الصراط
١
صحبها الخادم النوبي — في اليوم الثالث لمقتل برجوان — إلى قصر الجهة العالية ست المُلك. مضت — من خلفه — تتعثر بالمفاجأة. في دروب وعطفات، حتى انتهَت إلى بوابةٍ عالية موصدة، حرَّك الخادم النوبيُّ سقَّاطتَها.
عندما ولجَت إلى الصحن الواسع، أيقنَت أنها فارقت حياة المغامرة. القصور تصل بينها أروقة مغطاة بالحصباء. الأسوار من الحجارة المنقوشة، والجدران مَكسوَّة بالرخام الأبلق. وثمَّة تمثالان لأسَدَين من الرخام، على جانبَي الدرجة الأُولى من السُّلَّم الرخامي العريض في القصر الذي سبقها الخادم في صعوده.
استكانت إلى الملل والرتابة فيما تلا من أيام. يخترقها الشعور بالوحدة بين القائمات بأعمال القصر العادية من المستخدمات.
أخذَت جانبًا في البداية. أربَكَها التخوف من أنْ تغلِّب السذاجةَ على رأيٍ أو سؤال، أو أن تواجَه بالعداء. أثار تصرفها الضغينة في الجواري. فسَّرن ما تفعله بأنه حرصٌ على الاستعلاء.
رمقَتها جاريةٌ حبشية بنظرة ساخطة: هل تترفعين عن الجلوس مع الحبشيات؟
ومصمصَت شفتَيها: البياض على الجدران.
قالت خيرات: والسَّواد في القلوب.
إجادتها للعربية والفارسية والتركية والحبشية والشركسية، أتاحت لها الفهْمَ والأخذ والرد.
قالت جارية: مهما اجتهدتِ في التميز عنا فستظلينَ واحدةً من خادمات السيدة الشريفة.
ورمقَتها بنظرةٍ متحدية: كلنا إمَّا جوارٍ أو محظيات.
وهزَّت رأسها: لا فرق!
قالت جارية: لولا أن ست المُلك رأت في خيرات خصالًا جميلة … ما خصَّتها بالرعاية!
لم يكن في حياة الجواري إلا التزين والطعام والجلوس والاستحمام والنوم والغناء والرقص والتطلع للزواج من أحد الوجهاء. حتى القهرمانات، يبلغنَ العَشر، يقُمْنَ بشئون ست المُلك، فلا يتركْنَ منفذًا إلى حجرة النوم.
أهملَت الغيرةَ في ملاحظات الجواري وتصرفاتهنَّ. حلَّ الخوف وحده في نفسها حين سبقها الرجُل إلى جناح ست المُلك. هل تدفع عُمْرها للدَّور الذي أدَّته في قصر برجوان؟
حدجَتها ست المُلك بنظرةٍ مشفقة: كيف أحوالكِ؟
وهي تزدرد ريقها: الحمد لله.
– دوركِ في خدمتنا لم ينتهِ.
استدركَت: بعودتكِ إلينا.
هزَّت رأسها، فومض شَعرها بالألق.
تُمضي الساعات تحت قدمَي ست المُلك، في عزلتها داخل القصر الغربي. ترتدي ما يشي بأنها تُدير الحُكم: حول رأسها عصابة — شال على هيئة مثلث، طرفاه إلى الوراء — كُلِّلَت بالدر والجواهر، ويتدلى من أذنَيها قرط على هيئة هلال، وتضع في إصبعها خاتمًا من الذهب، به فصٌّ من العقيق الأحمر، يحيط به إطارٌ بيضاوي، وتلفُّ حول وسطها حزامًا من القماش الديبقيِّ.
أقامت في القصر الغربي، أو قصر البحر، أو القصر الصغير، منذ شيَّده العزيز بالله. وجدَت في قربه من القصر الكبير، واتساع قاعاته وحجراته وردهاته، ما يُغريها بالبقاء فيه، هي والحاشية والخدَم. تركَت تنفيذ ما تطلبه منهم للخادم عطوف.
تستسلم خيرات — أحيانًا — للشعور بأن ست المُلك هي أمُّها، وأنها تستطيع أن تأخذ منها وتعطي، كما تأخذ الابنة من أمِّها وتعطي، لا كعلاقة الجارية بسيدتها. تثِقُ أنها خُلقَت للأمومة. مظهرها المتجهِّم لا يلغي ما في نفسها من طِيبة وحُب وميل إلى المؤانسة. تلحظ شرودها، ونظراتها المتطلعة إلى القصر الخلافي عبْرَ ميدان بين القصرَين — مجموعة من البنايات والقصور الصغيرة والقاعات والأقواس والإيوانات والخزائن والحمَّامات والنافورات والرخام الملون — تتركز فيه حياة البلاط ومجال الحضرة، ومنه كانت تخرج المواكب الاحتفالية. الهيبة تَبينُ في تصرفاتها، لكنَّ شرود النظرة يشي بما تعانيه في داخلها.
لم يعُدْ لها في القصور الفاطمية ما كان لها من آراء صائبة. لا تذكُر أنه ندم — في يوم ما — على الأخذ بمشورتها ونصائحها. ساء أمير المؤمنين أنها تريد أن تُخضعه لسلطانها. أثاره ما نقله الأرصاد عن الناس في الأسواق من أنه خضَعَ لرأي ست المُلك وهواها، وأنه لا يأخذ قرارًا، ولا يُصدر سجلًّا، إلا بعد أن يطلب موافقتها.
شحب الوجه ذو القسمات الرائقة، وغابت النظرة التي تُربك مَن تُحدِّثه. تجاوَزَ العزلة في كلماتٍ هامسة لا تنتظر ردًّا. كانت تستدعي رجالًا مُلثَّمي الوجوه، يُنصتون إلى ملاحظاتها وأوامرها، وينصرفون. وكانت تبذل — بما لا يخفى على فهمها — للكاتب، والموظفين، وطائفة العطوفية في داخل القصر، وطائفة القيصرية التي تصطحبها في المرات القليلة خارجه. لم تضع في بالها أرصادًا لا يفطن إليهم أحدٌ في داخل القصور الفاطمية، يراقبون التصرفات، ويتنصتون إلى ما تعلو به الأفواه، وإلى الهمسات. يبلِّغون مقامَ أمير المؤمنين — في اللحظة التالية — ما تفوح منه رائحة الدسِّ والتآمر.
لم يعُدْ يناديها: ست الكل، ولا يصفها بالسلطانة.
أدركَت أنَّ حُبها زال من نفسه. ضاق بنصائحها وتدخُّلها في أمور الحُكم. هو الحاكم بأمر الله. ليست مجرد تسمية. ذلك ما ينبغي أن يحرص عليه. هي امرأة، والنساء موضعهنَّ البيت. غاظه ما نقله إليه الأعين أنَّ نساء القصور الفاطمية يتدخَّلْنَ في أمور الحُكم. حتى العمة عبدة، الابنة الثانية لجَدِّها المعز، لم يعُدْ منصور يُخفي تعجُّله موتَها؛ فيأمن تدخُّلها فيما ليس من شأنها، ويرث ما تملكه من ذهب وفضة وجواهر وأمتعة لا حصْرَ لها. ست المُلك هي أخته. طالما بذلَت له النصح في سِني طفولته. اختلف الوضع، فلَمْ يعُدْ على ست المُلك أن تبذل نصحًا. صفة نساء القصور تعني — أول ما تعني — ست المُلك. هل تدرك خطورةَ ما تفعله؟
تنبَّه إلى أنه لم يحسب حسابها. أزاح مَن يعوقونه عن ممارسة الحُكم، وأهمل تدخُّلها فيما ليس من مهامِّها. لم يعُدْ يعتمد على رأيها فيما يواجهه من مشكلات، أو يلتجئ إليها. عمل على الحدِّ من نفوذها، وتدخُّلها، ودفَعَها إلى الْتزام العزلة.
وُلدَت في ٣٥٩ﻫ — بعد الفتح الفاطمي لمصر بنحوِ عامٍ — قدمَت إلى مصر مع والدها العزيز في ركبِ جدِّها المعزِّ في أواخر ٣٦٢ﻫ.
كان أبوها العزيز يلجأ إلى رأيها فيما يواجهه من مشكلات. ظلَّ لرأيها قيمته في الأعوام الأُولى من حُكم أخيها منصور. تُبدي الرأي حتى في المواقف التي لا تُطلَب مشورتها. كانت في السادسة والعشرين من عمرها، وكان أبو علي منصور في الثانية عشرة. قَبلَ — بالامتنان — هديتها: ثلاثين جوادًا عليها سُروج مرصَّعة، ستًّا وعشرين بغلةً مُسرجة، ملغمة، وخمسين خادمًا، منهم عشرة صقالبة، وتاجًا مرصَّعًا، وشاشية مرصَّعة، وأسفاطًا كثيرة من طِيب، وبستانًا من الفضة مزروعًا من أنواع الشجر. ظلت تمدُّه — منذ وفاة أبيها — بالنصح والتوجيه، تشير بما تراه الصواب، تصدُّ ميله إلى العنف بحكاياتٍ ترويها، أو بإيماءاتٍ وتلميحات. ألِفَت استشارة الإمام لها في الكثير من الأمور. أفادته آراؤها في التخلُّص من ابن النعمان وابن عمَّار وبرجوان.
الأعوام الستة عشر التي تفصلها عن أخيها أبي منصور تهبها الحقَّ في أن تشير، وتنصح، وتقرِّر.
٢
قالت ست المُلك: أعدِّي نفسكِ لمهمَّة أخرى، أثق أنك ستؤدِّينها بما عرفتُه فيكِ من همَّة.
تقضَّت أيام حتى استوعبَت أنها أصبحَت واحدةً من حريم الإمام الحاكم بأمر الله، واحدة من أُلوف الجواري اللائي تغصُّ بهنَّ القصور الفاطمية. تحاول كلُّ واحدة أن تكون لها الحظوةُ في نفس القهرمانة. حذَّرَتها ست الملك من أساليب التآمر والدهاء ودسِّ السُّم والوشاية والنميمة والكذب. ذلك هو عالَم الجواري الذي لا بدَّ أن تتنفس هواءه في القصر الفاطمي. لم يرَها الحضرةُ، ولا تعرفَت إلى صورته، وإن استقرَّ في بالها ما يرويه الخصيان والجواري والخدَم عن ميله إلى تعذيب مَن تُلامِس غضبَه في «المحول»، الرواق الخاص بحريم القصر الفاطمي. تُنصت إلى الأحاديث، وتتابع الأسئلة والأجوبة. توافق — في نفسها — وترفض، وتتأمل. تتحرك في أرجاء القصر، وتجلس، وتقرأ، وتنظر من خصاص المشربيات. لا تكلِّفها «القهرمانة» بعملٍ ما.
قالت القهرمانة: أنتِ ضيفتنا من عند أخت الحضرة … فنعاملكِ معاملةَ الأضياف!
ضايَقَها افتقادُ ما تبلغه لست المُلك. بوُسعها أن تمضي إلى القصر الصغير. يتبعها الخادم النوبي، فتروي ما تنصتَت عليه، أو شاهدَته، وتعود. داخَلها الملل من حياة الطعام والرقص والغناء والرقص والنوم والاستحمام والتزين وترقُّب استدعاءات صاحب القصر. ألِفَت التردد على القصور التي يضمُّها القصر الكبير الشرقي: القصر الصغير الغربي، القصر النافعي، قصر الذهب، قصر الشجرة، قصر الحريم، قصر الشوك، قصر النسيم، قصر البحر. ألِفَت سحَن نساء القصر الكبير الشرقي، والقصور الصغيرة في داخله: زوجات الحضرة وأخواته وبناته وعماته وجواريه. تنتقل — من طريق السرداب — بين غُرف قصر الحضرة وقصر الحريم.
تعثَّرَت في هرولتها وهي تستعيد ما تهامسَت به الجاريتان في الحجرة المغلقة. اندغمَت بعض الكلمات، أو وصلَت غير واضحة، لكنَّ ما استمعَت إليه — خِبرتها الآن طويلة — يشي بأنَّ مُتولي الديوان يَنْسب إلى أمير المؤمنين ما لم يَصْدر عنه. يهمُّه أن ينقل الخدَم والجواري ما يدسُّه على الحضرة إلى أولاد الناس والعوام خارج قصور السلطان.
اكتفَت ست المُلك بهزِّ رأسها، والإنصات. استوضحَت كلماتٍ قليلة، وأشاحت بيدها: أحسنتِ.
حين تحدثَت الجواري عن سَمْل المشاعلي لعينَي مُتولي الديوان، وقَطْع لسانه، أدركَت أن ما روَته لست الملك؛ نقلَته ست الملوك — بواسطة الرجال المُلثَّمي الوجوه — إلى أخيها.
٣
قال الرواة: خلع الحاكم على الحسين بن جوهر ثوبًا أحمر، وعمامةً زرقاء، وأهداه فرسًا بسرجٍ ولجام من الذهب. لقَّبه بقائد القوَّاد، وردَّ إليه التوقيعات والنظر في أمور الخلق، وتدبير المملكة، وإنصاف المظلوم. جعله مُقاسِمًا لفهد في السلطة، فلا ينفرد بأمور الدولة، ولا ينسى موضعَه بالقياس إلى مقام الحضرة؛ وإنْ زاد أعوانه، فأشاعوا أنَّ الحضرة فوَّض إليه تدبير ممالكه وكفالته، وجعَلَ له إمارة جيوشه وكفالة القضاة.
جلس للوزارة يرتدي دراعةً قصيرة مفتوحة من الأمام، من النحر إلى أسفل الصدر بعُرًى وأزرار من لؤلؤ، ووضع على رأسه عمامةً ذات طبقات، نزل طرَفها فدار حول الحنك، وتقلَّد سيفًا مُحلًّى بالذهب.
قال لأعوانه: هيبة الوزير من هيبة الإمام، واهتمام الوزير بهيئته تعبيرٌ عن هيبته!
٤
بدا مختلفًا عن سابقيه. هو الامتداد الجميل لأبيه جوهر. قام جماعةٌ من الأتراك، ينتظرون مقدمه. أوقف جواده، واتجه إليهم بنظرةِ لوم: كلُّنا عبيد مولانا صلوات الله عليه ومماليكه، ولست والله أبرح من موضعي، أو تنصرفوا عني؛ ولا يلقاني أحدٌ إلا في القصر.
منَعَ استقبال الناس في بيته، وجعل خدَمًا من الصقالبة يتناوبون الوقوف على الطريق، يمنعون الناس من السَّير إلى داره، فلا تُعرض الرقاع إلا في القصر، في الموضع الذي حدَّده. لقبه الرسمي «القائد» دون تعظيمٍ أو تفخيم. مَن يريد لقاء الحضرة تُذلَّل له الطريق. شدَّد على أنه لا يجوز لأحد — مهما يغزر عِلمه — أنْ يعلِّم شيئًا من أمور الدين وفرائض العبادة، بغير أمرٍ من الإمام الحاكم بأمر الله، القائم مقامَ النبي. ومَن تجرَّأ، فنطق عن الهوى، اعتُبر مُتعديًا وضالًّا، وحقَّ عليه العقاب. أذاع سجلًّا قال فيه، بعد البسملة: «معاشرَ مَن يسمع هذا النداء من الناس أجمعين. إن الله — وله الكبرياء والعظمة — أوجب اختصاص الأئمة بما لا يشركها فيه أحدٌ من الأمَّة. فمَن أقدَمَ بعد قراءة هذا المنشور على مخاطبةٍ أو مكاتبة لغير الحضرة المقدَّسة، سيدنا ومولانا، فقَدْ أحلَّ أميرُ المؤمنين دمه. فلْيبلِغ الشاهدُ الغائبَ إن شاء الله.»
نبَّه مسعود الطماوي إلى أن العرائض والشكاوى تُرفع إلى أمير المؤمنين، وليس إلى أي موظف، مهما تسمو مكانته. وكان إذا مَثلَ بين يدَي الإمام، لا يثبتُ على قدمَيه في حضرته. يتقافز على ركبتَيه، وهو يمضي مُطأطِئ الرأس، في اتجاه مجلسه. وفعَلَ للخليفة كلَّ ما كان من الخضوع والذلة والمسكنة. لا يناقش، ولا يعارض، وينفِّذ ما يأمره به أميرُ المؤمنين دون أن يوازيه بملاحظات.
عيَّنَ الحسين بن جوهر عبدَ العزيز بن محمد بن النعمان في منصب قاضي القضاة، خلفًا لأبيه، وقَصرَ عمَلَه على ما تطلبه مهامُّ الوزير؛ فهو يكتفي بتقديم المشورة للخليفة، وينفِّذ ما يُصدره من أوامر. لم يعُدْ ثمَّة وزراء، إنما هم وسطاء يباشرون العلاقةَ بين أمير المؤمنين وبين الناس.
قال الرواة إن إدارة الدولة صارت في يد أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله. جعَلَ الأعيُنَ على الحسين بن جوهر، وحَدَّ من تصرُّفه؛ فهو لا يتحرك إلَّا في إطارٍ لا يجاوزه.
كان أول ظاهرة لعشق الإمام الحاكم للَّيل، عندما نَظمَ مجلسًا ليليًّا يحضره الخواص وأكابر رجال الدولة. تُطرح فيه القضايا والمشكلات، وتؤخذ الآراء. الرأي الذي يجد فيه الإمام وجاهةً، يُقرُّه ويأمر بتنفيذه.
أمَرَ بأن تُعلَّق القناديل على الدكاكين والدُّور ونواصي الحارات والشوارع.
صار له مظهر الجبابرة: الطلعة المهيبة، والجسد الطويل، المتين، والعينان الواسعتان السوداوان، وإن تمازجهما زرقة، والنظرات الحادة، المتوجِّسة، إذا الْتقت عينا محدِّثه بهما، يخفضهما، فلا يرتبك، والصوت القوي يقتحم بالخوف مَن يقف أمامه. هو لم يستردَّ مُلكه من ابن عمَّار وبرجوان وحدهما، وإنما استرده من جماعات العسكر المشارقة والمغاربة، فهو قد صار دائمَ الشك في ولاء مَن يعملون في خدمته، ويرقب — بعينَي الحذر — مَن يسعون إلى الفساد والإفساد.
٥
مضى من الجانب الشمالي للجامع العتيق إلى سوق القناديل. ثمة مسابك الزجاج ودكاكين الشمع والقناديل والمصابيح.
البيت يتجه إلى الداخل. جدرانه المطلَّة على الطريق مُصمتة. له فِناءان مستقلان، حتى تحتجب النساء عن الأعين الغريبة. كلُّ فِناء محاطٌ برواقَين من جانبَيه، والرواق يُفضي إلى صالةٍ واسعة تُحيط بها أبوابٌ خشبية، مغلقة، من ضلفةٍ واحدة. دفَعَ الباب. مضى إلى مدخلٍ آخَر، ضيِّق، طويل، في نهايته فِناءٌ واسع، مُترَّب، حوائطه مطليَّة بالجير، عليها رسوم أحجبة، وأكُف، وقوافل حجيج، ورَسْم للكعبة. تتوسطه فسقيةٌ مُعطَّلة، وتحيط بها حجراتٌ مفتوحة، أو مغلقة. يعلوها طابقٌ واحد، يصله ببقية المباني سلالمُ من ناحية اليمين، وتمتدُّ أمامها طُرقةٌ بامتداد المكان، يحدُّها سور من الحديد الأسْوَد المُتشابِك. عرف أنَّ زوجة الشيخ مصابيح تقيم في واحدةٍ من تلك الحجرات. أبناؤه وأحفاده يترددون عليه، وإن أقاموا — بأمر منه — في شوارعَ ودروبٍ قريبة.
صَعدَ السُّلَّم، ونقَرَ بأصابعَ مترفِّقةٍ على الباب الأول.
تَبينُ في الضوء الخافت ملامحُ الشيخ مصابيح: الوجه الأبيض المُشْرب بالحُمرة، والعينان اللامعتان تطلُّ منهما نظرةٌ هادئة، والشاربَ المُحْفى، والذقن البيضاء كهالة، والعصفور الأزرق الموشوم على الصدغ، والابتسامة الرائقة مثل شمس صغيرة.
همَسَ: المعلم أكرم الديري.
استطالت قامته في ضوء القنديل المتدلِّي من السقف. تضاءلَت الاستطالة في دخوله من الباب، حتى تلاشَت تمامًا، وامتدَّت الاستطالة من الناحية الأخرى. الحجرة مستطيلة، أقرب إلى الضِّيق. الأرض فُرشَت بكليمٍ مصنوع من قِطَع القماش المتباينة الألوان. على الحائط مسماران علَّقَ عليهما ثيابه، ورسومٌ لسفينة نوح والمخلوقات التي عليها. الكنبة الخشبية ذات الوسائد المحشوة بالقش، للجلوس والنوم، والكتب مكوَّمة على الأرض ولِصْق الجدران.
عرَّف الشيخ بنفسه: تاجرٌ في الكتب، يقضي معظم وقته في أسواق الورَّاقِين، يبيع ويشتري ويلتقي بالكاتبين والناسخين وطلاب القراءة. حَفظَ كتابَ الله، وصحيحَ الحديث وضعيفه، وناسِخَ الحديث ومنسوخه، وأخبارَ الرسول، وعرَفَ سِيَر النبي، وسِيَر الخلفاء والصحابة والتابعين. يذكر زيارته لأرض الحجاز، طوافه بالكعبة، سعيه بين الصفا والمروة، الوقوف على عرفات، رمي الجمرات، الارتواء من ماء زمزم.
الْتقى بالشيخ مصابيح — للمرة الأولى — في سويقة الوزير. صحبه ناسخ للكتب من مُريدي الشيخ.
كان يلتقي بمُريديه في السويقة. يعفيه الزحام من الأعين الراصدة والآذان المتنصِّتة. وكان يحرص على أداء الصلوات الخمس في زاوية أول السويقة. أمَّا صلاة الجمعة فيسعى لأدائها في الجامع الأزهر. جماعاتُ المصلين تفترش الأزقَّة المحيطة بالجامع. يتلقون كلامه كأنه السِّحر. يعيب على موظفي أمير المؤمنين أنهم يفعلون ما لم يَقضِ به الله.
قال المعلم: ألَمْ يكن ابن عمَّار أستاذَه؟ ألم يمنحه الأمان؟
قال الشيخ مصابيح وهو يتأمل ندبة عميقة في خدِّ الديري، حَدسَ أنها من ضربةِ سيف، أو طعنةِ خنجر: كان برجوان وصيَّه وأستاذَه، لكنه عامَلَهم بالغدر الذي علَّمه إياه، وعامله الناسُ به!
قال الرواة إن الشيخ مصابيح كان يعمل سقَّاء في الجامع العتيق. وكان من مُريدي الشيخ معتمد الدمنهوري. يجلس إليه، بمفرده، ومع الجماعة. يُخلص في تلاوة القرآن، وقراءة الأذكار، والاستماع إلى الدروس الدينية. يُنصِت إلى دروسه في فقه الدِّين، وفي معنى العدل، وواجبات الحكَّام، وحقوق المحكومين. يبحث عن القراءات التي يدلُّه عليها. تبحر في علوم التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان. ما يستعصي عليه فَهْمه يوضِّحه له منير أبو المجد النسَّاخ بسُوق الورَّاقِين. قرأ في الفقه والحديث واجتهادات الأئمة الراسخين، وكان كثيرَ الحفظ، كثيرَ الرواية أيضًا. استضاء بنور العلم؛ فصار بَعيدَ النظر والرؤية، واستقرَّ في يقينه أنَّ العلم بلا قيمة ما لم ينقله المرءُ لغيره.
أدرك — بكلمات الشيخ — أنَّ الفقه الديني سبيلُ المرء إلى الحياة الآخرة. أما الحياة الدنيا، فلها طريقٌ أخرى يجب على سالكها أن يتوخى الحذر، وأن يفطن إلى المزالق والعثرات، ويتوقع الغدر وفقدان العدالة.
روى الشيخ مصابيح لخاصةِ مُريديه أن الشيخ معتمد الدمنهوري ظَهرَ له في المَنام، ليلةَ قتله بتدبير ابن عمَّار.
قال الدمنهوري: يا مصابيح … ثأري أمانةٌ في عنقك!
لم يكن يعرف أنه رأى رؤيةَ العين ما توهم أنه رآه في المَنام.
بدا الشيخ مصابيح — من يومها — كأنه قد تحوَّل عن مهنته. الْتزم العزلة، وفرَّغ نفسه للعبادة، والتهجد، وأداء الفرائض. إذا ترامى صوتُ المؤذِّن، ترك ما بين يدَيه من أعمال ومهام، وانصرف إلى تأدية الصلاة. وكان يُداوِم على الصوم كُلَّ إثنين وخميس، على توالي الأيام. وقيل إنه كان يمتلك عصا النبي صالح، تدور مع الشمس، وفي اتجاهها. يعرف الوقتَ من تحرُّكها، فيؤدي كلَّ صلاة في وقتها.
اعتاد الناس رؤيتَه وهو يجلس على مصطبة لِصْق الجدار، خارج أسوار القاهرة الشمالية. يتحلَّقون حوله. يواصِلُ الحكيَ والكلام، ويستعيد الواقفون ما يقوله. يسير في الأسواق والشوارع، وبين الدكاكين والبيوت. يتحدث في الناس، يقرأ عليهم ألوانًا من الرقائق والحديث والتفسير، محمَّلة بالإيماءات والتحريض. لا يقول شيئًا، ولا ينصح بشيء إلا إذا أكَّده بآيات القرآن الكريم وأقوال الرسول ﷺ.
كان يُطيل القيام والسجود والأدعية. يعلو صوته بما لم يألفه الناس في أدعية المشايخ الآخَرين. يطلب من الله أن يرحمه من عذاب الدنيا قبل أن يرفع عنه عذابَ الآخرة. وكان يقول في دعائه: يا رب، اهبط بالرحمة على عبادك في الدنيا، فويلاتها أقسى ممَّا تنذرنا بيوم الحساب العظيم. ويقول: دعوتنا ألَّا نُلقي بأنفسنا إلى التهلكة، فماذا نفعل حين تواجهنا تهلكاتٌ لا نقوى على ردِّها؟ ويقول: إني أثق في واسع رحمتك، لكنني أستغيث بك من ظُلم الآخرين.
قال الرواة إن الشيخ مصابيح كان يعهد إلى كبار مُريديه بما يحرِّضون الناس عليه، ثم يفرغ إلى مسائل الفقه. يدرس ويسمع ويُجيب. يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويُعنى بتحقيق وجوه الحلال والحرام، وإثبات حقوق الخواص والعوام، ويشرح للناس ما غمض من أمور دينهم. يقتصر عليها، فلا يبين أنه تَشْغله أمورُ الدنيا. قطَعَ العلائق بينه وبين حياة الناس. ربما استغرقَته ساعات وَجْد، ينشغل فيها بما لا يراه أحد، ولا يتبيَّنه مخلوق، يستوحي الغيب، ويتصل بعالمه، ويدرك مجاهيله، فلا شأن له بأحوال الناس، ولا بمشكلاتهم. ترك لمريديه تدبير المسائل الدنيوية، وأمور المعيشة، وإصلاح الأحوال.
عُرف عنه القسوة في صراحته، لا يداري ولا يداهن، ولا ينظُر إلى الأمور من زاوية المُجامَلة، أو الضَّعف، أو الخوف من ردود الأفعال. وكان إذا رأى ما يُنكره من آلات الملاهي والمجون وغياب النَّفْس، بادَرَ إلى تحطيمه. لا يعبأ بصاحبه، ولا إنْ كان في بيت كاتب أو قائد أو أمير.
وقال رواةٌ إنه ادَّعى الانجذاب ليُعلن رأيه، ليعبِّر عمَّا بداخله فيما يراه، دون خشية أذًى. هو يبصر ما لا طاقةَ لأعيُن الناس على مُشاهَدته، ويُنصِت إلى ما تعجز آذان البشر عن سماعه. انكشفَت له الغيوب، ورأى الملائكة رؤيةَ العين، واطَّلعَ على أرواح الأنبياء، وعايَنَ المعجزات التي خصَّهم الله بها. وقيل إنه كان على صلةٍ بالجن، يتحدث إليهم، ويُصدر لهم الأوامر، ينفِّذونها على النحو الذي يطلبه.
