَ للهمسات والأقوال المُعلَنة، يرقُبون الحركات والتصرفات والإيماءات والإشارات، يفضحون الأسرار أمامه، ويبيحون المكنونَ المُخبَّأ. تكومَت تحت يدَيه قوائمُ كاملة بأشجار العائلات، وأسماء عوائل الأُسر التي تسكن كلَّ شارع ودرب وعطفة، وأسماء أفرادها، وأنشطة أصحاب الدكاكين، ومَن يؤدون الصلاة في المسجد القريب، ومَن يكتفون بأداء صلاة الجمعة، ومَن يسعون إلى الصلاة في غبشة الفجر، وماذا يملك الرجُل من عقارٍ وأموال.
قرَّب إليه مسعودَ الطماوي. خلَعَ عليه، ورتَّبَ له الرواتب، وجعَلَه صفيَّه وسميره. كان ناسخًا ينقل ما يكتبه الأدباء والشعراء، وينظم الدفاتر للدواوين، ويكتب ما يعرضه الوجهاء والعوام من شكايات لرفعها إلى الوزير، الذي يعيد عرضها على مقام أمير المؤمنين، ويكتب طلبات شراء البضائع، وعروض بيعها، ورسائل الأهل إلى ذويهم في المدن البعيدة، وعقود شراء البيوت والدكاكين والأراضي الزراعية، ورصد الأوقاف، ومدائح المُنشدين والأذكار وأدعية النصف من شعبان ورمضان والعاشر من محرم. جعَلَ لنفسه طاولةً صغيرة إلى جوار باب الجامع الأنور. يتسلَّى بنسخ كومات المؤلفات المُودَعة عنده، حتى يأتي مَن بيده شكاية أو مَظْلمة. يطيل الإنصات، ويسأل، ويناقش، ثم يفرد الورقَ، ويدسُّ القلم في المحبرة، ويبدأ الكتابة.
لطول عمله في نسْخِ رسائل الوزير ابن عمَّار إلى الولاة والوزراء والأمراء وحكام الدول الأجنبية، ونسخ رسائلهم — بخط جميل — إلى الحضرة؛ كان يعرف أنه يملُّ الرسائل الطويلة، يَهَب أذنَيه للأسطر الأُولى من كل رسالة، ثم يشيح بيده، ويقول: مَن الآخر؟ … أو يطلب رسالةً أخرى.
حفِظَ القرآنَ، ودرَسَ الفقه والفرائض والحديث والمنطق، وقرأ كُتبَ التاريخ والسِّيَر والقصص، ثم تعلَّم علوم العصر، وتثقَّف بثقافة أهل الزمان. وامتلك سرَّ الكتابة. وكان يعرف أنساب العائلات المهمَّة، ويتبادل الأحاجي والألغاز، ويتبارى بالأشعار، ويحذق المديح بما يدفع الممدوح إلى فكِّ كِيسه، والإغداق عليه، ويحذق الهجاء بحيث يشعر المَهجوُّ بالضآلة. مال — بما أتاح له ابن عمار من علو المكانة — إلى ارتداء الثياب الفاخرة وركوب الخيل، وامتلك الكثير من الأراضي والضِّيَاع والبنايات والأموال والخزائن المملوءة بالكسوة وآلات الديباج والذهب، وتنقَّل بين المثقل والديباج والحرير والفنك والسمور والمسك والخمر والقباء، وتهامسَت الشائعات بأنه استولى على الكثير ممَّا كانت تحويه خزانةُ الدولة.
١٠
هل كانت السيدة العزيزية، أُم الحضرة، هي أُم ستِّ الملك أيضًا؟
قال لها الخدَمُ في المطابخ إنَّ السيدة الرومية، النصرانية، هي أمُّ ستِّ الملك التي وُلدَت قبل خمسة عشر عامًا من مولد أخيها من الأب. السيدة العزيزية هي الزوجة الشرعية. ثمَّة مَن يتحدث عن السيدة العزيزية أم المنصور، دون أن يشير إلى فضلها، أو الديانة التي تؤمن بها. لكن معظم الروايات — إن لم يكن جميعها — يذهب إلى أنَّ الأم النصرانية لِستِّ الملك، أخت المنصور، ليست أمَّه، وإنْ لم تُجمِع الروايات على أمٍّ محدَّدة.
دسَّت بها الجهة العالية ست المُلك في دار برجوان. زكَّتها للحياة في القصر، وإن ظلَّت جارية لها؛ فهي تملك — حتى لو لم تكن هي أخت أمير المؤمنين — أن تستعيدها. شددَت عليها، فهي تروي كلَّ ما تراه وتسمعه. ينقله خادم نُوبي إلى ستِّ الملك في أول خروجٍ له من الدار.
تفحَّصها برجوان بنظرةٍ عرَّتها من ثيابها.
هل تستهويه؛ فيتخذها جاريةً؟
ظلَّت — منذ طفولتها — في داخل قصر ستِّ الملك، وسط أربعةِ آلاف جارية، بِيض وسُود ومولدات، يخدمْنَ صاحبةَ القصر. لا تبرحه، ولا يرى جمالها غير ستِّ الملك والجواري والعبيد والمِرآة.
أشار — في اللحظة التالية — إلى القهرمانة. تقدَّمَتها في ردهاتٍ داخل القصر، ثم تركَتها في أجنحة الحريم.
طال ترقُّبها لإشراف القهرمانة على زينتها؛ دلالة أنَّ برجوان سيطلبها في الليلة نفسها. ناوشها التوقُّع بأن يستدعيها الوزير. ربما أخفى ما بنفسه، فيطلبها عندما يخلو من مشغولياته.
