الخفاء
١
خرَجَ أمير المؤمنين إلى ميدان بين القصرين. فُرشت الشقق الحرير في الطريق، وارتفعَت الأصوات بالدعاء والنصر، وانطلقَت زغاريد النساء من الطيقان.
استغنى عن البذخ الذي كان يحرص عليه أبوه وجدُّه، فلا زينات ولا مظاهر أبَّهة من أي نوع. يرتدي ثوبًا أبيض غير مذهب أو مزخرف، وبلا جوهر في عمامته. أزمع أن يتخلى عن عمامة الجوهر وحرس الركابية، وحملة الآلات الخاصة التي تلمع بالذهب والفضة. لم يعُد يحيط به سوى عشرة جياد، مقودها سروج ولُجم، زينتها من الفضة البيضاء الخفيفة. يتقدمه نافخو البُوق وضاربو الطبل والمزمار، ومن أمامه وحوله بنود غير مرئية، ومظلة بيضاء بلا زينة كذلك. وأحاط بالموكب القضاة الأربعة والكافة من الأمراء والوزراء والأجناد والكُتَّاب وأرباب المناصب الديوانية والدينية وأصحاب الحل والعَقد وسائر الرعية.
قال الرواة: إن موكب أمير المؤمنين مضى في الدَّورة الكُبرَى من القصر إلى باب النصر، ومنه إلى مسجد تبر خارج القاهرة. خرج إليه حمزة الزوزني، وانفرد بالإمام يحدِّثه.
طال الحديث الذي لم يعرف فحواه أحد، ثم انعطف الموكب على اليسار، ناحية باب الفتوح، في عودته إلى القصر.
قال الرواة إن أمير المؤمنين أولَى الزوزني — من يومها — رعايته. وزوَّد أعوانه بالسلاح ليدافعوا عن أنفسهم. صار من خواص الإمام الحاكم بأمر الله، ومن الأربعة الحرُم الذين لا يفارقون مجلسه، ولا موكبه.
أطلق الإمام يدَ الزوزني في عقد مجالس الدعوة للرجال والنساء، ومكاتبة كبار موظفي الدولة. حتى داعي الدعاة خاتكين، وقاضي القضاة ابن أبي العوام، وولي العهد عبد الرحيم، أذن له الحضرة بمكاتبتهم جميعًا، وحظر على غير الزوزني الكلامَ في الدعوة.
قال الرواة إن حمزة بن علي الزوزني من مقاطعة زوزن. مجوسي الديانة. بدأ صانعًا للِّباد؛ فعُرف باللبَّاد. وفد إلى القاهرة، وادَّعى الإسلام. كان قد حفظ القرآن، وقرأ في السُّنة بما أتاح له الانتساب إلى العلم. انتظم في سلك الدعاة الذين كانت تغصُّ بهم القاهرة. مارَسَ الجدل الديني، وانخرط في الدعوات السريَّة. حاوَلَ الطعن على الإسلام، وإفساد صحيحه بالتأويل والأحاديث الكاذبة. وتعصَّب — دومًا — لقومه من المجوس، وعمل لنصرتهم بالدعوة المعلنة، وبالحيلة والدس والوقيعة وإذكاء الفتن. شغله أن يعهد الحضرة إليه بوظيفة داعي الدعاة، يتبعه اثنا عشر نقيبًا، يتبعهم ثلاثون داعية، يتولون أمور المناطق التابعة لدولة الخلافة.
اتخذ الزوزني لنفسه أعوانًا، يضعون فوق رءوسهم عماماتٍ هائلة، ملوَّنة. ويتمنطقون على خصورهم بأحزمةٍ عريضة من الفضة، تتدلى منها خناجر أو سيوف صغيرة. وكان على رأسهم سفير القدرة إسماعيل بن محمد التميمي؛ يُنفِذه لأخذ البيعة من الأعيان والوجهاء والخاصة. أعلنوا التظاهر بالقبول، وإن أضمروا الرفض. انتقام الإمام حتمٌ إذا نقلَت إليه الأعيُن ما يُجيد الزوزني نسْجَ خيوطه.
عاد موكب أمير المؤمنين إلى القصر الفاطمي. خلع على الواسطة ثيابه الحُمر التي كان يرتديها يوم العيد. ركب الوزير — بالخلعة — من القصر. تقدَّم موكبه الطبولُ والأبواق والأعلام، ومن حوله الحُجَّاب والحواشي والحرس الخاص. شقَّ القاهرة حتى دخل من باب القنطرة إلى دار الوزارة.
٢
أبلغَني رواة الأخبار أنه حين علا صوت الرجُل ذي البشرة المجدورة بالقول: اتقوا الله في المسلمين، أدرَكَ الناس أنَّ حمزة الزوزني دسَّ على الشيخ مصابيح مَن يُسيء إليه، ويحاول فضيحته.
كان الزوزني قد طلب الشيخ مصابيح مرارًا، فلم يسعَ إليه. أرسل إليه مَن عرضوا عليه الأموال النفيسة، فردَّها.
قلَّ تردده على الزاوية، وعلى سويقة الوزير، ولم يعُد يتردد على بيته إلَّا لضرورة. فهو يقضي معظم أوقاته في مغارة بجبل المقطم. يخلو إلى كتبه وأوراده وأذكاره وتأمُّلاته، ويستقبل أتباعه ومُريديه. تمتد الأحاديث وتتشابك، محورها الأسئلة من الأتباع والمريدين والأجوبة من الشيخ، تضع الحلول للقضايا الفقهية والمشكلات. ربما اتصلت الأسئلة بقضايا الدنيا، فلا يتردد الشيخ في إبداء رأيه.
استفحَلَ أمرُ الشيخ، وعلا صيته.
وفد عليه الناس من كل صوب. يبايعونه، ويتبركون برؤيته. نقلَت الأعين آراء الشيخ في غرابة القوانين والمراسيم وعمليات التضييق على الناس.
لزم الشيخ صمتًا، وإن جرَت أصابعه — بعفوية — على خاتَمٍ في بنصره، أهداه له الشيخ معتمد الدمنهوري، عليه الأسماء، فيقيه الخطر.
فهِمَ المعلم الأباريقي التدبير. قال ليفوِّت الفرصة على الرجُل ذي البشرة المجدورة: شيخنا ينتفع بعلمه مولانا أمير المؤمنين.
أُرْتِج على الرجُل، فلوَّح بيده. ثم تحسَّس شومة تحت مقعدته، وطوح بها في اتجاه الأباريقي.
تعاركوا بالأيدي، ولجَئوا إلى السيوف والخناجر والشوم والسواطير. حتى قِطعُ الزلط المسنون لجَئوا إليها. شجَّت الرءوس، وسالت الدماء، وخضبَت الأرض والجدران.
تصعَّب له الناسُ وأقْبَلوا على صلاة الجمعة التي يُلقي فيها الخطبة ويؤمُّ المصلين، واعتقدوا فيه اعتقادًا زائدًا، فمنزلته أقرب إلى الصحابة والأولياء والتابعين.
كان أعيُن الزوزني يترددون على الزاوية، يتعرفون إلى أحوالهم، يُنصتون إلى ما يروونه من حكايات، يرددون أذكارهم وأدعيتهم.
لم يفطن الزوزني إلى ما يجري في زاوية الصوفية إلَّا بعد أن علَت الهمسات. زادَت الأعين فأكدَت أن الزاوية تحولَت إلى نقيض عملها؛ فهي موضعٌ لنسج التآمر والوشاية وتدبيرات القتل.
أنشأ حمزة الزوزني جامعًا مقابلًا للزاوية التي يجلس فيها الشيخ في سوق القناديل. عيَّن فيه واعظًا يخالف الشيخ مصابيح في فقهه وعِظاته وتفسيراته لأمور الدِّين والدنيا. وحاوَلَ أن يجتذب الناس بسبيل الماء البارد في ميضأة الجامع، فيسهل على مَن يرتوي من عذب مائها أن يمضي من الباب الموصل بين الميضأة وصحن الجامع.
لمَّا ظلَّ الأمر على استقامته، دسَّ الوزير على أصحاب الشيخ واحدًا من خدَمه. تنكَّر في زيِّ الدراويش، وشارك في حلقات الذِّكر والابتهالات والأدعية.
كتَبَ الخادم في أوراقه ما أطلق صيحة الذهول من فم الأمير. جاء الشيخ وأعوانه بمعتقداتٍ جديدة تناقض المذهب الشيعي. كانت أحاديثهم تُجرى بالرمز والتورية والكناية، تتناثر من أفواههم حروف وعبارات، لا يفهمها سواهم، كأنها طلاسم السحرة والمنجِّمين. وإن نقلَت الأعين استشهاده بأحاديثَ للرسول تقول إنه ما من رجُل من المسلمين أعظم أجرًا من وزيرٍ صالح مع إمامٍ يطيعه، ويأمره، بذات الله تعالى. وروى عن عائشة قول الرسول ﷺ: «إذا أراد الله بالأمير خيرًا، جعل له وزير صدق، إن نسي ذكَّره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك، جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكِّره، وإن ذكر لم يُعنه.»
اكتشف أعوان الزوزني سراديب وأقبية، حفرها الناس في امتدادات كهوف المقطم. امتلأت بالسيوف والخناجر والفئوس. وكان يجري في أحدها حلف يمين الولاء للجماعة، فهي تنتقم من الرجُل إذا حنث بيمينه.
قالت الأعين إن ما حدث من فِعل أعوان محروس الأباريقي. أزمع أن يعالج الأمر بنفسه. لو أنه أبلغ أمير المؤمنين، فربما أطاح برأسه لإهماله، وربما نبَّه الحضرة إلى ما يحرص على إخفائه عنه.
أسكتَ الوزيرَ تهيُّؤ الآراء. قال: دعوا هذا الأمرَ لي.
أملى على كتبة التقارير أن الرجُل يتعاطى المُغيِّبات باسم الفَناء في الملكوت، وأنه يدسُّ في طعام مُريديه ما ينقلهم إلى الخيال، والنأي عن الواقع. يُلقي عليهم — وهم في حال الغيبوبة — تعاليمه وإرشاداته، فتمكن من النفوس، واستولى على العقول. واتهم الشيخ مصابيح بأنه انغمس في التمتع باللذات، وأباح البنات والأخوات، وأجاز اللواط، واستباح قتلَ الغلام الذي يرفض الفعلة الدنيئة. واتهم الشيخ بأنه أهمَلَ سفك الدماء، وتعطيل الحدود، وإباحة الفروج، وسب أمير المؤمنين من فوق المنابر، وفي الجلسات الخاصة. واتهم أعوان الشيخ بأنهم حطُّوا التكاليف الشرعية عن كواهلهم، فهم لا يتوضَّئُون، ولا يصلُّون، ولا يدفعون صدقة ولا زكاة، ويرقصون بدعوى الاتصال، ويتقاعسون عن دعوات الجهاد، ويذكرون البيت الحرام دون أن ينتووا السعيَ إليه، وفاضت من أفعالهم وأقوالهم رائحةُ الزندقة.
قال الزوزني من بين أسنانه: خان الرجُل الأمانة، ولا بد أن ينال جزاءه.
ثم في لهجةٍ باترة: لا بُد أن يُقتل!
ملأ الجند الجامعَ عقب أذان العصر. دفعوا محروس الأباريقي من باب الجامع. حلقوا لحيته. عروه من ثيابه. قيَّدوا يدَيه وراء ظَهره. أركبوه حمارًا بالمقلوب.
مضى الحمار في الشوارع والميادين والأسواق، يدفعه الجند باللكمات، وتزفُّه الدفوف والمزامير، ويحيط به الأولاد، والمنادي يهتف، وهم يردِّدون: هذا جزاء الخيانة! … والناس يُفسحون الطريق، يتأملون ما يحدُث.
أمَرَ الكاتبَ، فذكَرَ في أمرِ إعدام الأباريقي أنه أحدَثَ أحكامًا غير صحيحة، وسعى لنشر مذهبه المخالِف في الجوامع والزوايا والأسواق. ذهبَت كلماته بعقول العوام، صرفَتهم عن الله ورسوله. أول انشغاله تشويه صورة الحُكم، والنيل من شخصِ الإمام. اتُّهم بالترويج لشائعات، تطعن في نسب أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله. وذكَرَ أنه أمَرَ مريديه أن يوزِّعوا في الأسواق مرسوم الخليفة العباسي في نسب الفاطميين، ورفض كتبهم وعقائدهم. وأن يكتبوا شتائم أمير المؤمنين على المساجد والدُّور.
رجا الأباريقي الجندَ ألَّا يقتلوه. توسَّل إليهم أن يبقوا على حياته، حتى يقف أمام السلطان، أو القاضي. يسأله، ويُنصت إلى أقواله. هو لم يفعل شيئًا، هو بريء. تظاهَرَ أعوانه وتجَّار السوق بأنهم لا يرونه. لم يخاطبه أحد، ولا حاولوا الاقتراب منه، ومَن تابع اقتياد الأباريقي إلى حيث يُعدم، اكتفى بالنظرة المتأمِّلة، الحزينة.
ظلَّ الأباريقي يهتف: أنا بريء.
دفعه جنديان إلى بقعة الدم. ارتخت ساقاه، وهمَّ بالتهاوي. لكنَّ الجنديين وضعا أيديهما تحت إبطه، فحالا دون سقوطه.
طلَبَ منه إمام جامع الأنور تلاوةَ الشهادتَين، فعاود الأباريقي الهتاف: أنا بريء.
انهال الجند عليه بالمقارع. طوق رأسه بذراعَيه يحميه من الضربات الموجِعة. تمنَّى لو أنَّ أحد أعوانه المحيطين به — لا يقوون على فعل شيء! — قذَفَه برُمحٍ، أو طعَنَه بخنجر، يضع حدًّا لعذابه.
مسح الجميع بنظرةٍ طويلة، مستغيثة، لم تتوقف عند وجهٍ محدَّد: تكفَّلوا بأطفالي؛ فهم صغار.
اندفع ناحيته رجُلٌ في أواسط العمر. نطق أمامه بالشهادتَين، ليردِّدها الأباريقي، فلا يرحل عن الدنيا دون إعلان يقينه الديني.
مدَّد الجند جسده على الأرض، وربطوا قدمَيه ويدَيه إلى أربعة جياد، انهالوا على ظهورها بالسياط، فانطلقَت. تمَزَّق الجسدُ إلى أشلاء. ما تبقَّى من الجسد أُضرمَت فيه النيران.
قالت الأعين إن محروسًا الأباريقي ظِلٌّ لا قيمة له. الشيخ مصابيح هو الرأس الذي يجب أن يُفصل عن الجسد. يختفي الأصل والظل، ويختفي التآمر.
٣
قال الرواة إنَّ الشوارع — يوم قُتل محروس الأباريقي — خلَت من الناس، وترامى النواح والبكاء من وراء الأبواب والنوافذ المغلقة، وتجرَّأ بعض المؤذِّنين، فعَلَت أصواتهم — من فوق المآذن — في غير مواقيت الصلاة. ثم خرج أهل مصر الفسطاط — في صباح اليوم التالي — يهتفون للسلطان، ولمحروس الأباريقي. زاد السخط بين الناس وانتشر. حتى باعة سُوق القناديل، أغلقوا دكاكينهم، وانضمُّوا إلى تجمُّعات الناس، يهتفون، ويصيحون، ويقذفون الجُند بالحجارة.
أباح حمزة الزوزني الفسطاط لجنوده. قال: قولوا للناس وأنتم تأخذون الغنائم: هذا دستور السلطان!
قال قائد المئين: هل هذا أمرُ السلطان؟
قال الزوزني: تسأل أو تعترض؟
ورسم على شفتَيه ابتسامةً باهتة: حتى السؤال يضعك في بقعة الدم.
وأشار إليه: اقتلوه!
غادر الجند أسوار القاهرة إلى الفسطاط. هجموا على الحارات والدُّور، واعتدوا على الناس. تصدى لهم — بالسكاكين والحجارة والمقاليع والهراوات والشوم والنبابيت والمعاول والفئوس والمشاعل — أولادُ الناس وأهلُ البلد وأربابُ الحِرف وأهلُ الصنائع والباعة والمعدمون والعاطلون. واجَهَهم الجند بما عجزوا عن مغالبته. ذابوا في الدروب والعطفات المتفرِّعة من الميدان.
قال الزوزني: حين يختفي أحد، فلا بد أنه أخطأ!
أمَرَ بقتل كلِّ مَن يشكُّ في أنه خرج للعنف من بيته.
تقاطر الجند داخل المدينة. سقط الضحايا بالعشرات. حطَّم الجند أبواب الدُّور والدكاكين. نهبوا الدُّور والأسواق والدكاكين، وكل ما وصل إلى أيديهم من بضائع وأموال، وأشعلوا النيران. أسرفوا في النهب والسلب، وإعمال السيوف في الأجساد، قتلوا المئات من أهلها، قتلوا مَن لاح لهم في أيِّ أفق، وهجموا على النساء في البيوت، وخطفوا الأطفال والصِّبية. وبقروا بطونَ الحوامل، وذبحوا الصغار على صدور النساء، وقتلوا الأجنَّة في بطون الأمهات، وفقَئوا العيون. وقفوا في طريق القوافل، وترصَّدوا للعائدين من الحقول، ومن المُدن القريبة. حتى المارَّة والمُقعَدين في الأسواق والشوارع، نالهم الأذى، وسُرق ما كان معهم من متاع وأموال. حتى الثياب انتزعوها عن الأجساد المرتعِشة بالخوف، وغابوا بها.
قال الرواة إن الحضرة أبدى تأثُّره حين عرف أنَّ الجند لم يعثروا في بيت الأباريقي على مالٍ أو مُقتنيات، وأن مَن لم يفرُّوا بحياتهم من الجيران تكفَّلوا بدفع نفقاتِ التغسيل والجنازة والدفن. شدَّد على تكريمه، ودفْنِه بمظاهر الاحترام، والإنفاقِ من ماله الخاص على كلِّ الخطوات، ودفعِ راتبٍ شهري لأرملته وأبنائه.
انتشر المنادون في القاهرة والفسطاط. دعوا الناس إلى الهدوء، وإلى الخروج — إن أرادوا — من منازلهم، وفتْحِ الأسواق والدكاكين والحمَّامات والخانات. نادوا بالأمان والاطمئنان، والبيع والشراء. أخمدَت الفتن، وقُضي على القلاقل، وانقادت الأمور. لا يخاف أحد على أمواله ولا على بيته. كلُّ إنسان حر في دينه ورأيه. لا وصاية لأحد على أحد. أصدر أمير المؤمنين سجلًّا؛ لا يُقام الحدُّ على مرتكب جريمة إلا بعد أن يقرَّ شاهدا عَدْل بما حدث، فيقام عليه الحد، أو يطلق سبيله. مضى أمس بما فيه، وأتى اليوم بما يقتضيه. معاشر المسلمين، نحن الأئمة، وأنتم الأُمَّة. مَن شهد الشهادتَين … ولا يحلُّ عروة بين اثنَين، تجمعهما هذه الأخوة، عصم الله بها مَن عصم، وحرم عليها ما حرم، من كل محرم من دم ومال ومنكح. الصلاح والأصلح بين الناس أصلح، والفساد والإفساد من العباد يُستقبَح. يُطوى ما كان فيما مضى فلا يُنشر، ويعرض عمَّا انقضى فلا يُذكر، ولا يُقبل على ما مرَّ وأدبر من إجراء الأمور على ما كانت في الأيام الخالية، أيام آبائنا الأئمة المهتدين، سلام الله عليهم أجمعين، مهديهم بالله وقائمهم بأمر الله ومنصورهم بالله ومُعزِّهم لدين الله، وهو إذ ذاك بالمهدية والمنصورية، وأحوال القيروان تجري فيها ظاهرةٌ غير خفية، ليست بمستورةٍ عنهم ولا مطوية. يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون، ولا يُعارض في أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون، صلاة الخميس للذين جاءهم فيها يصلون وصلاة الضُّحى وصلاة التراويح لا مانع لهم ولا هم عنها يدفعون، يخمِّس في التكبير على الجنائز المخمِّسون، ولا يمنع من التكبير المربِّعون. يؤذِّن بحي على خير العمل المؤذنون، ولا يُؤذى مَن بها لا يؤذِّنون، لا يُسبُّ أحد من السلف، ولا يحتسب على الواصف فيهم بما يوصف والحالف فيهم بما حلف. لكل مسلم في دينه اجتهاده، وإلى الله ربه ميعاده عند كتابه، وعليه حسابه. ورسم أمير المؤمنين بتعويض كلِّ مَن أوذي في بيته أو ماله أو نفسه. تُدفع التعويضات من أموال الجند المصادَرة.