عمرَت مجالسه بالعلماء والفقهاء والزهَّاد. ازدحموا عليه، وتردَّدوا على بابه. تزايد أعوانه. عَهدَ بهم إلى منير أبي المجد. يجد في النُّساخ أشدَّ الناس حظًّا من العلم. هو يقرأ ما ينسخه، يستعيده إذا قرأه ثانية. تكثر قراءاته، وتتعدد قراءاته لكلِّ مخطوط يُعيد نَسْخَه. صار مُريدوه يفعلون مثلَ فِعله. يقفون في الطرقات والمقابر والجوامع والمدارس والأسواق. وكانوا يجتمعون في مغارةٍ بالمقطم، يخوضون — كما أبلغَت الأعين مقامَ الحاكم — في الفصول والأراجيف. ألقى الشيخ عصا المخالفة في قلوب العوام، وترقَّبَ النتيجة. يحركهم بنظراتِ عينَيه، أو بإيماءةٍ من رأسه، أو بإشارةٍ من يده. لَجَئُوا إلى الحروف والرموز؛ فلا تفطن الأعين إلى معانيها. وكان يحرص على بثِّ أعوانه في نواحي الطُّرق، للتنبيه — بإشارةٍ ما — إلى الملامح التي تُثير التوجُّس.
انتشر مُريدوه وأتباعه في كل مكان، في مصر والقاهرة والأقاليم، يذيعون أفكاره وآراءه ودعواته.
فُتن به الناس افتتانًا عظيمًا. وجدوا في كلماته ما يشير إلى انفراجةِ الباب. لم يعُد مقصدًا لطلاب العلم وحدهم، وإنما قصَدَه الساعون إلى الخلاص ممَّا هم فيه. وجَدُوا في أقواله معنًى جديدًا للحياة. لم تَعُد الحياة توقعًا بالشر والأذى. ثمة ما يملؤها بالإثارة والأمل والخيال وتوقُّع الخير.
٦
قال الرواة إن الحسن بن عمَّار قُتل في ظروفٍ غريبة. زعيم كتامة وأمين الدولة السابق، قتَلَه الغلمان التُّرك وهو يغادر قصرَ الحضرة.
أذِنَ له الإمام بأن يركب إلى القصر. عند انصرافه، فاجأه الغلمان، فقتلوه، وحملوا رأسه إلى الحاكم داخل القصر، وقتلوا أعوانَ ابن عمَّار من شيوخ كتامة.
نهب العامَّةُ قصرَ ابن عمَّار. كان يضمُّ الكثير من أواني الذهب والفضة والجواهر والعنبر والطيب والثياب والفرش والمصاحف والكتب والصياغات الذهب والفضة والسراويل الديبقية والأشربة والأطعمة والبغال والنُّوق. انتزعوا الجوهر الذي رُصعَت به جدران الرخام المزدانة بالذهب.
بدا المصير أمام الكتاميين ماثلًا في الأفق. قَدمُوا إلى القصر الفاطمي، كاشفين رءوسهم، مستغيثين به، طالبين العفوَ والأمان.
الإمام إذن هو الذي دبَّر الاغتيال، وهو الذي ترقَّب الرأس المفصول.
لماذا؟
تحديد الباعث مجرد تخمين.
قال رواةٌ إن أمير المؤمنين لم يفعل إلا أنه استردَّ ما تصوَّر ابن عمَّار، ومن بعده برجوان، أنه لم يعُدْ في قبضته. استردَّ إرادته وحُكمه، ودانت له مقاليدُ الأمور.
وقال رواة إن الحضرة عُنيَ بإزاحة كلِّ ذوي النفوذ. خشي انتقامَ ابن عمَّار لعزله وهو أقوى زعماء كتامة والدولة.
وقيل ما يصعب تصديقه ولا ذِكْره.
لكنَّ قتل ابن عمَّار حلقة في سلسلة عمليات القتل. أمَرَ غلمانه، فنفَّذُوها، أو نفَّذَها بنفسه. آخِر مَن قتَلَهم أمير المؤمنين علي بن عمر العداس، أقامه الحضرة للوساطة، ثم سخط عليه، وقتله، وأحرقه بالنار في السنة نفسها.
تحدَّث الشيخ مصابيح عن عبادة الحضرة لكوكبَي زُحل والمريخ، فهو يسفك الدماء تقرُّبًا لهما.
قال إن الشيطان ظهَرَ للخليفة في صورة زُحل. ملأ حجرةَ نومه بوجوده. سأل الإمامُ، وأجاب الشيطان المتخفِّي في هيئة زُحل. أمَرَ الشيطان الحضرةَ أن تُذبح له القرابين. تحدَّث الشيخ عن عفاريت القتلى التي تصرخ كلَّ ليلة في بقعة الدم، وعن الأرواح التي تعلو فوق الرءوس، في البيوت التي أُعدم أصحابها، تغنِّي، وتؤدي رقصات الموت. لن يغيب الرقص، أو تسكت الأغنيات والصرخات إلا إذا حصل الموتى على ثأرهم. الثأر في رقاب ذويهم، ومَن صمتوا عمَّا لَحقَ بهم.
قال الأباريقي: إنه أسوأ من كلِّ موظَّفيه … فهو الذي يستطيع أن يدفعهم إلى الجريمة، أو يمنعهم من ارتكابها.
هزَّ الشيخ مصابيح رأسه دلالة الموافقة: أقسى الأمور أن تفعل ما تريد دون أن تتوقع ردَّ الفعل.
وداخَلَ صوته أسًى: الرجُل يَقْتل وهو يدرك أنه لا أحدَ يستطيع أن يصل إليه ليقتله!
قال الرواة إنَّ الشيخ مصابيح اطمأن إلى نبوءة عجوز في تلال الدرَّاسة، بأنَّ الإمام يمضي في نفقٍ مُظلم، وأنَّ الموت هو النهاية التي تترصده في نهاية القبو: ثِقوا أنَّ الرجُل سيُقتل!
٧
غلب على الناس الخروج في الليل للعمل، وللفرجة.
جعل عطف أمير المؤمنين من الليل للناس حياةً ثانية. يلوذون بلُطف جوِّه من حرارة النهار، أو يُطيلون أيامهم، فهي تتصل. تنشط الأعمال والمعاملات، وتُنفق الأموال الكثيرة في المآكل والمشارب والغناء واللهو. أمَرَ الإمام الناس بالوقيد. صار الليل نهارَ القاهرة والفسطاط؛ الأسواق والقياسر تسطع فيها أضواء القناديل والوقود والشموع الكبيرة حتى انبلاج الصُّبح. تزينَت بأنواع الزينة. غصَّت بأنواع المأكولات والألبسة والمعاملات ووسائل البهجة والفرح. أمير المؤمنين — بمفرده أو في موكبه — يقضي معظم ليله في جولات بالشوارع والأزقة. يشقُّ طريقه وسط الزحام، لا يصدُّ أحدًا، ويخاطب الجميع. حين منع الجندُ اقترابَ الناس من أن يصلوا إلى حيث يركب، زَجَرهم الإمام، وقال: لا تمنعوا أحدًا.
أمَرَ بتعليق القناديل على أبواب الدُّور والدكاكين، وفي جميع الطرقات، وبالاستكثار من إيقاد المصابيح في الشوارع والطُّرقات، وأن يحمل الناس المشاعل والشموع والفوانيس في الأسواق. وأمَرَ بكَنْس الشوارع والأزقَّة وأمام أبواب الدُّور، وحَفْر الموارد.
أسرف الناس على أنفسهم، وجاوزوا الحد. غلب النساء الرجال، فهنَّ يقضين في الطرقات أضعاف ما ينفقنه داخل البيوت شاركْنَ الرجالَ البيعَ والشراء والفرجة والتنزه وهنَّ في حال التبرج. نشأ من الزحام المختلط ما يعيب؛ أهملوا المعاملات، وكشفوا ستر الحياء، وانشغلوا بالزينة واللهو والمجون، ومالوا إلى التهتك والخلاعة، وكثر هواة الحظِّ والائتناس، وتظاهروا بكل قبيح. وتجاهَرَ البعض بالمُسكرات، وأفرطوا في التعاطي.
أصدَرَ أمير المؤمنين سجلًّا بمنع خروج النساء من البيوت بعد العشاء، ومنع الرجال من الجلوس — أو الوقوف — داخل الحوانيت، فهي تقتصر على البيع والشراء. ثم أبطَلَ كلَّ المعاملات ليلًا، وعادت القاهرة إلى مألوف حياتها.
٨
قال الرواة إنَّ طارقًا طرَقَ باب الحجرة التي أقام بها أبو علي بن الحسن بن الهيثم في خان الياسمين.
قال الطارق: صاحب مصر أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله على الباب يطلبك.
نُقل إلى أمير المؤمنين قولُ ابن الهيثم: «لو كنتُ بمصر، لعملتُ في نيلها عملًا يحصل به على النفع، في كلِّ حالةٍ من حالاته، من زيادة ونقص، فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عالٍ، وهو في طرف الإقليم المصري.»
سيَّر إليه الإمام — سرًّا — جملةً من مال، وأرغبه في القدوم إلى مصر.
أتى ابن الهيثم إلى القاهرة ومعه كتاب فيه حيلة إجراء نيل مصر عند نقصانه في المزارع، وفكرة بناء سدٍّ على النيل، اختار له موقعًا في أسوان.
كان النيل قد قصر عن الصعود. لم يبلغ ارتفاعه أكثر من خمس عشرة ذراعًا. لجأ الناس إلى تخزين الطعام، وانعدمَت الأقوات، وارتفعَت الأسعار. أمَرَ أمير المؤمنين بتثبيت الأسعار، وإنزال عملةٍ جديدة، مرتفعة القيمة، يتداولها الصيارفة. تردد على البيوت، ووزَّع الأموال على الناس بنفسه. شدَّد فلا يُباع القمح إلا للطحَّانين. وأمر الجند فكبسوا الحواصل والبيوت. ما يجدونه من قمحٍ يوزِّعونه على الطحَّانين بالسعر الرسمي.
خرج أمير المؤمنين للقاء ابن الهيثم. وقف الإمام عند قرية الخندق في الطريق إلى القاهرة. لم يُظهر التأفُّف ولا الملل حتى وصَلَ ابن الهيثم في جُبَّته الواسعة وعمامته المتعدِّدة الطيَّات. اخترق الموكب باب النصر؛ تأكيدًا للإجلال والتكريم. بعث معه جماعة من الصُّناع إلى موضع الجنادل الستة؛ ليختبر إمكانية التنفيذ. نشَرَ العالِم أوراقه، وتعرَّف إلى المواضع على الطبيعة، واستمَعَ إلى آراء الناس في المدينة الجنوبية. تبين له — في نهاية الأمر — أنه لن يستطيع أن يحقِّق ما أتى به إلى مصر من أجله.
قال الرواة: ألغى الحضرةُ مواعيدَه، واستقبال الوزراء والأمراء والولاة. خصَّص اليوم بكامله للعالِم البصري. يستعيد مقطعات النيل، يتتبع الشعراء فيها أحوال النهر من زيادة ونقص، ووفرة وجدب.
قال الإمام: كيف رأيتَ أسوان؟
وهو يظهر الاحترام الزائد: تحيا باطمئنان في ظِل رعاية مولاي أمير المؤمنين.
أشاح الإمام بيده في عدم اكتراث: لا أسألك عن أحوال البلد … إنما أسألك عن الموضع الذي أرسلناك إليه … هل يتفق مع الفكرة التي دعوتَ إليها؟
وهو يمسد لحيته القصيرة: أخشى أن ما خطَرَ لي يصعب تنفيذه.
غرز في وجهه عينَين متشككتَين: لماذا؟
ظلَّ ابن الهيثم صامتًا. خشيَ لو تكلم أن يُخطئ.
أعاد أمير المؤمنين السؤال: لماذا؟
قال ابن الهيثم: أسباب في طبيعة المنطقة تجعل التنفيذ متعذِّرًا.
أغمض الإمام عينيه ليستوعب معنى الكلمات: هل تغيب هذه الأسباب عن فَهْمنا؟
غالَبَ ابنَ الهيثم شعورٌ بالعجز: إنما هي اختلاف بين ما خطَرَ لي، وما رأيتُه من الظروف الطبيعية.
أردف في لهجة مهوِّنة: إرادة الله أن يصير أمْرُ النيل إلى النهر نفسه من زيادةٍ ونقصان.
ثم وهو يجري بلسانه على شفتَيه، كمَن يعاني العطش: هذا الكتاب فيه حيلة إجراء النيل عند نقصانه.
وضَعَ الحضرة يده — في ودٍّ — على كتف ابن الهيثم: إنما أريد بعلمك أن أقطع دابر المجاعات عن مصر.
ثم وهو يشبُّ بصدره إلى الوراء: تصورتُ أن لديك مشروعًا يحصل به النفع في كل حالة من حالات النيل زيادةً ونقصًا.
– ما رأيته يخالف ما بأوراقي وذهني من أفكار أتيتُ بها.
وضيَّق عينَيه: عندما سِرتُ إلى الإقليم بطوله، ورأيتُ آثار مَن تقدَّم من ساكنيه من الأمم الخالية، وجدتُ أنها على غايةٍ من إحكام الصنعة وجودة الهندسة واشتملَت على أشكالٍ سماوية ومثالاتٍ هندسية وتصويرٍ مُعجِز. أيقنتُ أن الذي أقصده ليس بممكن؛ فإنَّ السابقين لم يعزب عنهم عِلْم ما علمتُ، ولو أمكن لفعلوا.
حدَّجه أمير المؤمنين بنظرةٍ مُستفهِمة: كأنك اكتفيتَ بالحدس والتخمين.
– بل وصلتُ إلى الجنادل قِبَلي أسوان. موضع — كما تعلمون — مرتفع، ينحدر منه ماء النيل. عاينتُه، وباشرتُه، واخترتُه من جانبَيه. لم أجد أمْرَه يمشي على موافقة مرادي، وتحقَّق لي الخطأ عمَّا وعدتُ به.
بدا الإمام في جلسته فوق الحمار أعلى من ابن الهيثم القصير القامة بالفعل. صعد ابن الهيثم على دكَّة عند باب الخان.
نظر الحضرة في الكتاب: أخطأت! … إن مؤنة هذه الحيلة أكثر من منافع الزرع!
ثم وهو يعدل العباءة فوق كتفه: الْزم موضع نزولك حتى نفيد ممَّا قد يفتح الله به عليك في أمور أخرى.
ومضى.
٩
دَلفَ من بوابة حمَّام السيدة العمة. بوابة ضيِّقة زينَت حوافها بزخارف ومقرنصات. لاحظ خلو الواجهة من منديل الكتان. عرف أن هذه فترةُ الرجال، فلا يُؤذَن فيها للنساء بالدخول.
طالَعَه في المدخل رجُل في حوالَي الستين. تركت الأعوام تأثيراتها على جسده وملامحه، فهو أقرب إلى البدانة، ووجنتاه متهدِّلتان، وحركاته بطيئة، وأحاطت التجاعيد بالوجه الهضيم، وحول العينَين والشفتَين، وافترَّ فمه عن أسنان تساقَطَ معظمها.
خمن أنَّه المشرف على الحمَّام. تلقَّى منه ما يحمله من نقود. مضى إلى بهوٍ فسيح. ثم إلى صالةٍ واسعة مكسوَّة بالرخام، تقابلَت في جنباتها المصاطب. في الوسط ردهةٌ مبلطة بالفسيفساء، يتوسطها فسقية من الرخام، يتوسطها تمثال لأسدٍ تتدفَّق منه المياه. وعلى الجانبَين إيوانات بها مصاطب مغطاة بالحصير. في منتصف الجدار، رسمٌ تآكلَت ملامحه بتأثير البخار المتصاعد من سخونة المياه، وإن تناثرَت ملامح ناقصة لأعيُنٍ وأنوف وأيدٍ وأقدام وزخارف نباتية.
أشار الرجُل، فمضى إلى الباب الأول. قاعة صغيرة مربَّعة، لامسَته حرارة هادئة، مضى فيها إلى بيت الحرارة، توضحَت فيه السخونة. قاعة تعلوها قبَّة، مبلَّطة بالفُسيفساء. بها أربعة إيوانات، على هيئة مقاعد في أرضية القاعة. اتجه — بعد ذلك — إلى المغطس. أحواض عميقة، مربَّعة، مملوءة بالماء الساخن.
قال محروس الأباريقي عريف مهنة السقَّائين: أصبحتُ أبًا منذ شهر.
وبدت السخرية واضحة في نبرات صوته: شغلني أن أستمتع بالطفل قبل أن يمارس الخليفة هوايته في قتله … أو قتلي.
وأطلق ضحكةً قصيرة، مرتبكة: لم تكن تشغلني الحياة ولا الموت.
وأسبل جفنَيه: يهمُّني الآن أن أحيا من أجله.
هزَّ المدلكاتي خضير المعلوف رأسه في أسًى: أعطى الرجل أذنه للوشايات، تُملي عليه قراراته.
شكا الأباريقي من أن امرأته تهجر فِراشه، وترفض مداعباته وطلبه لها. لا تتصور أنها تلد أبناءً ينشَئون يتامى، أو يقتلهم السلطان.
وشاعت في صوته نبرةُ أسًى: إنه يقضي على المَلل بقطع الرقاب، وسَمْل الأعيُن، وقَطْع الآذان، وسَلْخ الجِلد.
قال المعلوف: اصبرْ على صاحبك السَّوِّ … يا يرحل يا تجيله داهية.
قال الأباريقي: الغريب أننا نأمن على أموالنا في عهد الحاكم … لكننا لا نأمن على أرواحنا.
قال الرواة: عانى الناس تناقُضاتِ أحكامه؛ عزَلَ الحسينَ بن النعمان عن القضاء. شغَلَ رئاسةَ القضاء ومنصب داعي الدعاة. ظلَّ الإمام يُوليه ثقته، ويدعم مكانته، ويندب جماعةً للركوب معه في كلِّ مجلس. شجر خِلاف بين قاضي القضاة الحسين بن النعمان ومُتولي المظالِم عبد العزيز بن محمد بن النعمان. عانى المتقاضون تأثيراتِ الخصومة. بلَغَ أمير المؤمنين ما جرى. أخفقَت محاولاته في إصلاح ذات البين، حتى تغيرَت نفسه. عزل الحسين، وعهد إلى عبد العزيز بمنصبه، إضافةً إلى ولاية المظالم، وخلع عليه. ناله — بعد ذلك — غضبه؛ فقتله، وأحرق جثته.
لم يكن الأباريقي يَعيب على الإمام محاولاته لإقرار العدل، وإنما كان يَعيب وسائله لإقرار ذلك العدل. توالَت حوادث القتل بما يصعب حصره أو متابعته. أخذ موظفيه بالظنة، وأضرَّ بهم على التهمة. قُتل الكثير من الوزراء والمشايخ ورؤساء القبائل والقضاة والأعيان والوجهاء والخاصة والعامة. لم يَسْلَم من القتل حتى أقربُ الناس إلى الحضرة من أقاربه وخواصه ووزرائه وكتَّابه وغِلمانه. واجهوا المصيرَ القاسي بريبٍ وشكوك واتهامات بالخروج عن السجلات والأحكام. قتل الإمام مؤدِّبه أبا التميم سعيد بن سعيد الفارقي وهو يسامره في مجلسه. وقتل ابنَ أبي نجدة مُتولي الحسبة. كان بقَّالًا، فلمَّا تولَّى الحسبة أساء معاملةَ الناس، وصادَرَ التجَّار، وجبى الأملاك، وأخذ التركات والجوالي، واستولى على غلَّات البلاد. عَظمَ أمرُه، واستفحل شأنُه لعدم نظرائه، وذاع صيته. بالَغَ في التنعم. حتى مشيته صارت أقربَ إلى الاختيال. اقتنى الطير والحيوان والزواحف. شيَّد لها أماكن خاصة تحيا فيها، وابتاع الخصيان، وغالى بهم، وصيَّرهم لخلوته، واتخذ الجواري لإنجاب الأبناء، وللذة الجسد، وللخدمة. فرق بين كل جارية وأخرى. السوداء تختلف عن الفارسية، وكلتاهما تختلفان عن الرومية. أمر الإمامُ بإيداعه السجن، ثم أمَرَ بقطع لسانه ويده، ثم بضرْبِ عنقه. وقتل أبا علي الحسن بن عسلوج المباشر لشئون المال، وأحرقه. تحدثَت الأعين عن فساد مباشرته لوظيفته. ثم قتَلَ وزيرَه فهد بن إبراهيم النصراني. قيل إن الإمام أمَرَ بقتله في مؤامرةٍ أجاد نسْجَ خيوطها ابن العداس والي ديوان الخراج، وأبو طاهر النحوي والي ديوان الحجاز. وَشَيَا بفهدٍ عند الحاكم، وتحدَّثا عن الثروة التي تضمنَت الأموال والجواهر والعبيد والإماء والخيل، والتحف والذخائر التي لا تُقدَّر بثَمَن، وما يصعب حصْرُه من الصحاف والمشارب والأباريق والقدور وأصناف الديباج والطِّيب وأحقاق الذهب. وقيل إن الحاكم طلَبَ منه أن يعتنق الإسلام بعد أن أمضى في وظيفته ستَّ سنوات. رفض؛ فقَتَله الحاكم. وقيل إنه لم يقتله لنصرانيته، وإنما لأنه أسرف في الأخطاء والتصرفات الشريرة، وقتَلَ أبا الحسن بن عمر العداس بعد أن خلع عليه، وأمَرَ بأبي غالب شقيق فهد بن إبراهيم، فقُتل، وأحرق جسده لأقوالٍ نُقلَت عنه، وقتَلَ الحسين بن طاهر الوزان بعد أشهُر من إقامته في النظر والسفارة. اتهمه بأنه استولى على ما في بيت المال حتى نفدَت الخزائن، وضيَّع الجواهر والنفائس والمواريث، وأنه يبذل الأموال في اقتناء الجواري والعبيد، يُلبسهم الديباج ومناطق الذهب، وقتل أبا طاهر محمود بن النحوي متولي أعمال الشام لشدة ظُلمه. سلَخَه، وحشا جِلده تبنًا، وقتَلَ صاحب المِظلَّة الخادم الصقلبي زيدان؛ لإعلانِ اعتزازه بأنه يمتلك ألفَي جارية وطأهنَّ جميعًا، وقتَلَ الفضل بن صالح أعظم قادة جيشه، والشاعر علي بن المندوفي. أمَرَ بسلِّ لسانه. عانى المشاعلي في سلِّ اللسان، وعانى الرجُل في التألم، حتى مات. وقتل العسكري منجِّم الحضرة الخاص. غاظه تشوُّش نفسه، فتصرَّف كأنه الحضرة. كان يحبُّ المديح، ويُجيز عليه الأموال والهبات والخلَع. وقتَلَ سهل بن كلس أخا الوزير يعقوب، والقائد أبا عبد الله الحسين بن الحسن البازيار، والمقداد بن جعفر، والأخوَين عليًّا ويحيى ابنَي سلمان، وقتَلَ الكثير من الوزراء والكتبة والولاة والقضاة والعلماء والوجهاء والتُّجار وأولاد الناس والغلمان والخاصة والجند.
سار الكتامية إلى باب الفتوح. كشفوا رءوسهم، واستغاثوا بعفو أمير المؤمنين. تأثر الإمام من مسكنتهم. كتب لهم سجلًّا بإعلان العفو. قُرئ في القصر والجوامع، وأعادهم إلى رسومهم ومكانتهم. لكن النهايات الدموية ظلَّت في أفق الجميع.
عانى الناس في مصر والقاهرة رعبًا لم يعانوه من قبل. تعدَّدَت البواعث التي تُفضي إلى نهايةٍ واحدة. ربما تزهق الحياة دون إعلانٍ عن الذنب المُقترَف. اعتاد الناس مشاهدةَ الرءوس معلَّقة على خوازيق، في تِلال الدرَّاسة، وخارجَ أبواب القاهرة. ذوَتْ مشاعر الدهشة للمشهد القاسي حتى تلاشَت تمامًا. لم يعُد ما يلفت النظر، أو يثير الدهشة، وإن لم يترك الخوف من القتل موضعه في النفوس. صار القتل هدفًا في ذاته. يقتل لأنه يريد أن يقتل، وإن لم تمتدَّ يده إلى مال أحد من رؤساء دولته، بعد أن قُتلوا، بأمرٍ منه، أو قَتْلهم بيده.
قلَّل من تردُّده على أُمِّه، وتظاهَرَ بانشغاله عن استقبالها. كان يحبها، ويخشى — في حال موته — غدْرَ ستِّ الملك بها. يُغضبه أنها تحنو عليه كطفل. تكثر من النصائح والتوجيهات، والتدخل في أمور الحكم، وتُظهر الإشفاق. قتْلُ ابن عمَّار وبرجوان، لأنهما فرضا وصايةً ثقلَت عليه، هو ما لا يستطيع أن يفعله مع أمِّه. اكتفى بمطِّ المسافة بينها وبينه، فيصعُب — إلا بالمصادفة — لقاؤهما.
كان لعبه فوق الشجرة آخِر عهْدِه بالطفولة. منذ ألبسه برجوان العمامة صار مسئولًا عن أمور البلاد.
تعالت المناشدات، والْتماسات العفو.
صدر — حتى لا تصبح الأوضاع فوضى — ما طلَبَه الناس من سجلات الأمان. قُرئت السجلات في القصر والجوامع، وفي الأماكن التي يعيش فيها الديلم والنقباء والرُّوم المرتزقة والغلمان الحاكمية والشرابية والمرتاحية والبشارية وسكان الأحياء وأهل الحِرف والأسواق، وطوائف العطوفية والجوانية والجودرية والمظفرية والصنهاجية والميمونية، وأصحاب الإقطاعات والمرتزقة.
صارت لأمير المؤمنين أطوارٌ وخواص مُدهِشة، ونزعات لا قِبَل لأحدٍ على تصوُّرها. أكثَرَ الركوبَ إلى الأسواق في الليل والنهار. أصدَرَ سجلاتٍ بمنع الناس من أكْلِ الملوخية والترامس والجرجير والدلينس والمتوكلية، وتحريمِ ذبح الأبقار السليمة إلا في أيام عيد الأضحى، لا يُذبح إلا ما كان بعاهةٍ أو لا يصلح للحرث، وتحريمِ بيع الفقاع وعمله على أيِّ نحو، ومنعِ صيد السمك الذي بلا قشر، أو بيعه، وتحريمِ دخول الحمَّام بلا مئزر. أمَرَ بإيقاد القناديل في الفسطاط والقاهرة. ألزَمَ به أصحابَ الدُّور والدكاكين، وأمَرَ به على أبواب الشوارع والأزقَّة. أمن التجَّار أذى اللصوص. ألِفُوا ترْكَ دكاكينهم مفتوحة.
رُوي أن كيسًا من النقود به ألف دينار، وقع بالقرب من جامع ابن طولون. ظلَّ الكيس في موضعه أسبوعًا، لا يجرؤ المارَّة على أخذه، حتى عاد إليه صاحبه، فأخذه.
١٠
ركب القاضي عبد الحكم العلامي من داره بجوار الجامع الجديد من الناحية البحرية، بعد صلاة المغرب.
تقدَّم الموكب الهائل جماعةٌ من علماء الدِّين، في أيديهم الشموع، ووِجهتهم المنظرة التي يجلس فيها أمير المؤمنين الحاكم. مضى الموكب ناحيةَ باب الفُتوح داخلَ السُّور الفاطمي الكبير. بلَغَ بابَ الزمرد من القصر، في رحبة العيد. الشهود وراء القاضي، وبين يدَيه الشمع المحمول مُوقدًا من خزانة الحضرة. في كلِّ جانب ثلاثون شمعة. وعلَت أصوات المؤذِّنين بذِكر الله، وبالدعاء للخليفة والوزير.
وصل الموكب إلى القصر. خطَبَ — أمام بابه الكبير — أئمةُ جوامع القاهرة ومصر الكُبرَى، وعلماء الدِّين عن فضائل ليالي الوقود الأربع المبارَكة في أول رجب، ومنتصفه، وأول رمضان، ومنتصفه.
جاء الحاجب من داخل القصر بإذن الانصراف.
مضى الموكب — بنفس هيئته، عبْرَ الشوارع — إلى دار الوزير. أذن لهم بالدخول. سلَّموا على الوزير الحسين بن جوهر، وألقى الخطباء الثلاثة كلماتٍ تليق بالمناسبة، ودعوا للوزير، ثم انصرفوا.
تعددَت مجالسه: مجلس لحوائج السلطان، ومجلس لأصحاب الحديث، ومجلس لأصحاب المسائل، ومجلس لحوائج الناس. ينادي الحاجب على أرباب الظلامات. يدخلون فُرادى أو جماعات. يبلغ العدد حدَّ الإحاطة بالدعوى أو الشكاية أو المظلمة. يجيد الإنصات. يرجع إلى العلماء في مجلسه. يُبدون آراءهم مشفوعةً بقناعات. لا يقضي بأمر دون الرجوع إلى المشورة وطلب الرأي، ولا يأخذ الجاني إلا في جنايةٍ ظاهرة، بالعديد من الآراء المتفقة. وكان رأيه — في النهاية — هو الفيصل.
