الريخ الثالث
في شهر نوفمبر من عام ١٩١٨ سرت روح التمرد والعصيان في صفوف الجيش والبحرية الألمانية واندلع لهيب الثورة في «كييل» و«همبورج» وعدة مدن أخرى؛ ففي برلين خرجت الجماهير الصاخبة إلى الشوارع تطلب «الصلح والحرية والخبز!» وفي ٨ نوفمبر أعلن قادة هذه الثورة من الاشتراكيين الديمقراطيين أن «آل هوهنزلرن» قد نزلوا عن عرش أجدادهم، ثم نادوا بقيام الجمهورية، وأُرغم القيصر «ولهلم الثاني» على ترك العرش، وأعلن الاشتراكيون الديموقراطيون الجمهورية، ومع ذلك ظلت المظاهرات على شدتها ووقعت الالتحامات العنيفة في طول البلاد وعرضها، وخصوصًا بين الاشتراكيين والشيوعيين. ووسط هذه الثورات والاضطرابات تغير وجه التاريخ في ألمانيا؛ فقد انعقدت الجمعية الوطنية لوضع دستور «ويمار»، ووقع الوفد الألماني في «فرساي» على شروط الصلح — في ٢٨ يونية ١٩١٩ — وفي أغسطس من السنة نفسها بدأت قانونًا حياة «الريخ الثاني» أو«جمهورية فرساي» — على حد قول الهر هتلر — وهي جمهورية ويمار المعروفة.
ومع أنه لا يعنينا في هذا الفصل سرد تاريخ هذا الحزب، فمن الواجب أن نشير إلى حقيقة واحدة: هي أنه ظل ينمو ويقوى ساعده في الوقت الذي ساءت فيه أحوال ألمانيا الاقتصادية، سواء أكان ذلك من أثر التضخم المالي الذي قضى على الطبقة المتوسطة، أم من أثر الأزمة العالمية الاقتصادية المعروفة في الثلاثينات الماضية، وهي الأزمة التي طوحت بملايين العمال إلى خارج المصانع، ونشرت البطالة في كل بلد ودولة، فقد أعطت هذه الظروف جماعة هتلر النازيين الفرصة لرد أسباب ذلك الاضطراب الكبير إلى قسوة معاهدات الصلح في فرساي، وإلى جشع اليهود، وإلى خيانة الشيوعيين وأعداء الوطن الداخليين الذين تعمدوا إشعال الثورة فطعنوا جيش القيصرية في ظهره، ومكنوا حلفاء الحرب العالمية الماضية من الانتصار على ألمانيا وإذلالها، كما جعلت هذه الظروف من السهل على الحزب النازي أن يسرف في بذل الوعود يوزعها ذات اليمين وذات الشمال، حتى يستميل إلى صفوفه جماعة العسكريين الناقمين بسبب الهزيمة وكبار رجال المال الحانقين لضياع أرباح صناعة الحرب، والسياسيين المحترفين من رجال العهد البائد التواقين إلى استئناف نشاطهم السياسي، وأفراد الطبقة المتوسطة «البورجوازي» الذين هدر الإملاق كرامتهم، والعمال المتعطلين الذين تذوقوا مر العيش وشظفه، وغير هؤلاء من الطوائف والجماعات التي حنت إلى يد الزعيم القوي تسيطر من جديد على تنظيم حياتها ونشاطها، وتتكفل بمسئولية تصريف شئونها حتى تصل بها إلى بر السلامة دون أن تحملها مشقة التفكير في تدبير شيء من ذلك: شأن الألمان في كل زمان ومكان.
وفي هذه الظروف الشاذة، كبر حزب النازي وترعرع؛ فقد نشرت الصحيفة الألمانية «فولكشير بوبختر» في عدد خاص صدر في ٢٣ مارس ١٩٣٢ إحصائية بعدد أعضاء هذا الحزب منذ تأسيسه إلى قبيل وصول أدولف هتلر إلى مستشارية الريخ الألماني، يتبين منها أن الأعضاء الذين كانوا سبعة في عام ١٩١٩ ومنهم هتلر نفسه، قد بلغوا ٣٠٠٠ في ١٩٢٠، و٢٧٠٠٠ في ١٩٢٥، و٤٩٠٠٠ في ١٩٢٦، و٧٢٠٠٠ في ١٩٢٧، و١٠٨٠٠٠ في ١٩٢٨، و١٧٨٠٠٠ في ١٩٢٩، و٣٨٩٠٠٠ في ١٩٣٠، و٨٦٢٠٠٠ في ديسمبر ١٩٣٢، و٩٢٠٠٠٠ في يناير ١٩٣٣.