اختفَت مضايقات الجند والدرك والعسس. انصرف الناس إلى أشغالهم، وإلى ممارسة حياتهم في الدُّور والدكاكين والأسواق، وإن ظلَّت الأيام الفائتة كابوسًا ينغِّص عليهم الحياة، ويرسم ملامح القلق.
قالت الروايات إن محروسًا الأباريقي تحوَّل إلى شبح، يظهر لمَن اغتالوه في النواصي المظلمة والأقبية، وربما أطلَّ عليهم من نوافذ البيوت.
خشيَ حمزة الزوزني أن يُفتضح سِرُّه، وأنه هو الذي مَهرَ دستور الإباحة بتوقيعه. حلقة في سلسلةٍ لا نهايةَ لحلقاتها. حَرصَ أن يسير في النهار والليل على جواده دون حراسة، في صورةٍ جديدة. جَعلَ السلطان يتصور أنه يمضي إلى الأماكن التي يتردد عليها بمفرده، لكنْ تناثر الخدَم بخيلهم وأسلحتهم، أمام الناس، وعلى مبعدةٍ منه، ظلَّ يشي بأنه يخشى على حياته تنبُّه السلطان، وأذى الناس.
فاجأ قائدُ الألوف الجُند بأمر السلطان أن يكفُّوا عن السلب والإباحة، وإعطاء الأمان لأهل الحارة.
قال مُتولي الشرطة: معي سجلٌّ باستباحة الحارة.
قال قائد الألوف: مَن يصدر الأوامر؟
– أنا أنفِّذ ما أتسلَّمه ممهورًا بتوقيع سلطان البلاد.
حدجه بنظرةٍ مستفهمة: توقيع السلطان أو ختمه؟
– ما الفرق؟
– ربما لا يعرف الخليفة بأمر هذا السجل.
٤
نُودي في الناس بالخروج إلى باب زويلة لرؤية ماجد منصور التاجر بسوق الشمَّاعين. قصَرَ تجارته على بيع الخمور بما لا يقبله دين ولا دنيا، فوجب عليه العقاب. قدم الجنود بالرجُل مقيدَ اليدَين بحبلٍ وراء ظَهره، وأحيط عنقه بحبلٍ آخَر. كان وجهه مغطًّى بالدم والزبد والعرق والرمال. وكان يُظهر الخشوع والانكسار، ويبكي، ويطلب الرحمة والمغفرة.
أشار والي الشرطة، بأمرٍ من قاضي القضاة حسين بن علي النعمان، فبطح الجند الرجُل أرضًا، وانهالوا عليه ضربًا بالمساوق والشوم. أنهضوه، وقيَّدوه لعارضة. جلدوه حتى غطَّى الدم كتفَيه وظَهره. بدا له الموت هو الراحة الوحيدة، المتاحة. أظهَرَ المشاعلي سيفًا في خريطة، أحمر وأصفر بشراشيب غزيرة. أدرك أنه سيف الدم الذي سيطيح بعنقه.
حين أمر أمير المؤمنين بإضاءة الشوارع والأسواق بمصر والقاهرة ليلًا، كان يشغله صالح التجَّار وأصحاب الحِرف والصناعات والباحثين عن الرزق. لم يضع في باله أن تكون الإضاءة دافعًا لأن يشرب الناس الخمر في الشوارع والدكاكين وعلى أبواب الدُّور، وتنتشر بيوت الفساد، ويخرج النسوة في الطرقات، وتتزايد الأماكن المشبوهة والأركان المظلمة.
أمَرَ بتطهير الأسواق من الخمور والخواطي والمخانيث، وبمنع الحشيش والنبيذ والبوظة، وبإبطال ضمان الحشيشة. توالَت السجلات بمنع شرب النبيذ سرًّا وجهرًا، وإخفائه أو استبقاء شيء منه، وحُظرَت صناعة الخمر وتجارتها وشربها، وتتبُّع ألوانها حيثما كانت. ونهَت عن الإلمام بالمسكر، أو شربه، على اختلاف أصنافه وأسمائه وألوانه وطعومه، قليله وكثيره، ونهَت عن اقتنائه أو عمله واعتصاره: «قد أمَرَ أمير المؤمنين، وبالله توفيقه يُكتب هذا المنشور ليُقرأ على الخاص والعام، ينهى عن شرب شيء من المُسكرات على أصنافه، وأسمائه، وألوانه، وطعومه، وكل شراب مشكوك فيه مما يسكر كثيره وقليله.» حرم كل ما يدخل في صناعة الخمور، وكَسْر ما عند الناس من الجِرار والظروف الفرغ والدِّنان، وإراقة ما بها من نبيذ وعسل وزبيب، وتغريق العنب وقناني الخمر في النيل، وبمنع بيع العسل الأسود، وكسْرِ جِراره، أو إلقائها في النيل؛ وصُودرت أشجار العنب في أراضي الفلَّاحين، ومزارع الكروم في الأديرة والكنائس، وأُحرقَت مساحاتٌ كبيرة منها في جيزة مصر.
طارد الجند — بلا هوادة — صناعة المُسكرات وعَصْر الخمور، ومنعوا عملَ الفقاع والترمس المعفن، وهاجموا مَزارع الكروم ومخازن النبيذ والفقاع والمزر والنيدة والزبيب والعسل، ودُهس العنب بأقدام البقر في الطرقات. تعقَّب الجند دُور الملاهي، وكسروا ما بها من أواني الخمور، وأغلقوا بيوت المُسكرات، وأراقوا ما فيها من الخمور، ودلقوا فوقها كمياتٍ من المياه حتى يفسد الأمر على مَن تراوده نفسه في ارتشافها من أرض الطريق، وكل مَن يوجد وهو سكران يُقبض عليه. أقيم الحد على مَن يشتري الخمر، ولو في السِّر.
تحدثَت الهمسات في الأسواق عن الجواري اللائي أمَرَ السلطان بإغراقهنَّ في النِّيل، والإعدام الذي جزَّ الرءوس لرائحة الأفواه.
انتزع ماجد منصور الكلمات: هذه دسيسة. أنا لم أفعلْ ما أُعاقَب عليه.
شَهدَ جيران الرجُل من أصحاب الدكاكين وقاطني الدُّور أنَّ الخمر وما شابهها ليست من تجارته. عُرف عنه إعراضه عن الدنيا، وإخلاصه للعبادة، وانقطاعه إلى الله تعالى. لكنَّ والي الشرطة أمَرَ الجند، فواصلوا تعذيب الرجُل، حتى مات.
قال الرواة إن الناس خرجوا في جنازة ماجد منصور.
لم يكن الرجُل يستحقُّ ما ناله من إيذاءٍ انتهى بموته. تأثر الناس، وجعلوا من جنازته مظاهرة تندِّد، وتطالب بالقصاص. أمَرَ الحضرة، فحُرم قاضي القضاة من منصبه، ثم حبَسَه؛ وأمر — بعد أيام — بضرب عنقه، وإحراقه.
٥
قال الرواة إن الأعيُن أبلغوا الإمام بما تنقله البلانة فتنة إلى الجهة العالية مما ينبغي إخفاؤه.
أمَرَ الإمام، فجُرِّدَت المرأة — أمام أعين الناس — من ملابسها. جرى الحلَّاق على شَعرها بالمُوسَى. ثم انتزع عينَيها من حدقتَيها، وسلخ جلد الوجه والجسد، حتى أتتها حشرجة الموت.
غاظ الإمام التصور بأنَّ ست المُلك تجلس للمظالم، وتنظر في الرقاع، وتستقبل — في مجلسها — الوزراء والأمراء والقضاة وكبار الموظفين، وتضع ختمها على السجلات.
إنْ كان هذا هو الدَّور الذي تتطلع إليه، فما تدخر له إذن؟
٦
قال الرواة إن الإمام الحاكم بأمر الله عزَمَ على نقْلِ مناسك الحج إلى مصر، ونقْلِ رفات الرسول ﷺ وصاحبَيه أبي بكر وعمر من المدينة المنورة إلى القاهرة؛ تصبح هي عاصمة الإسلام وليس مكة. يحجُّ إليها المسلمون ويزورونها، لا يحجون إلى مكة، ولا يزورون المدينة. شيَّد ثلاثةَ مشاهد في المنطقة بين الفسطاط والقاهرة، ينقل إليها رفات الرسول ﷺ، ورفات أبي بكر وعمر.
زُيِّنت الدُّور والمتاجر ونواصي الشوارع والميادين بقِطع القماش الملوَّن والحرير الموشَّى والشموع وقنديل الزيت. حملَت القافلة المال والزاد والخِلَع والأكسية والخيام، للفقراء والضعفاء والمنقطعين، ورافقها الأطباء والكحالون والمجبرون والأدلاء والأئمة والمأذونون وغاسلو الموتى. تقدَّمها الفرسان الذين يرتدون الملابس الذهبية، والأطواق المرصَّعة، والخيول المعدَّة أحسنَ إعداد.
أُقيم سُرادق كبير خارج القاهرة، من الديباج الموشَّى بالذهب، والمكلَّل بالجواهر. وثمَّة خيمة من البوقلمون أمام السرادق الضخم. يبدأ وداعه فيه من سكان القاهرة ومصر الفسطاط والمدن والقرى القريبة.
بذل الإمام أموالًا لنفرٍ من شيعته. حفروا سِردابًا أسفل الدُّور المجاورة لبيت الرسول ﷺ، مقابل القبر. أدرك أهل المدينة ما ينتويه شيعة الحاكم. قتلوهم، ومثَّلوا بهم، ورصفوا الحفرة بالحجارة، وغطُّوها بالرصاص، فلا يطمع في الوصول إليها أحد.
قال رواة آخرون إن الإمام عهد إلى أمير مكة أبي الفتوح الحسن بن جعفر الحسني بمهمة حفر السرداب. ذهب إلى المدينة. اتهم بني الحسين بالقدح في نسب الفاطميين، وأزالهم، ثم جلس في مجلس المدينة. عرف أهل المدينة ما يُعدُّ له. قَدمُوا إليه ومعهم آيات من سورة التوبة، تدعو إلى قتال الكافرين والناكثين بأيمانهم. ثار الخَلق على أبي الفتوح، وهمُّوا بقتله، لولا خوفهم من أذى الإمام.
في مساء اليوم نفسه أرسل الله ريحًا كادت الأرض تزلزَل منها، حتى دحرجَت الإبل بأقتابها، والخيل بسروجها، وهلك خلقٌ كثير.
أدرك أبو الفتوح — والناس — أنَّ ما حدث هو غضب من الله، وعاد أبو الفتوح يحمل تبرير فشله في مهمته. أصدر أمير المؤمنين سجلًّا — في مساء مثول أبي الفتوح بين يدَي الحضرة — لإلغاء رسم المكس المضروب على الحجَّاج، للتخفيف عن كواهلهم.
لزم أبو الفتوح بيته في العباسة، أول حدود الصحراء الفاصلة بين مصر والشام. أظهر التوبة، وامتنع عن المعاصي، وأقلع عن شرب الخمر، وعن استدعاء الجواري إلى فراشه. أخرج جميع مَن في القصر من عبيد وخدَم وجوارٍ. باع بعضهم، ووهب البعض، وعتق الآخرين. خلَت قصوره من ساكنيها، فلم يبقَ فيها إلا زوجاته الثلاث وصغاره. تزايد مرضه حتى تملَّكه الضَّعف والهزال، ومال إلى الشرود وعدم التذكر. ابتُليَ بأمراضٍ مزمنة حتى تمنى الموت.
٧
تولَّى الوساطة — بعد فرار المغربي — زرعة بن عيسى بن نسطورس. لقَّبه الحاكم بالشافي. واستمر زرعة في الوساطة، إلى أن مات ميتةَ ربِّه. وكان حَسَن السِّيرة، محبوبًا من الحضرة والكتاب وطوائف العساكر. زاد من تعاطُف الجميع معه أنَّ أباه عيسى بن نسطورس وسيطُ العزيز الذي استأثر بالأمور في أول عهد الخليفة الحاكم بأمر الله.
قال الرواة إنَّ أبا الجيوش زرعة بن عيسى بن نسطورس لَحقَه الأجل، إثر مرضٍ لم يُمهِله. تأسَّف الإمام على موته دون قتل.
قال: ما أسفتُ على شيء قَط أسفي على خلاص ابن نسطورس من سيفي. وكنت أودُّ لو ضربتُ عنقه؛ لأنه أفسد دولتي، ونافق عليَّ، وكتب إلى حسان بن الجراح في المداجاة عليَّ، وأنه يبعث بمَن يهرب إليه.
عيَّن الإمام في منصب الوساطة — بعد زرعة — أبا الحسين بن طاهر الوزان. لقِّب بأمين الأمناء. ثم أخذ عليه الإمام تصرفاتٍ مالية؛ فعزله، وقتله. وولَّى الحضرة الأخوَين الحسين وعبد الرحيم ابنَي أبي السيد القاضي، ثم قتلهما بعد شهرَين. وعهد أمير المؤمنين إلى الفضل بن جعفر بن الفرات بتدبير الأحوال، ثم قتله بعد خمسة أيام. ثم ولَّى علي بن جعفر بن فلاح، ولقَّبه بذي الرئاستَين الآمر المظفر قطب الدولة. وكان يرعاه، ويعوده في حالة المرض، ويظهر رضاه عنه. لكن الرجل قُتل في ظروفٍ غامضة، وإن اتفقَت الآراء أنها لم تكن من تدبير الإمام.
عهد الإمام — بعد قتل علي بن جعفر — إلى ابن عمه الأمير هاشم بالنظر في الأمور، ثم اكتفى بعمل رؤساء الدواوين، وظلَّت هذه سياسته حتى نهاية حُكمه.
٨
وقف جماعة من الأتراك لعطوف خادم ست المُلك في دهليز القصر. أمره الحضرة أن يأتي له بحاجة في نهاية الدهليز الطويل، الضيق، الحالك الظلمة، فلا يستطيع المرء أن يتبين شيئًا. عاجلَته الضربات دون أن يعرف مَن وجَّهها له. احتزوا رأسه، وغيَّبوه.
تكتم جماعة الأتراك ما حَدَث.
لا أحد يعرف إنْ كان ما فعلوه بأمرٍ من الحضرة، فلماذا لم يعلن أمر القتل، وكان قد أمر بقتل الكثيرين؟ ولماذا لم يقتل الخادم عطوف بنفسه، وكان قد قتل بنفسه الكثيرين كذلك؟
٩
أذن — في ليلة الجمعة السادس من رمضان — لمَن أمضى ليلةً في جامع الأزهر، أن يتركه — بطلب من الخليفة — إلى الجامع الجديد. هو الجامع الرسمي منذ صلاة الجمعة التالية.
سار الناس إلى الجامع الجديد من الأزهر، ومن القاهرة ومصر الفسطاط، لا يستوقفهم العسس ولا الشرطة، حتى امتلأ الجامع بالمصلِّين، قبل أن يصل موكب أمير المؤمنين ليؤدي الصلاة.
خرج أمير المؤمنين إلى صلاة العيد. أضاف إلى ميله في التقشُّف، فهو يهمل شَعره على كتفَيه، ويرتدي ثوبَ الصوف الخشن، ويدسُّ قدمَيه في مركب حديدي. حتى البياض شعار الفاطميين، استبدل به السواد مع عمامةٍ زرقاء، تحولَت إلى سوداء، زيادة في التقشُّف.
ألِفَ رؤيةَ الأرواح والأشباح تدخل من النوافذ في داخل القصور، وتخرج منها. تقفز إلى قمم الأشجار. تتقافز بينها إلى نهاية الحدائق، وتعود. تترامى أصوات تكسُّر الأغصان، وتسقط الأوراق بفعل الهزَّات العنيفة.
ما نغَّص عليه أيامه أنَّ أرواح القتلى لم تعُد تظهر في الليل وحده، لا تفرِّق في أداء رقصاتها بين النور والظُّلمة، فهي تظهر له في وضَحِ النهار. ينظر إلى المحيطين به. يخمن في أعينهم إن كانوا قد رأوا ما رأى، لكنَّ الملامح تظلُّ ساكنة، والأفواه تطمئن إلى الصمت.
خرج الموكب من الإيوان الكبير إلى باب الديلم، ومن القصر إلى بين القصرين. رفض تدبيرات صاحب الشرطة العليا. كان يأمر الجند، فيحيطون موكبه حين يخترق شوارع القاهرة ومصر. صفوف متلاصِقة من الجند، تحول دون رؤية الناس له، أو الاقتراب منه. لم يعُد يركب إلا على حماره الأشهب المُسمَّى القمر، لا يستبدل به دابة أخرى. وترجَّل الوزراء والأمراء، ومن ورائه الأستاذون المحنكون والأمراء المطوقون وأرباب الرُّتب من أصحاب السيوف والأقلام.
بلغ الموكب مصلَّى العيد. مكان مكشوف، أنشأه جوهر الصقلي شرقي القصر الكبير، وجدَّده العزيز. شدَّد أمير المؤمنين، فلا ستر، ولا ألوية على جانبَي المُصلى.
تعددت — من قبل — أوامره بمنع مظاهر العبث والمجون التي ترافق احتفالات فتح الخليج: نهى عن تقبيل الأرض بين يدَيه، أو تقبيل يده، أو السجود إلى الأرض. قال: إنَّ الانحناء إلى الأرض لمخلوقٍ هو من صنع الروم. ونهى عن مخاطبته بلفظة «مولانا». وأمَرَ أن يقتصر السلام على القول «السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته». اكتفى حرس القصور الفاطمية — بتشديد أوامره — بالطواف حول القصور في أثناء الليل. تُنفخ الأبواق، وتُدق الطبول، وتُرمى السلسلة، لا تُرفع إلا بنفخة الأبواق. ظلَّ الحرس — من الجنود السود — على طوافهم حول المنصور بلا طبل ولا بوق. ولأنَّ الكلاب كانت تُكثر من النباح في الطرقات في أثناء جولات الإمام الليلية؛ فقد أمر بقتل كلِّ ما في مصر من الكلاب، ما عدا كلاب الصيد. قتَلَ الجند منها نحو ثلاثين ألفًا في أيامٍ قليلة.
عُطلت الأسواق، وأغلقَت الدكاكين وأبواب الدُّور، وخرجَت المواكب إلى الجامع الأزهر، وتُلي القرآن، وقُرئَت الأناشيد الدينية والقصائد.
توقَّف الموكب — في طريق العودة من صلاة العيد — عند الجامع الأنور. أشار الإمام، فانصرف الجميع. مضى — منفردًا — إلى داخل الجامع، بينما أغلق الحُجَّاب الباب الرئيس والأبواب الجانبية والنوافذ.
قال الرواة إن حمزة الزوزني كان قد أبلغ الشيخ مصابيح بمرسوم الإمام، فيغلق الناس أسواقهم في النهار، ويفتحونها في الليل. كان الشيخ — قبل أن يكشف خبيئَته — موضعَ سرِّه. أمَرَ خدَمه — في وجوده — أن يفيدوا من غرام الإمام بالليل والظلمة. إنْ رفَضَ إصدار المرسوم، نشروا الشائعات بالمعنى في الأسواق. لن يشغله سهر الناس بالليل، ونومهم بالنهار. يسأل الناس ما إذا كان قد صدر بالفعل مرسوم براحة النهار وعمل الليل.
اخترع الزوزني — بين وقت وآخر — أمورًا وأحكامًا، نسبها إلى أمير المؤمنين، وحمل الناس عليها. ونسب إليه أنه لم يكن يستقر في أحواله، فهو يحوِّر، ويعدِّل، ويُضيف، ويتوخى الأمن، ويحرص على النسك، ويخترع البدعة.