أصدر سجلات تشتمل على الضمانات التي تكفل الحد من طغيان الموظفين، وسوء تصرفاتهم، وإسرافهم في الإنفاق من بيت المال.
شدَّد في توطيد الأمن والنظام، وقمْعِ الفساد والفوضى. أمَرَ بقطع العدوان، ورفْعِ الظُّلم، ونفي الأذى، وعمَّرَ الريف، وأصلَحَ الترع والجسور، وعُني ببناء المساجد والربط والمدارس، وعيَّن مَن يقوم بخدمتها. سامح الناس بالبواقي، وأسقط الرسوم الجائرة. رسم بإنشاء الزوايا التي تأوي الفقراء والمحتاجين وأصحاب العاهات والمطلَّقات وكبار السن والعميان، وبعث بالصدقات إلى البيوت الفقيرة، وبذل الخِلَع والأنعام، وعمَّت منحه وهباته جميعَ الناس، واعتاد الجلوس — في وقت معلوم — في شباكٍ بالقصر الفاطمي، يوزِّع الصدقات على هيئة أموال وكسوات. أمَرَ، فأغلقَت دكاكين سوق الشماعين، التي يجلس فيها — ليلًا — زعيرات الشماعين المعروفات.
عُرف عنه إدامة الصوم بالنهار، والتهجد بالليل، وكثرة البِرِّ والصدقات، وقضاء الوقت كلِّه في صالح الناس. لم يكن يردُّ أيَّ متظلِّم، ويفتح أبواب بيته لمَن يطلب المساعدة، أو يسأل الحاجة. وإذا خرج للنزهة والترويح عن النفس، أحاط به ذوو الشكايات والمتظلِّمون، لا يُبدي التململ ولا الضِّيق وهو يقرأ عرائضهم وظلاماتهم. ويأذن لهم بالسعي إلى أرباب الوظائف، من بابه، وبواسطته. وعُني بمراقبة كبار الموظفين أشدَّ المراقبة، والتحري عن سلوكهم. رَصدَ الأعيُنَ عليهم، ينقلون إليه كلَّ ما يصدر عنهم من أقوالٍ وتصرفات.
جعَلَ لنفسه أعوانًا، ينفِّذون أوامره. رتَّب عَريفًا على كل حِرفة، وفي كل سوق، يقبل قوله في كلِّ شيء، وإن اشترط فيه أن يكون أمينًا، ثقة، عارفًا بأصول الصنعة وأسرارها. يحفظ لأجل صنعته ما يجب أن يحفظ من أمورهم، ويُجري أمورهم على ما يجب أن تجري عليه. يطالع المحتسب بأخبار أهل صنعته، ويتفقَّد ما يُجلب إلى السوق من السلع، وعمليات البيع والشراء.
اكتفى التجَّار بإسدال الستار على دكاكينهم، لا يخشون خطر اقتحامها، ولا سرقة شيء منها.
تأكيدًا لمكانة المحتسب، وما ينتظره على يدَيه من خير للناس؛ فقَدْ خلع عليه في جامع الأنور، على المنبر.
حين ضُبط المحتسب الجزار سعيد الفارسي يبيع لحمًا مغشوشًا، أمَرَ ابن جوهر أن يُجلد الرجُل أمام دكانه، وسْطَ جيرانه وزملائه من التجَّار. أهمل الهمسة المحذِّرة بأنه خال فهد بن إبراهيم. نحن مجتمعُ العدل، ومَن يخطئ فلا بدَّ أن يخضع للعقاب. يقتصر على ما حدَّدته شريعة الإسلام. لكنَّ الجند أسرفوا في فِعلهم. وضعوا الرجُل في قلب رحبة باب العيد. انتزعوا لحْمَ جسده بكلابة محمَّاة بالنار. لامسَت الكلَّابة الموضع من الجسد، فعَلَت رائحةُ اللحم المحترق. وضعوه في حفرةٍ تتوسط الميدان. صبُّوا على جسده دلواتٍ من الرصاص المنصهر والزيت المغلي والشمع المشتعل.
كان فهد إبراهيم قد أفلح في تنظيم الدواوين. أشرف بنفسه على جميع وجوه الأموال والحسبة والسواحل والأعشار والجوالي والأحباس والمواريث والشُّرطتَين، واستحدَثَ وسائل غير مسبوقة في تحصيل الضرائب والمُكوس وجمْعِ الخراج. لم يكن يرتشي، أو يرتزق، أو يقبل الهدايا، أو ينفق دينارًا من أموال الخلافة في غير موضعه.
كان مجامِلًا. لا يتقاعس عن أداء واجب، ولا إغاثة ملهوف، ويشارك في الأعراس والعزاء وحفلات الختان وسبوعِ المولود وعودة الحُجاج. لم يكن يشعر مع موظَّفِيه بالكلفة، ويخالطهم كأنه واحدٌ منهم، وأنعَمَ عليهم، وكبَّرهم، وعظَّمهم، وأعطاهم. وكان يقصد — في بعض الأوقات — بيت أحد خدَمه، ليهنِّئه بمولودٍ جديد، أو ختان، وكانت هداياه إلى الجميع موصولة، وإن اكتفى — في مناسبات الوفاة — بواجب العزاء. لم تتحدث الهمسات عن ميله إلى اقتناء الجواري والعبيد، وعُرف عنه التعفُّف عن أموال الناس، والتورع عن قبول الهدية؛ لأن ذلك رشوة.
أنزله الناس من نفوسهم منزلةً كُبرى.
فسدَت الأمور على الكاتب عصام الدين الزعفراني، وضاع من يدَيه كلُّ ما كان يسعى إلى تحقيقه من فرص. أمَرَ أعوانه فترصَّدوا لابن جوهر في طريق المقابر أسفل المقطم. وثبوا إليه بالمقارع. ضربوه حتى كاد ينتهي. أمسكوا بكاحلَيه. علَّقوه في خُطَّاف، ورأسه إلى أسفل. ألقَوه في حفرةٍ أعدُّوها، وأهالوا عليه التراب. كاد يقضي نحْبَه، لولا أنْ أنقذه قارئ يتلو القرآن في حوشٍ قريب. هرع ناحية الأنين المكتوم، يخترق صمت الظهيرة. طوَّح كومات التراب بما خلَّفه الرجال وراءهم. ظهرَت الأصابع تهتز، وتشي بحياة صاحبها. أنعَمَ الحسين بن جوهر على القارئ مبارك السلامي، وجعله من خاصة أعوانه.
١١
مَن كان وراء قتل فهد بن إبراهيم، ثم من بعده علي بن عمر العداس الذي حلَّ محلَّه؟
ظلَّ فهد في منصبه ست سنوات، ثلاث منها في خدمة برجوان، ثم قتَلَ الإمامُ فهدًا. ثم قتل مَن حلَّ محلَّه بعد تسعةٍ وعشرين يومًا. قال الرواة إن الحضرة أنصَت إلى وشاية أبي الحسن بن العداس، فأمَرَ بضرب عنق فهد بن إبراهيم، وأحلَّ ابن العداس محلَّه.
لمَّا شاهَدَ الإمام ما عرضه غالب أخو فهد في سقيفة القصر من مال أخيه، سأل عنها. أنبأه الخدم بحقيقتها، فقال: إنَّا لم نقتله على مال.
وأمَرَ بردِّها إلى أولاد فهد.
ولمَّا جاءت الأنباء بأن أبا غالب تكلَّم، بما يُسيء إلى أمير المؤمنين، أمَرَ بقتله، وإحراقه.
ثم قتل الإمامُ — في الشهر التالي — أبا الحسن بن العداس، وأضرم فيه النار. اتهمَته الوشايات بأنه اقتطع لنفسه — منذ تولَّى منصبَ الوساطة — إقطاعاتٍ لا نهاية لحدودها، واستولى على ما ليس من حقِّه في ميراث رجُلٍ عن أبيه. اعترف القاضي بما فعل، وتذلَّل: العفو والتوبة.
أمَرَ الإمام به، فضُرب عنقه، وأُحرق.
ألِفَ أمير المؤمنين الحاكم التآمر، وانفرد الحسين بن جوهر بتدبير الأمور. رجَّح الرواة أن يكون أمْرُ القتل قد صدر بوشايةٍ من الحسين بن جوهر؛ لأن الحضرة ولَّاه الوساطةَ وحده بعد قتل ابن العداس. ثم عزله الإمام.
١٢
قال الرواة إن الإمام أمَرَ بقتل الحسين النعمان، وإحراق جثته. ظلَّ يشغل منصبَ القضاء خمسةَ أعوام ونصف. كان يجلس بين يدَيه في مجلس قاضي القضاة خمسةٌ من الحُجَّاب، اثنان بين يدَيه، واثنان على باب المقصورة، وواحدٌ يُنفِذ الخصوم إليه، فلا تتأخر العدالة أو تبطئ. ثم شجر خلافٌ بينه وبين متولي المظالم عبد العزيز بن محمد النعمان. لم يقف الحضرة على بواعث الخلاف، وإن تيقن أن وراءه سوءَ تصرُّف وفساد. كتب الإمام إلى الحسين النعمان بغضبه لمَا جرى، وأكَّد ثقته فيه، وأنه هو صاحب الرأي والتصرف في عمله. أمَرَ فلا يتقدَّم أحدٌ قاضيَ القضاة في مجلس، سواء كان من أرباب السيوف أو الأقلام أو أصحاب العمامة. ضعَّف له رزقه وصِلاته وإقطاعاته، وشدَّد عليه، فلا يأخذ درهمًا من أموال الناس، ولا يظلمهم. لكنَّ الخلاف بين قاضي القضاة ومتولي المظالم زاد اتساعًا، فلم يعُد من اليسير رتقه، وتشوشَت صورة الحسين النعمان؛ فعيَّن عبد العزيز بن النعمان في منصبه.
١٣
قال الرواة إن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أمَرَ بإنشاء شونةٍ كبيرة ممَّا يلي الجبل، مُلئَت بالسنط والبوص والحلفا.
اقتحم الخوف عمَّال الحاكم من الكتبة وأصحاب الدواوين والمتصرفين من المسلمين والنصارى وخاصةِ الناس وعامَّتهم. صدَّقوا الشائعة بأن الحاكم يَعدُّ لإحراقهم. زحفوا في جماعات حتى بابِ قصر الحضرة. علَتِ الأصوات بالاستغاثة، وطلبِ العفو. أذِنَ لهم الحسين بن جوهر بالدخول. تسلَّمَ منهم رقعةً يلتمسون فيها الأمان. عاد إليهم الحسين بموافقةِ الإمام على ما طلبوا، وأمَرَهم بالعودة إلى أعمالهم ودُورهم، وأنْ يأتوا في الصباح لتلقِّي سجلِّ العفو.
في اليوم التالي صدَرَ سجلٌّ لثلاث طوائف: المسلمين، المسيحيين، اليهود. لكنَّ الخوف انتقل كالوباء إلى العوام والخاصة على اختلاف طوائفهم؛ خرجوا بالاستغاثات وطلب الأمان، ومضَوا إلى قبر الخليفة العزيز بالله. انضمَّ إليهم التجَّار وأرباب المِهن والحِرف. توالت السجلات بالعهود والأيمان والمواثيق لكلِّ المهن والطوائف، وصدرَت سجلاتٌ لسكان الحارات، قُرئت على سكان الشوارع والعطفات والدروب والأزقة والخلاء، وعلى الباعة والمشترين والمارَّة في الأسواق: «هذا كتابٌ من عبد الله ووليه المنصور أبي علي الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين لأهلِ مسجد عبد الله: إنكم من الآمنين بأمان الله الملك الحقِّ المبين، وأمان جدِّنا محمد خاتم النبيين، وأبينا عليٍّ خير الوصيين، وآبائنا الذرية النبوية المهديين، صلى الله على الرسول ووصيِّه وعليهم أجمعين، وأمان أمير المؤمنين على النفس والأهل والدم والمال، لا خوف عليكم، ولا تُمدُّ يدٌ بسوءٍ إليكم، إلَّا في حدٍّ يقام بواجبه، وحقٍّ يؤخذ بمستوجبه. فلْيوثق بذلك ولْيعوَّل عليه إن شاء الله تعالى. كُتب في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، والحمد لله وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وعلى خير الوصيين، وعلى الأئمة المهديين ذرية النبوة، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.»
قال الرواة إن الإمام لم يكن جاوَزَ العشرين، لكنَّ تصرفاته أحلَّت الرعب في نفوس الخاصة والعوَام. توقعوا القتلَ في كلِّ لحظة، بصرف النظر عن وجود السبب أو غيابه. لم يسلَمْ أحدٌ من الخواص ولا العوام من القتل، ونقض سجلات الأمان التي أعلَنَ الْتزامه بها.
قال الشيخ مصابيح إنَّ اختفاء جثث القتلى، فلا يعثر لهم ذووهم على أثر، لأنَّ إهراق الدماء للتقرب إلى الكوكب زحل، وطالِعه المريخ. ما كان الحضرة يخوضه من أحاديث وهو يجلس — وحده — في الظلام، طرَفه المقابل شيءٌ متحرك، ينطق، فتغيب عنه ملامح البشر. يخاطبه الإمام بالقول: يا سيدي زحل! ولعلَّه — في تقدير الشيخ مصابيح — هو الشيطان نفسه، متشبِّهًا في صورة كوكب جماد، لا يتحرك ولا ينطق.
١٤
نقصَت مياه النيل. اقتصرَت الزيادة على ست عشرة ذراعًا وأصابع. أجدبَت الأراضي. تعطلَت عن الزراعة؛ فهَلكَ الزرع، ونقص المحصول، وعجزَت الحكومة عن جباية الخراج. حتى الماشية أصابها الهزال، ونَفقَ الآلاف دون أن يقوى أصحابها على فِعل شيء. قلَّ إلى حد الندرة، ثم تلاشى، قوتُ الناس من أنواع الحبوب، وسائر الخضروات، وما تُنبته الأرض. أضافَ انقطاع المطر إلى نقص النيل. بلَغَ القحط حتى الأماكن التي تعتمد على مياه الأمطار، وما يظلُّ منها في باطن الأرض. جفَّت الأعيُن والآبار، وعزَّت الأقوات والأدوية، وقلَّ وجودها، وعزَّ وجود الدواب، وهلكَت المراعي. ارتفعَت الأسعار، واشتدَّ الغلاء. شكا الناس من قلَّة الخبز وسواده، ومن غلاء الدقيق والأرز. انتقضَت الأعمال لتعدُّد الفتن، وكثرتها. ثم بطل البيع والشراء، وغلِّق أكثرُ الأسواق.
انشغل الناس بتخزين الغلال، واشتد تزاحمهم على الأفران، وبِيعَت الأراضي والعقارات بالأرغفة. عَملَ التجَّار حسابهم لمَّا تأخَّر النيل في الفيضان. قبضوا أيديهم على الغِلال، وامتنعوا عن بيعها حتى تزيد أسعارها، وعُنيَ كبار موظفي الدولة بتخزين السلع بما يزيد عن احتياجاتهم؛ فزادوا من تفاقُم الأزمة.
خرجَت النساء مُنشَّرات الشُّعور يلطمْنَ في الشوارع، ولاذ المئات بالجوامع والمساجد، يتضرعون إلى الله ليغفر زلَّاتهم وخطاياهم، يتشفَّعون بآل البيت، وبالأولياء. أمَّ الفقهاء وأرباب العمامة ومؤذِّنو الجوامع جموعَ المصلِّين في صلاة الاستسقاء.
لم يجد الناسُ وقتًا للتقاضي، فخلَت مجالسُ القضاة، ولم تعُد القياسر والخانات والوكائل تجِدُ مَن تُئويه. ضجَّ الناس، وابتهلوا إلى الله.
اجتمع الناس على أبواب القصور الفاطمية، وكثرَت رقاعهم. عَزَت رقاعُ الأعيُن إلى مقام أمير المؤمنين، شدَّةَ المعاناة، إلى ما استشرى في البلاد من أنواع الفساد والرشوة والبرطيل، وشراء الذمم والضمائر، وكثرة المصادَرات، واستلاب أموال الناس، وسرقة حقوقهم. أعرَضَ كبار موظَّفي الدولة عن مصالح الخَلق. مالوا إلى التغاضي لقاءَ شراءِ الذمم. فشا سوء التدبير، وفساد الرأي. عانى الناس كثرةَ المغارم، وتنوُّع المظالم. أغمض المحتسب — بالرشوة — عينَيه. سكت عن جشع التجار، ومغالاة أرباب الحِرف والصناعات في رفع أجورهم.
قَدمَ من القرى إلى القاهرة والفسطاط خَلقٌ عظيم، يَجْأرون من الجوع، ينشدون الطعامَ الذي يحفظ حياتهم. أخلى المُزارعون قُراهم، وتركوا زراعاتهم في الأرض، فهلكَت، وعمَّ الخرب مُدنًا وقرًى يصعب حَصْرها.
تجرَّأ الناس على كبار موظَّفي أمير المؤمنين، فذَهَب وَقَارُهم، وكثرَت حوادث الاعتداء على الأمراء والكتَبة. كَبسَ العامةُ القصورَ الفاطمية وهم يصرخون: الجوع … الجوع … نحن أحقُّ بسماط مولانا.
تصدَّى لهم الخدَم الصقالبة. تحمَّل المهاجِمون الأذى. هجموا على المطابخ والمخازن والأهراء. اختطفوا الأطعمة، وتقاتلوا. نهبوا كل ما وصلَت إليه أيديهم من الخبز واللحم والحلوى. حتى القصاع والأواني الفارغة عادوا بها إلى بيوتهم. لم يعُد في المخازن السلطانية شيء من الغلَّات، ولم يبقَ ما يُلتمس إخراجه للناس من المخازن.
هجَمَ عبيد القصور الفاطمية على سماط عيد النحر، فنهبوا جميعَ ما فيه. بلَغَ النهب الإسطبلات الملَكية، فنُهبَت حتى اختفى ما كان بها من طعامٍ مخصَّص للدواب.
انتشر الزعَّار والحرافيش وقطَّاع الطرق، وتعاظَمَ المُخالِفون والتشويش. تعذَّر الانتقال في داخل البلاد إلا بركوب الخطر الجسيم. أمَرَ مُتولي الشرطة بإغلاق أبواب القاهرة؛ كي لا تدخل إليها جماعاتُ الشغب.
أفتى الشيخ مصابيح لأعوانه، وطالَبَهم بأن يبلِّغوا الناسَ أنَّ أكل القطط والكلاب ليس حرامًا. أكَلَ الناس القططَ والكلاب وما لا يؤكل من الميتة والجِيفة والرَّوْث والبَعر. همُّوا أن يأكلوا البشرَ، كما حدَثَ في عهودٍ سابقة. تفاقمَت الأرزاء. عمَّت الأمراض والحميات سائرَ الناس، وماتوا على الطُّرُقات. تلاها حدوث الوباء. اتسع فشمل معظم البلاد، وبما لم يكن يتصوره أحد.
شُغل الناس بالوباء عن مزاولة أمور حياتهم. عمَّ القحط، واستولى الجوع على الناس، وبلغَت الشِّدة بهم مبلغًا عظيمًا. تفشَّى الموت في الناس. هلك الحرث والنسل. هلك حتى الكثير من كبار رجال الدولة والوجهاء والأعيان. عملَت الدكك والتوابيت لتغسيل الموتى للسبيل، وصار الناس يحملون جثث الموتى على ألواحِ الخشب والأبواب.
عجزت الأُسَر عن تكفين موتاها، ودفْنِهم، ولجأت أُسَر إلى طرح مَن أخذهم الوباء في النيل. طفَت الجثث على سطح النهر متورِّمة، منتفخة، وظلَّت مئات الجثث ملقاة في العراء، وفي داخل البيوت.
أقفرَت البنايات من السكَّان. دبَّ الخراب إلى الكثير من الحارات، وبدَت بعض الشوارع والعطفات والأزقَّة أشبه بالمقابر المكشوفة. زاد تعفُّنها من انتشار الوباء الذي أسرَفَ في فَتْكه.
صار الناس يحملون الموتى جماعاتٍ، يُلقون بهم في حُفَر كبيرة، أعدُّوها على عجل. أقدمَت الشرطة على حَفْر الحُفَر والآبار، وألقَت فيها جثثَ مَن لم يسأل عنهم ذووهم.
أغلقَت ست المُلك أبوابَ القصر الصغير على مَن بداخله من جوارٍ وخدَم. شدَّدَت عليهم بأن يجتنبوا لقاءات الناس خارج أسوار القصور، ولا يتزاوَرُوا مع أصدقاء أو معارف، أو ينزلوا إلى الأسواق. أذنَت للأطباء بالتردد على أجنحة الحريم. وأذنَت لطبيبها الخاص بأن يدخل قاعات الجواري لإجراء فحوصات.
قال الرواة إن عينَي ست المُلك الْتمعتا بغضبٍ ربما لم تُظهره من قبل، وبدا في صوتها ما اقتحم نفْسَ خيرات بالخوف.
قالت ست المُلك فيما يشبه الحشرجة: هل تعرفين أني أميِّزك على أربعة آلاف جارية؟
هزَّت خيرات رأسها وهي تهمس: أعرف.
قاطعَتها: وها أنتِ تتصرفين بما يثير غضبي.
رفعَت عينًا متسائلةً وخائفة وصامتة. بدَت أقبية المطابخ بعيدةً عن الحياة خارج القصور الفاطمية. كميات هائلة من الدقيق واللحم والزيت والحلوى. تراها خيرات، لا تعرف مصدرها، ولا تسأل عن المصدر.
رمقَتها الجهة العالية بنظرةٍ مرتابة: ألم تأخذي من الأقبية لناس المدينة؟
شعرَت بأذنَيها تسخنان: ليس بالضبط … حملتُ معي طعامًا من الأقبية.
– إلى أين؟
وهي تتقي مواجهةَ نظرتها: إلى ناسِ السوق وأنا أحمل رسالةَ مولاتي إلى القاضي أبي الفتوح في الجودرية.
ارتعشَت شفتاها: هل أذنتُ لكِ؟ هل أذنَت لكِ القهرمانة؟
وانعكس انفعالها في ارتجافةِ اليدَين: أخذ اللصوص كلَّ ما في المخازن، لا يوجد في الأقبية إلا جرايات القصور؟
غالبَت خيرات مشاعرَ الارتباك: حاولتُ أن أخفِّف معاناة الجماعة.
علا حاجبا ست المُلك في تساؤلٍ مستغرب: هذا شأن الكاتب ومُتولي الشرطة والمحتسب وغيرهم من الموظفين.
أطرقَت لتخفي دمعةً: أعترف بأني أخطأتُ.
صرخَت الجهة العالية: إذا عدتِ إلى ذلك الفعل — أو مثله — فلنْ تفلتي من عقابي!
حين تفاقمَت استغاثاتُ الناس، وازدحموا بالآلاف بين القصرَين، يسألون أميرَ المؤمنين التدخُّل، رَكبَ الإمام دابته، وخرَجَ من باب البحر.
واجهه الناس بالصيحات: الجوع … الجوع … يا أمير المؤمنين. لم يضعْ بنا هذا أبوك ولا جدُّك … فالله الله في أمرنا.
قال لجموع الشاكين: إذا كان الغد، أتوجَّه إلى جامع راشدة وأعود، فأقسم بالله لئنْ عدتُ فوجدتُ في الطريق موضعًا — يطَؤه حمار — مكشوفًا من الغلَّة، لأضربنَّ رقبةَ كلِّ مَن يقال له إن عنده شيئًا منها، ولأحرقنَّ داره، وأنهبنَّ ماله.
خاف التجَّار مغبَّة التحذير، إن لم يعرضوا ما في مخازنهم من سلع، ويبيعوها بلا مبالاة.
أشدُّ ما أثار غضَبَ الإمام، تضاعُف أرباح الباعة والتجار وأرباب الصنائع. أفادوا من تخزين الطعام، وبيعه بأعلى الأسعار.
باشَرَ الإمام الأمرَ بنفسه، وأخَذَ فيه بالحدِّ. حصَلَ المحتسبُ على رخصة بأن يجاوز ضرْبَ الطحَّانين والخبَّازين بالسوط، إلى فصل الرءوس عن الأجساد.
أصدَرَ أمير المؤمنين سجلًّا بِألَّا يخزِّن أحدٌ من المؤن أكثر من حاجته، وصدرَت سجلاتٌ بتحديد أسعار القمح والمواد الغذائية الأخرى. مَن يخالِف فهو عُرضة للقتل. أبلغَته الأعين أنَّ القاضي عبد الصبور الأشعث احتكر الغِلال في شونةٍ هائلة بناحية أطفيح، وعهد إلى خدَمه ببيعها للميسورين بأسعارٍ مرتفعة. أمَرَ الإمام بأن يُضرب مائةَ سوط، ثم تُقطع يداه ورِجلاه، ويُكوى، ويُضرب عنقه، ويُرفع رأسه على خشبة؛ وأمَرَ بمصادرة أمواله، وحرمان ورثته من كل ما خلَّفه من متاع وأموال. وأمَرَ الإمام بقتل التاجر فلان وإحراقه. وأمر بقتل عريف الخبَّازين؛ لأنه لم يُحسن أداء عمله. خيَّر أميرُ المؤمنين أربابَ الغلَّات بين ما فرضه من سعرٍ فيه فائدة محتمَلة، ولا بأس بها؛ أو أن يمتنعوا عن البيع، فيختم على غلَّاتهم، ولا يمكِّنهم من بيع شيء منها، حتى تفسد؛ أو يُصادرها، ويبيعها لحساب الدولة.
خشي الباعة من تسوُّس الغلَّة المخزونة، أو استيلاء الديوان السلطاني عليها. قنعوا بالأسعار التي حدَّدها الإمام نفسه. لم يستشِر وزراءه، ولا عُني بآرائهم.
تملك الغضب أمير المؤمنين، لمَا اتصل به من معارك بين الكتبة وقادة الجند. أمَرَ، فمَثلَ في حضرته راشد أبو جنينة مُتولي الحسبة، ونهاد الحلبي قائد المئين.
واجههما بنظراتٍ مشتعلة: الناس في الشوارع يجأرون بطلب الطعام، وأنتم مشغولون بالاستيلاء على ما ليس من حقِّكم.
قال الحلبي في لهجةٍ معتذرة: للجنود رواتب من الطعام يجب أن تصل في مواعيدها.
قال الإمام: وما الذي أخَّرها؟
أومأ قائد الجند بذقنه إلى مُتولي الحسبة.
أعاد الإمام السؤال: ما الذي أخَّرها؟
قال راشد أبو جنينة: مولاي يتفقد مخازن الأطعمة بنفسه.
قال الإمام: ألَا يوجد ما يكفي رواتبَ الجُند من الطعام؟
قال أبو جنينة: نحن نحرص على سدِّ ما ينقص المخازن السلطانية، ليظلَّ جنود أمير المؤمنين يحيون في رغده.
– هذا كلام لا أفهمه. تسرقان الطعام، وتحرضان على اقتتال الجُند والناس.
وأشار إلى كاتب الدست الشريف: لا أريدهما في منصبَيهما.
ثم وهو يتحسَّس مقبض خنجره: ولا أريدهما في الحياة من أصله!
قرأ مُتولي الحسبة الجديد دواس بن يعقوب الكناني سجلًّا في شوارع مصر بإسقاط جميع المُكوس عن جميع أنواع الغلَّات الواردة إلى سواحل مصر والفسطاط.
لم تهدأ نفس أمير المؤمنين إلا بعد أن تدارَكَ الله البلاد، وأغاثها، بكثرة ماء النيل. عمَّ الرخاء البلاد كلَّها برحمةٍ من الله سبحانه. كشف عن الناس ما عانوه من أيامٍ قاسية. امتلأت الأهراء والمخازن بالغِلال، توفَّرَ الخبزُ في الأسواق، وانخفض سِعر الدقيق، وانحلَّت الأسعار، وجاء الله بالفرج. تيسَّر الخير، وسكنَت الفتنة، وانكشفَت الشِّدة.
لم يخرُج أحدٌ من مصر لأداء الحج في هذه السنة.
١٥
لماذا تغيرَت نفْسُ أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله على الحسين بن جوهر الصقلي؟
قيلَت رواياتٌ كثيرة.