وهذه الإحصائية إنما نهدف من وراء إثباتها إلى توضيح حقيقتين: الأولى، ازدياد عدد أعضاء الحزب في سنوات الأزمة الاقتصادية، والثانية: أن عدد الأعضاء بالقياس إلى مجموع الأمة الألمانية كان في الواقع صغيرًا ضئيلًا، ولا يدل بأي حال من الأحوال على أن الحزب النازي كان مرآة الرأي العام الصحيح في ألمانيا؛ بل إن هذه الحقيقة الأخيرة لا تلبث أن تزداد وضوحًا إذا انتقلنا إلى الشهور التالية عندما اشترك النازيون في الانتخاب لمجلس الريخستاج في ٦ نوفمبر ١٩٣٢؛ فقد نالوا وقتذاك ١١٧٠٥٢٥٦ صوتًا من ٢٦١٣٨٨٩٢، أي بنسبة ٣٢٪ تقريبًا. ومع أن زعيمهم بلغ منصب المستشارية في ٣٠ يناير ١٩٣٣ بفضل مناورات سياسية وحزبية سوف يأتي ذكرها، ومع أن النازيين سيطروا على أداة الانتخاب وأحكموا التدبير والتنظيم، واستطاعوا إثارة الرعب في قلوب الشعب الألماني من خطر البلشفية عقب حريق الريخستاج المدبر في ٢٧ فبراير من العام نفسه؛ فقد نالوا في الانتخابات التالية في ٥ مارس ١٩٣٣ نحو ١٥٨٧٤٩٧٣ صوتًا أي بنسبة ٤٣٫٩٪، فلم يكن للنازيين حتى في أوج عظمتهم الأغلبية التي تمكنهم من الانفراد بالحكم في ألمانيا، والادعاء بأنهم يمثلون الشعب الألماني حقيقة.
ومع ذلك استطاع النازيون أن يفرضوا سيطرتهم التامة على بلادهم، وبذلك استطاعوا أن يصلوا إلى فرض هذه السيطرة على الشطر الأكبر من القارة الأوروبية، ثم باتوا يطمعون أخيرًا في التمتع بالسيطرة على بقية أنحاء العالم.
ولم يكد هتلر يتسلم زمام الحكم حتى أخذ يعمل جاهدًا على تنفيذ برنامجه الضخم بعد أن أصبح صاحب الحول والطول في ألمانيا.
فمن أقواله المأثورة: «إن الريخ الأول هو دولة بسمارك، والريخ الثاني هو جمهورية فرساي، والريخ الثالث هو دولتي.» أي إن الريخ الثالث يبدأ من اليوم الذي عُين فيه أدولف هتلر مستشارًا للريخ الألماني في ٣٠ يناير ١٩٣٣. وقد ظلت دولة أدولف هتلر قائمة إلى أن زالت من الوجود بسبب تحالف الديمقراطيات ضدها، وتحطم ذلك النظام الجديد الذي شاءت أن تفرضه فرضًا على شعوب أوروبا.
ومنذ قيام الريخ الثالث مرت سياسة ألمانيا الخارجية في مرحلتين: تميزت الأولى منهما بمحاولة تمزيق معاهدات فرساي بشتى الوسائل تحت ستار العمل على استرداد مكانة ألمانيا كدولة عظيمة بين الدول الأوروبية، أما المرحلة الثانية: فقد تميزت بانتصار ألمانيا في هذه المناوشات التمهيدية، وإقدام الريخ على تلك المغامرة الجريئة التي قصد منها بسط السيطرة الجرمانية على أوروبا، إما بالوسائل السلمية وإما بخوض غمار الحروب.
لذلك لم تكد تنقضي شهور معدودات على وصول هتلر إلى منصب المستشارية حتى أقدمت ألمانيا في أكتوبر ١٩٣٣ على الانسحاب من مؤتمر تخفيض السلاح، والخروج من عصبة الأمم، ثم أخذت من ذلك الحين تتسلح علانية وفي غير توان، بينما وقفت الدول الغربية مكتوفة الأيدي حتى لقد رفضت فرنسا ما تقدمت به بولندة من عروض للقضاء على النازية وهي ما تزال في مهدها. وعلى ذلك فقد نشدت بولندة السلامة في توقيع ميثاق عدم اعتداء مع ألمانيا في ٢٦ يناير ١٩٣٤، كان من أثره أن استطاع الريخ تأييد جماعة النازيين في دانتزج الحرة أرضًا ومدينة.