أذهلَتها الهمسات المتناثرة، والبسمات التي لا تفارق الشفاه، حين عرفَت أن سيدها خصيٌّ، فهو لم يتزوج، وإن يُرضي نفسه بالتطلع إلى الجواري. ينزعن الثياب. يتعرين تمامًا. يرقُصن، أو يدُرن أمامه. يحدق بعينَين نهِمتَين. لا يشغله حتى الحرس، أو الخدم الذين يلبُّون ما يطلب؛ ربما لأنها هديةُ ستِّ الملك. لا يدعوها برجوان إلى مجلسه، لكنَّ الهمسات تضيق بها جدران القصر، فهل تعرف ستُّ الملك حقيقةَ الرجُل، وتكتمها؟
دسَّ الخادم النوبي في يدها بأمْر ست المُلك. غاب التوقع الوحيد، وحلَّت توقعاتٌ أخرى، كثيرة، يحيطها الفضول والمغامرة.
اختلفَت نصائح ستِّ الملك للخليفة الحاكم عن أفعال برجوان. شغَلَها استقرار الحُكم، وضمان بقاء أبناء المعزِّ في السلطة، وشغَلَ برجوان تنحية ابن عمَّار، والحلول مكانه. سبقَت ستُّ الملك موكبَ أمير المؤمنين — حين بدأ طريقه إلى القاهرة — في موكبٍ صغير يتدثر بالليل، يشغلها الحفاظ على ملك الفاطميين. قالت: أنا لا أعرف وطنًا إلا مصر، قَدِمتُ إليها وأنا في الثالثة. كان لها أيام العزيز بالله نفوذٌ عظيم في الدولة، لم يكن أبوها — العزيز بالله — يرفض لها طلبًا، ولا يردُّ لها قولًا. وكان يلبِّي شفاعاتها. وبتأثير نفوذها، أخذ العزيز بملامح التسامح المُعلَنة نحو النصارى. ردَّ عيسى بن نسطورس — بشفاعة منها — وولاه الوزارة. اشترط — لكي تستقيم العدالة — أن يستخدم المسلمين في دواوينه وأعماله. رفض الحاكم بأمر الله الشفاعة. أصرَّ — تحت ضغط المغاربة — على أمره بعزل ابن نسطورس، وتولَّى ابن عمَّار أمْرَ الحُكم. وقبض ابن عمَّار — في العام التالي — على عيسى بن نسطورس، وقتَلَه.
أشارت ست المُلك إليها، وقالت بصوتها ذي البحة الزجاجية: هذه لا تُفيد؛ فهي تحتاج إلى مَن يرعاها!
مع ذلك، فقد أمرَت بضمِّها إلى الحريم. تأكل وتنام وتلعب. وربما نفذَت أمرًا، فنقلَت شيئًا من موضعٍ إلى آخَر.
ألغت ستُّ الملك — بالرعاية — ما نثرَته الشائعات أنها تشتري الجواري لتستمتع بهنَّ، وأنها تهوى الصبايا الحِسان. عرفَتها وافرةَ الهيبة، وتميل إلى التديُّن. وقفَت من مالها على الجوامع والمدارس والتكايا والأضرحة والحمَّامات. يشغلها الحفاظ على صورةٍ طيبة للفاطميين في أعين خواص الناس وعوامهم. ثم صار معظم جلوس خيرات عند قدمَي ست الملك، لا تكلفها بشيء، وإن كانت تتجه إليها بنصائح وتوبيخات. تنظر — بجانب عينها — إلى الفتاة الجالسة تحت قدمَيها. تحبها، وإن لم تناقش بواعث هذا الحُب. ربما لارتباكها، وتلفت عينَيها، وما تملكه من ذكاء، وذاكرةٍ حافظة، وقدرة على الحَكي.
كانت تسمية ست المُلك عند خيرات — وعند كلِّ مَن في القصور الفاطمية — «السيدة» و«السيدة الشريفة» و«ست النصر» و«الجهة العالية»، وتدعوها — مثلما يدعوها الجميع — «مولاتنا».
كفَتْها ستُّ الملك تعَبَ الانتقال من سيدٍ إلى سيد. لقيَت في نفسها قبولًا؛ فميزتها. لم تكن تأذن لواحدةٍ من الجواري بالدخول عليها، ولا المُثول بين يدَيها، إلا إذا استدعتها. تُملي عليها ما تطلبه، وتُومئ لها بالانصراف. لا تطيل في كلامها، ولا تُجيب عن أسئلة، وتواجه الواقفة أمامها بنظرة صارمة.
استقدمَت مهندسًا صقلبيًّا. راعى في تصميم الجناح في داخل القصر مدى دخول الشمس وانحسارها، وارتفاع الرطوبة وانخفاضها، وإمكانية تلاقي تيارات الهواء لتلطِّف الجوَّ في أوقات الحر. وزَّع الطاقات في الزوايا والأركان، بما يحرك الهواء. حتى القبَّة ذات الزجاج الملوَّن، يتسرب الهواء من فتحاتها إلى القاعة. الأسقف مزيَّنة بالزخارف، وتتدلَّى مِشكاوات يتداخل فيها الزجاج الملوَّن والنحاس. على الجدران مرايا كبيرة، متقابِلة، تُحيطها إطاراتٌ مذهبة، والأرضية مغطاة بالسجاد. في الأركان أرفف، فوقها مباخر فضيَّة، وأواني قهوة ومزهريات. المفارش المزركشة أسدلَت على الكنبات والمساند، وتناثرَت على الأرائك حشياتٌ من ريش النعام.
شدَّدَت، فلا ترتدي النساء في أقدامهنَّ قباقيب. ألزمَتْهُنَّ بارتداء أحذيةٍ خفيفة لا تُصدر صوتًا. شبَّت النيران في مطابخ القصر الصغير. هدَّدَت بالامتداد إلى المخازن والحجرات المجاورة؛ لاذ بالفرار كلُّ من تصادَفَ وجوده من العبيد والخصيان. علا صوت الجهة العالية في أول الطريق المُفضية إلى المطابخ، يستحثُّ الفارِّين على إطفاء النيران. عاد الفارُّون إلى مصادر المياه. تناقلوا في الأوعية ما أوقف النيران عند المطابخ. لم تمتد إلى ما جاورها.