ما تتحدث عنه معظم الروايات أن نفس الحضرة مالت إلى التوجس والشك وتوقُّع الخطر. لم يعُد يأمن حتى الأقربين. القتل هو الوسيلة لاجتثاث الشرِّ من جذوره.
لم يدرك أبو الفضل صالح بن علي الروذباري باعثَ اختيار الإمام له، بدلًا من قائد القوَّاد الحسين بن جوهر الذي عزله. أضاف سجلَّا العزل والاختيار إلى ما لا يتوقعه حتى أقرب الناس إلى الحضرة من أفعاله. لمَّا تولَّى الحسين، حُمِل على جوادٍ مُسرَّج ولِجامٍ ذهبي، وقِيدَ بين يدَيه ثلاثةُ جياد بمراكبها، وحُمل بين يديه خمسون صماحًا من كل نوع. رافَقَه وتبِعَه الأصحاب والحواشي والأمراء والأماثل والأعيان وأرباب الصنائع.
تولَّى الروذباري النظر في سائر الأمور التي كان ينظر فيها ابن جوهر. لقَّبه أمير المؤمنين بثقةِ ثقات السيف والقلم. نظر في الأمور، ودبَّر الأعمال، وحَفظَ وجوه المال. قلَّد نفسه الخراج، وجميع الأموال والحسبة والسواحل والأعشار والجوالي والأحباس والمواريث والشرطتَين وغير ذلك. وكان ينظُر في رقاع المرافقين والمتظلِّمين. يوقِّع بيده في الرقاع، ويخاطب الخصومَ بنفسه.
قال الرواة إنَّ الحسين بن جوهر كان في منصبه، حين اجتمَعَ سائر أهل الدولة في القصر بعدما طُلبوا. خرَجَ الأمر ألا يُقام لأحد، وخرَجَ خادمٌ من عند الإمام، فأسرَّ إلى صاحب الستر كلامًا، فصاح: صالح بن علي …
قام صالح بن علي الروذباري متقلد ديوان الشام. أخذ صاحبُ الستر بيده وهو لا يعلم، لا هو ولا أحد، ما يُراد له، فأُدخل إلى بيت المال، وأُخرج وعليه درَّاعة مصمتة، وعمامة مذهَّبة، ومعه مسعود، فأجلسه بحضرة قائد القوَّاد، وأخرج سجلًّا قرأه ابن عبد السميع الخطيب، فإذا به رد سائر الأمور التي ينظر فيها قائد القواد حسين بن جوهر إليه. لمَّا سمع من السجل ذِكره، قام وقبَّل الأرض. فلما انتهت قراءة السجل، قام قائد القواد، وقبَّل خدَّي صالح، وهنَّأه، وانصرف.
١٦
قال الرواة إن الإمام أمَرَ الحسين بن جوهر وصِهره عبد العزيز بأنْ يلزم كلٌّ منهما داره. منعهما وأولادهما من الركوب. هَربَ ابن جوهر — بالخوف وأولاده وصهره — إلى جبل المقطم. ظلَّ داخل كهوفه ثلاثة أيام، ثم لاذ بقبائل بني قرة في نواحي الإسكندرية.
أمَرَ الإمام بمصادرة أموال الفارِّين، وإنْ كتَبَ إلى ابن جوهر كتابًا بخطِّ يده قال فيه: إنَّ آبائي اشتروا أباك من التجَّار وأعتقوه، وجعلوه قائدًا مظفرًا يفتح البلاد. وقال: لقد جعلتُك أنا نفسي وزيرًا وقائدًا، وأطلقتُ يدك في دولتي. لذلك فأنا أتعجَّب من تَبطُّرك وتركك النعمة. وقال: لم يكن في نيتي الغدرُ بك لأحصل على ما بحوزتك. وقال: إنَّ مثل هذا الادعاء تبريرٌ لسوء تصرفُّك نحوَ ولي نعمتك، فلو كان قصدُنا قتْلَك، لتمَّ ذلك بيُسر. وقال: إني أدعوك إلى العودة. أما إذا لم تحضر فإني سألاحقك بالاختطاف، وقد أعذَرَ مَن أنذر. ثم عفا عنهما، وأذِنَ لهما في الركوب.
طلب الحسين — لكي يعود — أن يُعفي الحضرة وزيرَه ابن عبدون مُتولي السفارة والوساطة. اتَّهم الحسينُ منصورَ بن عبدون بأنه أظهَرَ الغدرَ في أفعالٍ كثيرة.
قال الرواة: تغيرَت نفس الإمام — بوِشايات ابن عبدون — على صالح بن علي الروذباري ثقة ثقات السيف والقلم. ألزمه بالبقاء في داره ثمانية أشهر، وكتب له أمانًا لحياته، ثم قتله بعد ذلك في نفس السنة، وقتل غالب بن ملاك مُتولي الشرطتَين والحسبة، وقتل الكثير من الكتبة والخدَم. وعيَّن ابن عبدون لينظر فيما كان ينظر فيه الروذباري من الأعمال. أعلَنَ أمير المؤمنين في مجلسٍ بالقصر الفاطمي الكبير قرارَ تعيين منصور بن عبدون في منصب الوساطة. أمَرَ، فقُرئ السجلُّ على الحضور. سَمحَ له بالتوقيع عنه، والنظر في أموال الدولة. لقَّبه بالكافي، وخَلعَ عليه.
أنشأ ابن عبدون ديوان المفرد، تُوضع فيه الأموال المُصادَرة من رجال الحُكم الذين تتغيَّر عليهم نفس الإمام، ويتعرضون لعقابه. وأوكَلَ إليه الحضرة الديوان الخاص، يُعنى بنفقاتِ الحضرة والقصور.
قال أمير المؤمنين عن ابن عبدون: ما خَدَمني أحدٌ، ولا بلغ في خدمته ما بلغه ابن عبدون. ولقد جمع لي من الأموال ما هو خارج في أموال الدواوين ثلاثمائة ألف دينار.
صرف الإمام وزيره عن النظر في الأعمال؛ تلبيةً لرجاء الحسين بن جوهر. زاد الحضرة إلى أمر العزل أمرًا بعزل ابن عبدون، ومراجعة أعماله وحساباته. وعيَّن مكانه أحمد بن القشوري الكاتب لتولِّي أمور الوساطة والسفارة. وكتَبَ بخطِّه سجل أمان، أثنى فيه أمير المؤمنين عليه لمَا أسداه من خدمات، وكتب لعامليه السابقين بالأمان والعودة.
١٧
قال الرواة إنه لم تنقضِ أشهُر على عزل ابن عبدون، حتى أصدر الإمام سجلًّا باعتقال الرجُل، وقتله، وإلقاء جسده للكلاب، ومصادرة أمواله. قال إنه فعَلَ ذلك لسوء تصرُّف ابن عبدون وخُبثه، وإن تهامسَت الشائعات بإيغار صدر الحاكم على كاتبه. الحسين بن جوهر هو الذي حرَّض الحضرة على ابن عبدون. حين أدرك أنه لا يمكنه القضاء عليه، أخذ يدسُّ له عند الإمام. صرف همَّته في تحريك حفيظته. هَمسَ في أذنه بتصرفات معيبة، ومكائد، ومؤامرات، ومحاولات لتجميع العوام فيما ينتويه، ويخطِّط له. روى ما حدث، وإنْ سربله بتلفيقات. أودَعَ في نفس الحضرة كُرهًا خالصًا على ابن عبدون. أمَرَ الإمام بقتل ابن عبدون بعد مدةٍ قصيرة من توليه منصبَ الوساطة.
لم يخلِّف ابن عبدون أموالًا ولا عقارًا ولا زراعات. تكفَّل بعضُ ذوي المروءة والإحسان بالإنفاق على زوجتَيه، والصغار من أبنائه.
١٨
قال الرواة إن مطاردة جُند الإمام للحسين بن جوهر، أحدثَت — في الأسواق — تأثيرها الذي لم يكن يتوقعه الإمام نفسه. لابن جوهر مكانته في نفوس الناس. هو ابن فاتح مصر، ومؤسِّس دولة الفاطميين. ضجُّوا، وأغلقوا الدكاكين، ولاذوا بالمساجد والجوامع والساحات والميادين.
عانى الحسين بن جوهر التردد في العودة إلى القاهرة. ثم دخلها في يوم معلوم. أعد له الإمام استقبالًا طيبًا. شارك فيه كبار رجال الدولة، بمَن فيهم الوسيط القشوري. استقبلتْهما على أبواب القاهرة حشود الناس.
شقَّ الموكب شوارعَ القاهرة، تحيط به طوائف العسكر، على رأسهم الرايات الحاكمية. دخلوا القصر الفاطمي، ومثلوا بين يدَي أمير المؤمنين. أمر فقُرِئ سجلَّ أمانهما علنًا، وأشهد أمير المؤمنين قاضي القضاة على نفسه بالوفاء بنصِّه، وأعاد للحسين لقب قائد القواد، وردَّ إليه كلَّ ما كان قد أمر بمصادرته من أمواله وعقاراته وغيرها، وكتب له أمانًا قُرِئ في الجوامع والمساجد والأسواق، وبعث به ابن جوهر إلى مكة، فعلِّق على أستار الكعبة.
١٩
قال الرواة إن الإمام استدعى ابن القشوري — بعد عشرة أيام من تقلُّده الوساطة: لمَن الإمامة في هذه البلاد؟
في صوت يرعشه الخوف: سيدي هو أمير المؤمنين.
واجهه بعينَين متَّقدتَين: أنت إذن تعمل في خدمتي.
– أنا عبدُ مولاي.
– لكنك تبذل همَّتك في رعاية أمور الحسين بن جوهر.
وأسكَتَ ابن القشوري بإشارةٍ من يده: وتبالغ في تعظيمه كأنه أمير المؤمنين.
عصَته الكلمات، فأعاد القول: أنا عبدُ مولاي.
قال الإمام من بين أسنانه: اضربوا عنقه.
لبث القشوري في الوساطة عشرة أيام. ولَّى أمير المؤمنين — بدلًا منه — أبا القاسم الحسين بن علي المعروف بالمغربي. لكنه أسرف في أذية الناس. فلمَّا شعَرَ بتغيُّر نفس الحضرة عليه، هرب إلى مكة، فانتقم منه الإمام بقتل أبيه وعمه وأخوَيه. ثم كتب المغربي قصيدةً أظهَرَ فيها توبته؛ فصفح الحاكم عنه … لكنَّ أجله حان قبل أن يعود إلى مصر.
٢٠
لم يطمَئن الحسين وعبد العزيز إلى عفو أمير المؤمنين، والسجل الذي منَحَهما الأمان. لم تخرج عمليات القتل عمَّا ألِفَاه قبل أن يغيبا بالفرار. يهب سجل الأمان، يعقبه أمر الموت. احتميا بالظُّلمة في الفرار مع مَن يعولانِهم.
أمر الإمام، فانطلق الجند في طلبهما. لم تدركهما الجياد. أنفَذَ لهما كُتبَ الأمان. أمر — في الوقت نفسه — بمصادرة كلِّ ما بحوزتهما من أموالٍ ومتاع.
قال الرواة إن الحسين وعبد العزيز ظلَّا — لبضعة أشهر — يركبان إلى قصر الحضرة. استقرَّت الطمأنينة في داخلهما بتوالي الأيام.
استبقاهما قائد الجند — ذات مساء — لأمرٍ تريده الحضرة، قُتلا، بعد انصراف الناس. أعاد الإمام أمره بمصادرة دارَي الحسين وعبد العزيز وأموالهما. حُملَت الأموال إلى الديوان المفرد. واستعيدَت الأمانات، والسجلات التي كُتبَت لهما.
لم يضمَّ الحضرة ما صادره من أموال الناس إلى ماله. أنشأ الديوان المفرد، تودع فيه الأموال المصادرة، ممَّن يأمر بقتلهم، أو يقتلهم بنفسه، تُردُّ إلى أصحابها متى ثبتَت براءتهم، أو تُنفق على مصلحة الجماعة.
فاجأ الإمام خاصةَ الناس وعامتهم بقتل ابن جوهر. ثم قتل أولاده الذين فرُّوا إلى الشام، وكاتبوا — كما أكَّدَت التقارير — باسيل ملك اليونان.
٢١
قال الرواة إنه بعد أن افتُتحت دار الحكمة، أمر أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله بنقل مكتبة القصر التي أُنشئت في عهد العزيز إليها، أكثر من مائتي ألف كتاب، تضمُّها أربعون خزانة، ويعمل فيها عددٌ كبير من النسَّاخ. وأمر موظفي القصور المعمورة أن ينقلوا إلى دار الحكمة كلَّ ما تضمُّه من المجلدات والمخطوطات والكتب التي تُعنى بالفقه على سائر المذاهب والنحو واللغة وكتب الحديث النبوي والتواريخ والسير والنجامة والروحانيات والكيمياء وألوان الآداب والعلوم، وكتب علوم الأوائل في فقه الدين والفلسفة وفقه اللغة. نقلَت إلى الدار مجلدات ومخطوطات من أفضل ما تضمه الجوامع والمساجد وخزائن العلماء والأعيان. دفع أمير المؤمنين المقابل الذي يغري بالقبول. تنامت، وتضاعفت، في أشهُرٍ قليلة. شملَت كل ما يضيف إلى معارف المترددين على الدار وعقولهم.
فتح أبواب الدار لمَن يرغبون في القراءة، وتيسير الأحبار والأقلام والأوراق، ونسخ الصفحات التي يعنيهم الاحتفاظ بها، وقَفَ عليها من أملاكه الخاصة، وعيَّن رواتبَ مالية ثابتة للموظفين ومصاريف الأدوات، وأجرى الأرزاق على طلاب العلم، وخصَّص للأساتذة والطلبة ما يُعينهم على الحياة الطيبة من جرايةٍ وافرة، مستمرة. وخصَّص لها البوَّابين والفرَّاشين وموظفي الخزائن، وأوقف عليها ضِياعًا وخانات وحمَّامات وبساتين ودُورًا «… إنه صحَّت عنده معرفة المواضع الكاملة والحصص الشائعة، التي يذكر جميع ذلك ويحدِّد هذا الكتاب، وإنها كانت من أملاك الحاكم إلى أن حبسها على الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة، والجامع براشدة، والجامع بالمقس اللذين أمَرَ بإنشائهما وتأسيس بنائهما، وعلى دار الحكمة بالقاهرة المحروسة التي وقفها والكتب التي فيها مثل تاريخ هذا الكتاب. منها ما يخصُّ الجامع الأزهر والجامع براشدة ودار الحكمة بالقاهرة المحروسة مُشاعًا ذلك غيرَ مقسوم. ومنها ما يخصُّ الجامع بالمقس على شرائط يجري ذِكرها، فمن ذلك ما تصدَّق به على الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة والجامع براشدة ودار الحكمة بالقاهرة المحروسة، جميع الدُّور المعروفة بدار الخرق الجديدة، الذي كله بفسطاط مصر …»
قال أمير المؤمنين: هذه الدار مهمتها تخريج الدعاة للمذهب الإسماعيلي.
ملاصِقة للقصر الصغير، بجوار باب التبَّانين. علِّقَت الستور على أبوابها ونوافذها، وفي الممرات. ورصَّت على أرففها المجلدات والمخطوطات المحلَّاة بالذهب والفضة. قسِّمَت إلى مجالس للقرآن والعلوم الدينية والفلك والطب والنحو وعلوم اللغة. جُعلَ فيها قاعاتٌ واسعة للدروس، وقاعات أصغر حجمًا للمذاكرة، وترويح النفوس، ومُصَلًّى يسع الأساتذة والطلبة، بالإضافة إلى المرافق من مطابخ وحمَّامات. تولَّى التعليمَ فيها مدرسون في كل العلوم والآداب والفنون. أُضيفَت إلى الجامع الأزهر، وجرى فيها تدريس الدعوة الباطنية، وتأويل نصوص القرآن والحديث، ومعرفة ما وراء معاني الألفاظ، وتعلُّم مبادئ الدِّين الصحيحة، وتأكيد حق الإمامة الفاطمية بيقينٍ لا يقبل النقاش. حلقات الدرس المنظَّمة تبدأ من الصباح إلى موعد أذان الظُّهر. قد يعود الطلبة إلى حيث يقيمون، أو يواصلون تلقِّي الدروس بعد صلاة العصر إلى صلاة المغرب.
شدَّد أمير المؤمنين على وجوب فهرستها، فلا تختلط كتب فقه اللغة بكتب فقه الدِّين، ولا كتب الطب بكتب الأدب، ولا كتب المشاهير بكتب المجهولين من الناشئة. حَظرَ تناول الطعام أو الشراب في أثناء القراءة كي لا ينالها التلف. ودعا إلى مداومة تطهيرها من العشب وحشرات الورق.
تزاحَمَ الناس على أبواب الدار في أيامها الأُولى. مات الكثيرون من التدافع، وتحت الأقدام. ثم اقتصرَت زيارتها في الأيام التالية على الخواص وأرباب العلم للقراءة والنسخ. أفاد مما تحويه من علوم أعدادٌ من المنجِّمين وأصحاب النحو واللغة والأطباء.
وَفدَ إليها الطلبة من أقطار العالَم الإسلامي. يدرسون الدعوة الشيعية، وعلوم اللغة والمنطق والجبر والحساب والأخبار والطب.
تردَّد أمير المؤمنين على الدار. يطيل الوقوف أمام المجلدات والمخطوطات النادرة. يتأملها، ويشير بنسخها، أو العناية بها. ينصتُ إلى موظفي المكتبة، يعرضون عليه ما يواجههم من مشكلات، فيأمر بحلِّها. وكان يستمع إلى المحاضرات، ويشارك في المناقشات، ويخلع على مَن يتوسم النباهةَ في أسئلتهم ومُداخلاتهم، ويدعو الأساتذة من الفقهاء وعلماء الرياضة والأطباء إلى مناظرات. كل طائفة تدخل بمفردها، وتُجري المناظرة في وجوده. ويخلع أمير المؤمنين — في النهاية — على الجميع.
كان محبًّا للعلماء والشعراء والأدباء، يحرص على دعوتهم وحضور مجالسهم. له مجلس يوم الإثنين من كل أسبوع، يحضره العلماء والقضاة، يناقشون أمور الدِّين والدنيا. ينزِّه مجالسه عن اللهو والهزل، ويرفض سماع الأحاديث إلَّا بإسنادها، وكان بعد أن يفرغ من استقبال رجالات الدولة، يبدأ في قراءة أخبار العرب والعجم، وأخبار الأمم السالفة.
إذا حان وقت الصلاة ترك ما بين يدَيه، واتجه إلى القبلة، ويحرص على أداء الصلوات في جماعة، يترك لقاضي القضاة الإمامة.
كان يحرص على حضور الموالد الستة: المولد النبوي، ومولد الإمام علي، ومولد الحسن، ومولد الحسين، ومولد فاطمة الزهراء، ومولد خليفة البلاد. وألِفَ الناس رؤيةَ المواكب والجَلوات في ليلة الإسراء والمعراج، وطلعة المحمل، وسَفر الحُجاج، وعودة الحُجاج.
الموكب يتقدَّمه العلماء ورجال الطرق الصوفية، وروعة الذِّكر والموسيقى والغناء، وترتيل القرآن، وإنشاد الموالد، والتغني بالأهازيج الصوفية، ومدائح الرسول، والتسابيح. من حوله صبيان الركَّاب، حوالَي ألفي رجُل، لهم اثنا عشر مقدمًا، يتميزون عن بقية فِرق الحرس بالعمائم الكبيرة، والمناديل المشدودة حول الخصور، والسيوف المذهبة المصقولة، في الأيدي، كأنهم جناحان تداخَلَ ريشهما فلا أحد يستطيع أن يصل إلى موضع الإمام.
لم يكن في تصرفات أمير المؤمنين ما يشي بتوجُّس ولا عدوانية ولا شذوذ. يركب إلى الميدان. يجلس على السرير، فتعرض عليه الخيل، والقراء بين يدَيه. يدخل الشعراء لإلقاء قصائدهم.
كانت له — منذ صباه — قدرة على تذوُّق الشِّعر، وتمييز الجيد منه، والتوقف عند البيت النادر، أو المعنى الذي يثير الإعجاب. وكان يتابع نظر برجوان وكاتبه فهد في رقاع المتظلِّمين وأرباب الحاجات. حتى تخلو القائمة من ذوي الشكايات. يُقبِل أمير المؤمنين على تناوُل غدائه، ثم يتقدَّم أبو العلاء فهد. يقبِّل قدميه، ويعرض ما لديه من رقاع — بتوجيه برجوان — حتى يتم قراءتها. يوقِّع الحاكم في أعلى كل رقعة برأيه وتوجيهه. يحملها فهد إلى الديوان، لتجد سبيلها إلى التنفيذ، دون مراجعةٍ ولا إعادة نظر.
ظلَّ الناس يزدحمون عليه، حين خروجه من جامع الأزهر. يطيل الوقوف معهم، يأخذ الرقاع، ويجيب عن الأسئلة، ويعطي الصدقات والهِبات.
غلبَت الحماسة مُصليًا في الجامع العتيق. أكد أن أمير المؤمنين أظهر من العدالة ما لم يصدر عن كل السلاطين السابقين، حتى أبيه وجدِّه.
أمن الناس على أموالهم وبيوتهم. وكانوا يصبون على موكبه ماء الورد من داخل البيوت، ومن فوق الأسطح، ويشعلون له الشموع والقناديل على طول الطريق.
منَعَ ضرب الطبول والأبواق حول القصور الفاطمية، فهم يطوفون ويراقبون الأحوال دون ضجة، وأعتَقَ كلَّ مَن بحوزته من الرقيق، ووهبهم ما كانوا يحملونه في حال الرق، ليكون مالًا لهم في حال العتق. ورصد للمساجد في أنحاء البلاد ما تحتاج إليه من نفقة لإجراء الشعائر، وأنشأ مُصلَّى العيد في سفح المقطم. جهَّزه بما لا يوجد في جوامع ومساجد أخرى. وكان يقصده للصلاة والتأمل. وأصدر سجلًّا يستنكر فيه مَن يصفه — في المكاتبات — بأنه «مولى الخلق أجمعين».
٢٢
قال الرواة إن ست المُلك لاحظَت تبدُّل أحوال الإمام، فهو يفقد أعصابه إن تملَّكه الغضب. إذا تحكمَت فيه نوباته، تلعثمَت الكلمات على لسانه، فبدَت كالغمغمة، ويُكثر من الحركات والإشارة بلا سببٍ ولا ضرورة. ويروي حكاياتٍ غير مفهومة. يبدأ جُملًا لا يُتمُّها. يستغرق في شرود، يمضي الوقت دون أن يفيق منه. وقيل إنه كان يعتريه جفاف في دماغه؛ فلا يسمع إلا ما يريد سماعه، ولا يرى إلا ما يريد مشاهدته، ولا يثبت على حالٍ واحدة، ولا يستقرُّ على رأي أو تصرف، ولا يَهبُ ثقته، ويعاقب بالظنَّة، وربما تداخل عنده الابتسام والغضب والعنف في لحظةٍ واحدة.
لم يعُدْ يُخفي ظمأه إلى الدماء.
قبض على جماعةٍ هائلة من غلمانه وكتَبَته وخدَمه الصقالبة، داخل القصر. قتل قائد الجند الفضل بن صالح الذي أخمد ثورة أبي ركوة، وأحرق جسده، ونثر رماده في الهواء. وقتل رجاء بن أبي الحسين؛ لأنه صلَّى التراويح في رمضان. انتزع من جسده قلبه ولسانه وأحشاءه الداخلية، ألقى بها الجندُ في قاع النهر. وتغيَّرَت نفسه على الكاتب الحسيني الشريف؛ فقطع رأسه، وسلخها، وأرسلها إلى أهله. أخَذَ على الحسيني أنه جعَلَ موظَّفيه وأعوانه من ذوي السمعة السيئة، لا يظهرون إلا في الأماكن المشبوهة، ويفرضون الرشا والإتاوات، وينصِّبون أنفسهم بديلًا للقضاء والشرطة، ويضايقون الناس في معايشهم، ويُسيئون إلى أمير المؤمنين بما يذيعون من سجلاتٍ مكذوبة، ينسبونها إليه، ويذيعونها في الأسواق. وأمَرَ الحضرةُ بقتل النَّسَّاخ هاني نصوح؛ اتهمه بأنه يستعين بخياله، فيحوِّر، ويغيِّر في بعض التعبيرات، ويحذف ما يخلُّ بالسياق، ويضيف العديد من الأحداث الخاطئة، وغير الصحيحة، ويخترع القصص والحكايات والأحداث. يكتب ما لم يرِدْ في كتب التاريخ، وما قد يصل إلى الخرافات والأساطير والحكايات التي لا يصدِّقها العقل.
توالت السجلات بقتل الكثير من الرواة لميلهم إلى الروايات المكذوبة، وابتزازهم أموال الناس. قتَلَ أعدادًا من الوزراء ورجال الخاص. أُرْتِج على والي قوص. سمل عينَيه، حتى سالَتا على خدَّيه، ثم عرَّاه من ثيابه. هوى بالسيف على أعضائه التناسلية؛ فانبثق الدم. صرخ في الخدَم الذين همُّوا بالاقتراب: دعوه ينزف!
أبلغه الأرصاد أن والي الفيوم يقلِّد الأعمال للأقارب والأتباع، ويُؤثر مرافقيه وأعوانه وخدَمه على منافع الناس، ويُعطي لنفسه حقَّ التولية والعزل والنظر في بيت المال والمظالم بالولاية. فوَّض إلى نفسه مصائر الناس، وتدبير الأمور برأيه، وإخضاعها لاجتهاده، وجَعَل نفسه واسطة بين الله والناس في تطبيق أحكامه، واستأثر بالنيابة في إنفاذ الحل والعقد. أباح الصوم برؤية الهلال لمَن يريد، لا يشغله نفي مَن عجزوا عن الرؤية. وأباح الفروج والدماء والأموال. عرَّى الجندُ الوالي من ثيابه، وربطوه في قواديس ساقية. ضربوا الأبقار، فأسرعَت في الدَّوران. غطس الوالي في الماء، وعلا. ثم غطس وعلا. تواصل الدَّوران حتى خفَت صراخ الوالي، وتلاشى.
أمَرَ بقتل علماء السُّنَّة الموجودين بدار الحكمة. كانوا يجتمعون في دار الحكمة لتدبير المكائد، وليس للاطلاع والدرس. قال إن الدار أُنشئت للقراءة والجدل والمساجلة، وأن تكون مثوًى للمجالس العلمية، الكلامية والفلسفية، وليس لتدبير الفتن والمؤامرات. شُنِق على بوابة مُتولي الحسبة أسامة بن محمد اللغوي، والحسين بن سليمان الأنطاكي النحوي. ظلَّ الجسدان على الباب ثلاثةَ أيام؛ ليتاح لأهل مصر والفسطاط رؤيتهما. فرَّ الثالث عبد الغني بن سعيد. حظر أمير المؤمنين الجدال والمناظرات والأهواء. عاقَبَ عليها، وأمَرَ بأن يقتصر ما يفعله زوَّار دار الحكمة على سماع القرآن، وقراءة أحاديث الرسول، وقِصص آل البيت. وأمَرَ الورَّاقين، فلا يبيعون كتب الفلاسفة وأهل الجدل.
صار جعفر المعلوف من حواشي أمير المؤمنين. ضمَّه إلى الأستاذين المحنَّكين؛ فهو يقوم بخدماتٍ خصَّه بها الإمام دون سواه. اتهمه الحضرة بأنه يُعيد على الناس ما يتحدث به أمير المؤمنين إلى خواصه، وما يعهد إليه بفعله. جرَّده من جميع مناصبه وسلطاته، وأسقط ألقابه، وصادَرَ ثروته، وأمَرَ بإيداعه السجن. فرَّ من الجند قبل أن يصلوا إليه. مضى إلى باب الفُتوح، وكشَفَ رأسه، واستغاث بعفو الإمام حتى أذِن له بدخول مجلسه. سأله عمَّا فعل. أربكَته هيبة أمير المؤمنين؛ فتلعثم، وغابت عن ذهنه تفاصيلُ سأله فيها.
قال الإمام: اسمُلوا عينَيه فلا يشاهد ما يرويه، واقطعوا لسانه فيصون السر!
هو مثل الطبيب الذي يلجأ إلى البتر فيحفظ للجسد عافيته. بلغ السيف أعناق الوسطاء والقضاة والكتبة عندما ظهر في تصرفاتهم ما يُريب، أو امتدَّت أيديهم إلى أموال الدولة، أو عاملوا الناس بالظلم والقسوة، وأطار السيف أعناق مَن خرجوا بالتمرد والثورة.