تعدَّدَت التُّهم التي نسبها أعوان أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله إليه، وحاولوا إلصاقها به، أو شوَّشوا عليه حتى اتخذها.
نقلَت إليه الأعين ما يدور في المجالس والأسواق والحمَّامات والخانات والوكائل. ألِفَ الناس اضطراب الجند في البيوت. يفتشون الحجرات، وما تحت الأثاث، والمطابخ، والحمَّامات. حتى عششُ الدجاجِ فوق الأسطح كانت أيديهم تعبث فيها. زادت عمليات الإعدام، وإن ظلَّت الهمسات في انتشارها. شغلَته النتائج فلم يُعنَ بالأسباب.
طالَبَ الدعاة أن يُعنوا بنشر العقيدة الصحيحة، وتأليف الكتب التي تفضح المؤامرات. أهمل ما نقلَته إليه الأوراق أنَّ الشيخ مصابيح أعلن حنينه إلى أيام الإخشيديين والكافوريين.
١٠
قال الرواة إنَّ حمزة الزوزني تيقَّن أن الإمام هو الحائط المسدود أمام تصرفاته. قال: مَن يعفينا من مؤاخذة هذا الرجُل؟
قال تابعه ماجد التكروري: أنا أراه وهو يسير في الصحراء بمفرده ليلًا. أستطيع أن أخلِّصكم منه بطعنةِ خنجر.
علا حاجبا الزوزني بالدهشة: مَن قال لك إننا نريد قتله؟
ولوَّح بسبابته في وجهه: الغباء موهبةٌ مثل الذكاء … وأنت موهوب في غبائك. من المهم أن يظلَّ السلطان واجهةً لمَا نفعله.
ثم وهو يضغط على الكلمات: لكلِّ فِعل فاعل … وعلى السلطان أن يتحمَّل مغبَّة أفعالنا.
قال ماجد التكروري: ما الصورة التي يجب أن نقدِّم بها السلطان إلى الناس؟
قال الزوزني: لا صورة محدَّدة.
وناوشَته الاحتمالات والبدائل وشطحات الخيال: إنها يجب أن تكون مختلطة ومشوشة، فتصدق دعوانا أن الرجُل يعاني الخبَل!
أمر، فيفيدون من سَير الإمام في الصحراء، منفردًا، متأمِّلًا. ذلك دليل خبلٍ يعانيه الرجُل، ويحكم تصرفاته، هو يقتل لمجرد القتل، لإرضاء ما يصعب التعرف إليه في داخله.
قال الزوزني: ما كنا لنلصق به الربوبية لولا تقبُّله الفكرة.
ثم وهو يغمز بعينه: لقد رضَعَ لبنَ الآلهة منذ طفولته.
١١
قال الرواة إنَّ الشيخ مصابيح دعا جماعةً من العلماء والفقهاء والزهَّاد إلى مجلس في مسجدٍ صغير، أول الفسطاط من ناحية حلوان. عرض عليهم أفعال الخليفة من القتل والخراب والتدمير.
قال الشيخ: كنت عند الحَسن بن الهيثم.
هتف الشيخ سيد مخيمر إمام الجامع العتيق بالمفاجأة: ذلك المجنون.
قال مصابيح: حتى العالِم الجليل ادَّعى الخبال فرارًا بحياته!
ثم وهو يُظهِر التصعب: الجنون ادعاءُ الرجُل حتى ينجو من أذى السلطان.
قال الشيخ إبراهيم جاد المولى: أعرف أنه جاء لمهمَّة، ثم اعتذر باستحالة تنفيذها.
قال مصابيح: رضخ لأمر الحاكم فتولَّى بعض الدواوين رهبة لا رغبة. فلما تبين له ميل الخليفة إلى إهراق الدماء بلا سبب، أو بأضعف سبب من خيال يتخيله، لم يجد إلا إظهار الجنون والخبال.
وشَردَ بنظرته في الفراغ: قيَّد الرجُلَ، وتُرك في موضع من المنزل الذي خصِّص لإقامته، وأحيط على موجوداته بيَدِ الوزراء والكتَبة.
ونطقَت ملامحه بالتألم: حتى مَن جُعِل برسمه، مَن يخدمه ويقوم بمصالحه، امتدَّت أيديهم إلى موجودات الرجُل!
وأردف في صوتٍ مذبوح: نحن نزوره سرًّا … نقدِّم له ما يحفظ عليه حياته، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
كر الشيخ الخيط من بداياته. استعاد أسماء ابن عمَّار وبرجوان والنعمان ومؤامرات الوزراء وعمليات القتل. ما أهمَلَه فلِضعف الذاكرة، أو إشفاقًا على الحضور. ثم اتَّجه إليهم بنظرةٍ متسائلة: هل تصحُّ إمامة هذا الرجُل؟!
أرجع العلماء وأصحاب العمامة تعدُّد أفعال الحاكم إلى الخبل والخرف. لا تتصل بتقدُّم في السِّن، فهو لم يبلغ الشيخوخة، وإنما تتصل بالنشأة، وما يعانيه من نوباتِ الصرع.
انقضَّ أهل مصر والقاهرة على غلمان الإمام وهم يحيطون بموكبه. قتلوهم، وفتكوا بهم. خمَّنوا — في البداية — أن التأليه فِعل الشيوخ في دار الحكمة، لكنَّ الرائحة اللعينة فاحت من داخل القصر الفاطمي. مزج تكويناتها حمزة بن الزوزني، وخرجَت بها مجامر أعوانه إلى الجوامع والأسواق. أعلن أنوشتكين، محمد بن إسماعيل الدرزي ما اتُّفق على إخفائه.
كان أنوشتكين أولَ مَن أذاع الدعوة إلى ألوهية الإمام، وإلى التناسخ والحلول. استتر بالرموز والمعاني الباطنة. قال إن رُوح أبي البشر آدم انتقلَت إلى رُوح الإمام الشهيد علي بن أبي طالب، ومنها انتقلَت إلى الحاكم، صفوة السلالة النبوية، القائم بذاته، المنفرد عن مبدعاته. وقال إنه ما على أمير المؤمنين حساب ولا عقاب، وإنه لا يُسأل عمَّا يفعل. هو الداعي إلى الاقتصار على مذهبٍ ديني، دون بقية المذاهب، وارتفاع أذان الفجر بحي على خير العمل، وهو الآمر الناهي في شأن الحياة، وفي شأن الموت، واختيار الصداقات. وهو صاحب القرار في إلزام النساء بالبقاء في البيوت، وحظر نزولهنَّ إلى الشوارع، والتردد على الأسواق والحمَّامات، والطلوع إلى الخلاء، وتخيير مَن تتغير نفسه عليه بالإقامة في البيوت، أو في المقابر، وجعل الموت توقُّع اللحظة التالية، وإباحة أصناف من الطعام، ومنع أصناف أخرى، وتحديد أوقات للنوم، والصحو، والسهر، والجلوس على المصاطب، والتنقل بين المدن.
رفع رقعةً إلى أمير المؤمنين، شرح فيها قواعد دعوته، وما تسعى إليه. قرَّبه أمير المؤمنين، وأولاه عطفه ورعايته. خلع عليه، وأجزل له، ويسَّر له تأليف الكتب التي تؤكِّد ألوهية الإمام. فوَّض الأمور إليه، وبلغ منه أعلى المراتب. أفاد من وضعه في اجتذاب الوجهاء والأعيان وكبار الموظفين. مثَّل لهم جسرًا إلى الحضرة.
ألِفَ المترددون على بابه من الوزراء والأمراء والقادة وكبار الموظفين أن يركنوا إلى الصبر، حتى يأذن لهم بالدخول. لا يتمُّ لهم عمل إلا بواسطته، وعلى يدَيه. سمَّى نفسه «سند الهادي» و«حياة المستجيبين».
ساير أنوشتكين الزوزني في موافقته على أن تظل ألوهية الحاكم سرًّا في الصدور، لا يُذاع، ولا يُكشف فحواه، ما لم يصدر الزوزني أمره بذلك. صعد منبر جامع عمرو لخطبة الجمعة. ذكر الله ورسوله، وألقى الخطبة الأولى، ثم جلس، وقام للخطبة الثانية. فاجأ المصلين في الجامع بالموضع الذي لا يوجد فيه الإمام ولا أي مخلوق.
هل يتجسد الله في صورة إنسان؟!
علَت الأصوات بالاستنكار والغضب. قاطعوه حتى سكت، وأفسح له أعوانه طريقًا، فغادَرَ الجامع من أقرب باب.
أدرَكَ حمزة باعث إفشاء أنوشتكين ما حرص هو على إخفائه. كان ابن إسماعيل يتطلع إلى منصب الإمامة الذي اختص به الزوزني نفسه. لاحظ — بزيادة عبارات الإطراء — زيادة التيه في أقوال الخليفة وتصرفاته.
طلب الزوزني من الدعاة أن يلزموا أماكنهم عقب صلاة العشاء في جامع عمرو بن العاص. تأكد من إغلاق الأبواب والنوافذ. تفحَّص الوجوه، فلا تصدمه ملامحُ غريبة.
قال في صوتٍ هامس: أنا لم أدعُ إلى تأليه مولانا الحضرة من نفسي.
ثم وهو يتحسِّس لِحيته: سبق البعض إلى إعلان الدعوة ظنًّا أن الخليفة يرفض … لكنَّ الحضرة هو الذي رأى في نفسه الطاهرة ما رأى، وطالبنا بأن نرى الشيء نفسه.
عرف أنوشتكين أن الزوزني كشَفَ مقصده. أزمَعَ أن يسير في الطريق إلى نهايتها. لعَنَ الزوزني وكفَّره، ودعا في الجوامع والمساجد إلى تأليه الخليفة المنصور. قال إنَّ أمير المؤمنين هو الصورة الناسوتية للألوهية، وهو الأحد الفرد الصمد، والمنزَّه عن الأزواج والعَدد، ومَن أقرَّ أنه ليس في السماء إله معبود، ولا في الأرض إمام موجود، إلا مولانا الحاكم جلَّ ذِكره، فهو من الموحِّدين حقًّا. إن الإمام عديم الشبيه في الجرمانيين، ولا كُفء له في الروحانيين، ولا نظير له في النفسانيين، ولا مقام له في النورانيين.
سمَّى أنوشتكين نفسه عبد مولاه، ومملوكه. هادي المستجيبين، المنتقم بسيف مولانا جلَّ ذِكره.
قال الرواة إنَّ أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله لم يشترك في دعوة الزوزني بألوهيته — الإمام — ولا صياغتها، وإنْ حماه — وأعوانه — من شرِّ الخصومة والمطاردة، ومدَّهم بالمال والنصح والتوجيه.
١٢
قال الرواة إن أمير المؤمنين زاد من العزلة. يغلق الأبواب، ويأمر الحُجَّاب بألَّا يأذنوا لأحدٍ عليه.
بنى خلوةً في رابية صحراء الجب بجبل المقطم. يمضي غالبية الليالي إليها. يتطلع إلى معرفة الغيب، ويشغف بالخفاء. فهو يُجيد زجر الطير، ورصد النجوم واستقراءها، واستهداء مَطالع الفَلك، ومعرفة الحساب والسنين، ومواقيت الليل والنهار، والنبوءات الجوية، ومعرفة الكسوف والحادثات. وكان يُطيل التطلع إلى السماء، يتحرى مواقع النجوم، يشغله رصدها، وما تحمله من نبوءات، ويستكشف الغيب. يتأمل القمرَ إنْ كان هِلالًا أم بدرًا. يعتبر بذلك قدرة الله تعالى، ودليل وحدانيته، لا شريك له، وبذَلَ الأموال والعطايا للفلكيين والمنجِّمين.
أصدر — دون توقُّع — سجلًّا بإبطال التنجيم، وأعمال المنجِّمين، والتكلم في صناعة النجوم. زاد، فنفى أعدادًا من المشتغلين بالتنجيم. وكان إذا استأذن عليه أحدٌ من خاصته أو رجالات الدولة، لا يُؤذن له. تسللَت أمور التنبؤ بالغيب إلى الدُّور والمجالس. تحقَّقَت منها للمتاجرين والمدَّعين ثروات على حساب حياة الناس. لم يعُد الأمر وقفًا على جماعة بذاتها، لكنه شمل حتى ربَّات البيوت.
ثمَّة قوًى خفية تحيا في القصور، تعشِّش في أركانها. تبثُّ الأنفاس الساخنة. تصاعدَت رائحة الفتنة وانتشرَت. تسلَّلَت إلى داخل القصور والبيوت. حتى الزوايا، تشمَّم فيها المصلون روائحَ لم تكن موجودة من قبل. لم يعد المرء يستطيع أن يطمئن إلى عينَيه ولا أذنه ولا فمه.
رفَضَ المصلون أداء صلاة الجمعة في الجوامع الرئيسية: الأزهر، الأقمر، الأنور، الطولوني، العتيق، القرافة، وغيرها. أدرك أن ما حدث، له دلالاته التي يصعُب إهمالها. لاحَظَ تقلُّص ظِل العدل، وقلة المبالاة، والاجتراء، وإلقاء الحياء من وراء الظهور.
قال الرواة إن الموظفين ألَّبوا العوامَ عليه بادعاء انحرافه عن سجلاته وتعاليمه، واختراعهم ما لم يُعلِنه، ونسبته إليه. ولكي يُجيدوا السبك، أغلقوا الأبواب المُفضية إلى المقس عند ركوبه، ومنعوا الناس من الخروج إلى تلك المواضع. وكان الحراس والخواص يسبقونه، ويحيطون به، ويتبعونه، إذا أراد النزول في جولة.
تأذَّت نفسه من الهمسات التي تجد فيه ألعوبةً في أيدي الوزراء والكتبة. جعلوه — في نظر الناس — غيرَ أهلٍ لتصريف أمور الدولة؛ فعقله مشوَّش، وقراراته وليدةُ انفعال، أو رغبة في الإملاء وتأكيد السيطرة. حتى مقتل برجوان، استعادَته الشائعات.
لم يردع الحاكم في قتل الرجُل أنه وصيُّه ومدبِّر دولته. قتله بالبساطة نفسها التي يمزق بها ورقةً في رقاع. وبعد أن قُتل الحسن بن عمَّار بأيدي الغلمان الترك، حملوا رأسه إلى الإمام.
تزايدَت جولات الإمام في داخل القصور الفاطمية، وتزايد ركوبه إلى خارج القصور، فهو يركب في اليوم الواحد عدَّة مرات. يُمضي فترتَي الصباح والظهيرة في تفقُّد الخزائن في القصور الفاطمية: خزانة الكتب، خزانة البنود، خزائن السلاح، خزائن السروج، خزانة الدرق، خزانة الكسوات، خزائن الشراب، خزانة التوابل، خزائن دار أفتيكين، خزانة الجوهر والطيب.
ربما فاجأ المطابخ، فتفقد اللحم، واختبر الطعام في جودته ورداءته، وإن لم يعد يأكل مما تعده مطابخ القصور السلطانية، ولم يعُد يأكل مع الجماعة مهما كانوا مقرَّبين. حتى نساؤه يأكلنَ في قصورهنَّ؛ لا يأكل ممَّا قد يبعثنَ به إليه، أملًا في رضاه. ترَكَ لأنس عبدون الطبَّاخ — أهدَته له أخته ست المُلك، فأمسى قريبًا منه — مهمةَ إعداد طعامه، وإن أخضعه — أحيانًا — لاختبارات، فيأمر بأن يأكل مما أعدَّه له من طعام، أو يرشف ممَّا قدَّمه من شراب. يتمهَّل دقائق، يتيقن ما إذا كان الطعام حفظ على الطباخ حياته، أم أنه سرى في جسده بالموت. ثم قَصرَ وضع شرابه في كئوس من حجر اليصب. يتغير لون الشراب إذا كان فيه شيء من السُّم.
استغنى عن معظم مَن بالقصور من الجواري والخدم والأعوان. حتى الأمراء، أمر بتسفير الكثير منهم إلى مدن الأقاليم والمدن البعيدة.
علَّق جرسًا أعلى باب القصر الفاطمي. مَن يشكو ظلمًا، فإنه يجذب الحبل المتدلي منه الجرس. يستدعيه كتبة القصر، ويُنصتون لشكواه. إذا كانت المشكلة يسيرةً، قضوا بحلها؛ أما إذا تشابكَت الخيوط، فإن الأمر يُرفع إلى مقام الحضرة، هو الذي يعاقب.
أخذ في إصلاح أمور البلاد، وجدَّد من محاسن المملكة ما لم يكن، وزاد من ثرواتها بالكنوز التي عُني باستخراجها من معابد قدامى المصريين ومقابرهم.
أكثَرَ من إنشاء الزوايا والمساجد والخانقاوات والتكايا والأضرحة والقباب والأسبلة، وعمَّر المساجد القائمة، وقدَّم لها ما تحتاجه من سجاجيد الصلاة والحصير والستور والقناديل والتنانير والمصاحف والبخور ورواتب المؤذِّنين والفرَّاشين. أوقف جزءًا من أراضي الدولة لصيانتها، وأوقف العقارات والأراضي الزراعية والأملاك الكثيرة على دُور العلم، وعلى الفقراء، وقاصدي باب الله الكريم. أقام الأبراج والقصور والحمَّامات والوكائل والقيساريات والمدارس والأسواق والفنادق ومَعاصِر القصب ومسابك السكر. عُني بإقامة الأسمطة والولائم وتوزيع الكسوات على الفقراء والمُعوِزين. ولتيسير التعامل في السلع القليلة الثَّمَن، ضُربَت دراهم جديدة من الفضة، كل ثمانية عشر بدينار.
لم يعُد خروجه مقصورًا على ركوب أول العام، وأول رمضان، وأيام الجُمع الثلاث من رمضان، وعيدَي الفطر والأضحى، وتخليق المقياس، وفتح الخليج. تعددَت المناسبات، وربما خرج الحضرة بلا مناسبة. تشغله مفاجأة الأسواق والميادين في مألوف أيامها.
وهو في طريقه، مال إلى سويقةِ الوزير. توقَّف الرَّكب عند بيتِ التاجر كامل حمدين. ملأ موكب الإمام وحاشيته بُستان البيت. لكثرة أفاعيل الخليفة وسابِق غدره، قاوَمَ التاجر خوفه وهو يُظهر الترحيب. توالَت أوامره المرتبِكة لجواريه المائة. أخْرَجنَ مائة بساط، ومائة نطع، ومائة وسادة، ومائة طبق من الفاكهة، ومائة جامٍ مَلْأى حلوى، ومائة زبدية مَلْأى بالشراب الحلو. قدَّمها التاجر لأمير المؤمنين ولمَن في معيَّته.
سجد الإمام لله شكرًا في داخل البستان. قال: الحمد لله الذي جعل في رعايانا مَن وسَّع الله عليه حتى يُطعم الخليفة وعسكره، من غير استعدادٍ لهم، من فاضِل طعامه.
صدَرَت سجلاتٌ بوضع أزيار الماء المملوءة على الدكاكين، وتعليق المصابيح والقناديل على الدُّور، وفي الأسواق، ونادى المنادون بأن يغطي السقَّاءون روايا الجِمال والبغال فلا تدنِّس ثيابَ الناس، وألزم كلَّ صاحب متجر أن يحتفظ أمام دكانه بوعاءٍ كبير ممتلئ بالماء لسرعة التصرف إن اشتعلَت النيران، وقُرئت سجلات تمنع بيع وأكل أطعمة وجَدَ أنها ربما تُصيب الناس بما يؤذي أبدانهم وصحتهم.
أما الجرجير فجاء تجريمه؛ لأنه يُنسب إلى السيدة عائشة. وأما الملوخية فكانت من الأطعمة المحبوبة لمعاوية. ونُسبت المتوكلية إلى الخليفة المتوكل العباسي، الذي لم يُخفِ كراهيته للعلويين. وحرَّم الإمام علي بن أبي طالب الفقاع؛ لأنه مُسكِر، ضار. كما حرم الدلينس والترمس المتعفِّن والسَّمَك الذي بلا قشر لأسبابٍ صحية. أمَّا تحريم ذبح الأبقار السليمة فلِلمحافظة على ثروة البلاد من الماشية، وما يصلح للحرث، وما لا يكون لها عاقبة، وأن يقتصر الذبح على أيام الأضاحي. وأما حظر استخدام الخبَّازين أقدامَهم في صنع العجين؛ فلأنَّ الفعل يتنافى مع قواعد الصحة.