كان جلوس خيرات تحت قدميها امتيازًا خصَّتها به. لمَّا كلفتها بأعمال خارج القصور الفاطمية، أيقَنَ مَن في القصور أنَّ خيرات هي الأثيرة في نفس الجهة العالية. أعجَبَها فيها كتمانها لمَا تراه، ولمَا تستمع إليه، ودِقَّتها فيما تنقله من رسائل وأخبار. حتى ما يجري داخل أجنحة الحريم، لا تتحدث عنه إلا في إجابةٍ عن سؤالٍ من السيدة الشريفة. تركَت لها مهمَّة إيقاظها. تمسِّدُ جسَدَها بأصابع هامسة حتى تُفيق من النوم. تزيد من ضغط الأصابع، ليُعيد التدليكُ حيويةَ الجسد، فتمضي إلى الحمام. تركت لها أمرَ إعداد حمَّامها، لا تتركه للخدَم، ولا لبقية الجواري.
الحمَّام مُغطًّى بالقيشاني الأبيض المتداخِل بزخارف سوداء. تملؤه بماءٍ دافئ، تعطِّره برائحة الورد والفل والياسمين، وتُعدُّ المناشف لتغطي جسَدَها عقْبَ الاستحمام. تنزع عنها ثيابها بيدَين مترفِّقتَين. تَطْمَئن إلى ارتفاع الماء؛ فلا يبدو من جسدها غير ما يعلو العنق. تدلِّكها بقطعة إسفنج امتصَّت الصابون المعطر.
أهملَت الجهة العالية ما ميزَت به خيراتُ نفْسَها عن كلِّ مَن في القصور الفاطمية. النظرات التي لا تعلو عن الأرض، والسير بلا وقع أقدام، والأصوات الهامسة، وسرعة التلبية. وكانت خيرات تُجيد العزف والغناء والرقص، وتأليف القصائد، ورواية الحكايات وحياة الأنبياء والأولياء والتابعين. أطالت الرحيل — بالسماع — إلى المدن البعيدة؛ ما تحفل به من أفعال العرافة والتنجيم والتعازيم والسِّحر والرُّقَى والخوارق، واختلاط أحاديث الإنسان والجن والطير والحيوان والعفاريت والأرواح والأشباح، والغرقى الذين يستغيثون بالواقفين على الشاطئ، والاختراعات المثيرة، والأميرات السجينات داخل القصور والمغارات والكهوف، والشطار الذين يتسللون لامتلاك قلب الأميرة، والقِلاع، والأبراج.
ظلَّت — منذ طفولتها — في القصر الفاطمي الصغير لا تبرحه، ولا يرى جمالها سوى وجه المرآة.
تثق أنها لم تُولد جارية، وأنها شريفة الأصل والنسب. تومض في ذهنها رؤى لمَا عاشته: تلقِّيها الدروس على يد المعلم، الْتفاتها إلى مناداة أمِّها: يا جلنار. تُدرك أنَّ هذا هو اسمها الحقيقي. عكوفها على القراءة في مكتبة أبيها، لا تستجيب لنداءات أمِّها، حتى يدخل خادم فيصحبها إلى مائدة الطعام.
ما جرى كالأطياف، أو الملامح الضبابية، لكنها تذكره. كانت تلعب مع بناتٍ وأولاد في سنِّها. لم تنتبه إلى وحدتها، إلَّا حين ضغطَت الراحةُ الضخمة على فمها من جسدٍ ألقى ظلَّه العملاق أمامها. خنقَت الراحة — التي كادت تمنع تنفُّسها — صراخها. لا تذكُر اللحظة التالية، وإن أفاقت في صالةٍ واسعة، امتلأت بفتيات في سنها، وأكبر منها. غابت ملامح، واستدعَت ما لم تتأكَّد من حدوثه. تدرك أن توالي الأيام حمَلَ معه استكانتها إلى موضعها كجارية.
تجاوزت — بالخوف — ما تحياه من رتابة في توالي الأيام. الحياة في الحريم، وفي المطابخ، وفي القاعات السفلية. الجدران والستائر والأبواب المغلقة ورنين الخلاخيل والهمسات والضحكات المبتورة والرد على النداء والمَلل. تحنُّ إلى مدينة طفولتها. تغيب حتى ملامحها الضبابية. تردُّ على اسمٍ غير اسمها. تتكلم بلغة غير التي كانت تعرفها. حتى دينُها ربما تغيَّر دون أن تعي ما حدث. قبل أن تستوعب ملامح الأشخاص والأشياء. تدس الورقة بما كتبته، فيحملها الخادم النوبي إلى ست المُلك، أو تهمس في أذنه بما ينقله إلى القصر الغربي. يخيفها التوقعُ بأن تلحظ عينَ ما تفعله، فلا تأمن كتمَ أنفاسها.
قالت الجارية عظيمة: سيدنا مخصي … هل نحكم على أنفسنا بالخصاء مثله؟
وهي ترسم ابتسامة: ماذا تقترحين؟
– نتزوج من أنفسنا.
أحسَّت أن وجهها يتوقد: لا أميل إلى هذا التصرف.
ورمقَتها بنظرة مستنكرة: أتدرين مغبَّته؟
وهي تتحاشى نظرتها: نحن حريم … لا تنفذ إلينا الأعيُن المتلصِّصة.
أومأت بعينَيها إلى ما حولها: عملي في قصر الجهة العالية أثبَتَ لي أن الأعين ليست في وجوه الرجال فقط. الوشاية عملُ بعضِ الجواري.