لم يعُدْ يفرِّق بين مُرتكِب الذنب الصغير وفاعِل الجريمة الكُبرَى. في باله، ما تعلَّمه من أوصيائه حتى تنبَّه إلى ما يفعلون، والصراعات بين طوائف الجيش، ومؤامرات القصور الفاطمية، وتدليل أمه، ومحاولات ست الملك للتسلُّط. حملَت تصرفاته الناسَ على غاية الهيبة له، والخوف منه. صار له من الهيبة ما استقر بمكانته في النفوس.
امتدَّت الهمسات عن الناس الذين اختفَت آثارهم، أو سُجنوا، أو خضعوا للتعذيب. وامتدَّت يد القتل إلى العلماء ورجال القصر من الأساتذة والخدَم الصقالبة والحشم، وأُلوف من الوجهاء والأعيان والتجَّار والكافة.
قيل — ولعلها واقعةٌ مكذوبة — إنه رأى امرأة تحمل طفلها وهي تعمل في القصر. بدا الطفل شاغلًا لها عمَّا بيديها. أخذ الولد منها، وضرب به على الأرض حتى مات. اصطبغ النيل بالدم، وحملَت المياه جثثَ البشر.
٢٣
تسللت خيرات — في سكون اللحظة، والملل — من باب الساباط إلى مطبخ القصر، قبالة القصر الغربيِّ. خلا من الطباخين والطباخات. تأملَت الأتون الكبير في الجانب، والطواجن والسواطير والسكاكين والمغارف والأواني والأوعية، والبهارات في المهارس، وروائح الطبيخ والشواء. وثمَّة قدور حديدية ونحاسية معلَّقة على الجدران.
رنا إليها الطبَّاخ الواقف أمام القدور بنظرةٍ أرعشَتها … صقلبي السحنة، له بشرةٌ صافية، موردة، وأنف أقنَى، وعينان زرقاوان فيهما جرأة، تحت حاجبَين كثيفَين؛ وشَعره الحنطي ينسدل إلى ما تحت كتفَيه، وعلى جانب فمه ابتسامةُ سخريةٍ ثابتة.
كان قد صرَفَ لها ما طلبَته من خِزانة التوابل: البهارات والأعشاب والزيوت والكافور والمسك والزعفران وماء الورد.
قالت تداري ارتباكها: أريد أن أتعلَّم.
قال الطبَّاخ: كما تعرفين … كلُّ شيء هنا بأمر مولاتنا ست المُلك.
– لا أريد العمل، وإنما أريد التعلم.
وهي تنحِّي وجهها عن اتجاه نظراته: مجرد أن أشغل وقتي.
زوى عينيه، وحدق فيها، كأنه يستعيد الملامح التي لم تصله للوهلة الأُولى: ما اسمكِ؟
– خيرات.
– وأنا مسعود.
وقفَت وراءه، تتأمل ما يحركه بالمغرفة في الوعاء الكبير: ما هذا؟
– ثريد.
وأفسح موضعًا أمامه: انظري.
مالت برأسها تحدق في فوران الماء حول قطع اللحم. ابتسمَت لتشمُّمه رائحةَ شَعرها الكستنائي المنسدل على كتفَيها وظَهرها.
– عطرٌ جميل لا يليق بالمطابخ.
ألِفَت السيرَ — مُتباطئة ومتأمِّلة — في الإيوانات والقاعات، إن خلَت من الحركة. اعتادت الدخول والخروج من الباب الذهبي بالقصر الكبير، ومن الأبواب العشرة الأخرى تحت الأرض: باب البحر، باب السريح، باب الزهومة، باب السلام، باب الزبرجد، باب العبد، باب الفتوح، باب الزلاقة، باب السرية. تكرَّر قدومها إلى المطابخ. تنظر إليه، وينظر إليها. أحسَّت أنه يُعرِّيها بعينَيه، ينزع عنها ثيابها ويتأمل المنخفضات والبروزات.
الْتصق — هذه المرة — بظَهْرها. طوَّقَها بساعدَيه، وجرى بأصابعه على ظهرها. تسللَت اليد إلى الصدر تداعبان ثديَيها، ثم البطن تمسدانها. قبَّلَ رقبتها من الخلف. أدارها بحيث تواجهه. بدأ جسدها يتخلى عن صلابته، حتى استكانت في حضنه، وعلا ذراعاها، فأحاطتا بما تحت كتفَيه.
مال بقبلاته على وجهها. ضغطَت شفتاه على قسمات الوجه. دفعها إلى غرفته الملحقة بالمطابخ. لم يبادلها كلمةً واحدة. ظلَّت يداه تجوسان في جسدها، تستكشفانه: الصدر والبطن والردفَين والساقَين. حتى الشَّعر تخلله بأصابعه كأنه يمشطه. حتى القدمَين نزع الخفَّ منهما، ودلَّكهما بأصابع راجفة.
حاولت أن تتملص، لكنه واصَلَ الضغط على جسدها. تخاذل ساعداها عن دفعه، ثم أحاطت خصره — في اللحظة التالية — بذراعَيها. فكَّ أزرار ثوبها من الخلف. مسد امتداد ظَهْرها. شعرت بملمس أصابعه حول سروالها الداخلي تنزعه من فخذَيها.
قال لها: أنتِ جميلة. وقال: أنتِ من حوريات الجنة، ولستِ من نساء العالمين. وقال: لو أنَّ الخليفة رآكِ لاستبدلكِ بمَن صرفهن من المحظيات.
ثمة ما يشبه الخدر سرى في جسدها. أغمضَت له عينَيها، وفتحَت فاها. أهملَت خشونة يدَيه، واحتكاك شَعر ذقنه ببشرتها. لم تعبأ بالرائحة التي اقتحمَت أنفها من جسده — تمازُج البصل والبهارات والثوم والقلي — ولا باللعاب الذي سال من بين شفتَيه على كتفها، وتماوجَت المرئيات، واهتز الجسد، وتوالَت ومضات النشوة، وتناهَت موسيقى عذبة لم تتبيَّن مصدرها، وحلَّقَت من فوقها طيورٌ صغيرة، ملوَّنة.
ضايقَتها قُبلته وهو يُخلي ساعدَيه من إحاطة خصرها. لم يمهلها حتى ترتدي سروالها. دسَّه في يدها، وربتَ ردفَها وهو يدفع بها خارج الحجرة: نلتقي غدًا.
ترددت على المطابخ في الأيام التالية. ربما سبقَته إلى الحجرة. تتأمل أثاثها القليل؛ أريكة لِصقَ الجدار، فوقها مرتبة ومخدَّتان، وطاولة، وحقيبة من القماش، وحلَّة نحاس، وأطباق، وتراصَّت جوار الحائط صناديق خشبية وأقفاص وسِلال. وتدلَّت من السقف مِسْرجةٌ خافتةُ الضوء.
يطالعها بابتسامته المقتحمة. يتأكد من إغلاق الباب، ثم يقترب منها. تجوس شفتاه في جسدها. تختفي فيهما الحلمتان، والهالتان البنيتان من حولهما. تداعب أصابعه ما بين فخذَيها. تغمرها النشوة حتى وهو يجردها من ملابسها.
لم تتبين دافعها للتردد على حجرةِ مسعود. ليس الفضول، ولا معاناة الملل، ولا إرضاء اللذة الغامضة تتمازج مع شعورها بالقرف. لعلَّها الرغبة في الاكتشاف تدفعها إلى ما لم تتصور أنها تفعله، ولا تدبرَت نتائجه. تمضي في اللعبة إلى نهاياتها. تترك له جسدها قطعةَ صلصال، يشكِّلها على النحو الذي يريده. لا يشغلها إن كان الصقلبي يأمن حجرته مما قد يودي بحياتهما.
٢٤
أذِنَ الإمام للقاضي أحمد الخرقاني بالمُثول بين يدَيه. دخل القاضي قاعة الملك، ومَثلَ بين يدَي أمير المؤمنين.
قال الإمام: هل أعطاك كاتبُ الدست ما خلعناه عليك؟
أغرى أمير المؤمنين بدعوته إلى تولي القضاء، ما تحدثَت به الأعين عن حلقات الدرس التي لم تكن تنفضُّ في بيته المطلِّ على بِركة الفيل، وأنه كان عالمًا بعلم الأصول. صار بيته قِبلة الكثيرين من العلماء وطلبة العلم والناس العاديين، يُنصتون إلى أحاديثه، ويأخذون على يدَيه من الفتاوى والأحكام في أمور الدين والدنيا.
قال القاضي: عطْفُ مولاي تجاوَزَ كلَّ الخطايا والخِلَع.
وتحسَّس الكلمات، يخمِّن وقعها: تمنيتُ لو أن صِلتي جاءت كتبًا من خزانة الكتب الفاطمية.
أومأ الإمام إلى كاتب الدست، دلالة أن ينفِّذ ما طلبه القاضي.
قال القاضي: أثق أني سأفيد المملكة من قراءتي لهذه الكتب.
وتضاءل في وقفته: أما القضاء، فلا قدرةَ لي عليه.
قال الإمام: أكْمِل الآية وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ.
– ذلك ما لا تقوى نفسي الضعيفة عليه.
قال الرواة إن القاضي أحمد الخرقاني آثر أن يبتعد بنفسه عن طريق السلطة. خشي أن يشغل أحكامه إرضاء مزاج الخليفة، وتبرير سجلاته.
قال أمير المؤمنين: لولا وقوفي بمعرفتك وكفايتك ما فوَّضتُ إليك أمْرَ القضاء.
أردف في نبرةِ تسليم: لأنك تطلب العلم، فأنا ألبي مطلبك!
٢٥
لم تَعُد المطابخ في الصورة التي ألِفَتها. عرفَت — من أحاديث ست الملك — أن الحضرة قلَّ طعامه من المطابخ الملكية. عطَّل الأسمطة التي يجلس فيها كبار موظفيه، وعطل المطابخ في أحيانٍ كثيرة. يأمر، فيقتصر طعامه على ما تدعو إليه حاجة الجسد. حتى ولائم عيد الفطر أبطلها. سكتَت النيران في المطابخ؛ فصاحِبُ القصور أول مَن يجب أن يأكل ما تطهوه.
قال مسعود: نسيتُ الطهو وتحولتُ إلى خادم يحمل ما يكفي لسدِّ جوعه من بيت السيدة الوالدة.
لم يعد أمير المؤمنين يكتفي بأكل خدَمِ المطابخ من الأنواع نفسها التي يطبخونها. يخشى أن يستبدل بالأطعمة ما يؤذيه. يأكل مسعود مما يطبخه، ويأكل رئيس الطبَّاخين من الطعام نفسه، ثم تتذوقه قهرمانة القصر الفاطمي. تضع الطعام جِوارها بما يكفي لظهور النتائج القاسية على الطباخين. لم يعُدْ يأكل طعامًا إلا إذا تذوقَته القهرمانة أمامه.
استبدل بالكئُوس التي يشرب فيها كئوسًا من حجر اليشب. من خواصها الوقاية من السُّمِّ. توضع فيها الأشربة. إذا كان بها شيء من السُّم، تغيَّر لونها، وافتضح أمْرُ الفاعل.
قال مسعود: كان يعلن إعجابه بطريقتي في سبك الطعام، وفي نوعية البهارات التي أُضيفها إليه.
وارتجفَت ملامحُ وجهه: ثم بدأ التخوف من أيِّ مذاقٍ يراه غريبًا.
ونفَخَ في استياء: ثم لم يعُدْ يأكل من عمل المطابخ.
وَرَنا إلى خيرات بنظرةٍ متأمِّلة، كمَن يحاول سبر مشاعرها: لمولاتنا ست المُلك كلمتها النافذة عند حاشية القصر.
أومأت برأسها: طبعًا.
– من هؤلاء الحاشية حامي المطابخ.
غرزت نظرةً في عينَيه: ماذا تقصد؟
أدار وجهه يتَّقي نظرة التوجُّس: ليتها تأمره بأن يُعيد ما اقتصَّه من راتبي.
– هل أخطأت؟
– يحاسبني على توقُّف المطابخ.
أدارت نحوه ملامحَ غاضبة: مَن تتصورني؟!
وتداخلت في صوتها بحَّةٌ غريبة: لو أن الجهة العالية عرفَت أني أعرفك، ربما أنهَت قدومي إلى المطابخ … وربما أنهَت حياتي نفسها.
شكا لها نظرةَ الخدَم والعبيد وأهل مصر. يكرهونه مثلما يكرهون كلَّ الصقالبة. هو، وأبناء جنسه، خواص خدَم الإمام. يندسون وسط الناس، ينقلون إليه الأخبار، ويمنعون عنه الأذى.
قال الرواة إن مشاعر القلق والخوف تملكَت نفسَ الشيخ ظِل الأمان، إمام الجامع الجديد. لم يَهَبه الجند فرصةَ السؤال، ولا التحدثَ إلى آل بيته. مضَوا به في شوارع ودروب وعطفات. تابَعَ الناس الموكب بنظراتٍ متسائلة. بدَّل الجند ما ألِفَه من الطريق إلى مجلس أمير المؤمنين. دفعوه داخل الأقبية أسفل القصر، فإلى حجرة تغطَّت بباب من قضبان الحديد. كانت الحجرة خاليةً إلا من أربعة كلاب، لم تَهَب القاضي فرصةَ التلفُّت. تناوشَته، وألقَت به على الأرض.
قال الإمام وهو يضحك: فلْتعوِّض الكلاب جوع الأيام الفائتة.
واصلَت الكلاب الْتهام القاضي بأفواهٍ نهِمة. لم يعُد إلا نثاراتُ دم، وبقايا عِظام.
قال الرواة إن أمير المؤمنين أبا علي منصور — لمَّا ضاقت به الأمور — شكا إلى الشيخ ظِل الأمان ما يعانيه. كان أمير المؤمنين مشغوفًا بمجلسه، ولا يصبر عنه. صار مؤنسًا لأمير المؤمنين، ورفيقًا لجولاته في الأسواق.
لم يعُد الإمام يطيق البقاء بمفرده. تكلَّم عن أشباح تظهر له، تتراقص أمام عينَيه، وتقترب منه. تطالعه في ظلمة الردهات والأبهاء والقاعات والأقبية والحجرات، أو في أضوائها الخافتة، وأحيانًا في غرفة نومه، حين يُغلقها عليه. تتحرك في تداخُل النور والظلمة، تتقافز على الأرض، وفوق الجدران، وأعلى السقف، أشباحٌ تومض ملامحها بما يذكِّره برجالٍ أمَرَ بقتلهم، أو قتَلَهم بنفسه. تثبتُ نظراتها عليه، تُخيفه، تطارده. يُعيد النظر والتحديق؛ فتتلاشى الأشباح المتماوجة، كأنها لم تكُن.
ربما استيقَظَ من نومه على نداءاتٍ وصيحات وأصواتِ استغاثة. يتلفت مفزوعًا. لا يطالعه إلا الصمت والوحدة. تمتد يده — بتلقائية — إلى الناقوس الصغير بجواره. يمسك يده في ظلِّ الخوف من الأثر الخاطئ في نفوس الخدَم. ظهَرَ له برجوان وهو يمضي في الطرقة الموصلة بين قاعة الحُكم وأجنحة النوم.
لم يعُدِ الأمر مجرَّد خيالات، عندما توهج الضوء من مصدرٍ غائب، فملأ المكان. دهمه خوفٌ حقيقي. كتَمَ صرخةً، لو أنه أطلقها تذوي صورة المهابة في أعيُن الخدَم والجواري.
فكَّر في أن يجري إلى خارج القصر، إلى المطابخ، أو معسكرات الجند. إلى أي موضع فيه ناس.
الْتقى بابن عمَّار في أثناء سيره الليلي خارج القصر؛ بدَّلَ طريقه. في اليوم التالي، اختار السير وسط البنايات والأسواق. الحرَّاس يتبعونه، يضعون أيديهم على الخناجر والسيوف، يتأهبون لكلِّ تصرُّف يستهدف أذية الإمام.
تواصلَت الأيام، فلَمْ يعُدْ يدري إن كانت الأطياف تظهر له في اليقظة، أو المنام. تداخلَت الأجساد التي تلتفُّ بأرديةٍ شفَّافة، وبالنيران، والدخان. تموجات من الأطياف والأشباح والأرواح والشياطين والموتى، تتجول في القاعات والردهات، تتقافز فوق الجدران وعلى الأسقف، تصعد السلالم وتختفي، أو تعود ثانية. طالَعَه طيفُ الشيخ ظِل الأمان يرمقه بنظرةٍ ثابتة في الظلام السادر. سيوفٌ تطيح بالرقاب، وخناجرُ تبقر البطون، وأفواه تصرخ بآخِر ما عندها، بشَرٌ يخرجون من تحت الأنقاض، وجِيَفٌ يقذف بها مدُّ الموج. تطايرَت نعوش، وتداخلَت وجوه وقرون وحوافر وأظلاف، وتراقصَت هياكل عظمية، وانفرجَت الأنقاض عن جثثٍ الْتفَّت بأكفانها، وحطمَت الحيوانات المفترسة أقفاصَ الحديد، وهاجمَت مَن صادفَته، وخرجَت العناكب والفئران ودِيدان الأرض من أعشاشها وجحورها. طارت، وركضَت، وصاحت، وتعالَت أصواتها بالغناء، وتكثفَت الغابات؛ فشَعرَ بالاختناق. ثمَّة ما يشبه الدخان، وطيور سوداء، ورءوس جِمال، وشعور هشَّة، وذقون مُرسَلة إلى الأرض، وسحنٌ شائهة الملامح، وأعينٌ مُشتعِلة بوميض النار، وأفواه يقطر منها الدم، وأجسادٌ عارية، تسلخَت جلودها، وفُقِئَت أعيُنها، ورقصات مخبولة كأنها لجنٍّ. تترامى أصوات — من أماكن غير معروفة — تناديه باسمه منصور. تسقط صفات الإمامة والخلافة، وما استقر الناس على التحدث به عنه. تتحسَّس راحته نقاطًا، تساقطَت من السقف، تقرفه لزُوجتها. يترامى صهيلُ جياد، وقرقعة حوافر، وصليل سلاسل وأغلال وقيود، وطرقات أبواب، واهتزاز جدران، وفرقعات، ونداءات، وصيحات، وصرخات، ورفْعُ أذان، وصيحاتُ تكبير، وصليلُ سيوف، وبُكاءٌ مكتوم، ونشيج، من أماكنَ يصعب عليه تحديدها.
قال الإمام إنه يشعر بالوحدة في غياب القاضي عن مجلسه، حتى لو خلا إلى نفسه بعيدًا عن مجلس الحُكم. صارحه بأن أفعال ابن عمَّار وبرجوان وغيرهما من الوزراء والكتبة، ربما تسبَّبَت في تعقيده، وكثرة هواجسه، وميله إلى سفك الدماء، وقال إنَّ القتلى صاروا كوابيس وأحلامًا في يقظته، يراهم رؤيةَ العين، ويراقب تصرفاتهم وأفعالهم، ويفهم ما يصدر عنهم من كلمات. وحده هو الذي يشاهد ويُنصت. أشار إلى المواضع، فهمسَت الكلمات المتحيرة. كان قد أزمع — حتى لا تهتز صورته في أعيُن الخدَم — أن يغلق شفتَيه على السِّر في داخله. ثم لم يعُدْ أمامه إلا أن يفيض ما بنفسه، فروى للشيخ ما يعانيه.
قال الشيخ ظِل الأمان: إنَّ الجنَّ مذكورون في القرآن.
قال الإمام: إنهم أُناس أعرف سحنَهم.
سأل الشيخ: هل هم من عبيدِ مولانا؟
– هذا ما أظنه، وإن كنت لا أذكُر متى الْتقيتُ بغالبيتهم، ولا أين الْتقيتُ بهم.
غالب الشيخ تردُّده: لعلها أشباحُ مَن نالهم مولانا بقصاصِ عَدْله.
أضاف للنظرة الغاضبة: ذكرتُم الظالمَين ابن عمَّار وابن جوهر.
لوَّح الإمام للشيخ بيدٍ مُرتعِشة: لا أريدك في مجلسي!
تغيَّرَت نفْسُ الحضرة على القاضي؛ لأنه لم يصُنْ ما خصَّه من أسرار، ولم يحفظها من الضَّياع والشيوع، حتى نقلتها إليه العيون من همسات الناس في الأسواق. تأكَّد من خيانته؛ فأمر بقتله، وقتل مَن يلوذون به، واستصفى أموالَ الجميع.
٢٦
خَرجَ أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله إلى ميدان بين القصرين. يضع على رأسه عمامةً من الجوهر، ويحيط به — كالجناحين — حرَسُه من الركابية. وحمَلَ الخدَم والجند من داخل القصور الفاطمية شاراتِ الخلافة؛ ليشاهدها الناس في الشوارع: أسلحة مذهبة ومفضَّضة، ومغطاة بالجِلد، أعلام من الحرير المخطَّط بالذهب، هوادج تحيط بها ستائر حمراء أو صفراء، سروج وأطواق وجلاجل محلَّاة بالذهب والفضة، قلائد عنبر، الكثير من الصفافير والنقارات والصنوج والأبواق والمداخن، أطقُم برسم الدواب الكثيرة، ليس بينها ما لونه أسْوَد، فلا يتذكر الناس أيامَ العباسيين. يسبق الركب مباشرةً، حملةُ الآلات الخاصة: المظلَّة المرصَّعة بالأحجار الكريمة، المذبتَين العظيمتَين، السيف ذي القبضة المرصَّعة بالجوهر، الرمح المغلَّف باللؤلؤ، الدرقة المزيَّنة بالذهب، كانت للشهيد حمزة بن عبد المطلب، الدواة من الذهب الخالص.
ألِفَ الخروج إلى الاحتفالات الدينية: المولد النبوي، رأس السنة الهجرية، الذهاب إلى الحج، والعودة منه، موالد الأولياء، رؤية الهلال وليالي رمضان، ليالي الوقود الأربع: ليلة أول رجب ونصفه، وليلة أول شعبان ونصفه. إذا سار في موكبٍ مُعلَن، سبقه الأعوان يطرقون أبواب الدُّور، يأمرون الناس أن يُظهروا الفرحةَ؛ يكنسون أمام دُورهم، ويعلِّقون القناديل، وينشرون البيارق والأعلام.
زيَّن تجَّار القاهرة والفسطاط أمام دكاكينهم، وفي الطُّرق القريبة، بما تقتضيه تجارة كلٍّ منهم؛ يطلبون البركة بنظرِ الحضرة.
احتشد في الميدان مئاتٌ من كبار موظفي الدولة، وقادة الجيش، ورجال الأسطول، وأرباب الرُّتب والتغييرات والسيوف والأقلام.
اصطفَّ العساكر والفرسان في الرحبة أمام باب الريح، في أيديهم البيارق والسيوف؛ ينتظرون أميرَ المؤمنين عند خروجه من باب الذهب، يرافقون موكِبَه إلى جامع الأزهر. دُقَّ الطبل، ونُفخ البوق، وضُرب الكوس. خرج قبل موعد الأذان. على رأسه المظلَّة بشَدَّة الجوهر والطيلسان. ارتدى درَّاعة مفتوحة من الأمام — من النحر إلى أسفل الصدر — حلِّيَت بأزرار من فُصوص اللؤلؤ. أحاط بالركب مقدمو صبيان الركاب. اثنان في جانبي الشكيمَتين، واثنان في عنق الدابة من الجانبَين، واثنان في ركابه، والمؤذنون يتلون القرآن. وثمَّة المئات من صبيان الركاب حول الموكب، عليهم المناديل الطبقيات، ويتقلدون السيوف المحلَّاة، وشُدَّت خصورهم بالمناديل، وفي أيديهم السلاح. عرف عنهم أنهم يقتلون في الحال مَن يأمر الحضرةُ بقتله. نُثرَت الورود على الرَّكب، ورُشَّ ماءُ الورد، وتضوعَت روائح المِسك والعُود والعنبر من المباخر المُوقَدة على أبواب الدكاكين، وفي أيدي خدَم أمير المؤمنين والصبية.
مضى الموكب إلى جامع الأزهر. جُهِّز الجامع لاستقبال أمير المؤمنين بإطلاق البخور، وإغلاق الأبواب، ووقوف الجند عليها. لا يُفتح أيُّ بابٍ إلا إذا تثبَّت الجند منه. أمَّ أميرُ المؤمنين موظَّفيه وقوَّاده ووجهاء الناس في صلاة العيد. ثم ألقى خطبةَ الجمعة، وبدأ رحلةَ العودة إلى القصر.
حَرصَ على أن يُعطي أرباب المساجد التي مرَّ عليها، كلَّ واحد دينارًا. عمَّت الصدقات المساكين، وفُرقَت الرسوم على ذوي الحاجة.
أمَرَ للوزير صالح بن علي الروذباري بجوائز، وخلَعَ عليه ما يرتديه يومَ العيد. لم يتخلَّ عمَّا استنَّه أبوه وجدُّه؛ فكان يخلع على وزرائه في عيد النحر، وفي غرَّة رمضان، وفي أول جمعتَين منه، وفي عيد الفطر، وفي موسم فتْحِ الخليج، وعيد الغدير.
أكثَرَ من منْحِ الألقاب. فاق في ذلك ما كان يمنحه أبوه وجدُّه. وزَّعَ الخِلَع والكسوات على إخوته، وأبناء وبنات عمومته والأمراء المطوقين والأستاذين المحنَّكين والمتميِّزين وكاتب الدست الشريف ومُتولي حجبة الباب وأرباب العِمامة والقلم والشعراء.
اتخذ أسلوب الاستمالة والتشجيع بهِبَات الأموال والألقاب ليُخْلِص رجالُ الدولة في أداء أعمالهم. في باله أفعال ابن عمَّار وبرجوان وغيرهما من كبار الموظفين في عهده، وعهد أبيه وجدِّه، جعلوا الفساد والتضييق على الناس صورةَ الحُكم، وأساءوا إليه. جذور الفساد ممتدة إلى ما قبل أيام حُكمه، بدت مستعصية الحل.
وجَدَ في الإنعام على كبار الموظفين من المِنَح والهبات والعطايا، ما يغريهم بالتخلي عن الرشوة والبرطيل وفساد الذِّمم. وحين رفَضَ كاتب المالية صرْفَ أموال الدولة حتى لا تضيع، أملى أميرُ المؤمنين بتوقيعه: «المال مالُ الله عز وجل، والخلق عبد الله، ونحن أُمناؤه على الأرض، فأطلِقْ أرزاقَ الناس ولا تقطعها، والسلام.»
ارتدى الوزير الخلعة: رداء أحمر اللون، ومنديلًا، وعِقدًا منظومًا بالجوهر. شقَّ شوارع القاهرة. دبَّر له غلمانه موكبًا من باب النصر إلى قلب القاهرة. اكتظَّت الطرقات بالجموع الهاتفة، وغصَّت الأسطح والنوافذ بالوجوه المنطلقة.
مضى الركب حتى دخل من باب القنطرة إلى باب الوزارة.
قال الرواة إن صالح بن علي الروذباري أوكَلَ إلى نفسه النظر في القضايا التي يعجز القضاة عن إبداء الرأي فيها، وإصدار الأحكام التي تحفَظُ لكلِّ صاحب حقٍّ حقَّه. يفتح أبواب بيته لأصحاب الدعاوى والمتظلِّمين. يدرس القضية من كلِّ جوانبها. يتأنَّى في إصدار الأحكام؛ فلا يشوبها غرض أو تفضيل.
أشاعوا أنه استبدَّ بالأمور، فهو يجلس في منصة القضاء، لا ليعدل، وإنما ليُصدر أحكام الإعدام بما يُرضي نوازعه وميوله إلى قتل عباد الله. اشترى بيتًا تطلُّ نوافذه على رحبة العيد. لا يغادر موضعه حتى يفرغ المشاعلي من تصفية مَن دفع بهم إليه. يصفِّق بيدَيه فور جلوسه على الكنبة لِصقَ النافذة؛ يطلب شرابًا للارتواء.
٢٧
صار أحمد الكنَّاس شَجًا في حلْقِ صالح بن علي الروذباري. لاحَظَ أنَّ إشرافه على الخراج يسَّرَ له مُطلَق التصرف في أمور البلاد. جَمعَ في يده كلَّ المناصب الدينية والسياسية والحربية. صار عزلُ الولاة وتوليتهم بأمرٍ منه، لا يُعرض على أمير المؤمنين، ولا يُمهر بخاتمه؛ وبقاءُ الولاة في مناصبهم رُهِن برضا الروذباري عنهم. كفى أميرَ المؤمنين أمْرَ الاهتمام بالدولة، وانفرد بالتدبير.