توالت السجلات: للسير آدابه، فلا يمر بالشارع الأعظم حِمل تبنٍ أو حطب، ولا يسير حمار أو جواد، حتى لا يلوِّث الطريق بالروث. وعلى كل صاحب دكَّان أن يعلِّق على دكانه فانوسًا، ويضع بالقرب من الباب زيرًا مملوءًا بالماء لإطفاء الحريق، إنْ حدث.
حتى تظلَّ البلاد في مأمنٍ من أخطار الفيضان والحريق، أكثَرَ من وظائف السقائين والمشاعلية والنجارين والهدادين والقصارين. أمَرَ بكنس الأزقة والشوارع، وأمام المحال وأبواب الدُّور. شدَّد على تنظيف الجوامع والمساجد، وحمايتها من الأفعال الضارة والأوساخ. أمر بتدمير أبراج الحمَام؛ حرصًا على أسرار الناس وحُرُماتهم.
توالى صدور السجلات تذكِّر بمنع النساء من الخروج إلى الطريق، ومن التطلُّع في الطيقان، سواء كنَّ من الشابات أو العجائز. وصدر سجل بقتل الكلاب في الأزقة والشوارع والساحات. أعمل الجند فيها يدَ القتل، فخلَت البلاد — أو كادت — مما ينبح.
سامَحَ أرباب المصادرات بما عليهم من ضرائب وأعشار، وأصدر سجلات بإلغاء مكسِ الرطب، ومكس دار الصابون، ومكس الكثير من التجارات التي كانت تصل إلى مدينة القلزم عن طريق البحر، وطالَبَ بتقليل الضرائب، ورفع المظالم، وتحقيق العدل، ورعاية مصالح الناس، ووهَبَ معظم الضِّياع والأعمال والعقارات والأملاك السلطانية، وإنْ شدَّد على مراقبة التجار وأصحاب الحِرف والصناعات، وعلى عدم البخس في المكاييل والموازين. البائع الذي يطفِّف الميزان، أو يبالغ في السِّعر، يعاقب بالمصادرة، أو الجَلد بالكرباج أو الدرَّة، أو التجريس بالركوب على حمارٍ مقلوب. ربما دقَّ الجنود أذنه في باب الدكَّان المغلق، وربما انتُزعت أسنان البائع وأضراسه، يثبتها الجند في الرأس الصلعاء، أو التي أزيل شَعرها. وقد يومئ الإمام برأسه إلى العبيد. يبطحون البائعَ على الأرض، يلتقط الخنجر من الجراب، ويذبحه بنفسه كالشاة.
أصدر سجلًّا بالعفو العام عن جميع النصارى؛ فهم مطمئنُّون على أملاكهم وأموالهم وما بحوزتهم، وهم يتمتعون بالحماية، فلا يعتدي عليهم، ولا على مُقتنياتهم أحد. كان معظم كتبته وعمَّاله وأطباء المملكة — قبل أن ينقلب — من النصارى. توالت السجلات التي تقضي بحُسن معاملة النصارى، وبإعادة بناء ما هُدم من كنائس وأديرة.
خفَّف من غلواء سياسته إزاء أهل الذِّمة. لم يعُد يُلزِم النصارى بشد الزنانير في أوساطهم، ولا وضع العمائم السود — شعار العباسيين العصاة — على رءوسهم، وحمل الصلبان على الأعناق. وكان ركوبهم يقتصر على البغال والحمير، بسروجٍ ولجُم غير محلَّاة بالذهب ولا الفضة، وجلودها سوداء، وركب السروج من خشب الجميز. لم تعد حمَّامات المسلمين مغلقةً في وجوههم؛ وأمَرَ أمير المؤمنين، فرُفع الصليب الخشبي من واجهة حمَّام النصارى، وقرمة الخشب على حمَّام اليهود، وأذِن بإعادة دقِّ النواقيس في كل البلاد، وإهمال رسم الصليب على أيدي الناس، وإسقاط أمر اعتناق الإسلام أو الخروج إلى بلاد الروم. أذن لمَن أظهر الإسلام من النصارى أن يعود إلى ديانته. قال: ننزه مساجدنا عن أن يدخلها مَن لا نية له في الإسلام.
تعدَّدت زياراته للرهبان، يرتدي زيَّهم في أديرتهم، وأنفَقَ على عمارة دير القصير في تجديدها. أعاد إلى دير سيناء كلَّ ما كان صادَرَه من أراضيه، وتبرَّع لدير ناهيا من أقاليم الجيزة بثلاثين فدَّانًا من أراضيه الزراعية، ووهَبَ ثمانيَ قُرًى إلى جماعاتٍ دينية مسيحية. تطلع الأقباط إلى ما صار ماضيًا، فيشارك أمير المؤمنين في عيد الغطاس. يحضر الاحتفال بنفسه، على رأس موظَّفيه. يوافق على إيقاد الشموع. يأمر بتفريق الترنج والنارنج والليمون وأطنان القصب والسَّمَك، برسم قرَّره لكلِّ واحدٍ من أرباب السيوف والأقلام. يطلق الأعطيات والهبات من الدنانير والدراهم وأنواع الثياب.
لم تقتصر عقوبات القتل والسجن والإبعاد على ملَّة بعينها. شدَّد الإمام رقابته — بواسطة خاصته — على كلِّ الموظفين. لا قيمةَ لعلوِّ المكانة أو انخفاضها. طالَبَ ببيانات لمَا في حوزتهم من أموال وممتلكات؛ ما لا يثبت سلامة مأتاه، صُودر وجرى التحقيق بشأنه.
حدَّد العقوبات لكلِّ تصرف. لم يفرِّق سيفه بين عنق مسلم وعنق نصراني. مَن يخالف الأوامر والنواهي اعتُبر خارجًا على دين الإسلام، يقام عليه الحدُّ، يُحرَم من حقوق المسلم، يُحرَم حتى من الصلاة عليه، والدفن في مقابر المسلمين.
ذكَّره الراهب «بمين» — وكان قد اصطفاه صديقًا — بأنه لم يصدر من نفسه سجل هدمِ كنيسة القيامة، وغيرها من الكنائس، ومضايقة النصارى. لم يكن السجل وليد ذاته ولا عن هوًى. صدَّق الإمام ما حاول الراهب النصراني يونس أن ينال به من البطريرك «زخاريا»؛ لأنه لم يرسِّمه أسقفًا. اتَّهم البطريرك بالحياة المترفة، والإقبال على مظاهر الجاه والثراء، وتحقيق الأرزاق والثروات الهائلة. نسَبَ إليه الكثير من الوقائع المختلقة، وقال في رقعته: «أنت مالك الأرض، لكنَّ للنصارى ملكًا لا يعبأ بكثرة ما قد اكتنز من الأموال الجزيلة؛ لأنه يبيع الأسقفية.»
اشتدَّ غضب أمير المؤمنين على أهل الذِّمة. اتخذ من الأوامر ما لم تعرفه البلاد من قبل. ألغى أعياد الصليب والغطاس والشهيد وغيرها من أعياد الأقباط، وأبطَلَ رسومها واحتفالاتها، وألغى جميع الأحباس الموقوفة على الكنائس والأديرة، وضمَّها إلى الديوان السلطاني. حظر زيارة النصارى لبيت المقدس، وهدَمَ كنيسة القيامة، وخرَّب كنائس مصر والمقس، وأباحها للنهب؛ وصدَرَ سِجلٌّ بهدم دير القصير بالمقطم، وإخراج كل مَن فيه من رهبان، ونبش قبور الموتى. زاد العمَّال فنهبوا جميع ما فيه، وأمَرَ بهدم الكثير من الأديرة والكنائس. استولى عمَّال الإمام على ما فيها من أموال وذخائر وآنية من الذهب والفضَّة والديباج. صُودرَت أملاك الأديرة والكنائس من الضِّياع والمزارع والقياسر والحمَّامات والدكاكين والنخيل والحدائق والشجر المثمر. بنى موضعَ بعض الكنائس مساجدَ، وشجَّع المسلمين على السُّكنَى في بيوت الرهبان. صدرَت سجلاتٌ بإقطاع الكثير من الأديرة والكنائس لمَن الْتمسها، ومَنْع النصارى من تزيين الكنائس، وحَرْق الكثير من الصلبان على أبواب الجوامع، وفي دار الشرطة، وحَظْر ضرْبِ النواقيس، ونزْعِ الصلبان الظاهرة في أبراج الكنائس، ومحو الصليب من الأيدي والسواعد، وتمييز الأقباط بعلامات خاصة، سمِّيت الغيار، وأن يرتدوا الزنانير الملوَّنة، وإن مال أغلبها إلى السَّواد، ويضعوا العمائم السُّود على الرءوس، ويضعوا التلفيعات السوداء كذلك، ويعلِّقوا الصلبان الثقيلة على الصدور. يبلغ طول الصليب ذراعًا ونصفًا، وزِنَته خمسة أرطال، ويُختم بالرصاص؛ ومنع النصارى من تقديم النبيذ في القداس، واستبدال الماء به، على أن يُنقع فيه زبيب أو عُود الكرم، وحظرَ على النصارى واليهود تعليمَ القرآن لأطفالهم، ومنَعَهم من أداء الشعائر الدينية علنًا، وصدَرَ سجل بإقصاء كلِّ اليهود في حارة زويلة، وهدْمِ معابدهم؛ وألزمهم بأن يرتدوا الزنار، ويحملوا الخشب الثقيل دلالة رأس العجل؛ ثم أمَرَ بعدم شغلهم المناصب الإدارية الحكومية، ومنعهم من إرخاء الذوائب وركوب البغلات، ولبس الطيالسة؛ وشدَّد بألَّا يجوزوا على الجوامع وهم ركوب، إنما عليهم الترجُّل، وتؤخذ الجزية منهم وهم وقوف تحت مصاطب، ومنعهم من التكنِّي بأبي الطاهر وأبي الحسن وأبي الحسين، ومنع الأساقفة المصريين من السَّفر إلى النوبة أو الحبشة، وحظر عليهم مكاتبة ملوك البلدَين. جعَلَ أهل البلاد من المسلمين من أوامر الحضرة مثلًا يُحتذَى. أقدموا على أمورٍ فظيعة لم تشهدها البلاد من قبل. بلغ الأمر حدَّ دخولهم أديرة النصارى ومقابرهم، وأخذ توابيت الموتى، وإحراق ما بها من كتب.
أنكر أمير المؤمنين أفعال الناس — لمَّا أبلغه أرصاده — وأمرهم بالكف عنها. تنبَّه إلى أفاعيل الوزراء والكتاب من الوشايات ومحاولات الدَّس والوقيعة؛ فألغى كلَّ ما صدر ضدَّ النصارى من سجلات، وقُرِئ سجل في الجوامع والأسواق، يُطمئن أهل الذمة على حياتهم وأمنهم: «هذا كتاب من عبد الله ووليِّه المنصور أبي علي، الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، ابن الإمام العزيز بالله أمير المؤمنين، لجماعة النصارى بمصر: عندما أنهَوا إليه الخوفَ الذي لَحقَهم، والجزعَ الذي هالهم فأقلَقَهم، واستِذْراءهم بظِلِّ الدولة، وتحرُّمهم بحضور الحضرة، بما رآه وأمَرَ به من تكميل النعمة عليه بتوخِّيه لهم ذمَّة الإسلام وشرعه، من تصيرهم تحت كنفه، بحيث تصفو لهم موارد الطمأنينة، وتُضفى عليهم ملابس السكون والدعة، وإجابتهم إلى ما سألوا فيه من كتب أمان لهم يخلَّد حُكمه على الأحقاب، ويتوارثه الأخلاف منهم والأعقاب؛ فأنتم جميعًا آمنون بأمان الله عز وجل، وأمان نبيه محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين وعلى آله الطاهرين، وأمان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه، وأمان الأئمة من آباء أمير المؤمنين سلام الله عليهم؛ هذا على نفوسكم ودمائكم وأولادكم وأموالكم وأحوالكم وأملاككم وما تحويه أيديكم، أمانًا صريحًا ثابتًا، وعقدًا صحيحًا باقيًا، فثِقُوا به واسكُنوا إليه، وتحقَّقوا أنَّ لكم جميل رأيِ أمير المؤمنين وعاطفته، ونُصرته تحميكم، وعصمته تقيكم، لا يُقدِم عليكم بسوء أحدٌ، ولا تتطاول إليكم بمضرَّة يدٌ إلا كانت زواجرُ أمير المؤمنين مقصِّرة من باعه، وعظيم إنكاره مضيِّقًا فيه من ذراعه، والله عون أمير المؤمنين على ما تعتقدونه من صلاح وإصلاح لسكان أقطار مملكته، ومد له وسيلة الثواء في كنف دولته؛ وإياه يستشهد على ما أمضاه من أمانه لكم، وعهده الذي يشرفه طرفكم، وكفى بالله شهيدًا، وليقرر في أيديهم حجةً بما أسبغ من النعم إن شاء الله. كُتب في شعبان إحدى عشرة وأربعمائة».
١٣
كيف يطلب الثناء، والناس يعانون ظُلم وزرائه؟
قال الحضرة: ما عمل المحتسب؟
قال المحتسب وليد خلدون: عملي — بإذنكم — هو الإشراف على الأسواق ومراجعة الأسعار والمكاييل والموازين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
– عظيم … كيف إذن تؤدِّي عملك؟
في لهوجة: كما يقضي الشرع.
– رُفعت إلينا رقاع بأنك تخلط بين أمورك الخاصة وأمور الناس.
وواجهه بالسؤال: ماذا فعلتَ في الخبَّاز ياسر الحبيشي؟
قاوَمَ المحتسب ارتباكه: وجدتُ موازينه باخسةً؛ فعاقبتُه.
النظرة الثابتة، النافذة، التي اتجه بها إليه، سرَت بالرعشة في جسده. غامت المرئيات، وتماوجَت، واهتزَّت من حوله، وعانى ما لا قِبَل له على احتماله.
– هل هذا هو كل ما جرى؟
وهو يغالِب الارتباك: فلْيسامحني مولاي على ضَعف ذاكرتي … ربما حَمَله الجند مقلوبًا على ظَهْر حمار.
– ما حدث لأنه بخس الموازين، أم لأنك أردتَ ابتزازه بالبرطيل؟
أُرْتِج على المحتسب: هو الذي …
قاطَعَه أمير المؤمنين: أنت لا تؤدي وظيفتك بما يأمر الله.
وأشار إلى الخدَم: اقطعوا ذراعَيه حتى لا يأخذ ما ليس من حقِّه.
استبد الوزراء والأمراء بالأمر. تحوَّلَت ساحات القصور وأبهاؤها وأقبيتها إلى مأوًى للسفلة والمجرمين. ضجَّ الناس من قسوةِ وسائل جِباية المكوس والخراج، ومن الضرائب الفادحة على الباعة وأهل الأسواق. الهواء، وحده، هو الذي أُعفي من الضريبة. ومن الرشاوَى والبرطيل والمغارم، ومن الاعتداء على الفلَّاحين، ومصادرات الكتَّاب والتجَّار وأرباب الأموال. استشرفَت الصدور أفعالَ الخليفة الحاكم بأمر الله، وتطلَّعَت إليه العيون.
نقلَت إليه الأعين قولَ الشيخ مصابيح: هذا رجُلٌ أفسده وزراؤه … فلمَّا أدرك كان الأوانُ قد فات. وقال الشيخ: لم يعُد إلا الهواء بلا ضريبة! وقال: نحن أغلبيةٌ لا تملك أيَّ شيء … وهُمْ أقليَّة تحظى بكلِّ شيء! وقال: لو أنهم ذكروا له معايبه، قد يرجع عن كثيرٍ ممَّا هو فيه.
كان الزوزني قد دسَّ على مجلس الشيخ مصابيح مَن يدَّعي التلمذة على يدَيه. ينقل كلَّ ما يستمع إليه من الشيخ إلى الزوزني. حتى العبارات التي تبدو بلا معنًى.
أرجع الإمام كثرة الخراب في المملكة، إلى قلة المبالاة، والتغافل عن مصالح الناس، واستلاب ما يملكونه، وميل الوزراء والأمراء والكتبة إلى التنابذ والتخاذل وإنشاء القصور الباذخة، واقتناء الجواري والعبيد، والإفراط في الحياة المرفَّهة، وإهمال أمور الناس. راعه ما يسود الإدارة من تفكُّك، وما يسيطر على القضاء من برطيل ورشوة وفساد، وما يُقدِم عليه كبار الموظفين من إباحة المصادرات ونهب الأموال والأرزاق، واغتصاب أموال اليتامى والأوقاف. استولوا على المملكة، واستبدوا بالأمر، وتجاوزوا الحدَّ في الانفراد بالأمر والنهي، واستلاب ما هو حقُّ الناس.
جعل بقاء الوالي والقاضي والمحتسب وغيرهم من كبار موظفيه لأوقات محدَّدة، يعتزلون بعدها وظائفهم، كي لا يدفعهم دوامُ الحال إلى إلحاق الأذى بالناس، ومصادرة أموالهم وما يملكون.
لم تقتصر المصادرات على أموال رجال الدولة وحدهم. امتدَّت المصادرات فشملَت الأملاك العقارية لوالد الموظَّف وأخته وزوجه وعمَّاته وخالاته وخواصِّه من النساء.
اعتقل — كما ذكر الرواة — أقاربَ الكثيرين من الوزراء والأمراء والكتبة. استولى على ما في قصورهم من أموال ومقتنيات وتُحَف، ووزَّع على العوام غالبيَّتَها، وفتَحَ لهم أبوابَ قصور الكتَبة وكبار الموظفين، وأسكنهم فيها. أخذوا ما يملكون بالتحايل والغصب، وعليهم أن يُعيدوه إلى أصحابه.
قُرئ سجل بأنَّ كلَّ مَن قُبضَ منه شيء من العقار أو الأملاك بغير حق، أو صُودر منه في أيامه، أو أيام أبيه، أن يُعاد إليه. وهَبَ الكثير من ضِياعه وأعماله وعقاراته وأملاكه لمَن الْتمسها منه. طالَبَ كُتَّاب الدواوين بحساب ما يتولونه. أثبَتَت الأرقام والوقائع إقدامَهم على السرقة.
أمَرَ، فقُطعَت أيدي البعض بالساطور من وسط الذراع، وعُلِّق البعض في الطريق، حتى أدرك الموتُ غالبيَّتَهم، وأخَذَ كلَّ الأموال التي أقدموا على سرقتها؛ وثمَّة مَن شده الجند بحبال، وقرضوا لحم جسده بالمقارض، حتى لَفظَ أنفاسه.
قال الرواة إن أمير المؤمنين حذَّر الكاتب صخر فودة مما أبلغه به الأرصاد من أنه يسقي خيله الخمر بدلًا من الماء: سأعاقبك على فعلَين … اقتناء الخمر وسقيها للخيل.
أدرك الكاتب مصيره؛ فانتحر. امتصَّ فصَّ خاتَمٍ في داخله السُّم، كان أعدَّه لمثل هذه المصيبة.
القاضي مازن عتيبة أوكَلَ إلى نفسه أداء الأمور، يصرِّفها دون أن يعبأ برأيٍ ولا ملاحظة. أصدر من الفتاوى والأحكام ما يوافق مزاجه، وما يحرضه على اتخاذ تقدمات الرشاوى والبرطيل. تطلَّع إلى ما في أيدي الناس من أموال. تتبَّع أرباب البيوتات والنعم والأعيان. أصرَّ القاضي أن يحتفظ بما استولى عليه بغير حق. ألزم المتقاضين، فحملوا إليه — في أعقاب مواسم الحصاد — الجياد والخراف وأجولة القمح والذُّرة والدقيق وسِلال الفاكهة والبيض والتوابل. أباح لعبيده النزول في الدُّور والخانات، ونَهبَ ما تصل إليه أيديهم. تعدَّدَت زيجاته، وكثرت طلاقاته، وعُرف عنه كثرةُ التردد على أسواق المقيدين والنخَّاسين وباعة الرقيق، وحضور مجالس الغناء والسمر واللهو والمجانة.