جرتْ على الخاتم بعصبية في يدها: لكننا لا نخون مولانا.
رحلَت نظرةُ خيرات إلى بعيد: عندما اشترانا فقد اشترى حياتنا.
شهقت: تقصدين؟
وهي تجري على عنقها براحة يدها: نعَمْ … أقصد!
علا حاجبا عظيمةَ في تساؤلٍ مستغرب: تتصرفين كأنكِ من الحرائر.
تمالكَت خيرات نفسها: لا أشعُرُ بغير هذا.
أشاحت عظيمةُ بيدها: ليس المطلوب من الجارية أن تقيِّد نفسها بالأخلاق.
– ما أعرفه أنَّ الصك الوحيد للجارية هو صكُّ البيع.
تحسَّس إصبَعُها شعرةً نافرة؛ فانتزعتها: نحن نباع لنُمْتِع، لا لنعطي دروسًا في التهذيب!
كان امتداد الأفق من وراء المشربية، آخِر رؤيتها خارج أسوار القصر. تضيف إليه مما تلتقطه أذناها في قاعات القصر، وحجراته، وفي المطابخ. تطيل الوقفة خلف المشربية. تطعِّم رؤيتها بخيالٍ يمتد إلى ما بعد الأفق؛ المدن التي يتحدث عنها رجال القصر، والقرى والزراعات والنهر والمقطم والمدن البعيدة. تختلط التصورات في ذهنها وتتشابك. تغيب الملامح والقسمات. تحلُّ بدلًا منها ملامحُ وقسماتٌ أخرى. تتعالى المناقشات والملاحظات والأسئلة والأجوبة؛ فتطوي ما رسمه خيالها، ما لم تكن قد تعرَّفَت إليه من قبل، ولا تصوَّرَته، ولا أثارَته الكلمات أمامها.
تسمع عن الفسطاط والعسكر والقاهرة، وأسماء أسواق وشوارع ودروب وعطفات. تكتب عنها، أو تهمس بها، في أذن رسل ست المُلك، دون أن تعرف موقع المكان الذي تكتب عنه، أو تهمس به.
اختلطَت الأسماء في ذهنها — مرة — فتحدثَت عن ترقُّب برجوان زيارةً من الأهرامات. استعادت ست المُلك التسمية في رقعةٍ تحمل السؤال. نبَّهَت إلى أن الأهرامات بناياتٌ في الصحراء، وليست بشرًا. كرَّت الخيط من بدايته، حتى استخلصَت مَن كان ينتظره برجوان.
نقلت إلى الجهة العالية ما رأته من تردُّد الخادم عقيق على قصر برجوان. يصفق الوزير بيدَيه، لا يبقى في القاعة سوى الخادم؛ فيغلقها عليهما.
هزَّت ست المُلك رأسها في فهم: عقيق هو عين برجوان في قصر الإمام.
استدركَت متذكِّرة: المصيبة أنه جعله على خِزانات الإمام الخاصة!
١١
ترامى الأذان من جامع الأزهر القريب.
قال الرئيس فهد: ألَا نبطل الغناء حتى ينتهي الأذان؟
قال الوزير برجوان: الأذان في الجامع خارج البيت … ونحن في داخله.
وأشار إلى المُغنِّي بما يعني أن يستمر.
قال رواة الأخبار إن الوزير برجوان اشتدَّ ميله إلى اللهو والطرب وحُب القيان، فهو يعكف على معاقرة الخمور، وسماع الأغاني. يبدو وسط المغنين من الرجال والنساء كأحدهم. عدد المحظيَّات والجواري في قصره جاوَزَ الألف؛ فهو يستقبل المرأةَ في جناحه، يطلب منها أن تتعرى. تغمره النشوة لرؤيتها وهي تتخفف من ثيابها، حتى تنزعها تمامًا. يحدِّق في عُريها، دون أن يعرف مَن هي، ولا يتذكرها. يمسِّد الجسدَ العاري براحتَيه.
قيل إنه تصوَّر أنه يستطيع أن يعوِّض — بوسائل أخرى — ما حاق برجولته، يداوي ما يعانيه بأدويةٍ للخصوبة، تنقل اللذة إلى الشفتَين واليدَين ومسام البشرة.
أشار عليه الأطباء والعشابون بأدويةٍ وأعشاب ومَراهم. بدَت له الثمار مستحيلة؛ فاكتفى بلذة النظر. تتحرك أمامه الجارية المتجردة الثياب، حتى يكتفي. يصرفها، ويذهب إلى جناحه. يغمض عينَيه على ما رأى. يضيف ما يتصوره، ويخترعه، حتى يأخذه النوم، وكثيرًا ما كان يغادر جناحه وقتَ الضُّحى.
كان يدخل بين الجواري، يمزح معهنَّ، ويأخذ هيئة الحمار، فتركبه الجارية، وتضع مِقودًا في عنقه، وتأمره بالسَّير. وقيل إنه كان يدفع خدَمه إلى أن يفعلوا به ما يفعلون بالنساء. وكان يدعو المغنِّين إلى الجلوس في حضرته. يجمعهم حوله، ويكون كواحدٍ منهم. يؤدون له آخِر أغنياتهم، أو ما يطلب سماعه من الأغنيات القديمة. وكان يلعب بالحمَام مع الخدَم والعبيد، ويصطحب معه — في سرحات الصيد — أرباب المجون والملاهي. فإذا خرج على فرسه، لا يملك نفسه — لشدة السُّكْر — من الجلوس عليه.
نبَّهه الرئيس فهد إلى ما أصدره أميرُ المؤمنين من مراسيم بمنع سماع المُوسيقَى، وتحريم الغناء والملاهي باعتبارها خطرًا على أخلاق الناس.