أظهَرَ الكناس مؤاخذته على عدم اهتمام الروذباري بمشكلات العوام — غضبه من حرص الوزراء على أن يحتفظ كلُّ واحد بالنفوذ والسلطان في قبضة يده — لكنَّ الروذباري شغَلَه جمعُ الأموال لنفسه، ولأُسرته. أبطَلَ أمْرَ الوزارة والدواوين، وأبطَلَ بيت المال. استأثر بالأمر كلِّه لنفسه. يأمر، وينهى، ويوافق، ويرفض، ويمنح. الأموال تُحمل إليه. يحصل على نسبٍ من المصادرات والضرائب التي تأخَّرت جبايتها. اعتبر استردادها جهده الذي يستحقُّ المكافأة. ضاعَفَ المكوس على الأراضي والحوانيت والحمَّامات والمَعاصر والطواحين، وكبَسَ بيوت الناس بالمشعل والشمع. أهمَلَ شئون الدولة، وجعل همَّه مُتَعه الخاصة وممارسة الألعاب. وعمل على أن يختفي الكناس من الحُكم، أو أن يختفي من الحياة كلِّها.
عَرفَ أحمد الكناس أنَّ الروذباري يدبِّر له؛ فعاد إلى القاهرة من بيته الريفي بناحية سرياقوس. تتبع ما قيل، فلم يصل إلى طرَف خيط ينتهي به إلى مَن عَهدَ إليهم الروذباري بتنفيذ التآمُر. أهمل الأمر جميعًا، وعاد إلى سرياقوس.
صار يلزم الحذر، ويحتاط لتوقعاتٍ خافية. استرضى حرَّاسه وجنوده بالأموال؛ ليتجنب خروجهم عن طاعته. حرص على سدِّ أبواب القصر بالمزاليج، وإغلاق النوافذ والكوَّات، وجعَلَ للقصر أبوابَه الواضحة، والخفية، تُفضي إلى ممرَّات ومسالك، متعرِّجة ومتقاطعة ومتشابكة. تتشابك؛ فيتوه فيها مَن يدخل القصر للمرة الأُولى، أو مَن هو من غير سكانه. تنتهي ببواباتٍ صغيرة، تنفذ إلى الخلاء، أو الجبل، أو أطراف المدينة؛ فيسهل الفرار في أوقات الخطر. يصعب وصول جند الخليفة إليه، إذا تغيرَت نفسه عليه، فطلب اعتقاله أو قتله. يواجهون التِّيه؛ فيسبقه خدَمُه إلى الباب الذي يغيب من أمامه الخطر. وكان يمضي في طريقه على ظَهْر الجواد، لا يتلفَّت، ويعطي انتباهه لكلِّ حركة أو نأمة. يدرك أن الأعين تراقبه في الشوارع والميادين والجوامع، ومن وراء الجدران. تتعرف إلى مَن يلتقي به، ومَن يجالسه، وتلتقط الكلمات والتصرفات والإيماءات.
هجَمَ عليه جنودُ الروذباري وهو يُسلِم جسده لاسترخاء القيلولة، في بيته المُطلِّ على الحقول. قاوَمَ، وحاول التملُّص، والإفلات من حصارهم وأذيتهم. تكالبوا عليه بسيوفهم، فقطعوه إلى مِزقٍ من اللحم والدم، تناثرَت في القاعة الفسيحة، فصبغَت الأرض والجدران باللون الأحمر. لم يبقَ سليمًا إلَّا الرأس. حمله الجنود على رُمح، ومضَوا به في شوارع سرياقوس، يسبقهم منادٍ يقول: هذا جزاء مَن تتغيَّر عليه نفس الوزير!
عُرف عنه ميلُه إلى محبة العلماء والكتَّاب، فهو يقرِّبهم ويُحسن إليهم، ويُفرِّق عليهم الخِلَع وصُرر المال. وكان قصره مَوئلًا لهم، يقوم إذا دخلوا عليه، يحتفي بهم، ويُقعدهم إلى جانبه، وإن مال إلى التكليف ليُظهر هيبته. أكثر من إنشاء الرُّتب والزوايا والخانقاوات، وأكثَرَ من الصدقات، وفرَّق في أهل العلم والدِّين أموالًا كثيرة. عُرف عنه الذاكرةُ الحافِظية، والقدرة على الاستيعاب. وكان عالمًا بالعلوم الشرعية والأدب، حافظًا لكتاب الله، ولأحاديث الرسول وأخبار السلف والصالحين، وحكايات المُتقدِّمين. وكان يلازم تلاوةَ القرآن في رمضان.
لم يطلب أحد عونه إلَّا أجابه. وكان يجود بالمال قبل أن يصل إلى يده.
كان يُهمل توقُّعات المنجمين. وكان يقول: إذا حلَّ الموت، فلن يكون مفاجأة. كلُّ البدايات تنتهي إلى الموت.
بنى لنفسه مسجدًا وضريحًا، عليه قبَّةٌ عظيمة، زيَّن الواجهة بالشبابيك الجصية، والمقرنصات، والنقوش، والزخارف، وآيات القرآن، وصفَّحَ الجدران بالذهب من الداخل والخارج، وأسدَلَ عليها ستور الحرير، وتدلَّت في الصحن قناديلُ الذهب.
ألِفَ — في حضرة أمير المؤمنين — ألَّا يتحدث إلا فيما يسأله فيه. وكان الإمام يوقِّره، ويجعل له في نفسه موضعًا طيبًا.
بلَغَ نبأ مقتله القاهرة، فحَزنَ الناس. أخلى المُقعدون أماكنهم، وأغلق التجَّار دكاكينهم، وسرَت بين الناس حركةٌ طارئة، وتعطلَت الأسواق أيامًا متوالية، حتى نادى المنادي بأن يعود كلُّ شيء إلى ما كان عليه، ليدبر الناس أمور معيشتهم.
٢٨
قال الرواة إنَّ ست المُلك لم تستطِع المفاضلة بين الكاتب معروف الشامي والكاتب حافظ أبو طرطور بحيث تُبقي على أحدهما. بدَت تصرفات الكاتبَين شرًّا خالصًا، لا سبيلَ لدفعه إلَّا باجتثاثه. نبتٌ شيطاني، من الخطأ معالجته أو تهذيبه. أزمعَت أن تترك تصفيتهما لهما؛ كلٌّ منهما يدبِّر للآخَر حتى يغتاله.
مضَت خيرات في السكك والأزقَّة والدروب والعطفات. تلاحق خطوات الخادم في هرولةٍ تثير التراب تحت قدمَيها، ولا تتيح لها الالتفات، لكنها تعرفَت إلى ما لم تكن رأته من الأسواق وزِحام المارَّة والمساجد والقياسر والروابط والمتاجر والطواحين والحمَّامات والأفران والمناظر والمتنزهات والمدافن.
اخترقَت — في تعدُّد المشاوير التي عهدَت بها إليها ست المُلك — أبواب القاهرة السبعة: باب النصر، باب الفتوح، باب زويلة، باب المحروق، باب البرقية، باب سعادة، باب الفرَج. اعتادَت مصاطبَ الدكاكين وزحامَ الأسواق والبيع والشراء والمساومات والنداءات والصيحات وباعة الذهب وسن الفيل والفضة والأبنوس والخزف والأثاث والحرير والملابس القطنية والأواني والجُبن المقلي والحلوى والقرنفل والنارجيل والفلفل الأسود والزنجبيل والقرفة والعنبر واللبان والنحاس والسلاح والأعلام والخناجر والعِصي والأحجار الكريمة، وملاعيب الحواة وصندوق الدنيا وخيال الظِّل وصيحات المجاذيب، واختلاط أصوات طيور الزينة في أقفاصها، وروائح العُود والصندل والكافور والبهارات والشِّواء والعرق والقمامة والروائح الغريبة والبراز المتناثر في الأركان.
دست الرقعة في صدرها، يسبقها الشعور بالمغامرة، تخالطه — في الفترة الأخيرة — ما لم تستطِع تحديده. ربما الرغبة في فِعل الشر، وإن لم ترسم له ملامح محدَّدة. تعاني العطش إلى ذراعَي مسعود القويتَين، وحضنه، وقُبلاته التي تمسح جسدها، والنشوة التي أجاد التعرف إلى مواضعها. أزال عنها غلالاتٍ لم تكن تراها، ولا فطنَت إليها. ذلك ما كانت تنتظره، وتتوق إليه، وإن لم تفطن إلى ملامحه من قبل.
لم تعُد تطيق البُعدَ عنه. أذاقها من فنون الغرام ما قذف بها في دائرة السِّحر. تراه في داخل الأكواب والكئوس، والْتماع أوعية الذهب والفضة، وفي زوايا الردهات والسراديب والأقبية. حتى في التكوينات التي يصنعها تمازُج الأضواء والظلال في قصور الحريم. تَشرُد في ما قد يَهَبه لها في زيارتها التالية إلى المطابخ. كان يذكر — مثلها — ومضاتٍ من طفولته، الفترة التي سبقَت قدومه إلى مصر، والْتحاقه بالخدمة في القصور السلطانية حتى عمل في المطابخ. لا يعي مساحاتٍ يطمئنُّ إليها قبل أن يستجلبه القراصنة بِطَريق البحر.
وهو ينتزع ابتسامةً باهتة: أعرف أني من صقلية، لكنني لا أعرف موضع صقلية على الخريطة.
– أنا لا أعرف أين ولدتُ، ولا مَن هما أبواي، وإنْ كنتُ على يقينٍ أني لم أُولدْ جاريةً، وأن اسمي هو جلنار.
في بالها — الآن — صرخات، وحشرجات، ودماء، وأجساد مقطوعة الرءوس، وصدور مُخترَقة بالسيوف والخناجر، وبُطون مبقورة بالحِراب. في بالها الخادم الصقلبي الذي قتَلَه الإمام بخنجرٍ في يده. اقتحم عليه المطابخ وقتله، عندما تبينَت عيناه شعرةً دقيقة في الحساء. انتتر بالغيظ، ومضى في طُرقات القصر، لا تشغله النظرات المتسائلة، أو الخائفة. كان الخادم الصقلبي يقلِّب الطعام في الأوعية.
– ما عملك هنا؟
انتزع مسعود الكلمات من قبضة الخوف: أخدم مولاي في المطابخ.
صرخ: وتدسُّ له الوسخ في طعامه.
ثم وهو يدفع الخنجر في صدره: مَن يفكر في إيذائنا نؤذيه في حياته!
ألِفَت دفعه لها داخل الحجرة المتصلة بالمطابخ، يحتضنها؛ فيفجر النشوة في جسدها. قتله الإمام فلَمْ يعُدْ هناك، لم تعُدْ تقدر أن تتسلل إليه في المطابخ، ولا في أي مكان.
أزمعَت — من يومها — أن تثير الصواعق والحرائق والبراكين. تفرض الذل على مَن يستحقه. تجتذبه برائحة الطعام، يتشممها، ولا يتذوقها. يُمنِّي النفس بما لا يحصل عليه.
٢٩
وقفَت على ناصية الطريق المُفضي إلى رحبة باب العيد.
حبَسَت أنفاسها لرؤية الكاتب معروف الشامي قادمًا من جهة باب النصر.
تنبهَت لصوتِ خطواتٍ من درب الفرحية.
واصَلَ كلٌّ منهما النظر إلى صاحبه. يتوحش منه، ويخونه، ويترصد له. استلَّ الشامي خنجرًا من الجراب الجِلدي المربوط أسفل ساقه، وتأهَّب للانقضاض: يا ابن الفاعلة!
تلقَّى أبو طرطور — بخنجره — ضربةَ الخنجر المتَّجهة إلى صدره. انتتر الخنجران بعيدًا. ارتمى الشامي على خنجره، فالْتقطه.
رأى أبو طرطور الخنجر؛ فأبطأ من خطواته. تراجَعَ إلى الوراء بتلقائية، يتلمس جدارًا، أو شيئًا جامدًا يستند إليه، ثم اندفع برأسه وكتفَيه. علا في اصطدامه ببطن الرجُل صوتٌ أقرب إلى الخوار. تلقَّى ضربة الخنجر بضربةٍ في كتفه. انزلق الخنجر من يده. ارتطم بجدار، وانتتر إلى أرضية الطريق.
لم يعُد أمامه سوى أن يعارك بيدَيه. يلجأ إلى قوته البدنية وحدها، رأسه ويديه وقدميه. يستخدمها بما يتيح له أذية خصمه، وإنْ أعوزه صفاء الذهن، ليغزل النسيج، فلا يثقب، أو يتمزق. تراشقا بنظراتٍ محمَّلة بالكُره وهما يلهثان.
استجمع الشامي — في اللحظة التالية — كلَّ طاقته، واندفع — برأسه — ناحيته وهو يُطلق صرخةً عالية. سقط فوقه. اشتبكا في عراك. تداخَلَ الجسدان. تمرَّغا على الأرض. خلَت يدا كلٍّ منهما من السلاح؛ فطال صراعهما. لم يعُد أحدهما يسيطر على جسد الآخَر؛ فيؤذيه، أو يقتله. لجآ إلى اللكمات والركلات والعضِّ؛ وانبثَقَ العرق، والدم.
قاومَت خيرات الخوف وهي تستند إلى جدار ترقب مشهدَ العراك الدامي.
طال اقتتالهما. بدا أنه لن ينتهي. تفادى أبو طرطور — بقفزةٍ إلى الوراء — ركلةً اتجهَت إلى صدره. ثم كوَّر قبضته. قذف بها رأس الشامي. قاوَمَ الشامي تخاذُلَ جسده، وتهيُّؤَه للسقوط على الأرض.
أطلق صرخةً مكتومة، وسقَطَ متكوِّمًا.
قالت ست المُلك: نحن لم نفعل إلا أن أعَدْنا إليهم بضاعتهم!
٣٠
ضُبِط المزملاتي محروس الشربيني متلبسًا بالتلصُّص على النساء في حمَّام الذهب. قيل إنه صنع ثقبًا في الباب الموصل إلى الحمام، ينظر منه إلى النسوة وهنَّ يستحممْنَ. اقتيد إلى بقعة الدم، بشهادةِ مَن رأوه، ودون محاكمة.
أصدر السلطان سجلًّا — في مساء اليوم نفسه — بمنع نزول النساء إلى الحمَّامات.
تحولَت الحمَّامات إلى مواخير. شدَّد على رجال الحسبة؛ ففيها يتمُّ الوضوء الذي يمهِّد لفريضة الصلاة. منعوا النساء من الدخول إليها عرايا بلا مِئزر، ومنعوا اختلاط الرجال والنساء. مَن ضُبط في الحمَّام بلا عمل ولا طلب، عُوقب بالضربِ في موضعه، أو خارج الحمَّام.
حُظر خلو رجُلٍ بامرأة ليست له بمحرم. عاب على النساء خروجهنَّ إلى مواضع اللهو والفرجة، حيث يختلط النساء بالرجال، وينكشف ستر الحياء. أصغى لنصيحةِ الشيخ عابد الشامي إمام المقس بوجوب منع خروج النساء على ذلك النحو السافر.
زاد إلى وظيفة العجائز في تردُّدهنَّ على البيوت، فهنَّ يتبعن النسوة العابثات، ويستعلِمنَ عنهنَّ.
توالَت السجلات بألَّا تكشف امرأةٌ وجهها في طريق، وبتنظيم دخول الحمَّامات. ثم توالت المحظورات: منع اللهو والمُسكِرات، ومنع النساء من الغناء والنشيد، ومن الجلوس في الطرقات، والاجتماع على شاطئ النيل، والخروج إلى أماكن المرح مع الرجال. منع — فيما بعد — وقوف الرجال في طُرقات النساء؛ وشدَّد، فلا تجلس امرأة على باب دارها. التعزير عقوبة المخالفة. يتأكد عمَّاله من نفاذ أوامره في الأسواق والباحات وضفتَي النهر. وأمر بمنع النساء من الخروج في يوم عاشوراء. اختفَت مظاهر جماعات النوح والبكاء على الحسين، وإنشاء المراثي، ووضع المسوح. ثم قال الإمام: امنعوا النساء من مغادرة البيوت إلا لضرورة.
وعض شفته السُّفلى، وأفلتها: حظرنا عليهنَّ التبرُّج.
والْتمعَت عيناه ببريقٍ وحشي: مكان المرأة هو البيت.
وعلا صوته الراعد: لا تغادره إلَّا إلى القبر.
عاب على النساء خروجهنَّ إلى الشوارع سافرات بدون حجاب، ونزولهنَّ إلى الأسواق، واختلاطهنَّ بالرجال، وإقبالهنَّ على شُرب الخمر — تجمُّع النساء يأتي في الخروج من الحمَّامات العمومية والمقابر والأسواق والجلوس على شاطئ النيل وركوب المراكب مع الرجال — ومنع النساء من النظر عبْرَ الكوات، أو من فوق الأسطُح.
حدَّد أمره، فالمرأة تلزم بيتها ليلًا ونهارًا، فيما عدا ليالي رمضان. يُسمح للنساء فيها بالخروج لزيارة الآباء أو الأعمام أو الأخوال. لا يفرِّق الأمر بين الشابة والعجوز. يتقدَّم كلَّ سيدة خادمٌ، يحمل فانوسًا تضيئه شمعة.
أهملَت النساء أمْرَه بعدم دخول الحمام إلَّا بمئزر؛ فأمَرَ بإغلاق حمَّامات النساء. استثنى من أوامره النسوةَ الذاهبات للحجِّ، وللأسفار خارجَ القاهرة ومصر الكُبرَى، والإماء في سوق الرقيق، وغاسلات الموتى، والأرامل المُقعَدات في الأسواق. أضاف إلى ما سبَقَ، أمْرَه بعدم صُنع الخِفاف للنساء؛ حتى يعوق خروجهنَّ، ولِيَضمن تنفيذَ أوامره بإلزامهنَّ البيوت. وأمَرَ بإغلاق الأسواق نهارًا، وفتحها ليلًا.
أضاف من بين أسنانه: ليت الرسالة تصل إلى ست المُلك فتلزم قصرها.
لم أتثبَّت من روايةٍ — لعلَّها فرية — عن خروج نسوة إلى الشوارع، بتحريض من أزواجهنَّ من التُّجَّار والباعة والأعيان والعلماء. حثا النسوة ترابَ التظلُّم والشكوى على الرءوس التي خلعَت أرديتها ونشرنَ الشعور، وعلَت أصواتهنَّ بالنحيب والنشيج والبكاء، وخمشنَ الوجوه، ولطمنَ الخدود، واستغثنَ برحمة أمير المؤمنين.
ترامى تلاغُط نسوة، من داخل حمَّام عمومي، والحضرة في جولةٍ بالأسواق. أمَرَ؛ فسَدَّ الجند عليهنَّ باب الحمَّام بالحجر.
قال المعلم محروس الأباريقي: ليته يفرض القيود على النساء لأسبابٍ دينية.
وضمَّ شفتَيه يغالب ضحكة: يروي الكثير عن العقدة التي تُملي عليه تصرفاته ضدَّ النساء.
قال الشيخ مصابيح: لو أنه كذلك ما أخرج من قصره أمهات أولاده وجواريه.
كان الإمام قد أمَرَ؛ فخرج من القصر الفاطمي الكبير أعدادٌ من أمهات الأولاد والمحظيات والجواري والعبيد من القصر الفاطمي الكبير. أعتَقَ سائر ما يملكه من الذكور والإناث. حرَّرهم لوجه الله تعالى.
أمر — في الوقت نفسه — بالقبض على جميع أملاك زوجته وأمِّه وأخته وعمَّاته وخواصه من النساء، وإقطاعاتهنَّ وأموالهنَّ.
قيل إنه أراد — بأوامره — أن يشمل عدله أهلَ بيته، كما قرَّره على بقية الناس.
أخذَت ست المُلك — في السر — أمَّ ولده أبي الحسن، والولدَ نفسه. أسكنَتهما بقصرها؛ فلا يطالهما أذاه.
٣١
قال حارس البوابة الخارجية للقصر الغربي، وهي تنقر ظَهْر يده بإصبعها: لو أن الخليفة فَطنَ إلى مواهبكِ ما ترككِ.
وعَركَ أذنَها بترفُّق: ربما وهبكِ حريتكِ وجعلكِ زوجته.
لم تعُد تكتفي بمغازلة الرجُل الواحد؛ أزمعَت أن تغري كلَّ الرجال. تطيل النظرة المحرِّضة، الموافِقة، تُذهل الجالس إليها، أو الواقف أمامها، عن نفسه؛ يوافق — دون مناقشة — على ما تريده. يصمت عن دعاباتها القاسية، ويهمل تصرفاتها المثقلة بالعدوانية.
قال لها الخادم أمين حمروش في القصر الفاطمي الكبير: أذهل يوسف النسوة، فقطَّعنَ أيديهنَّ … لا أدري ماذا أقطع من نفسي في ذهولي بجمالك؟!
أجادت كشْفَ ما يثير، وبذْلَ الإيماءات، وتهدُّجَ الصوت، والنظرات، الداعية، والصمتَ الذي يعني البوح. تعطي الإحساس بأنها ستَهَب نفسها في اللحظةِ التالية. تبتزُّ الوقفة الساكنة، الذليلة، ويدها تهوي بما يصل إليها من أدواتِ المطبخ. تضرب، وتضرب. الألم في الجسد العاري، المرتعش، تخالطه اللذة؛ والأمل في اللحظة المشتهاة يكتم الرفض.
يقتحمها الشعور بالنشوة إذا انعكس على وجه الرجُل ما يشي بأنه أُهين، أو أنه طُعن في رجولته. تغالب الخوف من أن يؤذيها مَن تُقدِم على إيذائه. تُرفِق الفعلَ بالبسمة في مساحة وجهها. تعبِّر بالملامح عن وعدِ اللحظات الهانئة. يتسع الأمل لمَن يسرف في التذلل. ربما دفعَت النائم فوق قدمَيها، أو تدفعه عنها في ذروة عناقه لها. تحيا اللذة لانكساره وتذﻟﻠﻪ. تقتحمها المشاعر الصاخبة في خضوعه، واستكانته، وقبوله ما تمليه عليه. مَن يوافق على أن تلبسه زيَّ النساء. يناديها: سيدتي.
أهملت انتماء شهاب النعماني إلى قبيلة كتامة. دفعَته إلى ارتداء ثوب امرأة، وشُرب الماء من جردل أذابَت فيه قطعًا هائلة من الملح. ظلَّت على وقفتها الساكنة في مواجهة لهاث أنفاسه القريبة، حتى أيقن أنها ترضى بقُبلته. ثم فاجأته بضربة سكين في أعلى الكتف. شغله انبثاق الدم، فلم يُعنَ حتى بأن يتوعدها.
هي الآن تهتاج لرائحةِ المغامرة، الدهشة، والاكتشاف، وتوقُّع ما لا تدركه.
٣٢
استدعى الإمام أولادَ الحسين بن جوهر. لم يُدهشوا؛ لطول ما اختبر الجميع أفعاله، حين وعَدَهم بالجميل، وخلع عليهم. الثقة الضائعة حفَّزَت أولاد الحسين الثلاثة للفرار إلى الشام. استغاثوا بحاكم أنطاكية البيزنطي. مضى وراءهم أعوانُ الحاكم. لايَنُوهم، وأخذوهم بالحيلة، حتى أفلحوا في فصل رءوسهم عن الأجساد، وأُلقيَت تحت قدمَي الإمام. قال الرواة إنَّ أشدَّ ما بقي من طفولة الإمام في شبابه وكهولته، كثرة تنقُّله من حالٍ إلى حال، وأنه كان لا يكظم غيظه عند الغضب، ويؤاخذ على اليسير من الذنب.
شدَّد الحضرة، فلا يتصرف أحدٌ من موظفيه ولا قادة الجند إلَّا بأمره. يتسلَّم السجل ممهورًا بتوقيعه. لكنَّ حلقات المكائد والدسائس والصراعات اتسعَت. كثُر السعي والوشايات عند الإمام. قصرَت مُدد الوزراء. تعدَّدت عمليات الملاحقة والترصد في الظلام والهرب والاختفاء، وعاش الجميع في ظِل المصادرة والسجن، وتعدَّدَت حوادث الانتحار والقتل داخل القصر، حوادث غامضة، فلا أحد يدري بواعثها، ولا مَن قام بالقتل. لا شأن للتوقُّع بفساد ولا معايب في تسيير الأمور، إنما هي محاولات للوقيعة تتغير بها نفس الحضرة. كلُّ وزير يشغله التخلص من الوسطاء والكتَبة والأمراء المُنافِسين، أو الذين يتوقع منافستهم، ولو في غاية الأفق.
لم يعُد للألقاب التي يمنحها الإمام لوزرائه وولاته قيمة يستندون إليها. كان القتل ماثلًا في نهاية الطريق، لا تحُول بينهم وبين بشاعة النهاية خِلعٌ ولا ألقاب ولا عباراتُ ثناء. لم يكن يبخل بالألقاب الضخمة وذات الرنين على الوسطاء، ثم ما يلبث أن يقتلهم، أو يأمر بقتلهم. تحوَّل العنف إلى جزءٍ من طبيعته.
لم تعد الشماتة متاحةً لأيٍّ من الذين يحيون في زمانه. شابَت الوحشة طِباعه. مَن رضي عنه اليوم ربما قطَعَ لسانه، أو سمَلَ عينَيه، أو أزهق رُوحه. يؤاخذ بالخطأ الصغير نفْسَ مؤاخذته للذنب الذي يصعب إسقاطه. روَّعَ الخواص والعوام. حتى العلماء الذين كان يأنس إلى مجالسهم. يناقشهم، ويُنصت إليهم، ويفيد من كلماتهم، لم يعودوا يَأمَنون أذاه. تتغير نفسه في اللحظة التي تبدو فيها هادئةً ومستقرَّة. لم تعُد تصرفاته مفهومةً ولا مبرَّرة، إنما هي ضرباتٌ عشوائية لا تفرِّق بين مرتكِبِ ذنب وعابر سبيل. بدَت قراراته كأنها وليدةُ اللحظة، أو عفوية. ما يطرأ على ذهنه ينطق به، ويأمر بتنفيذه، أو يُقدم على الفعل بنفسه. يأمر بالسجلِّ، ثم ينقُض أحكامَه؛ ويُعلن الرأيَ، ثم يرجع عنه.
٣٣
قال الرواة إنَّ النساء لم يرتدعنَ عمَّا نهى عنه أمير المؤمنين. أظهَرَ دلائل الغضب والحاجبُ يقرأ ما في الرقعة.
سبع سنوات مضَت، والنساء — صاحبات الشكوى — حبيسات البيوت، لا يجدنَ مَن يُعنى بأمورهنَّ، وفيهنَّ مَن لا زوج لها.
أمَرَ، فلا يخرجنَ من البيوت بالكلية، وحظر صُنع الأخفاف، وحرَّم النظر من طاقات البيوت، أو من فوق الأسطح، أو الوقوف في مداخل البيوت، أو على أبوابها. زاد فحظر على النساء أن يبكينَ وراء الجنائز، أو يخرجنَ نائحاتٍ بالطبل والزمر. وأصدَرَ سجلًّا بمنع النساء من زيارة القبور، ومن النظر من النوافذ والطيقان. تُستثنى القابلة لمَن تلد، والغاسِلة لمَن تموت، والمتظلِّمة للقضاء، والمُسافِرة إلى الحجاز، أو التي تدفعها للسفر ظروفٌ قاهرة، والأرامل اللائي يبعنَ الغزل، والإماء اللائي يتبعنَ السادة، أو النخاسين، للبيع في الأسواق. شَملَ السجل كلَّ النساء، بصرف النظر عن أعمارهنَّ ومكانتهنَّ الاجتماعية. لم يستثنِ إلا الخبازات والقارئات والقابلات والغسالات والمكفِّنات. حتى المُعَدِّدات، لم يعُد من المسموح لهنَّ بالنزول إلى الطريق. ترفع المرأة — التي تُرغمها الظروف — رقعةً بطلبِ النزول إلى جناب الحضرة. يصدر التصريح؛ فينفذه مُتولي الشرطة. مَن تخالف الأوامرَ تؤدَّبْ عن طريق صاحب الشرطة.
عانت النساء قسوةَ السجلات. ضاقت الحياة بمَن غاب ظِل الرجُل عن حياتها، فهي لا تستطيع أن تتصرف. التبصير بحقيقة الأوضاع يساعد على انفراجةِ الباب، وفتحه.
قبل أن يعلو صوته بقرار الغضب، قال مُتولي الديوان: رفع التجَار إلى مقام مولانا رقاعًا تشير إلى ما تعانيه تجارتهم من كساد.