ومما يميز هذه المرحلة وقوع عدة حوادث جسام أدت في النهاية إلى اشتعال نيران الحرب العالمية الثانية؛ فقد ظل الألمان والإيطاليون في الشهور التالية بين يناير ويولية ١٩٣٧ — وعلى الرغم من الوعود الشفوية المتكررة التي أصدروها لتقرير رغبتهم في التزام خطة «عدم التدخل» — يعملون لتأييد الثوار الفاشيين في إسبانيا بكل وسيلة حتى ظهر في أوائل العام التالي أن النصر في النهاية سوف يكون من نصيب (فرانكو) وجماعته، وأن الهزيمة السياسية — ولا شك — سوف تكون من نصيب تلك الدول الديمقراطية التي التزمت سياسة «عدم التدخل». وعلاوة على ذلك أفاد النازيون من توتر الموقف السياسي في أوروبا كل فائدة، فأقدم هتلر على غزو النمسا، ثم ضمها إلى ألمانيا عنوة واقتدارًا (في ١١ مارس ١٩٣٨)، وحوَّل النازيون أنظارهم بعد ذلك صوب جمهورية تشيكوسلوفاكيا، فأسفر اتفاق ميونخ (في ٣٠ سبتمبر ١٩٣٨) بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا عن سلخ بلاد السوديت وضمها إلى ألمانيا. ومع أن الهر هتلر كان قد أكد للمستر تشمبرلين أن السوديت آخر ما يطمع فيه من الأراضي الأوروبية، فإنه ما لبث حتى نقض عهده في مارس من العام التالي، وضم مقاطعتي بوهيميا ومورافيا التشيكية في حكومة واحدة تحت الحماية الألمانية واحتل سلوفاكيا. وفي ٢٢ مارس طلبت ألمانيا أرض «ميميل» من «ليتوانيا» واستولت عليها. وفي أول سبتمبر اعتدت ألمانيا على بولندة، ثم قرر هتلر يوم الاعتداء عليها أن يضم مدينة دانتزج الحرة إلى الريخ الثالث.
•••
تلك إذن كانت الحرب الخاطفة، وفيها انتصر الألمان على طول الخط كما شهدنا حتى نهاية عام ١٩٤١، ولكن هذه الانتصارات كانت ضئيلة القيمة في الواقع؛ إذ كان الألمان قد خسروا معركة بريطانيا، وكان في استطاعة الإنجليز أن يحشدوا أكبر قواتهم الإمبراطورية أو يضموا إلى صفهم الديمقراطية الأمريكية الكبرى؛ الولايات المتحدة، ثم غيرها من الشعوب الحرة في الشرق والغرب؛ لمنازلة عدوهم في معركة حاسمة.
ومن جهة أخرى، صادف الألمان منذ البداية عدة صعوبات سببتها هذه الحرب الخاطفة، أهمها: أن كثيرًا من مراكز الانتاج الصناعي والزراعي ما لبث أن دُمر أو تعطل بفعل الحرب، كما أن أسرات عديدة سرعان ما صارت تفر أمام جحافل النازيين الزاحفة على بلادها، يطلب أفرادها مكانًا أمينًا يلجئون إليه من شبح الموت الذي يطاردهم، وكان من هؤلاء الحيارى الفارين كثير من الزراع والصناع الذين هم دعامة الإنتاج الاقتصادي في أوطانهم، وعدا هذا فقد فضل عديدون من زعماء الصناعة في البلاد المهددة بالغزو والاحتلال مغادرة منشآتهم الصناعية والهجرة إلى الدول المحايدة أو المتحالفة ضد ألمانيا، فنجم من ذلك كله أن حل الارتباك محل الجهد «المنظم»، وتوقف الإنتاج أو كاد في البلدان المخربة المنهوبة، فماذا يصنع النازيون لتدارك هذه الحال؟
كان لا بد من إصلاح أداة الإنتاج الاقتصادي بأي ثمن لأمورٍ واضحةٍ جلية؛ فالحرب ما تزال مستعرة الأوار، والتعبئة الكاملة تقتضي الانتفاع بكافة الموارد لمواصلة القتال، ناهيك بالرغبة في إحراز النصر ضد بريطانيا، ولا يتسنى كل ذلك بغير استقرار تلك الشعوب المغلوبة على أمرها واستكانتها إلى العمل المنتج في الحقل والمصنع. ولكن كيف يطمئن المغلوبون إلى التعاون مع الغالبين إذا كان مجرد العيش في ذلة هو ما ينبغي عليهم أن يطمعوا فيه؟ لا بد إذن من تخدير أعصابهم، ولا بد إذن من التمويه عليهم، وكان الحيارى الذين أصابتهم الهزيمة ونزلت بهم الكوارث أشد الناس إقبالًا على تصديق كل قول مموه وتعليل النفس بقرب انقشاع الغمة. وعرف شيطان النازي هذا الضعف في الشعوب المقهورة، فراحت الدعاية تدق الطبول وتنفخ في الأبواق مبشرة بأن شمس «النظام الجديد» سوف تبدد تلك الحلوكة المخيمة على الدول التي خضعت لسلطانهم.