هز كتفيه بلا مبالاة: وما شأن أخلاق الناس بحياتي الخاصة؟!
زاد ميله إلى المطارحة، والدعابة، والهزل في الكلام والتصرفات. يغلبه التوتر لمَا يتبادله الناس في الأسواق، وينقله إليه الأعين. جاوز السرُّ أسوارَ القصر؛ أنه حَصورٌ لا يأتي النساء. يلجأ إلى يدَيه وتعبيرات وجهه، ويرفع صوته، ويخفضه. يتظاهر بالثورة، ثم يطلق الضحكة المُجلجِلة. وكان يحبُّ اللعب بالكرة والسباحة والنرد والشطرنج والصولجان والصيد والرمي بالبندق. إذا عرَضَ عليه الكاتبُ بعضَ أمور الدولة، أطرَقَ وتَشاغَل.
خرج — ذات ليلة — عن طَوْره؛ أمر بملء البِركة في صحن قصره بالخمر، ونزَعَ ملابسه، ونزَلَ فيه يسبح، ويشرب، حتى أُنقِذ قبل أن يهوي إلى القاع.
لم يعُدْ يخرج إلى قصر أمير المؤمنين إلا بعد أن تتوسط الشمسُ السماء.
أخَذَ في نفسه على الشيخ مالك بن سعيد الفارقي قاضي الحنابلة. صارحه بمعايبَ وجدها في تصرفاته، وطالَبَه بأنْ يعود إلى الصواب، ودسَّ في ثنايا دروسه نقداتٍ لبرجوان. وجَّه إلى بيته الريفي في ناحية قليوب مَن ترقَّبه في إجازةٍ من عمله. تسلَّل إلى داخل البيت بعد أن اطمأنَّ إلى انقضاء الأيام الثلاثة الأُولى. احتزَّ رأسه، وعاد به إلى الأمير في قصره بالقاهرة.
نَعقَ غرابٌ على شجرة في حديقة القصر؛ فتشاءم منه. وقَعَ في نفسه إنه سيرى ما لن تُسرَّ عيناه لرؤيته.
قال الرواة إن الحضرة ظلَّ يطيل تأمُّل لباسِ الوزير برجوان. بدا له غيرَ مألوف في نسيجه وصُنعه. مال — بحداثة سنِّه — على صدره، ومدَّ يده إلى اللباس يتحسَّسه: هل هذا قماشٌ مصري؟
وهو ينحِّي وجهه عن اتجاه نظرته: من تنيس يا مولاي.
قال الإمام: يبدو أنَّ البلاد تصنع ما لا نعرفه.
وزوى ما بين حاجبَيه: لا تجعل الأُبَّهة شاغلك.
أبلغَت الأعينُ أميرَ المؤمنين بما أُثير من شائعات، أنه لم يعُدْ له أمرٌ، ولا نهي، ولا رأي، ولا سُلطة على الوزير.
قال الرواة إنَّ نفس الحضرة تغيَّرت لتغيُّر سياسة برجوان، وتبدُّلها. صرَفَ جهْدَه لمنع الولاة والوزراء والكتبة من الوصول إلى الحضرة، ومنع الإمام من الانشغال بأمور الدولة؛ وضَعَه في واجهة الحُكم، وخلا إلى ما تُمليه عليه نفسه. يركب كلَّ يوم إلى ميدان القصر. يجلس على سريره. تُعرض عليه الخيل، والقرَّاء بين يدَيه. يقف الشعراء لإلقاء قصائدهم. يمضي — بعد ذلك — إلى القصر الكبير. ما يكاد يفرغ من طعامِ الغداء وتُرفع المائدة، حتى يدخل برجوان وكاتبه فَهْد ومعهما رقاعُ المتظلمين وأرباب الحاجات. يقرأ الكاتب كلَّ الرقاع. يوقِّع أمير المؤمنين بما يعني الموافقة؛ لا رَفْض.
صارت الدولة كلُّها تحت يدَيه، أطلق لنفسه التصرف والتمكن الكامل. يتصرف كيف شاء، وعلى النحو الذي يريد. هو يدير الدولةَ من داره. يستقبل رجال الدولة والوجهاء والعلماء والقضاة والأعيان وأرباب الأشغال. يقضي في كل الأمور دون مُشاوَرة. ولم يعُدْ للخليفة أن يتصرف في شيء إلا برأيه، دون أن يراجع حتى أميرَ المؤمنين. ما يشير به ذهنه يقرُّه، ويأمر بتنفيذه. وكان ممَّا يثيره أن الوزير أعطى لنفسه الحقَّ في الدخول على مجلسه بغير استئذان. إن أبدى الخدَم ملاحظة، لم يُعنَ بالالتفات، ومضى إلى داخل المجلس.
فطن الخليفة — بوعيٍ باكر — إلى استئثار برجوان بالسلطة، لم يُلهِهِ تحريضه له على اللهو واللعب. وقال حاجب القصر الفاطمي لبرجوان، ما نقله عن الإمام، إن الوزغة — التسمية التي أطلقها عليه برجوان في بدايات حُكمه — صارت تنينًا كبيرًا. لكنَّ برجوان أهمل الإشارة، وظلَّ سادرًا في غيِّه ومجونه. غلب نفوذه وسلطانه كلَّ نفوذ وسلطان، وصار في يده الأمر والنهي كله. يولِّي مَن يشاء، ويعزل مَن يشاء. بيده جميع الأمور، وهو — وحده — صاحب الكلمة الفاصلة، والقول الحاسم. عنَت له الوجوه، وخضعَت الرقاب. لم يعُدْ للخليفة من السلطان إلا الأسماء: الحاكم بأمر الله، الحضرة، أمير المؤمنين، الإمام، وغيرها ممَّا يعلو به صوتُ كاتب الدست الشريف عندما يرفع الستر عن مجلسه. هي — في الحقيقة — بلا حُكم ولا تدبير. جعلهما برجوان من عمله، واكتفى به واجهةً، بلا أمرٍ له، ولا نهي، ولا رأي، ولا حق في إصدار سجل.