ثم وهو يخفض رأسه في تأدُّب: معظم ما يبيعونه يشتريه النساء.
عقد حاجبَيه، ثم قال: من يشغله بيع تجارته، عليه أن يحمل سِلَعه إلى الدروب … تشتري النساء ما يُرِدْنَه من وراء حجاب.
أمَرَ بأن يحمل الباعة إلى البيوت ما تطلبه النساء. تُدلِّي المرأة ما تضع فيه الثمن، وتصعد بما يضعه البائع من سلع. شدَّد السجلُّ، فلا يظهر من المرأة إلا ذراعُها مُكفَّنة بغطاء. أذِنَ للعجائز أن ينقلنَ إلى البيوت كلَّ ما يباع في الأسواق. شدَّد، فلا يفوت العجائز شيءٌ مما يجري؛ يطالِعنَ الحضرةَ بما يرَينَه ويسمعْنَه — يرفعنَ إليه الأخبار والهمسات والشائعات — نفِّذَ من قبضٍ على زوجة شقفة النجدي المزملاتي بناحية سوق البزازين. مضى الجند بها، وبنساء سبقنها في الحبوس، إلى شاطئ النيل، فأغرقوهنَّ.
أشارت ست المُلك على النساء، فجززنَ شعورهنَّ، وأرسلنَ الذوائب إلى مقام الحضرة، لعلَّه يعفو.
زاد تقديم الرقاع من النساء والتجَّار وأولاد الناس والعوام. أراد مَن يجهله السخريةَ، فجعَلَ الرقاعَ في أيدي مثالاتٍ من الورق، دلالة أنَّ النساء حبيساتُ البيوت؛ فهو احتجاج على أمر الإمام.
أمَرَ الإمامُ العبيدَ بإحراق مدينة مصر.
٣٤
انحنى الخادم، فقبَّل قدَمَها المتدلية من الكنبة الخشبية، المستندة إلى الجدار. تمسح بخدِّه وشفتَيه في الساق العارية. سحبَت قدمها، ودفعَته في وجهه. تماسَكَ. تسانَدَ على الحائط. أدركَت أنَّ إرادة الرجُل قد بلغَت أقصى ما تحتمله من تماسُك، وأنه يعاني لحظاتِ الرغبة في السكوت عمَّا يراه.
قالت بنبرةٍ ملونة: أداعبك.
ذوى الغضب في وجهه: حياتي فداءٌ لكِ.
وهي تربتُ رأسه: أعرف أنك تُحسن الغناء.
في نبرةٍ متذللة: هل أغنِّي لكِ؟
استطرد كالمنتبه: مَن يعزف؟
– أُدندِن … وتغنِّي.
غمزَت بعينها، وأردفَت: غنِّ: تقولُ بنو العبَّاس.
شرد كالمتذكِّر: تقصدين قصيدةَ ابن هانئ الأندلسي؟
– تذكُرها؟
أنشد في نبرةٍ متعثرة:
لم يكن الخادم الذي يتبعها في طريقها إلى حيث تنقل رسائلَ ست الملك قد تبدَّل منذ فترةٍ طويلة. تخرج، وتدخل، من باب الزهومة غربي القصر الكبير. يجلس لِصقَ جدرانه تُجَّار ومُقعَدون، ويُفضي إلى ساحة صغيرة، تتفرع منها شوارع وأزقَّة. أحدها سوقٌ تمتد — متعرجة — إلى سورِ القاهرة.
الْتقطَت النظرة المتطلعة، المشتهية، وهي تعدل النقاب على وجهها. أعادت ما فعلَت، وهي تميل إلى العطفة المُفضية إلى قلب السوق. بَحْلقَت عيناه بما اجتذَبَ انتباهها. ضحكَت في غنجٍ متعمَّد، أثاره. هي تعرف أنه — مثل برجوان — يكتفي بالتطلع أو الملامسة العاجزة. ينساق في تصوُّر الأغنيات، والرقصات، والتأود، ومناوشة الرغبة، وتلامُس الأجساد العارية، وملاعبة عرائس البحر، وجواري الحكايات القديمة، والتحليق في عوالم السِّحر.
توقفَت لتعدل الثوب على جسدها كلِّه. رفعَت نهدَيها براحتَين مترفقتَين، وتأكدَت من تلهُّف نظراته.
وافَقَ الخادم على الخطوات المتلكئة في متابعته لها داخلَ الأسواق، وأمام الدُّور والدكاكين والزحام وتلاغُط النداءات والشتائم والأدعية. ألِفَت — مثلما ألِفَ الناس — رؤية الرءوس المقطوعة المثبتة فوق الرماح، والأجساد المعلَّقة على أبواب القاهرة، وأسواقها، بعد شنق أصحابها، أو توسيطهم، أو تعليقهم أحياء حتى يُدركهم الموت.
الهاجس في داخلها يتوق إلى ما لم يجهدها تبيُّنه. هي تتسلَّى بإلقاء حبل الغواية. إذا تشبَّث الرجُل به، شدَّته بآخِر عزمها. تطيح بما تصور أنه في قبضته. يعمِّق شعورها بالنشوة تأمُّل إمارات الخيبة. تريد أن تنفُث القيظ، وتعبث، وتنتقم. لا صورة محدَّدة رسمَت ملامحها. ما تريده يحوطه الضباب، وإن يحركه الرغبة في مجاوزة المألوف. تسكت عن ملامسة الأجزاء الظاهرة من جسدها، وعن الكلمات المحمَّلة بما لا تريده، لكنها تبعد عن اللحظة، بشرودٍ في مسعود، وتلاحق صورَ لقاءاتها به. هي تنتقم من الذين عاشوا بعد أن مات.
لماذا مات، وعاشوا هم؟!
لاحظَت القهرمانة شوقَ نظرتها المتحيِّرة في المطابخ، تُتابع الحركةَ بين المخازن والمطابخ؛ أحمال الأرز والسكر والحنطة والدقيق والتوابل، وأقفاص الطير والخضر والفاكهة، وسِلال السَّمك، ولحوم الحيوان التي تُنقل للتقطيع والطبخ فور ذبحها حتى لا تفسد؛ وتنظر إلى عمليات الذبح والعجن والطبخ والخبز. تتظاهر بأنها تعطي الأمر اهتمامها. يداخلها إحساس بأنه — في لحظة ما — سيطالعها مسعود بقامته الطويلة، وعينَيه النفاذتَين، وأنفه الأقنى، وشَعْره الحنطي، يلغي — بظهوره — كلَّ ما رُوي لها عن مقتله. ينقذها من القبر الذي أطبقَت جدرانه عليها. يقودها — ثانية — إلى طريق النشوة والسِّحر.
همسَت القهرمانة بأن تسقط سيرة الخادم الصقلبي. الْتقطَت الأعيُن قوله بأنه من حقِّ الصقالبة أن يتساووا بالكتاميين.
لم تعُدْ عيناها ترى غيره. تراه حتى وهي مُغمَضة العينَين. هو في بالها حين تجلس تحت قدمَي ست المُلك — هل تفطن إلى سرِّها؟ — وعندما تخلو إلى نفسها في حجرتها، وإن أخذها الشرود.
ظلَّت تتردد على المطابخ، تتوقع أن يطالعها مسعود.
٣٥
أشار المشاعلي، فأمال الرجلان رأس الكاتب الحنفي غزلان إلى الخلف. لاحَظَ الشيخ أبو البركات قسوة التصرف في جحوظ عينَي الكاتب، وبروز عروق البشرة المصفرة.
فتَحَ الرجُلان شدقَي الكاتب.
اقترَبَ المشاعلي حتى لامست المُوسَى اللسانَ. جرت عليه؛ فانبثق الدم والصرخات. أخلى الرجُلان وجه الكاتب، وضغطا على كتفَيه ورأسه المائل. بدا كأنهما سينتزعان شَعْر رأسه. بدَّل المشاعلي سيخًا طال مكوثه فوق النار بالمُوسَى المغموسة في الدماء. قرَّبه من العينَين المبحلقتَين. أغمضهما الكاتب بعفوية. دنا من العينين المغمضتين، وأومأ إلى الرجُلَين برأسه. جذبا الوجنتَين إلى أسفل. جرى بالسيخ على العينَين؛ فانطفأتا. صبغ الدم الأحمر أرضيةَ القاعة وجدرانها، وثياب المشاعلي والرجُلَين والشيخ بركات. ظلَّ الشيخ — بقلَّة الحيلة — يردد القول: ترفَّق فيما تفعل، فهو صديق العمر … ترفَّق فيما تفعل، فهو صديق العمر …
كان الشيخ أبو البركات قد دفَعَ لخادمِ أمير المؤمنين أبي الرضا سعد. والى التردد على بابه؛ حتى وجد لنفسه منفذًا بين مَن حملوا هداياهم. وسَّطه — كما يفعل المترددون على البيت — في العفو عن الكاتب الحنفي غزلان. اعتذر أبو الرضا — لمَّا كرَّر أبو البركات الزيارة — بأنَّ أمير المؤمنين أصرَّ على سمل عينَي الرجُل وقَطْع لسانه.
قال الإمام: إن كان الرجُل يهمُّ مَن وسَّطك لنا … فادعه إلى حضور تنفيذ إرادتنا ليخفِّف مُصابه.
٣٦
قال عينٌ للخليفة إنَّ الشيخ عبد القيوم السروجي يتحدث لمُريديه عن المَشاهد الغريبة التي يراها الإمام في صحوه ومنامه.
أدرك الحضرة أن السرَّ الذي خصَّ به الشيخ ظِل الأمان لم يمُت بموته. أمَرَ بوضع الشيخ عبد القيوم في السجن، فلمَّا تذكره، أمَرَ باقتياده إلى مجلسه. لم تعُد العمامة تعطي حقَّ التوقير، ولا الإفلات من العقاب إذا زلَّ لسان عالِم الدِّين، أو أقدَمَ على ما يجب محاسبته عليه.
دفَعَه الجند أمامهم، وخطواته متعثرة. طال بقاؤه في السراديب السفلية، حتى بهره ضوءُ الشمس حين خرج إلى الضوء. لم تعُد عيناه تقويان على مواجهة أشعتها. تيبَّسَت مفاصله من الحركة المحدودة في الزنزانة الضيقة.
أمسك خادمان بيدَيه وراء ظَهْره. أمال ثالثٌ رأسه — بيده — إلى الوراء، وفتَحَ فمه باليد الأخرى. صبَّ فيه رصاصًا مُنصهرًا، وصوت الإمام يعلو: حتى لا تذيع سرًّا ائتمنَّاك عليه.
صرخ الشيخ لأُولى القطرات، ثم اختلَجَ جسده، وسكن.
قال الرواة إن عتمة الليل حملَت معها في جولة الإمام خارج القصر رءوس أشباح لبشر وحيوان وطير، ورؤًى مُتماوِجة، وتكوينات لم يرَها من قبل. تتخايل له، وتخايله. وترامت من مصدرٍ لا يتبينه، أصوات هامسة ومتحشرِجة. وقال الرواة إن المشاعلي فاجأ الإمام — في رؤيا منامية — بالميل عن الرجُل الذي أعدَّ للقتل، والاتجاه إلى الإمام بنظرةٍ متوعِّدة.
٣٧
قال رواة الأخبار إنه حين دعت ست المُلك محبوبة الدلالة إلى القصر الغربي؛ فلأنها عرفَت دورها في التعرف — بأوامر الإمام — إلى أحوال النساء من تردُّدها على البيوت. بضاعتها أدوية الشحم والعقم، وما يغزر الشَّعر، ويسري بالدماء في الوجوه. نقَلَ إليه العجائز ما يجري بين جدران البيوت، من ضروب المجون، وأساليب اللهو والخلاعة، والتبذل والتهتُّك، والغواية والإفساد.
قالت ست المُلك: انقلي إلى الخليفة ما يريده.
وهزَّت سبابتها في وجه المرأة: وانقلي إليه ما أريده.
خصَّ الإمام العجائز من الدلالات بالتردد على بيوت مَن يرشحهم للوساطة. يُظهرنَ التردد على النسوة للخدمة، أو لبيع ما في الأسواق. ينقلنَ ما يَرَينَه من أحوال البيت، وظروف حياة المرشح للوساطة. يقضي الإمام بأن يعهد إليه بالمنصب، أو يمنعه عنه.
قالت محبوبة: لم يعُد قلبي يطاوعني على كلمة الحق.
وَشَت ملامح الجهة العالية بعدم فهمٍ: لماذا؟
– كان الخليفة يمنع الوظيفة. هو الآن يقتل بلا وظيفة.
٣٨
قالت ست المُلك: خُذي هذه الرقعة إلى أخي منصور.
دسَّت خيرات الرقعة في صدرها، ومَضَت بالقرب من الإسطبلات السلطانية. يترامى من داخلها صهيل الجياد، ووقْعُ حوافرها.
خرجَت إلى شوارع وأسواق. نفس الشوارع والأسواق والدروب والعطفات التي كان يمضي فيها معها الخادم النوبي، حين يصحبها إلى قصر الإمام.
استعادت صورةَ الحضرة ممَّا كانت ترويه ست المُلك، والجواري والخدَم: الجسد العملاق، العينان الواسعتان، السوداوان، تمازجهما زُرقة، النظرات الحادَّة. إذا تحدَّث بدا صوته جهيرًا يحمل الخوف إلى الواقف أمامه.
فضَحَ الصمتُ السادر صوتَ احتكاك نعلَيها بالأرض الرخامية. خلعَت النعلَين، ومشَت حافيةً. أهملَت تصاعُد برودة الرخام من باطن قدمَيها إلى رأسها. همُّها أن تصل إلى حيث يجلس أمير المؤمنين.
الكاتب ذو الحاجبَين الأشيبَين، استقبلها عند الباب المغلق — في داخل القصر — وطلب أن تسلِّمه الرقعة.
– الرقعة من مولاتنا ست المُلك.
– أوامر سيدي الإمام أن أفضَّ كلَّ الرقاع، وأبلغه بما فيها.
وهو يُجيل عينَيه في الرقعة: ألَمْ يكن أبو القاسم الجرجرائي في خدمة مولاتنا ست المُلك قبل أن يعمل عند غين خادم مولانا الإمام؟
قالت: أنا لا أترك الحريم.
وهو يتفحَّصها من تحت حاجبَيه الأشيبَين: غين من الخدَم السُّود … يؤذن لهم بالدخول إلى الحريم.
٣٩
في مساء اليوم، تحدثَت ست المُلك — وخيرات جالسة تحت قدمَيها — عن أمر الإمام بقطع يدَي الجرجرائي. تركَت له حرية الانتقال إلى خدمة غين، لأنَّ أبا منصور كان يخصُّ خادمه الأسْوَد بعطفه وثِقته. ولَّاه أمر الشرطة والحسبة بمصر والقاهرة والجزيرة، والنظر في جميع الأموال والأحوال. لقَّبه بقائد القوَّاد، وأن يُكاتب بذلك، وعهِدَ إليه بتنفيذ السجلات التي تُصدرها إرادته: مطاردة المُسْكرات، مَنْع بيع العسل والملوخية والفقاع، حظر الملاهي واجتماع الناس في المآتم، والسَّير خلف الجنائز.
سَخطَ الإمام عليه — في أعوام سابقة — فأمر بقطع يده. وحين مرض — فيما بعد — ركب الحضرة لعيادته، ووهبه خمسة آلاف دينار، وخمسةً وعشرين جوادًا. ثم تغيرَت نفس الإمام ثانيةً على الخادم غين، فصرفه عن الشرطتَين والحسبة، وأحلَّ مكانه حامِل المظلة مظفر الصقلبي. أمر — بعد أيام — بقطع يده الثانية. قطعها المشاعلي، وحملها إلى الإمام في طبق. تأثَّر الإمام لمرأى اليد المقطوعة، وتذكَّر ما فعله غين في خدمته. بعث إليه الأطباء لمداواته. ثم تغيرت نفس الإمام لسببٍ لم يُظهره، فأمَرَ بقطع لسان الخادم. قُطع، وحُمل إلى الإمام في طبق، ومات الرجُل من جراحه.
٤٠
لم تتصور أن الإمام يقطع ميدان بين القصرين ليقف أمامها بعينَي الغضب: هل بدَّلت المواكب طريقها من قصر أمير المؤمنين إلى قصر الوصية عليه؟
قالت ست المُلك: أنا حبيسة قصري، ولستُ وصيةً على أحد.
– كل ما يجري هنا أعرف به في الليلة نفسها.
وارتجفَت عضلة فكِّه: كلُّ مَن استدعيتِهم إلى هذا القصر ذهبوا إلى جهنم.
الْتفَتت — بعفوية — إلى حيث غابت خيرات وراء الباب المغلق. هل يقصد الدلالة محبوبة؟
– أنا لم أستدعِ أحدًا … إنما هم خدم يذهبون ويجيئون.
وهو يضغط بقبضة يده على مقبض السيف: لئن اقترب رجُلٌ من هذا المكان فسأصفِّي عمره.
وهدر صوته: إنهم متآمِرون وخونة … لا بدَّ أن ينالوا جزاءَ الخونة والمتآمرين.
وواجهها: أحذركِ من مضايقتي.
– لم أفعل ما يضايقك.
– لا تجعلي نفسكِ وصيةً على الحُكم.
تفادت النظر إليه، فلا يفطن إلى ما تعانيه: أُشفق عليك من توالي الأحكام والقوانين الجائرة.
صرخ: لا تحرِّكي غضبي بهذا الكلام.
رفَّ على ذهنها أمْرُه بقتل ابن النحوي، مُتولي ديوان الشام، لمَّا دخلَت عليه برسالةٍ من ابن القلانس العامل بخدمتها، يستصرخها، ويشكو لها ما نزل به من ظُلم، وما يعانيه أهل الشام من ظُلم ابن النحويِّ … ماذا جرى؟
قالت: أنا لا يعنيني من الأمر إلَّا مُلك آبائي.
أضافت: حين قدِم جدِّي من المهدية كان قد قطع أواصره هناك باعتزام أن يستمر حُكم الفاطميين في مصر.
وتداخلَت في صوتها بحَّةٌ غريبة: دولة الفاطميين وُجدت لتبقى.
وملأ الاستياء ملامحها: هل أنتظر حتى يتأذى مُلك أبينا بأخطاء عشرين عامًا.
هز رأسه بما يعني رفض سماع أيَّة كلمة: تُصرِّين على إغضابي … أبونا مات … أنا الآن أمير المؤمنين.
ثم من بين أسنانه: الحاكم بأمر الله.
اتجهَت إليه بنظرةٍ دامعة: يا أخي … احذر أن يكون خراب هذا البيت على يديك.
ظلَّ على حبِّه للظلمة، بعيدًا عن قاعات القصر وأجنحته وأقبيته وسراديبه. الأشباح المتراقِصة والأرواح لا تفرِّق بين ضوءٍ وظُلمة، ولا بين نهارٍ وليل. هي تطلع له حين يخلو إلى نفسه، بلا خدَم ولا ركابية. حتى جبُّ الصحراء المتسربِل بالظلمة، صار ينفرد فيه بنفسه وتأملاته. لا يخشى أرواحًا، ولا أشباحًا متراقصة.
كان ليل القصور الفاطمية كائنًا حيًّا، له ملامحه وترددات أنفاسه. يعاني قدوم الليل بأشباحه وخيالاته، وتماوج الأضواء الشاحبة والظلال، والكوابيس التي يقضي — بخوفه منها — بقية الليل صاحيًا. يتعمد السير — بمفرده — في القاعات الواسعة ذات القناديل المضيئة. يبتعد حتى عن الدهاليز الطولية، الضيقة. تفضي إلى قاعات القصر وحجراته وأفنيته وحدائقه. استوحش من الأقبية الحالكة الظلمة، تتخللها، لا يستطيع المرء أن يتبين فيها شيئًا. تقود إلى الأفنية المختلفة، وإلى قاعات القصور، وقاعة الذهب. الشمعدانات في الأركان والزوايا تتحرك من أماكنها. السجاجيد المفروشة في الردهات الطويلة، تُطوى بيدٍ غير مرئية، وتُفرد ثانية. قطع الأثاث تتقافز وتختلط. الثريات المعلقة تتراقص بالضوء والظلال، تصنع تموُّجات وتكوينات على الأسقف والأرض والجدران. ما يشبه الأرواح أو الشياطين تتصاعد إلى الأسقف، تومض بأعينٍ نارية، تقذف في الهواء بالخناجر، وتستعيدها. تزيح الأثاث من موضعه لتؤدي طقوسها المذهلة حوله وفوقه. تختلط، وتتشابك في رقصاتٍ محمومة. تملأ القاعات بأنفاسها ورقصاتها، تسد بها النوافذ والأبواب. يترامى — من الحجرات المغلقة على الجانبين — وقْعُ أقدام، وتداخُل ضحكات، وبكاء، وتلاوة آيات من القرآن.
استغاث بالحرَّاس، فلم يسمعوا ما سَمِع، ولا رأوا ما رأى.
كانت المَشاهد تتحرك، والأصوات تعلو في وقفة الحراس والخدم، يُنكرون ما يراه ويسمعه.
أمَرَ، فنَقَل الخدَم جلوسه من قاعة الذهب إلى الإيوان في البراح والسعة.
فاجأها بالسؤال: لماذا لا تتزوجين بدلًا من هذه الحياة التي تُثير الأقاويل؟
أذهَلَها أنه تناسى — في غضبه — حرصها على ما الْتزمَت به كلُّ النساء الفاطميات. لا زواج، فلا ينحرف مُلك الفاطميين — ذات يوم — إلى أصلابٍ غير فاطمية. أهملَت احتياجات الأنثى، اجتثَّتها من داخل نفسها، كأنها راهبةٌ في عقيدة خالها. شغَلَها اتصال حلقات السلسلة؛ فلا تنكسر بمصادفة يثيرها التوقع. جالسَت أرباب العمامة والقلم، وطفَت على مَن يتذكرون، ولقيَت الوزراء والأمراء والكتبة وخواص الناس والقضاة والفقهاء والقرَّاء وأصحاب الحديث والنحاة والشهود وأرباب المعارف والمعاني والأسرار. أخذَت عنهم جميعًا. لم تتطلَّع عينٌ إلى ما فوق الأرض.
اتجهت إلى الناحية المقابلة، تمسح دمعةً طفرَت في عينَيها.
٤١
قالت ست المُلك لعينَي خيرات المتسائلتَين: ألَمْ أقُل لكِ إني أعلم الناس بأخي منصور؟ … قتَلَ اليوم القاضي مالك بن سعيد الفارقي.
زوت عينَيها، تحاول الاستعادة: الرجُل الذي درَّس لسيدتي فقه الشيعة؟
أمَّنت بهزةٍ من رأسها: كان مؤدِّبَه هو أيضًا!
وزفرَت: اتَّهمه بما يجعلني على ثقةٍ أن أخي منصور جُن.
المتحدثة هي الجهة العالية ست المُلك. تتحدث عن أخيها أمير المؤمنين منصور الحاكم بأمر الله.
ما دورها غير الإنصات؟ وماذا تستطيع في الأمر كلِّه؟
حظرت ست المُلك على القاضي مالك بن سعيد الفارقي أن يدخل قصرها. نقَلَ إليها النسوة شائعات — صدَّقها الإمام — بأن القاضي يخلو بها في تردُّده على القصر ليدرِّس لها فقه الشيعة.
قالت النسوة: إنَّ الحضرة لم يصدق أقوال الناس. وطالَبَ القاضي بأن يقطع الألسنة الكاذبة. معرفتها الأكيدة بميل نفس أخيها للتبدل، دفعها إلى حسم الموقف في بداياته، فتقضي على الآثار المحتملة. وبَّخها لأنها أذنَت لطبيبها الخاص أن يكشف عليها دون وجود وصي يتابع.
قالت ست المُلك: أشار إلى الأتراك بعينَيه، بعد أن كان قد أمَرَهم بقتله. قال إنَّ المؤدب داخَلَه في أمور الدولة — كما يفعل الوزراء — وقرأ الرقاع.
وضربت باطن كفِّها بقبضتها: السبب الحقيقي أعرفه؛ إنها وشايةٌ حقيرة صدَّقها أخي.
قال الرواة إن الناس غلبَتهم الدهشة — صار الخوف شعورًا مقيمًا — حين أعلن عن قتل قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقي. تناثرَت الشائعات بأنَّ أمير المؤمنين اتهمه بموالاة ست المُلك سلطانة، وأنه تدخَّل — بما لا يتفق مع وظيفته — بتحريضٍ من الجهة العالية.
كان قد أمضى سبع سنوات قاضيًا للقضاة. ومثلها ما يقرب من الضعفَين في نظر الأحكام. وكان ينظر في القضاء والمظالم وحوائج الناس والأحباس والدعوة ودار الضرب ودار العيار وأمر الأضياف. عُين لقضاء القاهرة، ووُلِّيَ المنصب في رجب من العام نفسه. خلع عليه أمير المؤمنين، وقُرِئ سجلُّ تعيينه — كالعادة — بالجامع العتيق. رُتبته أجلُّ رتب أرباب العمائم والأقلام، لا يتقدم عليه في أي مجلس يحضره أحدٌ من أرباب السيوف أو الأقلام، ولا يقوم من مجلسه لأحد وهو في مجلس الحُكم، ولا يخرج شيء من الأمور الدينية عنه، ولا تُحرر عقود النكاح أو الجنائز إلا بإذنه، ولا يعدل شاهدٌ إلا بأمره. بين يدَيه خمسة من الحُجَّاب، اثنان بين يدَيه، واثنان على باب المقصورة، وواحدٌ ينفذ الخصوم إليه. وبين يدَيه أربعة من الموقِّعين، اثنان يقابلان اثنَين.
امتدت سلطته، فهي تشمل الخطابة والصلاة في الجوامع، وقيادة موكب الاحتفال بليالي الوقود الأربعة، والإشراف على الأماكن الدينية، والقيام في الذهب والفضة والمكاييل والعُملة، والإشراف على الأحباس وصيانتها. صار للأحباس ديوانٌ مفرد، وإليه أمْرُ الجوامع والمَشاهد، والنظر في المواريث والأوقاف وأموال اليتامى، ومحاسبة أرباب الدواوين، وقَطْع أكثر الرسوم التي كانت لأولياء الدولة من التي يشكُّ في بواعثها، وإزالة ضرورات الناس.
أمَرَ برفع المكوس، وردِّ المظالم، وقطع السبيل على الرشوة والبرطيل، وأصدَرَ الأحكام الرادعة ضد القضاة الذين قبلوا هدايا الوجهاء والأعيان وكبار الموظفين، وحَكَموا لصالحهم فيما عرض عليهم من منازعات هم أطرافٌ فيها. ربما قطعَت يد المرتشي لِدَرَاهم تقاضاها لقاءَ حصوله على ما ليس من حقِّه.
أعاد إلى أصحاب المواريث ما استَلَبه القاضي طه عيادة من أملاكهم وأموالهم المغصوبة. صادَرَ كلَّ ما كان في داره من دواب، وأثاث، وذهب، وستور، وسرادق. أمَرَ بحَلْق لحية القاضي عاطف العوفي، وأن يُضرب ويُطاف به — مقلوبًا — على حمار، ثم ضربه كلَّ يوم عشرة أسواط حتى يردَّ الحقوق إلى أصحابها. أبعَدَ ذوي القُربى والحَسب عن مناصب الدولة، يعطي أحدهم من ماله ليُنشئ عملًا يتكسب منه، لكنه يترك الوظيفة لمَن يحسن أداءها. رزَقَ الفقهاء والفقراء، وفرض لهم ما يسدُّ حاجاتهم، وحرَّم عليهم سؤال الناس.
عَهدَ أمير المؤمنين إليه بكتب الدعوة التي تُقرأ بالقصر على الأولياء، وجُمعَت له ولاية المظالم والأحباس والدعوة ودار الضرب ودار العيار وأمْر الأضياف. اجتمعَت معظم الدواوين في يده، فعَلَت منزلتُه.
توثقَت صِلاته بالإمام. كان يشاوره في الأمور، ويصحبه معه في نزوله إلى القاهرة ومصر وخارج البلاد. إذا قَدمَ أمير المؤمنين من رحلة خارج القاهرة ومصر الفسطاط، حَرصَ على أن يكون أولَ مستقبِليه على باب النصر. يرحِّب به، ويقدم فروض الولاء والطاعة، ويمضي مع ركب الإمام إلى القصور الفاطمية، لا يغادرها إلا بعد أن يأذن له أمير المؤمنين. وبعد أن يرفع إلى الحضرة تقريرًا عن كلِّ ما جرى فترةَ ابتعاده.