ضاق الناس بأفعاله، وبسطوا ألسنتهم فيه. يئسوا من إنصافه، وتمنَّوا الراحةَ منه. ارتفعَت استغاثاتهم حتى بلغَت القصور الفاطمية، ونفذَت من أسوارها.
تعرَّف الإمام إلى جذور المشكلات، وبداياتها، حتى أثمرَت ما عاناه الناس من مظالم القاضي.
أمَرَ الإمام، فأوقف الجُند القاضيَ في مكانه لا يتحرك. تناوَبَ الجُند في ملازمته، فهو لا يجلس ولا يتحرك. وكلَّما عرَته هزَّة ضُرب رأسه، أو صُفع على وجهه؛ زاد عليه الاحتباس والألم، فبال تحت قدمَيه. ثم وُضعت ذراعه — حتى الساعد — في الماء المغلي، فلا يعود إلى طلب الرشوة.
قال أمير المؤمنين للقاضي حسين بن النعمان: المواريث والأوقاف من مهام وظيفتك.
رنا إليه بنظرةٍ متذلِّلة: بأمرِ مولاي.
أطرق رأسه كالمتأمِّل، ثم رفع رأسه: الورثة يشكون من أنك تأكل حقوقهم.
وهو يتقي بيدَيه خطرًا مجهولًا: يعلم الله أنه لا يدخل إلى بيتي درهمٌ حرام.
– أوشك أن أخصِّص موظفًا لتسلم رقاع الشكوى من أفعالك.
وكزَّ على أسنانه: سأذيقُك عذابَ الدنيا قبل عذاب الآخِرة.
أشار إلى الجند: خذوه إلى بُقعة الدم … واحرقوا جسده بعد إعدامه.
أشدُّ ما أثار غضب أمير المؤمنين، ما فعله المحتسب عبد المنعم الفرَّان من تصرُّف في الأموال والخزائن. كاد يأخذ لنفسه خزانة الدولة، وتوقفَت تجارة القوافل، وكسدَت الأسواق، وفرغَت المحالُّ من البضائع. أمر — بتأثير إفلاس الخزانة — فسرَّحَ قائدُ الجيش مئاتٍ من أعوانه. نسي الناس رفاغةَ العيش، وطِيب الحياة، وطمأنينة النفوس. اعترضوه، وشكَوا إليه انعدام القُوت. لم يعبأ بهم، ولا الْتفت إليهم. أمَرَ الإمام عمَّاله أن يضيِّقوا على المحتسب؛ لأنه صادَرَ أموالًا ليست من حقِّه. طينَ عليه الجُند في حجرةٍ بحديقة بيته. سدُّوا الباب إلا من ثقب يأذن بالتنفس والطعام.
فلمَّا بلغه أن خدَمَ والي بلبيس استولوا على غِلال الفلَّاحين، واستولوا على ما يملكون من الخيل والجِمال والأبقار والغنم. سلبوا حتى النساء مصاغهنَّ، والنفيس مما يملكْنَ. أمَرَ، فصادر مخصَّصات الوالي، وسِيق الوالي والخدَم إلى بقعة الدم. جعل الجندُ جسدَه بين ثلاثة رماح. شُدَّ عليها، ودارت على نارٍ هادئة دون أن تلامسه. لم يهدأ صراخه إلا بعد أن انفجر الجسد. أخرجه الجند من بين الرماح، وعلَّقوه في شجرةٍ لتأكله الطيور.
خَلفَ الوالي ما لا يُحصى من الملابس، والأدوات، والطِّيب، والأسفاط، والتخوت، وصناديق المال، والبغال، والحمير المحمَّلة، والخيل عليها السروج بالذهب والفضة، ورصعَت بالجواهر.
أما لماذا أصدر الإمام حكمه بإعدام والي دمياط، فلأنه لم يُحسن الدفاع عن نفسه حين وقف بين يدي الإمام تاجرٌ من الفسطاط. شرح دعواه، فإذا هي تحمل إدانةً للوالي، وأنه استولى بغير حق على أرض يملكها التاجر. شدَّد الإمام الحُكم حتى يصبح الوالي عبرة للولاة الآخرين. حشا الجند الثقوب في جسده، ما عدا الدُّبر. أدخل فيه منفاخًا، وظلَّ ينفخ حتى تورمَت سائر الأعضاء، وبرزت العينان حتى كادتا تخرجان من محجرَيهما.
كثر سمل العيون، وقطع الأنوف والآذان. مَن يقتله التعذيب — قبل أن يساق إلى بقعة الدم — فإن حُكم الإعدام ينفَّذ في أكبر أبنائه.
بثَّ الأعين والأرصاد، في كل جهة ومكان، داخل مصر الفسطاط والقاهرة، وداخل المدن والقرى، يتقصون الأحوال، ويجمعون الأخبار، واستعان بهم حتى في الأطراف النائية. يرفعون إليه الرقاع بما يرونه، ويستمعون إليه، ويشكُّون في أمره، أو يطالبون بتغييره.
أذن لعيونه أن يتصلوا به في أي وقت، إذا فرضَت الظروف ما يستدعي الإبلاغ، أو طلب المشورة. وأذن لأصحاب الدواوين بالدخول إلى حضرته، يعرضون عليه ما يواجهونه من مشكلات الناس، ويأمر بما يجب اتخاذه.
جعل للمتظلمين مكانًا عُرف بالسقيفة. عند أحد أبواب قصر الذهب. يقول المتظلم — بصوتٍ عالٍ — وهو في موضعه تحت السقف: لا إله إلا الله … محمد رسول الله … علي وليُّ الله. يأمر الإمام بإحضاره، ويفصل في شكواه. وكان يطيل الوقوف في موكبه؛ لكي يأخذ رقاع التظلم من الواقفين في الطوابير، ويشغلهم الوصول إلى عدله. ربما أخذ الرقاع وهو في موضع الخطيب على المنبر. مَن يجد أنه يستحقُّ حاجته، يطلب منه أن يعود إلى لقائه في الموضع ذاته، وفي الموعد الذي يحدده. يحمل في كمِّه لأصحاب الحوائج — في الجولات التالية — ما الْتمسوه من مال أو سجل أو توقيع. إذا ضاق به الوقت حوَّل الرقاع إلى قاضي المظالم، وتابعها. لا تصبح الأحكام ساريةً إلا إذا تلقاها ديوان الإنشاء، فيوقع عليها بختم الحضرة، أو علامته «بنصر الله العظيم الولي، ينتصر الإمام علي». فإذا اختلف القضاة في مسألةٍ فقهية تتصل بأمور الدين والدنيا، ردُّوها إلى الحضرة.
علم أن الكاتب أبا القاسم بن أحمد الجرجرائي فضَّ ختم رقعةٍ تطعن في رئيس الشرطة. قطع الجرجرائي موضع الطعن، ثم أصلح الرقعة، وأعاد ختمها. أمر الإمام بقطع يدَي الجرجرائي، وقطع يد رئيس الشرطة، وقطع لسانه.
حين اعتلَّت صحته، اتخذ له محفَّةً يجلس فيها، ويحملها أربعة رجال، ينزلون إلى الأسواق. ينصت إلى شكاوى الناس، يتلقى رقاعهم، يُصدر الأوامر التي تقسو بقدرِ جسامة الجُرم. خصَّص لنفسه مجلسَ حُكم رتَّبه على أوقاتٍ محدَّدة، معلومة، وحفَّه بالهيبة والوقار. يحضره المتصدِّرون والعلماء والقضاة والفقهاء والقرَّاء والوعَّاظ والشعراء وأهل الكلام والجدل، ومَن يريد من الخاص والعام. يطلق في مجلسه — للقراء والفقراء — ما هو مخصَّص لهم. ربما ركب جواده، أو محفَّته. يتَّجه إلى دار أحدِ خدَمِه، يُهنِّئُه بمناسبةٍ سعيدة، أو يواسيه في مناسبةٍ حزينة. يهبه — في كل الأحوال — عطايا كثيرة.
أمر، فأُدخل إليه كلُّ مَن حمل مظلمة، يستمع إليه، ويُعطيه انتباهه، ويراعي شروط العدل. لا يأنف من مقابلة العامة، ولا ذوي الحاجات. إذا جلس إلى القضاء، واربدَّ وجه المتهم، أو علاه الشحوب، فهو مذنب يخشى افتضاحَ أمره، ولا بد أن يَمثُل تحت سيف المشاعلي. أما إذا استراب في شهادة أحد المتقاضين، فهو يستحلفه بالقرآن الكريم. إن ثبت كذبه، جاز عليه عقاب مَن يكذب على الله، فهو يأمر بصَلْبه، أو تسميره. ربما أمر باقتياده إلى الجامع العتيق، ودفعه للسير بين عمودَين، بالتحديد في جامع الجانب. إذا لجأ إلى الكذب في الرد على الأسئلة التي تُوجَّه إليه، فإن العمودين ينطبقان عليه، فتزهق رُوحه. وربما نوَّع عليه التعذيب. يضربه المشاعلي بالسوط على ظَهْره، وبالعصا على يدَيه وقدمَيه، ويقيِّده على عمود حديدي في وهج الشمس. وراقب بنفسه سلخ الخادم عبد الوهاب البدرشيني، وحشوه بالتبن، ثم حمله على حمار، وإلقائه في النيل. كانت سيرته قد ساءت بين الناس، وحصل لهم منه شدائد وأفعالٌ ضارة.
لم يكن يأخذ زوجةً بذنب زوجها، ولا قريةً بما فعلته القرى المجاوِرة، ولا أصحاب مهنةٍ بما أقْدَم عليه أحدهم من غش أو تدليس، وإن حرص على تنفيذ الإعدام في ابنِ مَن مات عائلهم قبل أن يلقى جزاءه.
وضع في صدر القاعة تمثالًا سمَّاه أبو الهول، بداخله رجُل. يأذن الإمام للشاكين أن يمثلوا بحضرته، ويصِفُوا ما فقدوه من مال أو متاع. ينطق أبو الهول بأسماء اللصوص. بثَّ الأعين في القصور والجوامع والطُّرُق والأسواق.
زاد في العدل، فلم تبقَ في البلاد مَظلمة. محا المظالم بالكلية، وبسَطَ الحقَّ، وقطَعَ العدوان، ونفى الأذى، ورفع المُؤَن. سحق كلَّ سعايةٍ وغرض، وقمع الفساد بقسوة بلغَت حدَّ القتل.
تعثَّر في طريقه إلى العدل بتأثيرات النشأة، ودسائس الوزراء وفسادهم. اضطرب بين رغبة العدل والأحكام القاسية: النسك وإيذاء الخَلق، رفض الدعاوى الباطلة وإملاء البدع التي لا أصلَ لها، ولا تصدُر عن عقل.
١٤
حين نظر الحسين بن دواس زعيم كتامة — في توجُّس — إلى خيرات الواقفة على باب القاعة، لوَّحَت ست المُلك بأصابعها: هذه خيرات … لا تعتبرها هنا.
اتجهَت إليه بنظرةٍ متودِّدة: أعرف أن الخليفة مال على كتامة وسلب نفوذها.
وأحكمَت الشال على رأسها: جاوزَت الأمور ميلَه على كتامة … تحوَّل كلُّ شيء إلى فوضى كاملة.
وقالت من بين أسنانها: لا بدَّ من وضع حدٍّ لتصرفات الخليفة.
وواجهَته في هيئة مَن اتخذ قرارًا: لا بأس لو تولَّى أبا الحسن مكان أبيه.
أدركَت ست المُلك بواعث نقمة ابن دواس على أبي علي منصور. فاجأه الإمام — وفاجأ الجميع — بسجلٍّ يجعل ابن عمِّه أبا القاسم عبد الرحيم بن إلياس بن علي بن المهدي وليَّ عهد المسلمين في حياة أمير المؤمنين، والخليفة بعد وفاته. دعا الناس — على اختلافهم — إلى القصر. قَدِموا، يسبقهم الفضول.
قُرئ عليهم سجلٌّ بأن أبا القاسم عبد الرحيم بن إلياس بن أبي علي المهدي بالله أبي محمد عُبَيد الله، قد جعله أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله وليَّ عهْدِ المسلمين في حياته، والخليفةَ بعد وفاته، ودعا الناس لأنْ يخاطبوه في السلام: السلام على ابن عمِّ أمير المؤمنين، ووليِّ عهد المسلمين، وقُرِئ السجلُّ في منابر الجوامع والمساجد الكُبرَى في مصر والإسكندرية، وفي جامع القيروان بإفريقية، وغيره. ودعا الإمام بنفسه في الجامع العتيق وجوامع الأزهر والأنور لمَن اختاره وليًّا للعهد: اللهم استجِب مني في ابن عمِّي، ووليِّ عهدي، والخليفة من بعدي عبد الرحيم بن إلياس بن أحمد بن المهدي بالله أمير المؤمنين، كما استجبتَ من موسى في أخيه هارون. وأصعد الإمام ابنَ عمِّه عبد الرحيم معه المنبرَ، ودعا له. أفرَدَ له مكانًا في القصر، وكتَبَ اسمه في البنود والسكة والطراز، وسكَّ نقودًا باسمه، وأمر تعدُّ له دار الطراز بيارقَ وألويةً وملابسَ خاصة، وعهد إليه — في أيام طوافه — بالنظر في أمور الدولة، وبأن تُحال إليه الرقاع التي يتسلمها من الناس في لقاءاتهم به، ومنَحَه الحقَّ في أن يعفو عن المخطئين، وأشركه في مَواكبه، وقُرئ سجلٌّ بأن كل مَن كانت له مظلمة، يرفعها إلى ولي العهد. وتلقى عبد الرحيم بن إلياس الرقاع فوقَّع عليها بأوامر إلى كبار الموظفين. وأمر، فنوَّه به الخطباء على المنابر في خطبة رمضان، وتنازَلَ له عن كل ما يصحُّ انتسابه إلى العز والبذخ. ثم أرسله نائبًا له على دمشق.
قال ابن دواس يتحسَّس الوقع في عينَي ست المُلك: لولا أنَّ الإمام لا يُعْتَرض عليه في تدبير، لكاتبتُه ألَّا يصرف هذا الأمر عن ولده إلى بني عمِّه.
لكنَّ الإمام صرف الأمر إلى بني عمِّه بالفعل.
قال الرواة إن ابن دواس أعلن انتقاده لتصرُّف الإمام. أغضبه أنَّ الإمام له ولد في التاسعة من عمره، هو أبو الحسن علي. احتضنَت ست المُلك الصغيرَ أبا الحسن، حتى لا يبطش به أبوه في واحدةٍ من فوراته، أو ينقل إليه تغيُّر نفسه، وتقلُّبها.
هل رفع عنه ولايةَ العهد لأنَّ راعيته هي ست المُلك؟!
١٥
استعدَّ الناس لأداء صلاتها في الجامع العتيق. جعلوا الزينات من باب النصر بالنحاسين إلى جامع ابن طولون، ومن جامع ابن طولون إلى الجامع العتيق. وأهدى الحضرة إلى الجامع ثُريَّا من الفضة، هي أقرب إلى التحفة النادرةِ المِثال.
سعى الإمام — مع الآلاف من المصلِّين — إلى الجامع العتيق، لصلاة الجمعة اليتيمة. يثق — مثل ثقة الآلاف — أنَّ الجامع إنْ حلَّ يوم القيامة — وهو ما يتوقع الأغلب حدوثه في يوم الجمعة اليتيمة — سيطير بمُصليه إلى الجنة. كان أولَ مَن صلى في الجامع العتيق من الخلفاء الفاطميين.
اعتلى حمزة الزوزني المنبر وخطب في المصلين: اللهم صلِّ على محمد النبي المُصطفَى، وعلى علي المُرتضَى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سِبْطي الرسول، الذين أذهبتَ عنهم الرجس وطهَّرتهم تطهيرًا. اللهم صلِّ على الأئمة الراشدين آباء أمير المؤمنين، الهادين المهديين.
قال الرواة: لم يجاهر حمزة الزوزني بدعوته إلا بعد أن اطمأنَّ إلى غياب أنوشتكين. اختفى أنوشتكين، فلم يعُد أمام الزوزني مَن يناوئه. جعل من مسجد «تبر» بالمطرية مقرًّا سريًّا، يلتقي فيه بأعوانه، ويلقِّنهم مفردات دعوته. ضاق المسجد بالغُلاة من الشيعة الإسلامية.
لم يكن اختيار الزوزني لمسجد تبر اعتباطًا ولا مُصادَفة. المطرية ضاحيةٌ بعيدة عن مصر والقاهرة. يصعب على الأعين المتابعة، وعلى الآذان التنصُّت.
تحدَّث عن التناسخ في الأديان والشرائع، وعن الحلول. قال إن الإمام ليس بشرًا، لكنه رمزٌ حلَّ فيه الإله. وقال إن الحضرة قد ظهرَت له — عليه السلام — فضائلُ ودلائل لا يصنعها البشر، ومعجزات بهرَت العقول، وخوارق وآيات، لم يسمع بمثلها، وتبهر العقول. فهو يمسح بيده على رءوس المرضى، فيبرءون بإذن الله، ويغيب عن الحضور بجسمه، ويعود، فيعلمون أنه قد مضى في رحاب الله إلى البيت الحرام، وقبر الرسول، وهو ينظر بنور العرش العظيم، فيُطلعه الله — الذي يحكم بأمره — على ما يسأله أن يطلعه عليه. وقال إن الإمام يعلم الغيب. يعلم ما غاب عن الخلق سواه من العلوم، وينظر بنور الله — جلَّ وعلا — ويطَّلِع على ما لا يُطلِع اللهُ أنبياءَه عليه. فهو يمدُّه بتوفيقه، ويهديه بهدايته، ويُطلعه على ما سأله أن يطلعه عليه، بلُطف تدبيره وحكمته. وقال إن الإمام هو نائبُ الله في الأرض. له حقُّ الطاعة على الناس، ولا يُسْأل إلَّا أمام الله. ودعا الخَلق إلى عبادة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله. هو الحاكم بأمر نفسه. ومهر بتوقيعه سجلًّا يقضي بأن يقوم الناس، ويسجدوا في الأسواق، وفي مواضع الاجتماع، إذا جاءت سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، وصدرَت سجلاتٌ تأمر العمَّال بسبِّ الصحابة، وسبِّ الشيخَين بخاصة، وكتابة السبِّ على أبواب المساجد والدُّور، وعلى الجدران.
روى أعوان الزوزني أنَّ الخضر ظهر لأمير المؤمنين في المنام. سقاه من ماء الخلود، فلا يؤثِّر في حياته انقضاء أعوام. خلَعَ الزوزني على الحاكم لقَبَ «قائم الزمان»، ولقَّب نفسه بهادي المستجيبين. بثَّ دُعاته في مصر والشام. رخَّص في أحكام الشريعة بما كان يؤخذ الناس به إلى بقعة الدم. أباح نكاح المحارم، وأسقط التكاليف في الصلاة والصوم وسائر الفروض.
قال الرواة إن الموت الذي انتهَت إليه ثورة أبي ركوة، كان دافعًا لإعلان الزوزني ما ظلَّ حريصًا على كتمه. سمَّى الرجُل أبا ركوة؛ لأنه كان يحمل ركوةَ ماء لوضوئه، كالمتصوِّفة.
لم يقتحم اليأسُ نفْسَ أبى ركوة على إيمان الناس بالخليفة الحاكم بأمر الله. لم ينتظر حتى يعي الناس الحقيقة. أعلن أنه إذا كان الخليفة حاكمًا بأمر الله، فهو ثائر أيضًا بأمر الله! بدأ حركته في برقة، واستولى على العديد من مُدنها. قدم إلى مصر على رأس قوات تحقَّق لها الانتصار في الغرب، لكنها لقيَت الهزيمة في موقعةٍ دامية بصحراء الهرم. قُتل الآلاف من جنده، وتفرَّقَت القبائل المنضمة إليه، وأعلنت التوبة. فرَّ أبو ركوة إلى النوبة. تعقَّبَته قوات أمير المؤمنين حتى ألقَت القبض عليه. أُعيد إلى القاهرة، فشهَّر به على جَمل، وعلى رأسه طرطور طويل، وخلفه قرد، وبيده درَّة، وحينما أُنزل من على الجمل كان قد فارق الحياة. أفتى شيخ جامع الأنور أن أبا ركوة لقي ربَّه على غير دينٍ ولا شريعة.