قبل أن يبلُغ الصبي عامه الخامس عشر، كان قد اتخذ قراره بعزلِ برجوان. احتفظ بما انتواه في نفسه. لم يصرِّح به حتى لأمِّه السيدة رقية، التي تكرَّر همسها في أذنه بالتخوف من وصاية برجوان. لم يعد يطيق معاملة برجوان له كصبي، كطفل يخضع للوصاية. انحصر نفوذه داخل القصر. فقَدَ كلَّ سيطرةٍ له على القاهرة والفسطاط. بدا كأنه قنع باسم الإمام دون أن يكون له نفاذُ أمرٍ أو نهي، ولا حول أو طَول. توارى في الظل. شأن البلاد في يد برجوان، يتصرف فيه كما يريد. لم يعُدْ يحفل بمشورةٍ ولا رأي، وأكثَرَ من القبض على الناس، والمصادرات، واصطفاء الأموال، والنفي. حتى الأوامر التي صدرَت من أمير المؤمنين، نقضها الوزير، وتعمَّد إهانةَ الإمام، وإذلاله، والتصرف بما لا يليق. استدعاه الحضرة — يومًا — فدخل راكبًا، ثنى رِجله على عنق جواده، فاتَّجه الخُفُّ إلى وجه أمير المؤمنين.
١٢
قال الرواة إن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ضاق بالأمر، وأضمر التخلص من برجوان لينفرد بأمر المملكة. سئم وصاية برجوان، ورفض إصراره على أن يمسك بكل الخيوط في يده.
راعه أن صاحب الباب هو الذي يتولى النظر في المظالم. يجلس في باب الذهب. بين يدَيه الحُجَّاب والنقباء. ينادي المنادي بين يديه: يا أربابَ الظلامات، مَن كانت ظلامته مشافهةً أرسلَت إلى الولاة والقضاة رسالة بكشفها، ومَن تظلم ممَّن ليس من أهل مصر أو القاهرة، تسلَّم الحاجب منه قصةَ أمره. يُحمل مجموع الرسائل إلى الموقِّع بالقلم الجليل. مفروض أنه يبسط ما أشار إليه الموقِّع الأول، ثم تُحمل في خريطة إلى الحضرة، فيوقِّع عليها. تخرج في الخريطة إلى الحاجب. ينادي — في باب القصر — على أصحاب التوقيعات. يتسلَّم كلُّ واحد رقعته. غابت الخطوات الأخيرة بتدبير صاحب الباب، فهو يوقِّع على ما اتخذه، ويسلِّم صاحبَ كلِّ رقعة ما يخصُّه.
لم يتحول أمير المؤمنين عما اعتزمه من أن يقبض بيدَيه على كل سلطان، ويشرف على كلِّ كبيرة وصغيرة، ويصرف الأمورَ بما تمليه إرادته، وإن تهامسَت شائعات أنَّ الصقلبي حامل مِظلة الإمام في المواكب الرسمية، هو الذي حرَّض الإمام على برجوان، ليأخذ محلَّه. ساعَدَ الإمام على اتخاذ قراره ما نصَحَت به أخته ست المُلك وأعداء برجوان.
قالت ست المُلك: مَن خليفة هذه البلاد … أنت أم برجوان؟
تعثرَت الكلمات على شفتَيه: أنا منذ اعتلائي كرسي السلطنة … أوقِّع على ما يطلبه برجوان، وليس على ما أقتنع به.
ومدَّ شفته السُّفلى دلالة الحيرة: الكتاميون يخضعون لإرادته.
هزَّت قبضتها: هناك الجند المشارقة.
تملَّكه إحساس بالمُحاصَرة: لعلِّي أدفع ثمَنَ خطأ أبينا بإدخال الأتراك والسودان في الجيش الفاطمي.
وهي تهزُّ قبضتها: العبرة بالقيادة وليست بالجنود.
تثق أنَّ برجوان يتطلع إلى ما لم يبُح به حتى لخواصه. السرير الذهب، والإسطبلات، والطباق، والمطامع، والجواري، والعبيد، والخدَم. يؤدي دور السلطان، وإنْ أهمل التسمية. يحرص على تجنُّب المؤاخذة، وغضب الطوائف المتصارعة، ومَن يدينون بالولاء للبيت الفاطمي.
هشَّت ذبابةً بظاهر كفِّها: إنه يصِفُكَ بالوزغة.
قال في صوتٍ محترق: أعرف.
– فلماذا تسكت؟
– علمتِني أن أعتصم بالكتمان.
– المهم أن تتقي منه ما فعَلَه كافور مع أولاد الإخشيد.
مالت ناحيتَه في هيئةِ مَن اتخذ قرارًا: تخلَّصْ منه بقتله.
وهو يحكُّ ذقنه بإصبعه: أقتله؟!
خبطَت صدرها: مَن قال؟!
وأصلحَت الشال المُنحسر عن رأسها: دعْ تدبيرَ الأمر لي.
ظلَّ أمير المؤمنين يتحيَّن الفرص ليقضي على برجوان، حتى تمكَّن من قتله.
أوكل إلى قائد القوَّاد الحسين بن جوهر مهمَّةَ قتل برجوان. استدعى — ذات ليلة — وزيره للركوب معه إلى المقس. قدم برجوان في موكبه المألوف. دخل إلى الباب الذي يغادر منه الإمام — عادة — القصور الفاطمية. استقبله في حدائق قصر اللؤلؤة، يطلُّ على الخليج، بالقرب من باب القنطرة. متنزه للخلفاء منذ أيام المعز، يتصل بالقصور عن طريق سراديب وأقبية تحت الأرض، يدخلون فيها بالدواب، فلا يراهم أحد. سلَّم الحضرة على برجوان، وسار إلى حيث اختفى داخل الحدائق. كان آخِر الموكب آخِر الدوابَ، حين علا صوت الخادم عقيق بالهتاف: قُتِل مولاي!