قصَدَه أصحاب الحاجات وطالِبو المشورة لمعرفتهم باقترابه من أمير المؤمنين، وأنه يركب معه في الليل والنهار، ويشاوره الإمام في أمور الدولة، يُنصتون إلى آرائه، ويعملون بها، يجدون فيها الصواب والقول الفصل.
عرَفَ عنه الجميع عدالة الأحكام وصوابَ الرأي. أظهَرَ العدل والإنصاف. شاع صيته في الآفاق، واشتهر عدله بين الناس كافة. وعُرف عنه أنه لم يكن يميل إلى القسوة في التصرف ولا الكلام.
تحوَّل بيته إلى ما يشبه بيت القاضي في سماع الدعاوى والفصل بين المتقاضين. رحَّب باستضافة طلبة العلم في بيته. فتَحَ لهم خزائن كتبه، وشرح لهم ما غمض من نُسخ المخطوطات. كتَبَ في العقائد والفقه والمناظرة والتأويل والسير والأخبار والتاريخ وعلم الأرواح، وصارت له مرتبةٌ في الثقة والدين.
كان جوادًا فصيحًا، عف اللسان، يقرأ من صدره وحفظه. ولم يكن يجد لنفسه مكانةً متميزة؛ فهو يرفض أن يقبِّل الناس يده، ويرفض الهدايا، ويحرص أن يأكل ويلبس من ماله، ويغادر بيته بعد أن يتطيب شأن مَن يعدُّ نفسه لترك الدنيا. وكان يمنع خواص الناس وعوامهم من الترجُّل له، فهو يتقبل تحيتهم له حيث يقفون، أو يجلسون. عظم في الناس قدْرُه، وأحبُّوه، ولهجوا بسيرته، ومالت إليه القلوب.
ركب أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله — كعادته — إلى الجبِّ، يصحبه، ويتبعه، عددٌ من رجالاته.
عندما أراد مالك بن سعيد أن يسلِّم على الحضرة، أعرض عنه. تراجع، فلا يزيد من غضب الإمام.
قيَّد غادي الصقلبي يدَيه من وراء ظَهْره، ودفعه إلى داخل القصور، وقتله.
ظلَّت جثته في موضعها، حتى رآها الإمام في عودته من الجب، فأمَرَ بدفنها.
لم تُشهد له جنازة، ولا صلَّى عليه أحد، ولا عُمل له عزاء.
قال الرواة إن الباعث لمقتل مالك بن سعيد ظلَّ خافيًا، وإن زادت الهمسات المتناثرة. أُضيف إلى ما رُوي عن دوافع تصرفاته بتحريضٍ من ست المُلك، همساتٌ عن تأليب الرجُلِ ناسَ الأسواق على الحضرة، وسعيه إلى إيغار الصدور، وإشعال نيران الحقد والضغينة بين الكتبة والقادة والعلماء والوجهاء وكبار الموظفين، وعن زوَّارٍ كانوا يدخلون — في الليل — درب الأتراك. تنفي النظرات المدقِّقة أنهم من أبناء الحي، ولا من المترددين على مجلس قاضي القضاة مالك بن سعيد، إنما هم من خدَم ست المُلك. كانوا يطرقون بابَ بيت ابن سعيد. تُرافق مواربةُ الباب رفْعَ اليد لقنديلٍ، تبينُ في ضوئه عينٌ متسائلة. يظل الضوء — بعد أن يغلق الباب — متسربًا من أسفل، حتى يذوب في ضوء النهار.
وقيل إن السلطان أخذ عليه رفضه لمَا في الصوفية من كراماتٍ وخوارق ومواكب ورايات، ورفْعٍ للتكليف والقول بالحلول والاتحاد، وتزويق لِلَذة الأمان، وحلاوة الإنصاف والعدل.
٤٢
استدعى الحاكم أولادَ مالك بن سعيد. وقفوا أمامه والخوف يقتلهم.
– آلمني مقتل أبيكم.
وقال في صوتٍ مُبطَّن بالودِّ: كان من خواصِّ رجالاتي.
الْتفَتَ إليهم بعينَيه الواسعتَين: هل تعرفون صِلته بست المُلك؟
أضاف موضحًا: ست المُلك … أختي.
قال أبو الفتوح بن مالك: لم يكن أبونا يحدِّثنا عن عمله.
قال في صوتٍ متلكِّئ: أبوكم أسرَفَ في موالاة ست المُلك ومراعاتها.
وانعكَسَ انفعاله في ارتجافةِ يده: يغيظني الرجُل الذي يتَّخذ النساء موضعًا للسرِّ، أو يُصغي إلى آرائهنَّ ونصائحهنَّ.
وكوَّر قبضته: دفع حياته ثمنًا لمَا فعل … لكنني لن أتعرَّض لشيءٍ من تركته.
ونظَرَ إلى أبي الفتوح: أنت أكبر الأولاد … أليس كذلك؟
أضاف في لهجةٍ آمرة: أُقِرُّك على رسمه وإقطاعاته.
٤٣
قُرئ سجلٌّ بأن ما يرفعه الناس من رقاع، وما يطلبونه من حوائج، يتحدَّد في ثلاثة أيام: السبت للكتاميين المغاربة، الإثنين للمشارقة، الخميس لعامة الناس.
وقال الرواة إنَّ أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أصدر سجلًّا بتقليد أبي العباس محمد بن عبد الله بن العوام منصبَ قاضي القضاة، وخلَعَ عليه.
عيَّن أبو العباس خلفاءه في مصر والقاهرة والمدن الأخرى. صار ناطقًا عن الحضرة، وخازن أمواله، وأمينًا على رعيته وبلاده. عاب جهلَ معظم القضاة والمُفتين والكُتَّاب والشهود وفساد ذِمَمهم. استبدل بهم آخرين بعد أن فاحت رائحة الفساد من تصرفاتهم، وميلهم إلى الكسب الحرام، وطبع أحكامهم بالغرض والهوى.
أهمَلَ التحذيرات بأن مَن أُبعدوا عن وظائفهم لن يسكتوا عمَّا حاق بهم. نقل ديوان الحُكم من بيت مالك بن سعيد إلى بيت المال بالجامع العتيق، وأبطَلَ عادةَ عَقْد دواوين القضاة في دُورهم. جعلها بالجامع العتيق.
حاوَلَ إقامة العدل الصارم المنزَّه عن كل غرض وهوًى وشائبة. رفض التدخل في إجراءاته، وأحكامه. تمسَّك بآرائه، لا يتنازل عنها تحت أي ضغط، ورفَضَ كلَّ مؤثِّر وشفاعة ووسيلة. دفَعَ حتى رسائل الوزراء والأمراء وكبار رجال الدولة، وأهمَلَ شفاعاتهم، فلَمْ ينظر فيها. أحاط وظيفته بجميع المظاهر الصارمة، المؤثرة، وإن عُني باستمالة الناس، واجتذاب قلوبهم، وتحقيق ما يسهل تحقيقه من مطالبهم. منع الوزراء والأعيان من تسخير الفلَّاحين والفقراء في أعمال الزراعة وحفر القنوات. كان الآلاف قد هلكوا في أثناء قيامهم بأداء تلك الأعمال.
خصَّ برعايته الفقهاءَ وطلاب العلم وأرباب الصنائع والباعة والأُجراء وأصحاب المِهَن. أكثَرَ من التصدق على ذوي الحاجة والمسكنة. تمكن من قلوب الناس بفيض الجود والفضل. أشرَفَ على دار الضرب العين والورِق والسكة بالحضرة وسائر أعمال السلطنة.
قال الرواة إن ابن العوام ظلَّ في منصبه، حتى آثَرَ أمير المؤمنين الخفاء، أو أُجبر عليه. تفانى في إخلاصه للإمام؛ فوثق به، واعتمد عليه. لم يزهق حياته — حتى غاب عن الناس — ولا ناله بأذًى.
٤٤
قال الرواة إنَّ أمين الأمناء الحسين بن طاهر الوزان صَحبَ أمير المؤمنين في ركوبه. لمَّا انتهى الركب إلى حارة كتامة خارج القاهرة، أومأ الإمام برأسه ناحية الوزان، وقال: اقتلوه!
ضَربَ الجند عنق ابن الوزان، ودُفن في مكان مقتله. ظَهرَ بأموال وصياغات وأمتعة وطرائف. آلافُ الأطباق بين ذهبٍ وفضة. خزائن مملوءة بالمقاطع والستور والطنافس والأبسطة والفُرُش والوسائد والمساند والثياب المصنوعة من الديباج، والمحلَّاة بالذهب. أعداد لا حصر لها من الصحاف وأكواب الشراب والأباريق والقدور وأواني اللبن. أنواع الطيوب من المِسك والكافور والعنبر.
كان الوزير مُلحقًا بخدمة القائد غين. حين عرضت عليه الوساطة، وافَقَ، وإن اشترط أن يكون لكل طائفة من العسكر زمامٌ يرجعون إليه، وأن يكون نظره هو على الأزمَّة مُجتمِعة، ويُخصَّص يومٌ لشئون كلِّ طائفة.
قَبلَ الإمام شروطَ الحسين بن الوزان، وخَلعَ عليه، وأصدَرَ سجلًّا يَهَبه الوساطة والتوقيع، ولقَّبه بأمين الأمناء. باع ابن الوزان ما خلَّفه قائدُ القوَّاد الحسين بن جوهر من صياغاتٍ وأمتعة وطرائف وفُرش وآلات. أضاف ثمن ما باع إلى غين؛ فحصَّل منه مالًا كثيرًا. ظلَّ في منصبه حتى أمر الحاكم بقتله.
لا أحد يدري البواعث للقتل. لا أحد.
٤٥
لم يصدِّق الناس ما رأوا، ولا فهموا باعثه؛ غادَرَ أمير المؤمنين جامعَ عمرو في طواف بالفسطاط. قذف بحربةٍ في يده ركابيًّا على باب الجامع. مال على الرجُل الذي تهاوى. شقَّ بطنه بخنجر استلَّه من جانبه. قيل إن وظيفة الرجُل هي شراء الخدم والجواري والغلمان للقصور الملكية، وقصور الوزراء والأمراء وقادة الجند والأعيان.
وقال الرواة إن الإمام استدعى المعلم شكور الأشعث. لم يدُر في بال الرجُل إلَّا توقُّع الخير. توقَّف الإمام — منذ يومَين — أمام محل الشواء الذي يملكه الرجُل. حادثه، وأبدى عطفه عليه. فاجأ الرجُل في وقفته بضربة رمح، لم يُقرنها بسؤال ولا كلام. طلَبَ سكينًا، وأضجعه، ثم ذبحه بيده، وطلب ساطورًا، ففصل رأسه عن جسده، وطلب ماءً فغسل يده. شوَّح بما يعني غُسل الرجُل ودفنه.
قال والخدَم يحملون الجثة إلى خارج القاعة: اصنعوا له جنازةً طيبة.
ثم وهو يضغط على الكلمات: فليُصلِّ عليه قاضي القضاة.
٤٦
مَن أراد أن يجد عيبًا فلا بد أن يجده.
أمَرَ صاحب الديوان زكريا خضير عيونَه أن يتسللوا إلى حياة المحتسب دريد العشري، يَطَّلِعون على لقاءاته وأفعاله، ومَن يستقبل، والأماكن التي يتردد عليها. يتعرفون إلى ما قد يُخفيه، ويدينه. يبحثون عن العيب في تصرفاته، ويطلبون العثرة في كلماته. ينقلون ما رأوه أو سمعوه؛ فيسهل تقديمه إلى المحاكمة، ومعاقبته.
انصرفَت الأعين — بهمة — إلى ما عهد إليهم به. تنقَّلوا وراءه بين البيوت والجوامع والشوارع والأزقَّة والخلاء. لاحظوا أنه ينزل من على جواده، أول الشارع الأعظم، ويمضي في قلب الزحام بخطواتٍ متقافزة.
مضى وراءه أكثر من واحد، حتى لا يفلت من الأعين المتابعة.
اتجه من حارة الروم إلى سوق الشرايحيين. يحاذر فلا تتسخ ثيابه من مناخل الدقيق والغرابيل.
مال إلى دروبٍ وعطفات، تشغي بأصوات مطارق الحدَّادين ودقَّات الإسكافية وأصحاب الطبليات والدكك المستديمة ومَن يحملون أطباق الطعام وصحاف الفاكهة المُعدَّة للبيع والقعود والمارَّة وألعاب الأطفال ودعوات الشحَّاذين وصهيل الجياد ونباح الكلاب وتلاقي الأذان من المساجد والزوايا القريبة، حتى وصَلَ إلى بيت في داخل زقاق تغيب الشمس عن تقارُب جدرانه.
نظر إلى مشربية في الطابق الثاني، ودلف إلى المدخل المظلم.
كرَّ صاحب الديوان طرَف الخيط. عرف أنَّ البيت لأرملة. قيل إنها كانت جارية، ثم أعتقها الزوج، وبنى بها. وكان من قادة الإخشيدية.
ثارت الأسئلة: كيف لأميرٍ من نسل فاطمة الزهراء أن يتردد على بيت أرملةٍ تدين بالولاء لذكرى زوجها، وللعهد الإخشيدي. مَن يصادق الأشرار، فهو يصادق الشرَّ. حرَّر صاحب الديوان عريضةً بالمعنى، غفلًا من التوقيع. دسَّها في الأوراق المرفوعة إلى مقام السلطان.
علا حاجبا أمير المؤمنين: ما صِلتك بهذه المرأة؟
قال المحتسب في خوفه: إنها عجوز … كان ابنها من حرس بيتي … قتله المتآمرون في عمليةٍ كانت تريد حياته.
رماه بنظرةِ سخرية: تزورها للتسرية عنها؟!
– لم يكن لها عائلٌ سوى الابن المقتول.
وتعثَّر الكلام على شفتَيه: أنا أدفع لها ما يُعينها على الحياة.
صرخ الإمام: مَن تراني؟ … هل لا بد لصاحب العون أن يقدِّمه بنفسه؟
وواجهه بعينَين ناريتَين: مَن يتنازل عن ولائه لنا، عليه أن يتحمل مغبةَ تصرُّفه.
أشاح بيده، وقال في لهجةٍ باترة: اسمُلوا عينَيه، واقطعوا لسانه!
وهُمْ ينصرفون بالأمير، قال الإمام كالمتذكِّر: دعوا صديقه الشيخ أبو البركات يشارك.
٤٧
قالت ست المُلك: ألَا تعرفين هذا الرجُل المقطوع اليدَين؟
أعادت خيرات تأمُّله: لم أرَه من قبل.
وهي تداري ضحكةً في كمِّها: أنتِ التي تسبَّبتِ في قطع يدَيه.
بحلقَت عيناها: أنا؟!
– بعد أن قتل منصور الخادم غين، بعث إليَّ برقعةٍ يستعطفني فيها … خامرني التوجس؛ فبعثتُ الرقعة معكِ إلى أخي منصور الذي أمَرَ بقطع يدَيه.
٤٨
بدت ست المُلك حزينةً كما لم تشاهدها من قبل. تعلم كيف تحيا سيدتها، مَن تصادق، ومَن تستقبل. التهمة قاسية بأنها تضاجع الرجال على سريرها. زاد فأرسل القوابل إلى قصرها ليتحرَّوا عذريتها.
– أنا لم أفعل هذا الأمر إلا بعد أن سممت شائعات العوام حياتي.
– شائعات العوام أم وهم خيالكِ؟!
لم يحاول كتْمَ غضبه: تخاطبين أمير المؤمنين.
وهي تضرب صدرها: تتهمني بسوء السلوك.
ونطق الذهول في عينَيها: تناسيتَ أني جاوزتُ الخمسين.
– لو أن الأعين أخفقَت في التعرف إلى ما تفعلين، فلن أصدِّق أنهم يعرفون ما يحدث في البيوت.
هل كانت أمها، الجارية النصرانية، هي أمَّ هذا الواقف أمامها يفضح ويتوعد؟ وهل تصوُّره هو الأصح في أنَّ أمه هي الست العزيزية؟
هذا الذي اشتعلَت النيران في عينَيه، وأرعَدَ صوته، واهتزَّت قامته العملاقة، وتكثف الزبد على جانبَي فمه، هو شخصٌ آخر غير الطفل الذي ربَّته، وبذلَت له النصح، حتى كبر. تشعر أن أذاه يمكن أن ينالها هي نفسها، وأنها لا تعني لمنصور — في طبعه الدموي — أي شيء. تدرك جيدًا ميلَ أخيها إلى الغدر، وتحسب حسابًا عظيمًا لتوق نفسه إلى القتل.
٤٩
قال الرواة إن الخليفة الحاكم حين بدَّل في سياسة أبيه، فقد كان ما حدث بتأثير الوشاة. كان الخليفة العزيز بالله قد تزوج نصرانية. خالاه أرسانيوس وأريسطيس. عيَّن العزيز أرسانيوس مطرانًا للكنيسة الإغريقية الأرثوذكسية في القاهرة، ثم بطريركًا للملكانية بالإسكندرية، وعيَّن أريسطيس بطريركًا للملكانية ببيت المَقدِس. أنجب العزيز ولدًا واحدًا هو الحاكم، وأنجب من زوجه أو جاريته النصرانية أيضًا ابنة هي «ست الملك». كانت تكبر أخاها الحاكم بأمر الله بنحو خمسة عشر عامًا. وكانت عند وفاة أبيها في السادسة والعشرين من عمرها.
كل ما حاق بالأقباط يجدر وضعه في إطار المؤامرة. تكاثر الدسُّ والوقيعة والمنشورات الغائبة المَصدر، تعيب على الخليفة الحاكم ظُلمه، وتعيب على الأقباط عدم خضوعهم. نقلَت الأعين حوارًا جرى بين الكاتب أبي جنينة وأحد أعوانه، أذِنَ فيه الكاتب للرجُل بأن يختطف الكاهن ساويرس المقدسي، فيودعه موضعًا في الصحراء، لا تصل إليه أعين الحضرة.
بلغ أمير المؤمنين ما فعله الكاتب أبو جنينة. أخلى سبيل الكاهن، واتجه الإمام إلى الكاتب بعينَي الغضب: هل ولَّيتُك أمر القضاء؟
قال أبو جنينة: أنا حيث يضعني مولاي أميرُ المؤمنين.
وهو يغرز نظرةً في عينَيه: هل تحولتَ إلى كبيرٍ للحرافيش؟
– حياتي ضد كل مَن تسوِّل له نفسه إثارة الفتنة.
علا صوته الراعد: الْزم مقبرتك فلا تُغادِرْها!
٥٠
حرص خلدون اللبان على أن تكون مخارج الألفاظ صحيحة، فلا يحتاج الكاتب أنس خضير إلى استعادة ما قال.
أمَرَ الإمام، فنفَذَ الجند إلى مقبرة الكاتب. سملوا عينَيه، وقطعوا لسانه. طالَبَ بأن يردَّ على أسئلته بكتابة الكلمات في الهواء، ويحدثه بالطريقة نفسها.
كان قد مضى ثلاثة أيام على قطع اللسان وسمل العينَين. بدا من ارتباك حركة الأصابع أنَّ الكاتب لم يعتد ما حدث، ولا استطاع التكيف معه. وبدا أن الذهول قد تملَّكه، فهو غائب عمَّا حوله.
تكلَّم خلدون اللبان فبدَت كلماته في الهواء غير واضحة. أشار الكاتب بيده، ليعيد اللبان الكلام. واقترح الخادم أبو الليل أن يعيد الكاتب الكتابة.
نسي الكاتب لسانه المقطوع، فحاول الكلام. تحولَت الكلمات إلى ما يشبه الصراخَ المتقطع. ليس حتى كأصوات الخرس.
هزَّ رأسه بضيقٍ؛ فأدرك اللبان أن غيابه القسري عمَّا حوله يعذِّبه، يُنصت إلى الكلمات، فلا يرى المتكلم، ويعجز عن التحدث إليه.
فقَدَ أنس خضير النطقَ والبصر، فألزمه الإمام الإقامة في مقبرته، لا يتصل بأحد، ولا يتصل به أحد، ولا يقوم على خدمته سوى عجوزٍ من عبيد الإمام. أثَّرَت العزلةُ — في أشهُرٍ قليلة — على ذهن أنس خضير، فتشوَّش. اعتاد الخادم صياحه — بصوتٍ مرتفع — في شخصياتٍ غائبة. ربما أعمل سيفه في الوهم حتى يدركه التعب. يُسلم جسدَه إلى الأرض، ويُسند رأسه إلى راحتَيه، ويبكي.
أبلغ الخادم ما رآه إلى الإمام. أظهر التأثر، ثم قال: فلْيظلَّ في موضعه ليصل حياته بموته!
٥١
قال رواة الأخبار إنَّ الناس أسرفوا في اللهو وحُب الغناء. شُغلوا عن العبادة والعمل.
صدرَت سجلات بمنع الناس من التظاهر بالغناء، ومن ركوب البحر للفُرجة، وحظر اجتماعات اللهو واللعب على شاطئ الخليج. ثم أصدر الحضرة سجلًّا بمنع اللهو والغناء، وألَّا تُباع مُغنِّية، وألَّا يجتمع الناس في الصحراء، وأحرَقَ آلات الطَّرَب. استغاث المغنون بقاضي القضاة. أخذ عليهم عهدًا بعدم العودة إلى مهنتهم. مَن يعلن التوبة يُعفَى من سجل النفي خارج أقاليم السلطنة. تكرَّر الأمر مع صنَّاع التنجيم والكلام فيه. هجروا مهنتهم؛ فرُفعَت عنهم العقوبات.
٥٢
قال الكاتب إمام الدشة وهو يتلفت — بعفوية — فيما حوله: لعلَّه يجدر بنا أن نفتِّش عن مكانٍ نخلو فيه إلى الشطرنج بعيدًا عن أعين الخليفة.
الأرض مفروشة بالرخام الملوَّن، والجدران مغطاة بالمرايا الهائلة، وبالنقوش المحفورة لمناظرَ متتابِعةٍ من رحلات الصيد، وحفلات الموسيقى، ورقصات الجواري والخدَم، ومجالس الشراب، وألعاب الحواة والمهرِّجين، وستائر الحرير منسوجة بالذهب والفضة، والقناديل تتدلى من السقف، والطاولة الخشبية المطعمة بالصدف، فوقها رقعة الشطرنج المصنوعة من الخشب الثمين، والمطعمة بالعاج. وثمَّة مَجامِر من الفضة تتضوع فيها رائحةُ أعشابٍ عطرية وروائح بخور.
نقل الكاتب ماجد الزعفراني الأفراس والطوابي على رقعة الشطرنج: وما شأن الشطرنج بالحُكم؟
عُرف عنه ميله إلى الحياة المرفهة، وامتلاك الأموال، والإكثار من الابتناء بالجواري. لا يشغله شاغل من أحكام دين ولا عمل، إنما هو يُقبل على ما يريد بكُليته.
قال إمام الدشة: يرى الخليفة أننا نضيِّع أوقات الناس في لعب الشطرنج.
ثم وهو يمرُّ بأصابعه في ذقنه: حتى الرهانات التي نمارسها بلَغَه خبرها.
قال ماجد الزعفراني: أعرف أنَّ بعض الشيوخ أباحها. اعتبرها من قبيل المران على الرماية وآداب السلاح وابتكار الخطط للتغلُّب على العدو.
سرح الدشة في صمت، كمَن يقلِّب الأمر في ذهنه: هناك شيوخٌ آخرون اعتبروها من قَبيل اللهو، لا فائدة منها تعود على اللاعب في دينه أو دنياه.
ثم وهو يتأمل غلالات البخور المتصاعدة: سندُ الإمامِ حديثُ الرسول ﷺ: «كلُّ لهوِ ابن آدم حرامٌ سوى الرمايةِ والفروسية.»
قال الرواة إن لعبة الشطرنج صارت كالوباء. انشغل الجميع بها حتى عن أمور حياتهم. أهمل الحراس مصاحف القرآن الكريم. وَضَعوها بين أيديهم لشغل فراغ وقتهم، فلا يسرقهم النوم. انشغلوا — بدلًا من قراءة آيات الله — بلعب الشطرنج، وتعاطي الإهمال على باب القصر.
أمر، فنُودي بمنع اللعب بالشطرنج، وإنزال أشدِّ العقاب بكل مَن يفرِّغ نفسه لهذه اللعبة. صُودرَت رقاع الشطرنج، وجُمع منها أعداد هائلة، أُحرقَت في ميدان بين القصرين.
قال الرواة إن الكاتب ماجد الزعفراني أظهَرَ ضِيقًا. صارَحَ جلساءه بأنه لن يعمل بأمر السلطان.
عُرف عنه ميله إلى لبس الحرير، وإلى وجود الخمر على مائدته، وإتقانه لعبة الشطرنج، حتى إنه كان يلعبه دون أن ينظر في الرقعة أمامه.
حين عرَفَ من عيونه أنَّ خادمه قطر هو الذي تحدَّث عن تفشِّي لعبة الشطرنج، وأنه مدسوس من الإمام على قصره. أمَرَ، فحمله الخادم — في الظلمة — إلى حمَّام الساباط. وقفوا أمام الماء المغلي حتى علَته الفقاقيع، وانتشر البخار في جو الحمَّام. قاوَمَ الرجُل في أيديهم، وفي الماء، حتى سكنَت حركته تمامًا، وغاص إلى داخل الحمَّام.
٥٣
قال الرواة: خرجَت تصرفات الأمراء والوزراء والوجهاء عن الحدِّ المعقول. مالوا إلى اللهو والطرب، واقتناص اللذائذ والشهوات، والإسراف فيها بلا قيد. اقتصرَت جلساتهم وسهراتهم على شُرب الخمور. يُكثرون من شُرب الراح، وسماع العُود والقيثارة والناي والدُّف والطبلة والمزمار والنقارة والصنوج والجرس والمثلثات المعدنية والآلات الوترية. يقربون المغاني، ويحبون أرباب الفن من المغاني. يُقبلون على المآكل والمشارب وآلات الذهب والفضة والجواهر والملاهي والعزف والقصف، والخدَم يدخلون محمَّلين بأواني الذهب والفضة والبلور، فوقها أنواع الشراب والفاكهة والحلوى.
نادى ماجد الزعفراني على إحدى زوجاته. استأذنَت الجارية في أن تعدَّ الزوجةُ نفْسَها له. حَدجَ الجاريةَ بعينَين متأمِّلتَين: البشرة الناعمة، الموردة، تستفزُّه لملامستها، والعينان السوداوان الواسعتان، المرسومتان بالكحل، وصبغَت الشَّعر بالزعفران، وأسدلَته خلف ظَهرها، وتركَت خصلةً منه أمام الأذن، والغمازة أسفل الذقن، أضافت إلى مَلاحتها، ووضعَت الحناء في يدَيها وقدمَيها، وثمَّة عطر يفوح من جسدها، تسلل في داخله بالنشوة.
دفَعَ الجارية — بسكرة الخمر — إلى السرير، بعد أن أزمع — في ليلته — أن يكتفي بها.
تشمَّم أمير المؤمنين رائحةَ الخمر في أفواه المترددين على مجلسه. أمَرَ بقطع الكروم، ونهى عن بيع الزبيب، وعن حَمْله إلى مصر، وما يُعثر عليه يُحمل إلى شاطئ النيل، فتُوقد فيه النيران. داهم الجند مخازنَ في أطراف الفسطاط. حملوا ما كان بها من جِرار يبلغ عددها الآلاف. كسروها جميعًا، وأُغرقَت في البحر. تبع ذلك بسجلٍّ يحرِّم الغناء. قال إن الغناء ينوب عن الخمر، وإنه يفعل ما يفعله المُسكر، فهو يُنقص الحياء، ويزيد الشهوة، ويدفع المرءَ إلى ارتكاب المُوبِقات.
٥٤
أمَرَ أمير المؤمنين، فحُمل إلى دار الحكمة آلافُ الكتب من سائر العلوم والآداب والخطوط المنسوبة ما لم يُرَ مثله مُجتمِعًا لأحد قَط من الملوك. وأُبيح ذلك كلُّه لسائر الخَلق، على طبقاتهم، ممَّن يؤثِرون قراءة الكتب، والنظر فيها. زاد إقبال الناس عليها من الطبقات كافة، لقراءة الكتب، أو للنَّسخ، أو للدِّراسة. جلس فيها جماعات من الفقهاء وأهل الحساب والمنطق والأطباء، للمناظرة في حضرته. كل جماعة تستقلُّ بحضورها. وأمَرَ أمير المؤمنين بتصنيف الكتب في الرد على المخالِفين.