١٦
قالت ست المُلك: يا بُنيَّ … أنت صغير، لكنك ذكي.
كان في حوالي العاشرة. وجهه أميل إلى السُّمرة. شَعره منفُوش، ينسدل على جبهته وقفاه. عيناه واسعتان، تطلَّان بالدهشة على كل ما حولهما، ولا تتوقفان عن التلفُّت، ملتمعتان بما يشبه الدمع. علتا وجهًا ناحلًا. يرتدي صدرية من الجوخ البُني، فوق قفطان من الشاهي الأبيض، ذي خطوط السوداء.
أومأ لها حتى تُواصِل حديثها: يريد أبوك أن يحرمك من ولاية العهد.
وهي تُمرِّر أصابعها على جبهته: أزمَعَ أن يعهد بولاية العهد إلى ابن عمِّه عبد الرحيم إلياس.
نطقَت عينا الصبي بالحيرة: لكنني لم أُغضِب أبي.
شردَت في عالَم بلا أفق: ليس مطلوبًا من أحدٍ أن يُغضِب أباك حتى يؤذيه.
أطرق في صمت، ثم رفع رأسه: لا أريد ولايةَ العهد يا عمَّتي.
زمت شفتَيها المرتجفتَين كمَن تُغالِب البكاء: هذه قضية لا تخضع لمزاجنا.
ثم وهي تجهش في البكاء: إنه حُكم آبائنا الذي ضيَّعتُ عمري في الحفاظ عليه.
أضافت: أنت الآن مسئولية عمَّتك قبل أن تتولى مسئولية الحُكم!
١٧
قال حمزة الزوزني: يغفر العوام كلَّ شيء إلَّا المساس بالذات الإلهية.
همس ماجد التكروري بالدهشة: وهل فعَلَ السلطان ذلك؟
سرَت في صوت الزوزني رنَّةُ تهكُّم: ألَمْ يكرِّر رغبته في التسامي عن ضعف البشر؟
قال التكروري: نُضيف إليها رغبته في التشبُّه بالذات الإلهية.
قال الزوزني: تشويه الصورة هو المطلوب وليس تدميرها … إذا قوَّضنا الصورة تمامًا، فلن يكون هياج العوام مفاجئًا!
وبرقَت عيناه بنشوةٍ غامضة: إذا اعتزمتَ الفعل فتدبَّر ردَّ الفعل.
حاوَلَ الزوزني أن يفيد من ولع الإمام بالظلمة والغموض والأسرار. يلامس مَواطن الضَّعف في نفسه، يستغلُّها، ويعمِّقها، ويضيف إليها. يبذر في ذهنه — المهيأ للإثمار — ما يُقنعه بالحلول والربوبية. سمَّاه «قائم الزمان» و«ناطق الضعفاء». ولقَّب نفسه «هادي المستجيبين». اتخذ الكثيرَ من الأعوان. خصَّص لهم ما لا يعرفه سواهم من الكتابة والتستر والاستعارة والألقاب.
كان الخدَم يعودون بالطعام من جناح الإمام، دون أن يُمسَّ. ربما اكتفَى بلُقيمات تسدُّ الرمق، يخلو بعدها إلى تأملاته، وإلى كتبه وأوراقه. امتدادات الأفق لا تشغله بالنظر فيما يصرفه عن التأمل، أو يجوس في الظُّلمة يرجو الإلهام السماوي، وينشد ردود الأسئلة، أو يحاور كائنات — يراها وحده — بصوتٍ عالٍ. يشد انتباه الجواري والخدم بضحكاتٍ عالية، قال إنها استجابةٌ لدعابات من كائنات لا يراها سواه. وقال: هؤلاء أهل الخفاء، سيرافقونني إلى آخِر العمر! وقال: الخفاء هو الموضع الوحيد الذي يجب أن أخلو لنفسي فيه.
آثر المسكنة، ومال إلى الزهد في الدنيا وقمع شهوات النَّفْس والتجرد والمجاهدة. حَرصَ على التمسك بأحكام الدِّين، وأداء الفرائض كاملة. قنع من الحياة بأخشن لبس، وأبسط طعام، وتعفَّف عن المال. كان يرتدي ملابس الكتَّان والقطن والصوف، ويحيط رأسه بعمامةٍ زرقاء، ويدسُّ قدمَيه في مركبٍ حديدي، ويخدم نفْسَه بنفسه، ويسرج قناديلَ الجامع، ويُعنى بنظافته، ويكنس أرضيَّته، كأنه لم يلبس شعار السلطنة، ولا جلس على سرير.
أكثَرَ من الخروج وحيدًا، يرتدي دراعةَ صوفٍ بيضاء، وعمامةً بيضاء، لا يردُّ أحدًا من حاملي الرقاع بتظلُّم، أو طلب منحة، ويجزل العطاءَ ما بين دُور ودَراهم وثياب. اكتفى بركوب الحمير، ورفض كلَّ أنواع المواكب، ربما رآه الناس وهو يمتطي بغلةً، وبين يدَيه بضعة من الركابية. يبدأ سيره بلا موكبٍ ولا زينة إلى المنزل الذي أقامه في المقطم. يتجول في المدينة. يلتقي بالناس في الأسواق، وأمام الدُّور والدكاكين. يستمع إلى الظلامات، ويتسلم الرقاع. يفصل فيها، أو يأمر موظَّفيه بحلِّها، وشدَّد على سلوك مناهج العدل، وعلى المساواة في الأحكام بين الخواص والعامة.
واظَبَ على الصلاة في جامع عمرو بن العاص. هو إمام المساجد، ومطلع الأنوار اللوامع. أضاف إلى الجامع ١٢٩٨ مصحفًا، بعضها مكتوب بماء الذهب، وأرسل له نجفة من الفضة وَزْنها سبعة قناطير، وقيمتها مائة ألف دِرهم. وبنى رواقَين ومقصورةً من الخشب، ومحرابًا منقوشًا، وعمودَين من خشب الصندل. أصدر سجلًّا بتحبيس أراضٍ زراعية وقياسر للإنفاق على المارستان، وأرزاق المُستخدَمين فيه، وثمن الأكفان، وعلى وجوه الخير. أمَرَ بالتوسعة للجوامع والمساجد في الزيت برسم الوقود، وأطلق المال للمساجد التي بلا غلَّة ولا أوقاف أوقفَت عليها، ولا سراة ينفقون لخدمتها، أو أنَّ إيراداتها لا تفي بما تطلبه من احتياجات. رفَعَ مُتولي ديوان النظر سجلًّا بذلك إلى مقام الحضرة. قدَّر أمير المؤمنين لكلِّ مسجد نفقةً شهرية. وأمَرَ بتحبيس ضِياع في بِلْبيس وطوخ وأطفيح ومواضع أخرى على فقهاء ومؤذني وقرَّاء المساجد. وكانت تعتريه نوباتُ وجد.
دسَّ الناس له رقاعًا مختومة بالدعاء عليه، والسب لأسلافه، وأنهم كفَّار وفسَّاق وملاحدة وزنادقة وفجَّار، سبُّوا الأنبياء، وادَّعوا الألوهية، وجحدوا الإسلام، ولعنوا السلف، وعطَّلوا الحدود، وأباحوا الفروج والخمور، وسفكوا الدماء. قابَلَ ما حدَثَ بذِكر نسبه في كلِّ جمعة، وهو يخطب على المنبر، لكنَّ الشائعات ظلَّت على تهامُسها.
رفَضَ الإمام الظهور بمظهر القدسية، والارتفاع إلى ما فوق البشر. أعلن توقيره لآياتِ التوحيد ومبادئه، وتمسُّكه بالقرآن وأحكامه، وتمجيده لنبوة محمد ﷺ، وأنه لا نبيَّ بعده.
قال أمير المؤمنين لجلسائه: أنا لا أدَّعي الألوهية … هذا كفرٌ ترفضه نفسي الضعيفة.
ورسَمَ على ملامحه المَسْكنة: ما يشغلني أن أرتفع عن ضَعْف النفس البشرية.
ثم علا صوته في تأثُّر: أريد أن أتخلَّى عن الخوف والشهوة والتسامي على الخلق وغيرها من الصفات التي تجرُّ على المرء غضبَ الخالق والخَلق.
تعدَّدَت السجلات التي تترحَّم على السلف من الصحابة، وتنهى عن مخاصمتهم أو سبِّهم، وأصدر سجلًّا بمحو ما هو مكتوبٌ على المساجد وأبوابِ الدُّور من سبِّ السلف، ومنع اللعن، وإعزاز الشيخَين والصحابة والعلماء. حظر مخاطبته بألقابٍ مثل: سيدنا ومولانا، وأصدر سجلًّا يُنكر فيه على مَن يخاطبه — في المكاتبة — بمولى الخَلق أجمعين. أباح دمَ مَن يخالف لقب أمير المؤمنين. ذلك هو لقبه الوحيد الذي يرضى به، ولا يتطلع إلى سواه. طالَبَ الناسَ بألَّا يزيد قولهم — حين يمثُلون بين يدَيه — عن: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. ويقتصر ما يكتبون على القول: سلامُ الله وتحيَّاته ونوامي بركاته على أمير المؤمنين. ولا يدعو خطباء الجمعة إلا بالقول: اللهم صلِّ على محمد المصطفى، وسلِّم على أمير المؤمنين وآباء أمير المؤمنين. اللهم اجعل أفضل سلامك على عبدك وخليفتك.
١٨
قال حمزة الزوزني: لماذا لا يشي غرامه بالسير في الظُّلمة — تسبقه دقات الطبول — بأنه يريد أن يكتسب صفات الألوهية … المهدي المنتظَر … الخفاء والظهور؟
فَطنَ أهل القاهرة إلى حيلة الزوزني، ومقرِّ دعوته. هاجموا مسجد تبر، وأحرقوا دابته. تكرَّر نزول غلمان حمزة الزوزني إلى الأسواق على هيئة المناسر والحرافيش والزُّعْر. توحشوا. وكانوا يخرجون من ثنايا المقطم، يقطعون الطُّرق، ينزلون إلى المدينة. يُوقفون المارَّة، يسلبونهم نقودهم وما يحملون، ويعرِّضون السابلة للأذى. يبادرون بالاعتداء على مَن يرفض، أو يحاول المقاومة. يكبسون الدُّور والحمَّامات، ويقبضون على النساء المارَّات في الطُّرق، وينهبون أموال التجَّار، ويفتحون الدكاكين المغلقة، ويستولون على ما فيها. حتى المصلين في الجوامع نالهم التهديد بالضرر، وتخطَّفوا ما كان يرتديه الناس من الثياب والعمائم.
ثار الناس لدعوى أُلوهية الخليفة الحاكم بأمر الله. أنزلوا الخطباء من المنابر حين علَت دعواتهم للخليفة، وامتنع الكثيرون من الصلاة في الجوامع. لم يدَّعِ أمير المؤمنين ما نُسب إليه. إنما جاهَرَ به أتباع حمزة الزوزني.
قال القاضي حسن الراعي: هل قرأتَ قصيدةَ ابن هانئ الأندلسي؟
قال القاضي عصام الدين قضيب: أي قصيدة؟
التي يقول مطلعها:
– هل هي صوفية؟
– بل صارت نفاقية … جعلها المنافقون كذلك!
– الخليفة؟!
– جعلوه إلهًا!
قال القاضي الراعي: الرجُل لم يتصور الألوهية من نفسه، وإنما زرعها فيه الزوزني.
قال القاضي قضيب: بل هو الله بالفعل … ألَمْ يعطِ لنفسه حقَّ إنهاء أرواح البشر؟!
ونفى القاضي قضيب أن تكون للخليفة في رقاب المسلمين بيعةٌ ولا عهدٌ ولا ذمَّة. جلَسَ على كرسيِّ السلطنةِ وراثةً عن أبيه، وأبوه وَرثَ الكرسيَّ عن جدِّه.
قال الرواة إنَّ الحضرة مال — بطَرَقات الزوزني وأعوانه على النفس الإنسانية الضعيفة — إلى التألُّه. رضي عن الذين تصوروا فيه إلهًا. راقه تصرُّف مَن إذا لقوه سجدوا أمامه، وقالوا: السلام عليك يا واحد أحد، يا مُحيي يا مُميت.
كان كلَّما أفاق لنفسه، وأزمع تسخيف دعوى الألوهية، زاد الزوزني من إلحاحه بالنسخ والحلول والألوهية. يصدِّق ما كذبه من قبل، ويضفي رعايته على مَن يشك في اختلاق رواياتهم. يتزاحمون حول موكبه. يُمنِّي كلَّ واحد — صدقًا أو تظاهرًا — بمشاهدة وجه أمير المؤمنين. يحصل على البركة بمجرد رؤية الإمام له. يسبحون، ويقبلون الأرض، ويذكرون اسم الإمام عند قيامهم.
تفاقَمَ سخط الناس فبلغ ذروته. بات حدوث الانفجار مسألةَ وقت.
١٩
قال الزوزني: عهدي عليكم الستر والتقية وعدم البوح بشيءٍ مما نُضمر أو نعدُّ له.
قال أنوشتكين: وعهدنا عليك أن تأتي لنا بتوقيع الإمام.
حدَجَه بنظرةٍ مستريبة: أنت لا تشكِّك في رواية أقولها، وإنما تشكِّك في عقيدتي.
– هي عقيدتنا لو أنك دعوتَنا إلى مقاسمتك الرئاسة، وفي حصول أتباعي على مناصبَ في الدعوة.
وهو يُشيح بوجهه عنه: نحن لا نوزِّع مناصبَ وزارية … لكنها دعوةٌ جديدة، علينا — في مرحلتها الأُولى — أن نضع لها المراتب والحدود.
٢٠
دخل جماعةٌ من أصحاب أنوشتكين جامع عمرو، يركبون خيولًا وبغالًا، ويجاهرون بما يَدعُون إليه.
كشَفَ الدرزي عن أسرار الدعوة الجديدة؛ لأنه آيس من أن يعهد إليه الزوزني بما يرى أنه حقٌّ له. هو أجدرُ من الزوزني نفسه بالرئاسة والألقاب. مساعد الدرزي حسن بن حيدرة الفرغاني، الملقَّب بالأخرم، ارتقى — واثنان من أعوانه — منصة قاضي القضاة، بينما الناس ينتظرون مَقْدمه.
واصَلَ أعوان الدرزي — وسط سخط الناس وهياجهم — حديثهم عن ألوهية الحاكم. ثم قَدمَ موكب قاضي القضاة. عرف من الناس ما حدث.
لمَّا اقترب من مجلسه على المنصة، قَدمَ إليه أحد أعوان الزوزني رقعةً منه، تأمر باسم الحاكم لله، الرحمن الرحيم، أن يعترف بألوهية الحاكم، ونشر ذلك بين الناس. رفَضَ القاضي ما جاء في الرقعة، وطلب أن يعود بالأمر إلى أمير المؤمنين. علَت أصواتُ أتباع الزوزني بالسبِّ والشَّتم، فثار الناس. وثبوا بالرجال الثلاثة، فقتلوهم شرَّ قتلة، ثم مالوا إلى بقية أعوان الزوزني يقتلونهم في أماكنهم. مَن لاذ بالفرار انطلقوا وراءه. قتلوا كلَّ مَن وصلَت إليه أيديهم، وأشعلوا في أجسادهم النيران.
قال الرواة إنَّ الشيخ مصابيح وجَدَ في ادعاء الألوهية ما يصعب احتماله. جاوَزَ جلسات التبصير بالأحوال، والتحريض، إلى دفْعِ مُريديه للنزول في الشوارع، والتحول إلى الفعل. يطاردون الطغمة الخبيثة التي اجترأت على الذات الإلهية، وعلى سُنَّة رسوله، وتبديل ما جاء في مُحكم كتابه. حملوا المساوق والشوم والسيوف والعِصي والخناجر والفئوس والبُلَط وقادوا الثائرين. فتحوا حوانيت التجَّار في سوق السِّلاح، واستولوا على ما بها من أسلحة. أرشدوهم عن بيوت أعوان أنوشتكين والزوزني، والأماكن التي لاذوا بها. خيَّروهم بين الشهادة بأنَّ الله واحد، أحد، وبين مواجهة مصير المرتدِّين.
قال مُتولِّي الشرطةَ: في أيدينا ما يُثبِت أنَّ مريدي الشيخ مصابيح وراء تحريض الناس.
قال أمير المؤمنين: اقتلوهم!
ثم وهو يمدُّ شفتَيه المزمومتَين: دعوا الشيخ الآن.
تطلَّع إليه مُتولِّي الشرطة بملامحَ مندهشة: مولاي … إنه الرأس المُدبِّر.
استطرد الإمام في لهجةٍ فاهمة: وهو الطلسم السحري لفيضان قد يُغرق كلَّ شيء.
وقال في صوتٍ آمر: دعوه حتى يأتي أوانه.
أمر الإمام متولي الشرطة أن يتعقب مُثيري الفتن، ويستأصل شأفتهم، ويطهِّر القاهرة ومصر من كلِّ وجود لهم. أقام متولي الشرطة الخوف في مصر والقاهرة. رأيه أن الناس لا يقوِّمهم غيرُ السيف والسوط.
عانى أهل الفسطاط والقاهرة في أيام الحصار؛ فهم يَلزمون المساجد والحمَّامات والأزقَّة، ويجلسون في الطُّرقات بعيالهم. قُيدَت كواحل المئات من الرجال بالسلاسل، تواصلَت الحلقات، فأصبحَت سلسلةً واحدة، طويلة. علا صليل الأسلحة ووقْعُ حوافر الجياد، وخُرِّبت الدُّور والمساجد والمَشاهد، وسُفكَت الدماء حتى جرَت في الطرقات.
أعطى متولي الشرطة جُنده الحقَّ في تعذيب كل مَن يرفض الاعتراف بجُرمه المشهود. لا يشفع لمَن قُبض عليه بإحداث الشغب والتدمير إلا أن يدلَّ متولي الشرطة على مَن حرضوه على الخروج ضدَّ أمير المؤمنين. كان يطمئن إلى وجود المشاعلي في غرفة التحقيق. يدرك السجين مصيره لو أنه لجأ إلى الكذب، أو ثبتَت عليه التهمة.
عانى الناس في عالَم الأقبية والسلاسل والأصفاد والرصاص المذاب والأجساد المصلوبة. رجَفَ الناجون من الموت بما حدث. رووا — في المدن والقرى البعيدة — تفاصيل المذابح وعمليات الإعدام. اقتصرت الشائعات على مَن أُعدموا، ومَن ينتظرون حُكم الإعدام. تزاحَمَ الناس على أسوار القصور الفاطمية، وفي ميدان بين القصرين، يناشدون الإمام أن يصدر سجلًّا بالعفو.
تباطأ الإمام في إصدار السجل بمنع القتل في الناس؛ فيُتيح للجند فرصةَ توسيع مساحات التدمير والتنكيل.
قال الرواة إنَّ ما أسرف به موظفو الحضرة على الناس من القتل والإيذاء والاعتقال، لم يحُل دون اتساع غضبة الناس، وإصرارهم على عقاب مَن حاولوا تأليه البشر. استعادوا معاناة توالي السنين، ما أخذهم من توالي السجلات المتضاربة، وأوامر القتل والمصادرة والسَّجن. بدَت الغضبة انفجارًا. دعوى الألوهية سدادة القمقم. انتزعها الزوزني، فحدث ما لم يكن يتوقعه أهلُ مصر. تبيَّن الإمام وموظفوه أن الرمال الناعمة تسربَت من الأيدي التي أحكمَت قبضاتها. حتى الجند شاطروا الناس سخطهم. إذا كان السلطان قد جعل نفسه إلهًا، فمَن يعبدون؟
كثر ابتياع الناس للسيوف والخناجر والمُدَى والسكاكين والبلط وغيرها مما يُستخدم في القتال. حتى الذين لم يكن من عملهم أن يحملوا السلاح، عنوا بشرائه والاحتفاظ به وحَمْله إن جاوزوا أبوابَ دُورهم.
صاح الناس في الفسطاط بالنفير، وتعالت النداءات فوق مآذن الجوامع والمساجد والزاويات. علا التكبير حتى فوق أسطح البيوت. اقتحموا دُور الوزراء والأمراء وكبار الموظفين. نهبوها، فلم يتركوا فيها شيئًا. هدموا دار أنوشتكين، ونهبوا ما فيها، وقتلوا الكثير من أعوانه.
قيل إن أنوشتكين لجأ إلى القصر الفاطمي، فطالب الناس بتسليمه. صرفهم متولي الديوان بوعدِ تسليمه — إن كان على قيد الحياة — في اليوم التالي، ثم أعلَنَ قتله.
مضَت الجموع إلى مسجد تبر حيث يمضي الزوزني وقته. طالعهم المسجد بالخواء والصمت.
٢١
لم تتثبت الروايات — مع تناقضها — من مصير أنوشتكين.
قيل إنه قُتل في فتنة مصر والقاهرة. وقيل إن الناس انقضُّوا على أنوشتكين وأتباعه وهُمْ يَمضون إلى قصر الإمام. طرَف الخيط قتَلَ أربعين من أتباع أنوشتكين، ثم تواصلَت الفتنة في مصر والقاهرة. أُغلقَت الدكاكين وأبواب البيوت والنوافذ، وقُتل الكثير من أعوان أنوشتكين، ونُهبت دُورهم، وأُضرمَت فيها النيران. لم يخلفها الناسُ إلا وهي حطام. وقيل إن أحد عساكر الإمام وثَبَ عليه في لحظاتِ تأخُّره عن الموكب وصرعه. وقيل إنه أفلح في النجاة بنفسه، ولجأ إلى قصر الإمام. أبقاه كاتب الدست في القصر — دون أن يبلِّغ أمير المؤمنين — ودبَّر له الستر والاختفاء، حتى هدأت ثورة الناس والجند. أمدَّ أنوشتكين بالمال، ويسَّر له الهروب إلى الشام. دعا — في وادي التيم بلبنان — إلى ما سُمِّي — فيما بعد — بمذهب الدروز.
ما اتفقت عليه معظم الروايات أن أمير المؤمنين تبيَّن سوء نية الدرزي فقتله بسيف الموحِّدين. استعان الإمام بالوزير حمزة بن علي، ليُعيد المفتونين بدعوة أنوشتكين إلى طريق التوحيد، وأنَّ الخالق والمعبود هو الله وحده، لا شريك له، وأنَّ محمدًا هو عبده ورسوله، وأنَّ القرآن معصوم. أرسل الإمام بهذا المعنى إلى أعوان أنوشتكين وأتباعه، حيث يقيمون في وادي التيم.
٢٢
اختفى أنوشتكين، فانفرد الزوزني بالدعوة. مقرُّه السرِّي مسجد تبر. انتشرت رقاع التهديد في الفسطاط والقاهرة. تنذر مَن يتجاهل دعوى الألوهية، أو يعارضها، أو يعمل ضدَّها.
واجه أهل البلاد رقاع الكفر برقاعٍ تنال من الإمام، وتنعته بأقبح الصفات. واجه أعوان الزوزني — في المقابل — مَن صادفوه من الخواص والعوام بين أن يدخلوا في دعوتهم أو يُقتلوا. وقتلوا بالفعل كلَّ مَن جاهر بالرفض، أو لاذ بالصمت.
أضمَرَ الحضرة الانتقام من أهل البلاد. أثارَه أن يُناوِئوه العَداء، وينبذوا الطاعة، ويرفضوا الامتثالَ لسجلاته وأوامره. خطَّط، ودبَّر، وعَهدَ بالتنفيذ إلى مقدِّمي العبيد وغيرهم من قادة الطوائف المُوالية. أباح لهم قتلَ جميع الرجال في الأحياء التي يُخضعونها. يجري عليهم ما يجري على الخونة والخارجين عن الإرادة الإلهية، التي يمثِّلها أمير المؤمنين.
أخذ العبيد للأمر عُدَّته. توفروا على حياكةِ شِبَاكهم، وتنظيم أنفسهم، وادِّخار المبادرة. تجمعوا — يصحبهم النهَّابة — لمهاجمة مصر، واتخذوا هيئةَ العصابات.
رُوِّع أهل مصر، وتولَّاهم الخوف، وتوقُّع المجهول. استعدوا للدفاع عن أنفسهم. أغلقوا دُورهم وحوانيتهم، وحفروا دونها الخنادق، وتهيَّئوا بالسكاكين والبلط والهراوات والسيوف والخناجر وأسياخ الحديد. لاذ الكثيرون بباحات المساجد والزوايا، وأروقة الربط والتَّكايا، وأمضوا أيامهم في الجوامع، وناموا في الساحات والخلاء، خوفًا من أن يقتحم العبيد والجنود بيوتهم. وعَلَت الاستغاثات بالإمام ومراحمه.
بدأت إغارات العبيد والنهَّابة، وتواصلَت، على أحياء مصر والقاهرة. خطفوا العمائم، تلاعبوا بالرماح والسيوف، وهم يرمحون بالخيل في الشوارع المزدحمة. لا يشغلهم مَن يسقط، ولا مَن تدوسه حوافر الخيل. نهبوا الدُّور والمحالَّ والأسواق والمارَّة، وكلَّ ما تصادفه أيديهم. حطَّموا أبواب المحالِّ المغلقة، ونهبوا ما بها من بضائع. حملوا النساء — عاريات — من داخل الحمَّامات العمومية، ومن داخل البيوت. استباحوا الأموال والدماء. تعدَّدت جرائم الاعتداء على الأعراض، وشقَّ العبيد فروجَ النساء، وبقروا البطونَ، وقطعوا أصابعَ القتلى لانتزاع ما بها من خواتم، وانتزعوا الأقراط من الآذان. وقال أحد الأشراف العلويين للخليفة في مواجهة: أراك الله في أهلك وولدك مثل ما رأينا في أهلنا وأولادنا؛ فقد اطَّرحتَ الديانةَ والمروءة بأن رضيتَ لبنات عمِّك بمثل هذه التضحية، ولم يلحقك منهنَّ امتعاضٌ ولا غَيرة.
فوَّت أمير المؤمنين جرأةَ الرجُل بما لم يكن يفعله في ظروف مغايرة؛ قال: أنت أيها الشريف مُحرَج. ونحن حقيقون باحتمالك، وإلا غضبنا عليك، وزاد الأمر على الناس.
قال الرواة إن أهل مصر أقدموا على فعلٍ قبيح، كان هو الدافع لأنْ يأمر موظفو الإمام عرفاءه ومقدَّميه بإحراق المدينة، ونهبِها، والفتك بأهلها. اعترضت موكبَ أمير المؤمنين امرأةٌ في يدها رقعة بظلامة. تناولها الإمام. قرأ ما فيها من الشتم والسباب. فُوجئ الجند بأنَّ المرأة التي همُّوا باعتقالها، هي تمثالٌ من الورق المُقوَّى، أُلبس ثوبَ امرأة. تملَّك الغضب نَفْس الإمام. أصدَرَ متولي الديوان أمره بإحراق المدينة في مشهدٍ يتذكره مَن يبقى من أهلها.
أهمل متولي الديوان — بتدبير — ما رفعه الناس إلى مقام الحضرة من استغاثات. أمَرَ العبيد بالتصدِّي لأفعال الشر. استعدَّ العبيد للأمر، فجمعوا الخيل، وأعدُّوا السلاح، ونسجوا الدروع والمغافر، وضربوا السيوف والأسِنَّة. ثم أحاط العبيد والترك والمغاربة والنهَّابة بمصر الفسطاط في وقتٍ معلوم. اقتحموا، ودمروا، ونهبوا، وضربوا، وقتلوا المئات من الأهالي. لم يلقوا أحدًا إلا قتلوه، سواء كان رجلًا أم امرأة أم طفلًا. خارت قُوى الناس، وتخاذلوا في أنفسهم، ولاذوا بالفرار. ما نجا منهم إلا مَن لحق بتِلال الدرَّاسة. صلبوا مَن تصدَّى لهم بالشوم أو بالهراوات. أحدثوا من السلب والنهب والاغتصاب والحرق والتخريب والتدمير والتلف ما كثر، بحيث لا يُعرف له قيمة. أضرموا النيران في دُور الناس ومحالِّهم. طُرحَت النيران في معظم الشوارع والدروب والعطفات والدُّور. امتدَّت الحرائق بما لم يُرَ مثلها. كلما هدأت النيران في ناحيةٍ، شبَّت في ناحيةٍ أخرى. دُمِّرَت حاراتٌ برُمَّتها. تهدَّم الكثير من الدُّور والمعاهد والآثار الجميلة. اندثرَت بنايات ومخازن وخانات وحمَّامات. عجز الناس عن إطفاء النيران بوسائلهم القاصرة. غلبَت مناظر الأطلال الدارسة. دافَعَ الناس عن أعراضهم ونسائهم ومدينتهم وبيوتهم. لم يتراجعوا شبرًا بغير مقاومة. اندسَّ في زحامهم الزُّعَّار واللصوص والعيارون والحرافيش، وَثَبوا بالكثير من بيوت وزراء الحضرة، فأصابوها، ونهبوا ذخائرها. قتلوا من عبيد الإمام مثل ما قتَلَ منهم العبيدُ.
ظلَّت المعارك ثلاثة أيام. أوقع العبيد في سكان مصر الفسطاط ما يصعب حصره من القتل وإراقة الدماء والسفك والعبث والنهب والسرقات وعموم الخراب. قتلوا كلَّ مَن الْتقوا به. لم يفرِّقوا بين الغوغاء والحرافشة، وبين العلماء والعبَّاد والزُّهَّاد. لم يتركوا متجرًا إلا سلبوا ما فيه، وأخذوا ما في الدُّور من أثاثٍ ومُؤن، وهدموا المَشاهد، وهاجموا الأسواق والحمَّامات والخانات والقياسر. امتدَّت أيديهم إلى أخذ النساء في الطرقات، وكبسوا على الدُّور، واختطفوا النساء. حتى دكاكين الورَّاقين والنسَّاخين، نهبوا مخطوطاتها ومجلداتها وما بها من أوراق. عملوا من أغلفة المجلدات أحذيةً ونعالًا، وأُلقيَت الأوراق في الساحات والخرابات، وأُشعلَت فيها النيران. حَلَقوا لحى مَن صادَفَ طريقهم من العلماء والفقهاء والزهَّاد.
لزم الحضرة القصورَ الفاطمية. لم ينزل إلى الطريق إلا بعد أن غلبَت كفَّة العبيد على كفَّة أبناء البلد. حذَّره متولي الشرطة خوفًا عليه من أذى الناس. ذكَّره بالمصير المُؤلِم الذي لقيه كبارُ موظَّفيه. مَن يقعْ في أيدي الناس الغاضبين، ينهالوا عليه بما في أيديهم من سيوف وشوم وعِصي ومساوق وخناجر.
لم يعُدْ أمير المؤمنين ينزل من القصور الفاطمية إلا برأي متولي الشرطة. تحوطات الأمن تسبق ما عداها. حتى صلاة الجمعة، ربما يؤديها ظُهرًا، امتثالًا لملاحظات الأعيُن، ونصائح متولي الشرطة. وأكثَرَ من استعمال الحراس الشخصيين الذين يتصدون لمحاولات الاعتداء عليه، وتلقِّي الأذى بدلًا عنه.
ثم خرج أمير المؤمنين في موكبٍ يسبقه، ويحيط به، ويتبعه، من الجند والخواص والخدَم والعبيد.
أكلَت النيران معظم أرجاء المدينة، وقُتل الكثير من أبنائها، وقُتل الكثير من عبيد الإمام كذلك. قيل إن الإمام ظلَّ يركب كلَّ يوم إلى الجبل، يشاهد تعالي ألسنة النيران، ويُنصت إلى صراخ الأهالي. يسأل في هيئة مَن لا يعرف حقيقة الأمور: ماذا يجري؟ … يبلِّغه الناس بحقيقة ما يجري. يُبدي الأسف والتألم: مَن أمرهم بهذا لعَنَهم الله؟!
في اليوم الرابع، لاذ خاصة الناس وعامَّتهم بالجوامع. رفعوا المصاحف، وضجُّوا بالبكاء والدعاء.
توقَّف الأتراك والمغاربة، وظلَّ العبيد في اعتداءاتهم. أغلقوا أبواب الجوامع، حتى لا يلوذ بها الناس. فرَّ المئات من الأقباط إلى أديرة الصحراء للنجاة بأنفُسِهم.
اضطربَت الأحوال، واشتدَّت النزاعات بين طوائف العسكر. تزايدَت أعداد العبيد في عهد الإمام الحاكم بأمر الله. تناسَى المغاربة والمشارقة صراعاتهم القديمة، واتحدوا ضدَّ العبيد. شارك الأتراك والمغاربة أهلَ البلاد ردَّ اعتداءات العبيد، وطلبوا إلى الإمام أن يأمر بإيقاف أفعال العبيد الشنيعة. قالوا إنَّ لهم بين المصريين كثيرًا من الأقارب والأصهار والأملاك. أجاب أمير المؤمنين مطلبهم، لكنَّ متولي الديوان أوعَزَ إلى العبيد أن يواصلوا القتال.
احتدمَت المعارك بصورةٍ لم يسبق لها مَثيل. شارك الأتراك والمغاربة أهلَ مصر دفاعهم عن أنفُسِهم. هدَّدوا الإمام — إن لم تُوقف الاعتداءات على أهل مصر — باقتحام القاهرة وإحراقها.
أمر الإمام عبيده بالْتزام السكينة، والتَّشتُّت. عَلَت أصوات الناس بالتهليل والتكبير والدعاء والصياح.
أصدَرَ الحضرة سجلًّا يعتذر فيه لوجهاء البلاد وزعماء الأتراك والمغاربة، ويُدين ما حدث، وأصدر سجلًّا لأهل مصر، قُرئ في الجوامع والأسواق، وعُلِّق على جدران المساجد، وعلى الجامع العتيق بمصر، من داخل الجامع وخارجه، وعلى أبواب الحوانيت والدُّور والقيساريات، يطالِب فيه الحضرة أهلَ مصر والقاهرة باحترام أمير المؤمنين، والامتناع عن سماع الترهات، والتدخل فيما يقوم به، ودعاهم إلى ترك الخوض فيما لا يعنيهم، والمبادرة إلى الإيمان في أوانه، والاشتغال بالصلوات في أوقاتها، والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، ونعى عليهم تَرْك التشاغل بعيوب أنفسهم، واعتراضهم عليه فيما يفعله، ووبَّخهم على مخالفتهم إياه فيما قصد بهم إليه؛ ممَّا يعود عليهم بالقرب إلى باريهم، ومجاهرتهم له بما أتوه من الخطايا، وتظاهروا به من البِدع، وتوعَّدهم بعقوباتٍ يوقعها عليهم، ما لم يصنعوا الخير، ويعمدوا إليه، ويذروا الشرَّ، ويُسلموا أمرهم إلى أمير المؤمنين، فلا يخوضوا في أحواله وأوامره. وشدَّد على عدم معارضة أمير المؤمنين فيما يفعله، أو يَصدُر عنه من الأوامر والأحكام. وحذَّر مَن يُسيئُون فَهْم صبرِ الإمام أنه سيقتفي آثارهم، ويسبي نساءهم وأولادهم، ويصادر أموالهم، وحينئذٍ يطلبون ناصرًا فلا يُنصرون.
قال الرواة إنه إذا كان الحاكم قد ركب في أثناء الحريق، فإن ما حدث تمَّ بغير علمه. وهو قد لَعنَ العبيد، وأظهَرَ التوجع لآلام أهل مصر، وشدَّد على جند الإطفاء لإغاثتهم. غرمَ أمير المؤمنين للناس ما نُهب لهم، وقبِلَ تعويضهم عن كلِّ ما سلبه العبيد منهم. أعاد قول أبيه لعمِّه حيدرة: «أحبُّ أن أرى النِّعم عند الناس ظاهرةً، وأرى عليهم الذهب والفضة والجواهر، ولهم الخيل واللباس والضِّيَاع والعقار، وأن يكون ذلك كلُّه من عندي.»
٢٣
ذكَرَ رُواة الأخبار أنَّ التبشير بالألوهية ظلَّ مستمرًّا. لم يتوقَّف حتى الاختفاء السرِّي للحاكم.
أسرف الزوزني في طَرْق الحديد الساخن.
قال إنَّ أمير المؤمنين ليس مجرَّد إمام. إنه إله لا شأن له بالترتيب الهرمي على الأرض. ذكَرَ أنه ظهرَت له فضائلُ لم يُسْمع بمثلها، ومعجزاتٌ بهرَت العقول، وآياتٌ لا يشكُّ فيها إلا أهلُ الزيغ والارتياب، فغلا فيه صلى الله عليه مَن غلا، وسفل بذلك من حيث ظنَّ أنَّ العكس هو ما حدَثَ.
دعا إلى عبادة الحاكم الأحد، الفرد الصمد، المنزَّه عن الأزواج والعدد. ودعا الناس إلى أن يُسلموا أرواحهم وأجسادهم وأموالهم وعيالهم وجميع ما يملكونه للإمام الحاكم جلَّ ذِكره، له الكمال والقدرة المطلقة على التصرف، يعطي ويحجب، ينفع ويضرُّ، يعزُّ ويذلُّ، يعفو ويعاقب، يُحيي ويُميت. وتحدَّث عمَّا يعِدُ به الحضرة من أنهار اللبن والعسل والحُور العِين والنساء اللائي تتواصل في أحضانهنَّ النشوة، والحقول المحمَّلة بالثمار، والأشجار المتعدِّدة الألوان، الممتدة بلا انتهاء.
أسدَلَ أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله على باب حجرةِ اعتكافه حجابًا، وطالَبَ وزراءه أن يخاطِبوه من ورائه.
قال كاتب الدست الشريف: صارَحَ مولانا أمير المؤمنين خواصَّه برغبته في أن يعتزل.
بحْلَقَ حمزة الزوزني عينَيه: لماذا؟
– يتهم نفسه بالإساءة إلى الناس دون قصد.
لوَّح الزوزني بيده: لا يمكن … لا يمكن …
٢٤
شقَّ قاعة الدواوين. دخَلَ من الباب الذي يجلس فيه الخاصكية (خدَم الخاص)، ثم عَدلَ عنه إلى القصر المُلاصِق للقصر الفاطمي الصغير. يخلو من النوافذ، فيما عدا كوَّات صغيرة تطلُّ على الصحن الداخلي. في وسطه فسقيَّة ونافورة. خيَّم السكون على قاعات القصر وأبهائه، يعمق وَقْع قدمَيه. أهمَلَ النظرات المتسائلة، والقلِقة، والخائفة، يتسلَّل بها إليه مَن يُفاجأ بأمير المؤمنين من الجواري والعبيد والخدَم.
دخَلَ على أمِّه بعد طول غياب.
تحركَت في نصف قومةٍ على فراشها، مسحوبةَ الوجه، مكحولةَ العينَين. عقدَت حول رأسها عمامةً رُصِّعَت بالجواهر والدُّرر، تدلَّى منها جزءٌ صغير خلف الرأس، وفوق كتفَيها شال من الكشمير، والْتفَّت برداءٍ أبيض، فضفاض، منقوش بزهراتٍ صغيرة ملونة، ومُنَمْنم بالذهب. على الأرض بساط من جِلدِ أسد. وثمَّة — على الجانبين — أصصُ الورد والزهور والتحف والجواهر والطرائف وآلات الذهب والفضة، والزخارف على الجدران، وحزم النور تتسلل من منافذِ تكعيبة العنب التي غطَّت واجهة الشرفة المطلَّة على الباحة الداخلية للقصر.
أشار إليها أن تظلَّ في موضعها: غبتُ عنكِ أيامًا طويلة.
استطرد للدهشة في ملامحها: سأظلُّ الابن الذي يحبُّكِ ويهمُّه رضاكِ.
تأمَّلَته بعينَين متوجِّستَين: هل تخرجُ لقتال؟
– قضيتُ على أبي ركوة دون أن أغادر أبواب القاهرة.
– ماذا تُخفي عن أمِّك إذن؟
كتَمَ تهيُّؤه للبوح بشعوره من أنَّ هذه الزيارة لها ربما تكون الأخيرة. يخرج فلا يعود. تبتلعه الظلمة إلى غير نهاية. بَدَت المؤامرات سيوفًا، وخناجر، وقمَّة جبل تقف على حافتها قدماه.
وهو يغالب تردُّده: ربما لا نلتقي ثانيةً.
تصاعَدَ مدُّ القلق في داخلها: تؤكِّد حدسي أنك تخفي شيئًا.
في نبرةٍ مهوِّنة: يا أمي … لا أحدَ يملك وصْلَ أنفاسه.
غرَسَت نظرتها في عينَيه: صارحني بما تُخفيه.
وهو ينحِّي وجهه عن اتجاه نظرتها: صارحتُكِ بمشاعرَ تشغلني.
لم يعُدْ لزوجاته إلا وجود الجسد داخل القصور الفاطمية. قضى بعزل كلِّ واحدة في موضعٍ مستقل؛ توقيًا لمَا ينشأ بين الضرائر — عادة — من غَيرة، ومحاولاتٍ للاستحواذ على ما تعجز عن بلوغه الأخريات. يستقبلنه — متى أراد — ويُنجبنَ الأبناء. لا رأي لهنَّ ولا مَشُورة. حتى الأسئلة يكتُمْنَها في الصدور. حتى الجواري، يخضعنَ لأوامر القهرمانة. تُنصِتُ إلى ما يُمليه الحضرة. تنقله إلى الجواري، فينفِّذْنَه بلا أسئلة.
– لا أخاف على زوجة العزيز بالله وأمِّ منصور.
وأردف في لهجةِ مشاركة: وإن كنت على ثقةٍ أنه ليس أضرَّ عليك من ستِّ المُلك!
شهقَت بعفوية: أختك!
أهمل انفعالها المتحير، وقال وهو يدفع لها بمفتاح في حجمِ قبضة اليد: علي في هذه الليلة، وفي غدٍ قطعٌ عظيم. والدليل عليه علامةٌ تظهر في السماء طلوع نجم سماه، وكأني بكِ وقد انتُهكتِ وهلكتِ مع أختي … فإني ما أخافُ عليكِ آخرَ منها. فتسلمي هذا المفتاح، فهو لهذه الخزانة، وفيها صناديق تشتمل على ثلاثمائة ألف دينار. خذيها وحوِّليها إلى قصركِ، تكون ذخيرة لكِ.
نطق الخوف في عينَيها: ماذا تخفي عن أمِّك؟
– ما كنت أُخفيه … قُلتُه الآن!
٢٥
طال غياب أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله.
لماذا اختفى؟ وأين؟
لا أحد يدري!
عندما قيل للشيخ عطاء الله إمام الجامع العتيق: كلُّ الدلائل تشير إلى أنه قد اغتِيلَ … هزَّ رأسه بالنفي.
علا السؤال: تخمينات؟
– ربما … فلا يوجد ما يؤكد اغتياله.
قال عبد المقصود السحَّار التاجر بسُوق القناديل: ألَمْ يجدوا شيئًا من متعلِّقاته؟
قال المزملاتي حمزة رواس: ثيابه ملطَّخة بالدماء.
قال الشيخ عطاء الله: ليس دليلًا … ورفض أعوانه تصديق وفاته … انسحب — في رأيهم — من العالَم، ليظهر في اللحظة المناسبة من جديدٍ وهو يحمل اسم المهدي.
خيبة الأمل فيمَن اختارهم الإمامُ لمعاونته، فأساءوا التصرف، أغضبَتْه، حتى الاختفاء. حاول — وحَمدَ الناسُ صنيعه — أن يعدل الأوضاع المائلة، ويُعيد الحقوق إلى أصحابها، ويفرض العدل. ثم آثر — حزنًا، أو زهقًا، أو ألم ضمير — أن يختفي من حياة البشر، يستعيد ما كان، يخلو إلى تأملاتٍ وأدعية وإلى الخلاء والخفاء، وهو ما كان يفعله في أيام وجوده بينهم.
قال رواة الأخبار إنه أعاد تصحيحَ الأمور، فعزل وولَّى وسجَنَ ونفى، ولم يعُدْ أمامه سوى أن يُتيح الفرصة — كما أبلغني الرواة — لمَن يحظى باختيار الناس، فيتولى الحُكم من بعده.
عاد إلى نفسه من تصوُّر الربوبية، وإن ظلَّ على يقينه بأنَّ الستر أمرٌ مقرَّر من الله. حكمةٌ إلهية يستحيل نقضها.
اختار حياةَ العزلة فرارًا من دعوى التألُّه التي أجاد الزوزني نسج خيوطها. أشفَقَ على نفسه من غلوِّ الزوزني فيه، والقول بما لم يقُله الإمام في نفسه، وبما لم يحدِّث به الزوزني أو سواه، وتبرأ إلى الله ممَّا نسبوه إليه، وأجرَوه على لسانه.
شدَّد، فلا يُؤذَن لأحدٍ بالدخول عليه. يجلس — منفردًا — في مكانٍ مغلق. لا تُوقد فيه الشموع بالليل ولا بالنهار. ربما جلس في الظلمة، وقد يتَّجه إلى الخلاء، أو يصعد إلى جبلِ المقطم، يطلب سكينةَ النفس، وصفاء الرُّوح. يعشق السرَّ والغموض والخفاء والستر وعبق البخور وأجواء السحر.
لم تعُدِ المخلوقات الغريبة تظهر في الليل وحده. تطالعه في النهار مثلما تطالعه في الليل. ألِفَ رؤية الأشباح والأرواح تتراقص من حوله، فلم تعُدْ تُخيفه.
زاد من شعوره باللامبالاة أو بالتحدي أنَّ الأشباح والأرواح لم تعُدْ تفرِّق — في ظهورها — بين ليل ونهار، ولا بين نورٍ وظُلمة. حتى لو اعتزل في قصره، فلنْ تبتعد الرقصات المجنونة عن عينَيه. يداخله شعور بالتحدي لاقتحام الظلمة. هو الشعور نفسه الذي انتصر به على ابن عمَّار وبرجوان والنعمان وست المُلك. حتى أمُّه مزَّق الإطار الذي ظلَّت تضعه فيه. هو الحاكم بأمر الله، يحكم بأمر الله، وليس بأمر وزير، ولا أمير، ولا أخت، ولا بشر. ما يراه صوابًا يفعله. لا يأخذ رأيًا، ترك شَعر رأسه، حتى انسدل على كتفَيه، وأطلق أظافره. خلَت المراسيم والسجلات — قبل اختفائه — من أوامر قتل نصراني، أو اعتقاله، أو مصادرته، ولم يعُد يغادر بيتَه في احتفالٍ يتقدمه الجند، ويحيط به، ويتبعه، الخدَم والعبيد.
تحدثَت رواياتٌ عن الوزراء والأمراء الذين أجبروا الإمامَ على الاختفاء، وأنهم يعرفون مكانه، ويريدون — بسربلة الغموض — أن يفيدوا من هذا الاختفاء في رسم السِّحر والأسطورة.
وقيل إنه قُبض على رجُل من بني حسين بالصعيد، أقرَّ بأنه واحد من أربعةٍ قتلوا الإمامَ وفرُّوا، فقُبض عليه، واختفى الثلاثةُ الآخَرون، وأظهر الرجُل قطعةً من جِلد رأس الحاكم، وقطعةً من العمامة التي كان يلفُّ بها رأسه.
سُئل: لماذا قتلتَ الإمام؟
قال: غَيرةً لله وللإسلام.
قيل: كيف قتلتَه؟
أخرج سكينًا ضرَبَ بها صدره، فمات لتوِّه.
وقالت رواياتٌ إن ست المُلك هي التي دسَّت للخليفة الحاكم بأمر الله رجُلَين اغتالاه في جولته الليلية بتِلال المقطم، وأخفيا أثره. علاوةً على ادِّعائه الألوهية.
أضاف إلى نقمتها عليه ما أثاره حولها من تشنيعات وأكاذيب.
وعَدَت ست المُلك الحسينَ بن علي بن دوَّاس الكتامي — إذا غيب الإمام — أن يكون صاحبَ الجيش وشيخَ الدولة والقائمَ بها، وتوقِّع له بولاية السيارتين، وهي حماية مصر، وتمنحه الأموال والخِلَع والإقطاعات الواسعة.
كان ابن دواس قد انتوى الانتقامَ من الإمام. قضى على ثورة أبي ركوة، فأسرف — بعدها — في الشدة مع المغاربة. تغطَّى برداء الحريم، فلا يراه أحد في زيارته للقصر الصغير، ووسَّع لها خدَمُها الطريقَ إلى بيته، فلا يراها أحدٌ وهي تدخله. في بالها ما يتَّهمها به منصور من عُشَّاق يتناوبون لقاءها.
استقبلَته ست المُلك بمفردها إلا من الجارية خيرات. ذهبَت ست المُلك — فيما بعد — إلى داره، ليلًا، وهي متنكرة. لم يصحبها خصي ولا جارية. حتى الجارية خيرات ظلَّت في القصر الصغير. حين دخلَت عليه قبَّل الأرض بين يدَيها، وأخلى المكان. استحلفَته ست المُلك، واستوثقَت منه.
رنَت إليه بنظرةٍ محرِّضة: أنت تعلم ما يقصده أخي بك، وأنه متى تمكَّن منك لم يُبقِ عليك، وكذا أنا.
وفي صوتٍ خنقه التأثر: لقد ادَّعى الألوهية، وهتك ناموس الشريعة، وناموس آبائه، وزاد جنونه …
وتأملَت الحماسَ الملتمِع في عينَيه: أخاف أن يؤدي ذلك إلى أن تنقضي هذه الدولة أقبحَ انقضاء.
وعَدَت ابن دواس — لقاء تدبيره قتلَ الإمام — أن تكِلَ إليه قيادة الجيش، لا فرقَ بين زويلة ولا كتامة ولا برقية ولا مصامدة ولا صنهاجة، تختلط طوائف الجند المغاربة والأتراك والأكراد والأرمن والسودان والمعز والديلم. تلغي المعسكرات، أو الحارات التي تستقلُّ فيها كلُّ طائفة. ألقَت على كتفَي ابن دواس عبء تدبير المؤامرة وتنفيذها، فهو يُجيد نَسْج الدسائس وتدبير المكائد.
عَهدَ ابن دواس بالأمر إلى عبْدَين يثق فيهما. خرجا وراء الإمام في جولته المسائية. ركب الإمام حماره الأشهب، وخرج إلى الجبل لرصد النجوم، عادته التي ألِفَها منذ أعوامٍ بعيدة.
مضى إلى جبل المقطم من درب السباع. واصَلَ التوغُّل في شِعب المقطم حتى اختفى، واختفَت جثته، وإنْ عثر الجند على حماره بالقرب من بِركة حلوان، وقد قُطعَت ساقاه الأماميتان، بينما ثياب الإمام الملطَّخة بالدماء ملقاة في قاع البِركة.
حمَلَ العبدان الجثةَ إلى ست المُلك، فدفنَتها في مجلسه، وكافأت ابنَ دواس والعبدَين. آخِر ما تلقَّاه العبدانِ من أوامر، قتْلُ الإمام في تِلال المقطم، أو خلاء الدرَّاسة. وكان آخِر وجودهما في الدنيا؛ أمرَت ست المُلك بقتلهما، عَقبَ مُثولهما بين يدَيها، لإبلاغها بما فعلاه.
قيل إن الجارية خيرات وضعَت له السمَّ في الطعام. ولاؤها لست المُلك دفعها إلى تنفيذ ما أمرَتها به دون أن تناقشه، ولا أن تتدبر خطورته. حَمدَ لها الطبَّاخ أنس عبدون إقدامَها على معاونته. تكرَّرَت رؤيته المُغضية لها في تردُّدها على مسعود. غَسلَت الأطباق والأكواب، وقشَّرت الخضراوات، وقطعَتها، وقطعَت اللحم، وقلبَت الطعام في الأوعية. لَحقَته بالملح والسكر والفلفل الأسود والحبهان، وغيرها مما نطق به. وضعَت السمَّ في الوعاء لحظة انشغاله، وعادت إلى ما كان في يدها.
قال الرواة إن ست المُلك غالبَت التردد قبل أن تأمر بقتل الخليفة. هو أخوها الذي ربَّته ورَعَته، لكنَّ النهاية — التي لا تريدها — بدَت ماثلةً في الأفق: يزول حُكم أبي منصور، ويزول حُكم الفاطميين.
نقلَت إليها خيرات ما نُقل عن الزوزني؛ إنَّ عبد الرحيم إلياس ليس وليًّا للعهد، لكنَّه ظِلُّ الإله على الأرض، بهَدْيه يعمل، ويواصِلُ ما بدأه.
قالت ست المُلك: هو يعرف أنَّ هذا الاختيار ضد العقيدة الإسماعيلية … هذا الرجُل يضيِّع كل شيء.
ثم من بين أسنانها: لا بدَّ من تصرُّف … لا بدَّ من تصرُّف.
فضَّلَت ست المُلك أن يغيب أخوها بدلًا من أن يغيب عرشُ الفاطميين كلُّه، وأنقذَت البلاد. وقيل إنَّ اثنَين من عوام الناس قتلا الإمامَ دون أن تعلم ست المُلك بذلك. وقيل إنَّ قتَلَتَه نفرٌ من البدو لا يعرفون مَن هو. وقيل إنه إذا كان قد دَفعَ حياته ثمنًا لمَا فعل؛ فلأنَّ الإنسان لا يحصد إلا ما بذر.
قال الرواة إنَّ الشيخ مصابيح طالَعَ الخليفة الحاكم بأمر الله، على ناصية الطريق المفضي إلى جبل المقطم. كان يحيط به أعوانه. ما يقرب من العشرين، يحملون المقارع والشوم، ويبدو من سحنهم وثيابهم أنهم ينتمون إلى الشطار والحرافيش. كان الإمام يرافق الظُّلمة والصمت في طريق تأملاته الليلية، لمَّا أحاط به الشيخ مصابيح وأتباعه، دون أن يُتيحوا له فرصةَ امتشاق سيفه، أو الفرار.
قال الشيخ مصابيح: أهلًا بالإله الحاكم بأمره.
هتف بشعورِ المفاجأة: مَن أنت؟ مَن أنتم؟
كانت الثمرة قد نضجَت تمامًا. لم تعُدْ تطلب إلا اليد التي تقطفها، السيف الذي يطيح بها. هو قد اختار العُزلة؛ فرارًا مما أوقع فيه نفسه من الشرِّ. لا يتصل بأحد، ولا يتصل به أحد. زاد تأثير العزلة على ذهنه، فلم يعُدْ قادرًا على تقييم الأمور تقييمًا صائبًا. حتى خواصُّه ومَن كانوا حوله — مَن زينوا له تصرفاته، أو حرضوه عليها — أبعدهم بخوفه. هو يخاف مما قد يدبِّرونه له.
قال الشيخ: عبدك مصابيح.
علا حاجباه بالتساؤل والدهشة: الشيخ مصابيح!
ورمقه بعينَين متفحِّصتَين: هل أنت؟
ربتَ الشيخ مصابيح صدره بيده: هو أنا.
بدا شخصًا آخَر غير الذي اعتاد الناسُ رؤيته في الأعياد والأسواق، وعلى منابر الجوامع. غاب الشرَرُ عن العينَين. حلَّ تذلُّل واستكانة، وارتجفَت شفتاه بما لا يعلو به صوته من الكلمات. أضاف إلى تواضُع هيئته ما كان يرتديه من ثوبِ خيشٍ أبيض.
قال في تَذللهِ: لكنني أحكم بأمر الله، ولا أحكم بأمر نفسي.
قال الشيخ مصابيح: الله هو الذي لا يُسأل عمَّا يفعل … يُحيي ويُميت، ويفعل ما يشاء. هذه إرادته، ولا رادَّ لقضائه.
أطال تأمُّله بعينٍ باردة: أليس ذلك هو ما تفعله؟
وهو يغالب شعورًا بالعجز: مَن يُخطئ يعاقَب. العين بالعين، والسِّن بالسِّن، والحياة قِصاص.
هزَّ الشيخ سبَّابته في وجهه: إذن فأنت ترى أنَّ الخاطئ لا بدَّ أن يُعاقَب.
وأشار إلى أتباعه. انهالوا على أمير المؤمنين بالمقارع والشوم، وهو يحاول أن يتقي الضربات بيدَيه، حتى تعالَت حشرجاته، وسكن في موضعه. ثم سكنَت أنفاسه تمامًا.
الزوزني — وحده — نفى قتْلَ الإمام. لقد اختفى. أغضبه ما اقترفَت أمَّتُه من الشرور والمفاسد، فاختفى. رُفع إلى السماء. لن ينزل الأرضَ إلا عندما تأتي الساعة؛ ينشر العدل والمساواة.
بدا أميل إلى الصدق ما رواه آخرون أنَّ الإمام الحاكم زهد في الحُكم، واختفى، فرارًا من تبعاته.
غادر القصر في ليلةٍ غاب فيها القمر، وتكاثفَت الظلمة. لم يحاول أن يتصل بأحد، ولا أن يبلِّغ أحدًا بما اعتزم أن يفعله.
امتدَّت سرحاته — في الفترة الأخيرة — إلى خارج القاهرة. لم يتصرف بخشية من أنه يترك المدينة التي يقتصر سكناها عليه، وعلى أسرته، وجنده، وخواصه. مضى — دون حراسة — في الدروب والطرقات، بين الدُّور القصيرة، المتلاصقة. اللثام على وجهه يصرف الأنظارَ عنه.
لم يصدِّق الناس أنَّ الإمام زهد في الحُكم، وقرَّر التخلِّي عنه. اختفى الإمام الحاكم بأمر الله ليرتفع إلى السماء، فلا يعود إلَّا آخِر الزمان. يرى من موقعه الذي لا يراه أحد، تردُّد الناس على الأماكن التي ربما لجأ إليها. أفعال سابقة، بما يعيشونه، بالتوقعات. الموضع الذي زاره مرات، أو مرةً واحدة، أو يخمِّنون أنه قد يُؤثِر الاختفاءَ فيه.
أمَرَ كاتبُ الدست الشريف الجُندَ، فهم لا يتركون مسجدًا ولا بيتًا ولا خانقاه ولا ساحة ولا شارعًا خلفيًّا. جابوا شوارع مصر والقاهرة. أطالوا تأمُّل المارَّة في الأسواق. وفي داخل الجُب الذي كان يقضي فيه خلوته. مضَوا خارج القصر إلى شوارع وعطفات ودروب، يُظنُّ أنه قد سار فيها. حتى الخلاء الذي ربما لاذ بأُفقه. توقفوا عندما قهرهم الخوف من أن يبتلعهم الأفق.
وقال أعوانُ الزوزني إن المعجزة على وشك الحدوث، وإن أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله سيعود إلى الظهور؛ ليعيد إلى الدنيا ما غاب عنها من العدل والإنصاف، ويُميت الظلم، ويردَّ كلَّ شيء إلى حقيقته البسيطة. اتخذ من الخفاء منفًى اختياريًّا، لا يغادره إلَّا عندما تحين اللحظة التي يختارها. تنقاد له الملوك، وتتيسر الأمور، وينتصر صحيح الدِّين.
قال الرواة إنَّ شاغل مَن قَتلوا الحاكم بأمر الله كان قطْعَ حلقات سلسلةِ الخلفاء الذين لا تنعقد لهم بيعة، ولا تصحُّ لهم إمامة. لم يعرفهم أحد من علماء النسل. حالُهم حالُ المرتدِّين والزنادقة. دولة العُبيديين ليست عَلويةً ولا فاطمية، إنما خلفاؤها وأشياعهم من المَجوس والباطنية عطلوا الشرائع، وأباحوا الخَمر والفُروج، وسبُّوا الأنبياء، وأُدينوا بقتل أرباب القلم والعمامة، وسعَوا إلى الخراب والتدمير، وأسرفوا في إغواءِ الخَلق، وصرْفِهم عن ملة الإسلام.
هذا ما أخبرني به رواة الأخبار.