قال الرواة إن برجوان واصَلَ تفقُّد ما أمَرَ بإضافته إلى الحدائق من زروعٍ وبنايات. تقدَّم ناحيته الصقلبي زيدان حتى لامسه، وهو يعتذر بأن انشغاله بخدمة الحاكم ربما شغله عن خدمة الوزير. تحسَّس في الملامسة ثوب برجوان، حتى اطمأن إلى أنه لم يرتدِ درع الحديد. قبل أن يبدي الوزير استغرابه، كان زيدان قد طرحه أرضًا. ساعدَت المفاجأة في سقوطه. ثنَّى زيدان ما فعل بضرب برجوان بقطعةِ حديد ضربةً قوية في موضع القلب. خرج الحضرة من ستره، فطعَنَ برجوان برمحه، ونزعه عنه. أخلى الصقلبيُّ لجماعته جسد برجوان، فواصلوا طعنه، ثم احتزوا رأسه، ودفنوه في موضع قتله.
تطلع الحضرة — بنظرةٍ سريعة — إلى القصر الصغير. يثق أن أمَّه وأخته تقفان وراء الستر، تتابعان ما أشارت به ست المُلك، وخطَّطَت لتنفيذه.
عاد الإمام إلى القصر، تسبقه الهمسات والصيحات والصرخات والأسئلة. غلبَت الدهشة التصديقَ لمقتل برجوان. حتى العسكر من المشارقة والمغاربة تجمَّعوا بالأسئلة أمام القصر. أطلَّ الإمام من نافذة على ساحة القصر يتبيَّن النتائج.
قال زيدان للمحسوبين على الوزير المقتول: مَن كان في الطاعة، فلْينصرفْ إلى منزله ويبكِّر إلى القصر المعمور.
انصرف الرجال، وإن ظلَّت الأسئلة معلَّقة، والخوف داخل النفوس.
قال أمير المؤمنين لست المُلك: كان الرجل سيِّئ الأدب جدًّا.
ثم وهو يغالب الانفعال: والله إني لأذكُر حين صار إليَّ ورِجله على عنق دابته، وبطن خُفِّه قبالةَ وجهي.
وشرد في عوالمَ غير مرئية: لكني لم أفطن إلى نيَّاته إلا في قول الخادم زيدان: إنَّ برجوان يقصد أن يفعل بك كما فعَلَ كافور الإخشيدي في أولاد سيده.
قالت ست المُلك: أراحك الله منه، فأرح نفسك من العشرات الذين يشوِّهون حُكم آبائنا!
أشفق أمير المؤمنين من أحداث لم يضعها زيدان في حسابه. استدعى أميرُ المؤمنين الرئيسَ فَهْد. طمأنه على نفسه، وأقرَّه في منصبه من تولِّي الكتابة، وجعله على رسمه.
بدا قتل الإمام لبرجوان شرارةً، كادت نيرانها المُرتقَبة تحرق القصر، ومصر كلَّها. علَت طبول الحرب. تواجَهَ المغاربة والمشارقة فيما لم يضع الحضرة له حسابًا. ثمَّة زويلة، وكتامة، والبرقية، والمصامدة، وصنهاجة. يسكنون في معسكرات، أو حارات، أشبه بالمدن. المصامدة وحدهم لهم حارة بها أكثر من عشرين ألفًا. وثمة الأتراك والأكراد والأرمن والسودان وغيرها.
قدِمَ الناسُ إلى القصر في نجمة الصباح. علَت الأصوات في احتشادهم أمام الباب، حتى أذِنَ لهم الحسين بن جوهر بالدخول إلى ساحة القصر.
لم يعُدْ أمام أمير المؤمنين إلَّا أن يفسِّر ما حدث.
خرج على فرسه، ورجاله من حوله. قال للملامح الخائفة، المتسائلة: إنَّ برجوان عبدي … استخدمتُه فنصح، فأحسنت إليه؛ ثم أساء في أشياءَ عملها، فقتلته. والآن، أنتم شيوخُ دولتي.
وأشار إلى كتامة: أنتم عندي الآن أفضلُ ممَّا كنتم فيه ممَّا تقدَّم.
والْتفت إلى الأتراك: أنتم تربية العزيز بالله، ومقام الأولاد، وما لكل أحد عندي إلَّا ما يؤثره ويحبُّه، فكونوا على رسومكم، وامضوا إلى منازلكم، واضربوا على أيدي سفهائكم.
واستدعى أمير المؤمنين فهد بن إبراهيم: أنت كاتبي … وصاحبك عبدي … وهو كان الواسطةَ بيني وبينك، وجربتُ معه أشياء أنكرتها عليه؛ فجازيتُه عليها بما استوجبه، فكنْ أنت على رسمك في كتابتك، آمنًا على نفسك ومالك.
واتَّجه الحضرة إلى رجال الدولة: إنَّ هذا فَهْد. كان أمس كاتبَ برجوان عبدي، وهو اليوم وزيري؛ فاسمعوا له وأطيعوا، ووَفُّوه شروطَه في التقدُّم عليكم، وتوفروا على مراعاة الأعمال، وحراسة الأموال.
قبَّلَ فَهْد والحضور الأرضَ بين يدَي أمير المؤمنين، وأعلنوا الخضوع والطاعة.