وما كان النازيون يقصدون من تخدير أعصاب المغلوبين استئناف النشاط الاقتصادي وتوفير أسباب التعبئة الكاملة فحسب، بل إن كسب الوقت كان من أهم أهدافهم، حتى تتوطد دعائم ذلك النظام، وحتى تمر فترة من الزمن تكفي لتغلغله في كيان أوروبا الاقتصادي والسياسي؛ لأن هذا التغلغل من شأنه أن يرغم الشعوب المغلوبة على تعود هذا النوع الجديد من الحياة، فيكفل مرور الزمن ورسوخ العادة إخماد المقاومة رويدًا رويدًا، ويضمن استسلام الشعوب إلى العيش في ظل السيطرة النازية في النهاية، فإذا ما انقضى زمن طويل على سريان هذا النظام صار من المتعذر على الديمقراطية حتى بعد انهزام الهتلريين وانقضاء دولتهم اجتثاث هذا النظام من أصوله ومحو أثره من الوجود.
وكانت الدعوة إلى النظام الجديد وسيلة مؤاتية تتيح الفرصة باسم المساهمة مع ألمانيا المنتصرة في تشييد صرح الحضارة الجديدة لأولئك النفعيين من الكويسلنجيين واللافاليين الذين لا تخلو منهم أمة مقهورة، ولأولئك المغامرين المكبوتين من الكتَّاب وأشباه المفكرين الذين إذا فشلوا في حياة الفكر الحر الطليق وازوَّر المجتمع عنهم وأهمل أمرهم تلمسوا في فلسفة «النظام الجديد» ينبوعًا جديدًا ينهلون منه — كأنما قد تفتقت أذهانهم هم وحدهم حتى فهموا ما استغلق على غيرهم — ثم انقلبوا يكيدون لأبناء أوطانهم انتقامًا لما توهموه غمطًا لمواهبهم وازدراءً لثمرات قرائحهم.
وعلى ضوء الاعتبارات السابقة نستطيع أن ندرك لماذا لم تعمل النازية على الدعاية للنظام الجديد في بداية العراك، ولماذا لم يكن النظام الجديد نفسه من أهداف الحرب، فلم يسمع به أحد إلا بعد انهيار فرنسا وإخفاق الألمان في معركة بريطانيا. وعلى ذلك فقد بدأت الدعوة لهذا النظام وئيدة وانية في شهري يولية وأغسطس من عام ١٩٤٠، ولم تبلغ ذروتها إلا في أغسطس وسبتمبر، وكان الغرض منها إقناع الشعوب المهزومة بأن النازيين إنما يريدون إعادة تنظيم الحياة الأوروبية في عالم مثالي جديد، وأن بريطانيا هي العقبة الكأداء التي يحول عنادها وإصرارها على المقاومة دون تحقيق هذا النظام، وأنه لا سبيل إلى تشييد صرح هذه الحاضرة المثالية إلا بالتعاون مع النازيين؛ حتى يمكن أن توضع أسس ذلك البنيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يريدونه للعالم، وأن من شروط النجاح في هذا العمل الباهر أن يتم التضامن الوثيق مع ألمانيا من أجل مكافحة الإنجليز وإرغام بريطانيا العظمى على التعاون مع النازيين وأحلافهم في إقامة هذا النظام والاعتراف بمزاياه، وإنها لكثيرة.