تأمَّل فهد بن إبراهيم في وقفته المُستذِلَّة: أنا حامدٌ لك، وراضٍ عنك، وهؤلاء الكُتَّاب خدَمي؛ فاعرفْ حقوقهم، وأجمِل معاملتهم، واحفظ حرمتهم، وزد في واجب مَن يستحقُّ الزيادة بكفايته وأمانته، وتقدَّم بأنْ يُكتب إلى سائر البلاد والأعمال بالسبب الواجب لقتل برجوان.
علَت الأصوات بالدعاء، وقبَّل الرجال الأرض تحت قدمَي الحضرة، وانصرفوا.
ونقل الكاتب عن الإمام نُصحه للتجار وأرباب الحِرف بأن يهملوا ما حدث، ويعودوا إلى أشغالهم. وقال إنه يباشر بنفسه أمور الحُكم، وإن بابه مفتوح بينه وبين الرعيَّة. وصدَرَ سجلٌّ قُرئ في القصر: «معاشرَ مَن يسمع هذا النداء من الناس أجمعين، إنَّ الله — وله الكبرياء والعظمة — أوجَبَ اختصاصَ الأئمة بما لا يُشركها فيه أحدًا من الأمة؛ فمَن أقدَمَ — بعد قراءة هذا المنشور — على مخاطبةٍ أو مكاتبة لغير الحضرة المقدَّسة بسيدنا أو مولانا، فقَدْ أحلَّ أميرُ المؤمنين دَمَه. فلْيبلِغ الشاهدُ الغائبَ إن شاء الله.»
١٣
هُدم — بأمر أمير المؤمنين — قصر اللؤلؤة، أو منظرة اللؤلؤة، حيث كان يقيم برجوان، وصودرَت تركة الوزير: مائة عمامةٍ ملوَّنة، وألفٌ من السراويل الدبيقية بألف تكة حرير أرمني. وخلَّف حجراتٍ ملأى بالمقاطع والستور والفرش والوسائد والمساند والديباج، وخزائنَ مملوءة بالثياب المصنوعة من الديباج، والمُحلَّاة بالذهب، والكثير من قِطَع الحرير والفراء وكميات العطور والصيني والأصباغ والياقوت واللازورد والعاج، والمئات من الكتب والمخطوطات، والآلاف من العبيد والإماء. وعُثر في إسطبلاته على المئات من الخيل والبغال ومراكب الطيب والبقر والجواميس والغنم.
ما لم تلحقه المصادرة من تركة برجوان، أباحه الإمام لجنوده.
١٤
قتَلَ أميرُ المؤمنين برجوان؛ فاستردَّ سلطانه الروحي والسياسي، واستعادت الخلافة والدعوةُ هيبتَهما.
كان في الخامسة عشرة. ما عاشه أضاف إلى سِني حياته. عيَّن الحسين بن جوهر الصقلي مكانَ برجوان. كان الخليفة العزيز بالله قد ولَّاه القيادة بعد وفاة أبيه جوهر، ثم قُلِّد في عهد الخليفة الحاكم ديوانَ البريد والإنشاء. بدا أجدرَ رجال الدولة بتولِّي منصب برجوان. استدعاه الحاكم، وخلع عليه. قلَّده النظر في أمور الدولة والتوقيعات. لقَّبه في سجل التعيين بقائد القوَّاد. أفادَته عِبر ابن عمَّار وبرجوان. ظلَّت أفعالهما ماثلةً أمام عينَيه. يتذكرها، فيكوِّر قبضته، ويكزُّ أسنانه، وتومض عيناه ببريق. أفلح الحسين بن جوهر — بالوساطة — في أن يخمد النيران قبل انتشارها، وإنْ تيقن الإمام من خطورة الاعتماد على إحدى الطائفتَين؛ فجعل لنفسه حرسًا من العبيد.
لم يعُد أمير المؤمنين أبو علي منصور — بعد تخلُّصه من برجوان — حاكمًا بأمر الله؛ هو حاكمٌ بأمر نفسه، لا يشغله تبايُن أوامره ولا تصرُّفاته.
استبدَّ بالأمور، فلمْ يعُدْ للوزراء دخلٌ في أمور الدولة، ولم يعُدْ لأهل الحل والعقد وأصحاب الشورى إلا أن يلزموا صامتين في مقام الحضرة، لا يسألون، ولا يُبدُون رأيًا. عاب على كبار موظَّفيه تقاعُسهم عن أداء واجباتهم؛ فانتشرَت المباذل والشرور بين الخواص والعوام.
قال إنه لن يظلَّ مكتوف اليدَين أمام التصرفات الشريرة، وإن الصراعات بين الأفراد يجب ألَّا تنعكس على حياة الناس. أمَرَ ونهى، ونظَرَ في الأموال، وشدَّد فلا يُطلَق لأحد شيءٌ إلا بتوقيعه، ولا يُنفَّذ إلا ما أمَرَ به.
غلَبَ عليه دوامُ التلفت. وكان يحدق في عينَي محدِّثه، يخمِّن ما إذا كان صادقًا في كلامه أم أنه يكذب. وكان يغلِّب السوءَ، والميلَ إلى الشر والأذى، ويُكثر الانتقال من حالٍ إلى حال، ولا يملك نفسه عند الغضب. ربما تغيرَت نفسه لشكٍّ اقتحم سكينتها؛ فيطرد كلَّ مَن في مجلسه، ويأمر بإطفاء الأنوار. يتأمل الظلمة، ويشرد في المدى.
لم يوقف عادته في الخروج إلى الفسطاط للنزهة والترويح. ربما ركب جواده، ومضى — مع قلة من خدمه — للصيد والنزهة في ناحية سردوس، أو بركة الجب، أو عين شمس، أو حلوان.
لجأ إلى الحيلة في استمالة آل الجراح، حتى تخلوا عن أبي الفتوح، ودسَّ للمفرج مَن قتَلَه بالسُّم، واستمال — فيما بعد — الحاكم قرواش بن مقلد، فخطب له — حينًا — بالموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها.