النظام الجديد
وهنا يصح للقارئ يسأل: وما أمر هذا النظام الجديد؟
ويتضح مما يذكره جميع هؤلاء الكتَّاب أن «التعاليم النازية» ترتكز على حقيقة أساسية واحدة، هي أن الحضارة الحالية يهودية في صميمها تنكر البطولة وترفض النضال والصراع من أجل الحياة، فتحرم الإنسان لذلك من صفات النبل والشرف؛ ولذلك كانت هذه الحضارة التي يقوم عليها النظام اليهودي العالمي في الوقت الحاضر ملوثة بجراثيم الانحلال، وينخر فيها الفساد ولا مفر من تحطيمها في النهاية؛ حتى ينفسح الطريق لقيام نظام آخر معارض لهذا النظام اليهودي المادي. وعلى أساس هذه المغالطة استند النازيون في رسم تلك القواعد التي شيدوا عليها صرح النظام الجرماني الجديد في ألمانيا أولًا ومن بعد ذلك في أوروبا.
إن الاعتراف بقدسية القوانين التي يوقع عليها أدولف هتلر باسمه لهو أعظم واجباتنا إطلاقًا؛ لأنها مستلهمة من روح الأمة الجرمانية؛ ذلك أن الله وحده أعطاه السلطة، فهو لذلك الرسول الذي أرسله الإله ليذود عن حقوق الجرمان في العالم.
ومما تجدر ملاحظته أن النازيين أخرجوا من هذا التقسيم الكلت واللاتين، على أن يجري اختيار الطبقة التي يليق في نظر النازيين وضعهم فيها حسب الظروف ومقتضيات الأحوال، مسترشدين في إجراء هذا الاختيار بأمور ثلاثة: هي وثوق الصلة والقرابة التي تربط بين هذين الجنسين والأجناس التي تتألف منها الطبقة العليا، ثم درجة نقاوة الدم، وأخيرًا مقدار استعداد هذين الجنسين لممارسة شئون الحكم.
وعدا هذا أنكر النازيون أن آسيا والشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض كانت جميعها مهد الحضارة، بل ادعوا أن أقدم ثقافات العالم إنما ظهرت في البقاع النوردية — أي في طرف بحر البلطيق الغربي — ولذلك سهل عليهم الادعاء بأن عبقرية الجنس الجرماني ونشاطه أو حيويته هما وحدهما اللذان أخرجا إلى الوجود كل ما كان ذا قيمة في عالم الفن والعلم والصناعة. وفضلًا عن ذلك سوَّغ النازيون فكرة السيطرة الجرمانية بادعائهم أن الجرمان من الناحية البيولوجية الصرفة أصلح الأجناس قاطبة للنضال من أجل البقاء، ومن شأن هذه الصلاحية ذاتها أن تمكنهم في النهاية من السيطرة على العالم أجمع، فالأقدار وحدها إذن هي التي اختارت الجنس الجرماني لهذه السيطرة.
وقد ترتب على القول بوقوع الاختيار على الجرمان منذ الأزل لممارسة هذه السيطرة العالمية أن أصبح من الواجب على الجرمانيين ألا يعترفوا بغير قانون واحد، هو ذلك القانون الجرماني الذي يخوِّل هذا الجنس المختار أن يفعل كل ما يحقق في النهاية دعم السيطرة الجرمانية العالمية، مهما كانت هذه الفعال مخالفة للقواعد الخلقية والأحكام القانونية المعروفة، بل رفض الجرمان أن يعترفوا بهذه القواعد والأحكام بدعوى أنها من مخلفات الحضارتين الرومانية والمسيحية، وكل منهما في نظر النازيين حضارة منحلة تمسكت بها أجناس وضيعة ولا يمكن أن يسترشد بمبادئها الجنس الجرماني الرفيع الشأن، سواء أكان ذلك في حياته الداخلية أو في علاقاته الخارجية مع الدول وسائر الأمم. وإلى جانب هذا، اعتبر النازيون أن الغرض من كل نشاط خارجي إنما هو تعزيز الكيان الجرماني الداخلي، حتى يستطيع الريخ أن يبذل بفضل القوة التي يكسبها نشاطًا خارجيًّا جديدًا لا تلبث ثمرة نجاحه أن تندمج في الكيان الجرماني الداخلي، فيبذل الريخ بفضل ذلك نشاطًا خارجيًّا أقوى، وهكذا يستمر هذا النشاط قويًّا مجددًا حتى يتم للجنس الجرماني «المبجل» إحراز السيطرة على العالم، أي إن التنظيم الداخلي في نظر النازيين كان حجر الأساس في بنيان «دولة الزعامة»، والأداة التي لا غنى عنها لتحقيق السيطرة الجرمانية العالمية.
وقد استرشد النازيون في هذا التنظيم الداخلي بقواعد مرسومة أهمها ضرورة استخدام جميع القوى البشرية والمادية الموجودة في الدولة واستغلالها إلى أقصى حدود الاستغلال؛ وذلك لتهيئة أداة الحرب والقتال التي تمكِّن الجرمان من الاستيلاء على الأرض التي يدعي النازيون أن من حقهم أن يملكوها، ثم توطيد مركزهم كأسياد مسيطرين على هذا العالم. وكان معنى ذلك أن يعبئ النازيون جميع الأيدي العاملة ثم أدوات الصناعة والزراعة وسائر وسائل الإنتاج في الدولة، وهو عمل شاق جسيم ما كان يستطيع النازيون أن يقدموا عليه دون الالتجاء إلى الحيلة والدهاء تارة والقسوة الصارمة والغدر تارة أخرى؛ حتى يزيلوا ما يوجد من عقبات داخلية قد تحول دون تنفيذه.
وعلى ذلك فقد اصطنع النازيون الاعتدال في أول الأمر مع مخالفيهم من المواطنين الذين لم ينضووا تحت لواء الوطنية الاشتراكية، وأفاد النازيون من هذا الاعتدال المصطنع؛ لأنهم كما — سبق القول — لم يكونوا بالأغلبية التي تستطيع الانفراد بالحكم عند وصولها إليه، كما استطاعوا عن طريقه تسخير جميع الأيدي العاملة والانتفاع بموارد الثروة التي كان يملكها رجال الصناعة والمال، ولم يكن هؤلاء قد أدركوا بعدُ جسامة الخطر الذي يتهددهم، وكان غرض النازيين من تسخير هذه القوى إعداد آلة الحرب اللازمة لتنفيذ برنامجهم.
على أنه مما تجدر ملاحظته أن العمل بمبدأ الاكتفاء الذاتي يحرم على النازيين إنشاء الصلات التجارية مع العالم الخارجي؛ وبخاصة لأنهم كانوا يخشون أن تؤدي هذه الصلات إلى ضياع ذلك الخلق الجرماني «الرفيع» الذي يميزهم من غيرهم كأمة. ومع ذلك أجاز النازيون التجارة، ومع العالم الخارجي في حالات معينة، أهمها: أن تكون هذه التجارة وسيلة يتمكن النازيون بفضلها من تجهيز أداة الحرب وإعدادها بكل سرعة، ثم تحقيق «الاكتفاء الذاتي» نفسه، وذلك إما بافتتاح الأقاليم الغنية بالموارد الطبيعية التي كانت تنقصهم، وإما بتهيئة الوسائل لإنتاج ما يمكن أن يستعيضوا به عن تلك الأشياء التي لم توجد في داخل دولتهم، وهذا فضلًا عن جلب الكماليات التي قد يطلبها الشعب لمجرد الترفيه عن نفسه كالبن مثلًا. ثم أجاز النازيون الاتجار مع الأمم الأخرى إذا نجم من ذلك ربح لهم أو توقعوا إصابة هدف سياسي معين من وراء هذه التجارة.
ومع أنه كان من واجب الدولة — على حد قول النازيين — المحافظة على كيان المجتمع وضمان رقيه، فقد كان من رأيهم أن على الدولة أن تُضحي بهذا الواجب المزدوج إذا دعت الحاجة الملحة إلى انصرافها بدلًا من تحقيق هذه الغابات إلى امتلاك تلك الأراضي التي كان من حق الجنس الجرماني أن يمتلكها في سبيل الوصول إلى السيطرة العالمية.
•••
هذه إذن كانت أهم القواعد التي بنى عليها النازيون صرح النظام الجديد في أوروبا؛ ومن الواضح أنهم كانوا يعتبرون الجنس الجرماني أرقى أجناس البشر إطلاقًا وأنقاها دمًا، ومن حقه بفضل هذه الرفعة ونقاوة الدم أن يتمتع بالسيطرة على العالم، ولا بد للوصول إلى هذه السيطرة من تسخير سواد الأمة الألمانية لخدمة طبقة السادة الممتازين أصحاب الحكم في الدولة، ثم تسخير سواد الشعوب الأوروبية وشعوب العالم جميعها لخدمة الجنس الجرماني. وكانت دعامة هذا النظام الجديد ومساك حياته «الزعامة المسئولة»، أي تلك الزعامة التي كانت مسئولة في داخل الريخ عن الشعب الألماني، وفي خارج الريخ عن بقية شعوب العالم في النهاية، وهي زعامة تقوم على أساس الطاعة العمياء لشخص الزعيم في جميع التنظيمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الريخ وفي أوروبا وفي العالم. وأما رسالة الجنس الجرماني فكانت لا تقتصر على تقويض أركان الحضارة الرومانية المسيحية في أوروبا، بل تريد أن تفرض على الإنسانية نوعًا جديدًا من الحضارة التي عرَّفوها باسم حضارة الصليب المعقوف أو حضارة الأرض والدم، الأرض التي تخلق العقول السليمة في الأجسام السليمة، والدم الذي يخوِّل الجنس الجرماني حق السيطرة العالمية.
•••
وكان النازيون يعتقدون أنه لا مَعْدى لهم عن إخضاع القارة الأوروبية لسيطرتهم الجرمانية؛ حتى يتسنى لهم إحراز السيطرة العالمية. واستندوا في ضرورة امتلاك القارة إلى أنه كما تحتم عليهم أن يقيموا في داخل ألمانيا كتلة صلدة متماسكة قوية تمكن الريخ من احتلال ذلك المركز المعد له في أوروبا، فإنه تحتم عليهم كذلك أن يضموا إلى هذا الريخ أرضًا شاسعة في القارة الأوروبية ذاتها؛ حتى يؤلفوا من هذه الممتلكات كتلة أخرى صلدة متماسكة تمكِّن الجرمانية من فرض سيطرتها التامة على سائر أنحاء العالم؛ لأن النازيين كانوا يعتبرون أوروبا مركز العالم أو المحور الذي يشد إليه ويجذب حوله أقاليم الأرض وبلدانها بفضل الروابط التاريخية والثقافية والاقتصادية والصناعية والعسكرية التي ربطت بين أوروبا وكل أقطار العالم.
ولذلك فكَّر فلاسفة النازيين وجهابذتهم تفكيرًا طويلًا عميقًا في الطرق والوسائل التي يجب أن يتبعوها من أجل «جرمنة» القارة الأوروبية، وأسفر هذا التفكير الطويل العميق عن نظرية عرجاء مشوهة هي نظرية «الحكم بحق الدم»، وهي تكمل في الحقيقة نظرية «الزعامة المسئولة»، ومعناها أن تكون السيطرة الحكومية في جميع البلدان المفتتحة والتي خضعت لقواعد النظام الجديد من نصيب الجنس الجرماني وحده؛ فيباشر أبناؤه شئون الحكم بها ويحرم أهلها في الوقت نفسه من ضمانات القانون الألماني والأنظمة الألمانية التي وضعت لصون نقاوة الدم والشرف الألماني، وكان ذلك منشأ الصلة بين هذه النظرية ونظرية الدم السابقة. بيد أنه مما تجدر الإشارة إليه أن السادة النازيين ما كانوا يقصدون في يوم من الأيام تطهير أو تنقية دماء تلك الأجناس الوضيعة غير الجرمانية؛ لأنهم امتنعوا عن إدماجها في الجنس الجرماني «المبجل».
وعلى ذلك فقد سلك النازيون عند محاولة «جرمنة» أوروبا طريقين: فقد ميَّزوا بين المناطق التي يقطن بها جرمانيون أنقياء الدم — وما زالت واقعة خارج حدود دولة الريخ الثالث وقتذاك — والمناطق التي تقطن بها شعوب غير جرمانية؛ فسموا الأولى «المناطق المفقودة»؛ أي تلك التي خسرها الجرمان في العصور السابقة وبات من واجبهم أن يعيدوها إلى أحضان الجرمانية ويدمجوها في الريخ الألماني بشريطة أن يجري ذلك من غير إعداد أو تهيئة سابقة، فتسري عليها القوانين الألمانية مباشرة وتخضع بمجرد هذا الاندماج لجميع الأنظمة النازية. وأما عند جرمنة المناطق الأخرى فقد وجدوا من الضروري إجراء إعداد وتهيئة سابقة قبل إدماج هذه المناطق في الريخ الألماني نهائيًّا. واتبع النازيون في ذلك عملية ذات شبه كبير بما يعرف بنظام الدوائر ذات المركز الواحد. وتفسير ذلك أن النازيين كانوا يبدءون باعتبار الريخ مركزًا لدائرة أولى يضم محيطها عدة أقاليم تقطن بها أجناس غير جرمانية، فصاروا يعملون لإعداد وتهيئة هذه الأقاليم الواقعة في داخل محيط الدائرة حتى إذا ما فرغوا من ذلك أدمجوها في مركز الدائرة وهو الريخ الألماني واستطاعوا بفضل ذلك أن يؤلفوا من الريخ والأقاليم المندمجة فيه مركزًا ثانيًا لدائرة أخرى جديدة أجروا بداخلها نفس العملية، وهكذا دواليك حتى يتمكنوا من «جرمنة» شطر من القارة الأوروبية قبل أن تنزل بساحتهم الهزيمة.
•••
وقد كسب الألمان الجولة الأولى من معركة السيطرة على أوروبا، وفي أثناء الأعوام الثلاثة الأولى من انتصارهم ظهر كأنما قد توطدت أركان قلعتهم الأوروبية نهائيًّا، فمضوا يطبقون النظام الجديد في البلدان التي افتتحوها واحتواها الريخ الثالث ضمن حدوده.
وظهر عند تطبيق النازيين هذا النظام الجديد أنه كان يشتمل على ناحيتين: إحداهما سياسية، والأخرى اقتصادية، يتممان بعضهما بعضًا، وهدفهما المشترك فرض السيطرة الجرمانية على القارة الأوروبية، مستندين إلى ذلك التراث التاريخي القديم الذي انحدر إليهم من دولة الجرمان العنيدة ذات السيطرة على أوروبا في العصور الوسطى. وعلى ذلك فقد ارتكزت الفكرة الرئيسية التي قامت عليها «جرمنة» أوروبا على جوهر التنظيم الأوروبي في تلك العصور؛ فقد أنكر النازيون أن العالم الأوروبي استطاع خلال القرون العشرة الماضية أن يقطع شوطًا بعيدًا في تكوينه الاقتصادي والسياسي حتى ظهرت تلك الدول التي جمعها إطار الخريطة الأوروبية في عام ١٩٣٩، وهي الدول التي بنت وجودها في الحقيقة على قيام «الدولة الوطنية» منذ أن أخذ في التصدع كيان العصور الوسطى السياسي والاقتصادي والاجتماعي في عصر النهضة الأوروبية الحديثة، وعلى وجه الخصوص منذ بزغت شمس القرن السادس عشر. فمن أقوال «ألفريد روزنبرج» المشهورة: «كانت الدولة الوطنية المثل الأعلى الذي أرادت أن تحققه الثورة الفرنسية، أما الثورة الوطنية الاشتراكية العظيمة (أي الثورة النازية) فقد تمخضت عن مولود جديد، هو الإمبراطورية الجنسية … ولذلك ينبغي أن تزول الدولة الوطنية من الوجود أو تتحول إلى إمبراطورية قوامها الجنس وحده.»
لا نجد — نحن الألمان — ما يخجلنا من العصور الوسطى، بل على العكس من ذلك كانت تلك العصور فترة من الزمن تثير الإعجاب وتدعو حقًّا إلى الفخر بها؛ لأنها أنتجت نوعًا من الحضارة أو الثقافة الممتازة، وهذا على الرغم من ذيوع بعض الآراء الطريفة التي نجح الإنجليز في الإيحاء بها إلى الأمريكيين عن هذه العصور، حتى انطبعت في أذهان هؤلاء كأنها حقائق ثابتة.
نحن لا نفكر في أوروبا القائمة اليوم؛ لأنها حقيرة وتافهة، ولكنا نفكر في تلك التي قامت بالأمس، والتي سوف تقوم في الغد بفضل ما يمكن انتشاله وإنقاذه منها! نحن نفكر في ألمانيا الخالدة على ممر الأيام والدهور! في ألمانيا القديمة! أي تلك التي مضى ألفان من الأعوام على ظهورها.
إن من واجب النهضة الجرمانية أولًا أن تعمل على بعث الروح الجرمانية من الأعماق ثقافيًّا وسياسيًّا، على أن يكون من غرضها جعل التفكير والحديث والنشاط «أو العمل» جرمانيًا خالصًا في الأرض الجرمانية، ومن واجبها ثانيًا أن تجعل الأرض التي تقطن بها شعوب جرمانية داخلة بأملاكها ضمن حدود دولة موحدة قوية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون الدولة الألمانية المعروفة بحدودها المرسومة في عام ١٩١٤.
وفي الواقع أراد النازيون إعادة الخريطة الأوروبية إلى ما كانت عليه بين عامي ٩١٨–١٢٦٨ ميلادية، أي من وقت قيام أسرة سكسونيا إلى سقوط آل هوهنشتاوفن، فنشروا في كتاب المطالعة الأولية للشبيبة الهتلرية خريطة بعنوان «الجرمان يحققون وحدة أوروبا»، وهي خريطة الإمبراطورية الرومانية المقدسة حوالي عام ١٠٠٠ ميلادية، أي بحدودها الممتدة من جنوبي مملكة الدانمرك في الشمال إلى أعلى الحذاء الإيطالي في الجنوب، وتقع في داخل حدود هذه الإمبراطورية الجرمانية كل من دوقية بوهيميا ومارك «أو عواصم» مورافيا والنمسا ودوقية كارينثيا وفريزلند ودوقية اللورين، وكل هذه كانت تقطن بها شعوب جرمانية. وفي شرقي هذه الحدود رسم النازيون دوقية بولندة ثم مملكة هنغاريا. وفي الغرب رسموا مملكة برجنديا. وقد أظهر النازيون في هذه الخريطة مملكة الدانمرك ودرقية بولندة ومملكة هنغاريا ومملكة برجنديا كدويلات أو إمارات تدين بالتبعية والطاعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة.
•••
•••
أما وقد أفلح النازيون إلى حد كبير في تحقيق حلم العصور الوسطى ورسموا للقارة الأوروبية تلك الخريطة التي مكنهم انتصارهم من تخطيطها، فإن معرفة النتائج التي أسفر عنها تطبيق النظام الجديد في البلدان المفتوحة من شأنه أن يبين مقدار ما لحق بالشعوب المقهورة من أذى جسيم في عهد السيطرة النازية؛ إذ إن تطبيق النظام الجديد من الناحية الاقتصادية خاصةً كان معناه سلب الشعوب المغلوبة ونهب كنوزها وتجريدها من وسائل العيش وحرمانها حق الحياة في أمن واستقرار، وقد اتبع النازيون عدة أساليب شيطانية حتى يُكسبوا سرقاتهم الصبغة القانونية؛ كابتكار ما أسموه سياسة الريخمارك، وإصدار أوراق نقد معينة، وسك قدر من العملة الصغيرة كي يستخدمها الجنود الألمان في البلدان التي افتتحوها، ثم المطالبة بنفقات الاحتلال الألماني في أوروبا المحتلة، هذا عدا أعمال السلب والنهب سافرة كانت أو مقنعة مما يدخل في قائمة الأسلاب والمغانم.
وقد ظهر أثر وضع سعر للريخمارك في التبادل التجاري كذلك بين الريخ الألماني، وتلك البلاد التي خضعت لسلطان النازيين، فمن المعروف أن التجارة الدولية تؤثر دائمًا في سعر العملة؛ بمعنى أنه إذا زادت صادرات دولة عما تستورده نتج عن ذلك «فائض» في ميزانها التجاري، واعتُبر ذلك في صالحها، كما أنه ينهض دليلًا على أن السعر يرتفع في الدولة المستوردة عما هو عليه في الدولة المصدرة، وفي ظروف التجارة الدولية العادية، تسعى الدول التي زادت وارداتها على صادراتها من أجل إعادة الموازنة وإزالة هذا «الفائض» باتخاذ وسائل شتى معروفة، من أهمها محاولة زيادة الصادرات، وعقد القروض الخارجية، والدفع من أرصدة الذهب وغير ذلك. ولكن التبادل التجاري بين الريخ الثالث والبلدان المفتتحة كان يخضع لقواعد أخرى.
فقد عمد النازيون من أيام الفتح الأولى إلى استنزاف جميع منتجات الدول المغلوبة على أمرها لحاجتهم إلى هذه المنتجات، صناعية كانت أم زراعية، فعظمت صادرات الدول المفتتحة إلى الريخ دون أن تستطيع استيراد شيء يذكر من ألمانيا، ونجم عن ذلك أن صار لهذه الدول كافة «فائض» لمصلحة ميزانها التجاري، أي إن الريخ الألماني أصبح — بمعنى آخر — مدينًا لهذه الدول بمبالغ طائلة، حتى لقد بلغ دين الدانمرك على الريخ الثالث حتى يوم ٣٠ نوفمبر ١٩٤١، ٨٤٩ مليون كرونر، وهذا فضلًا عن قروض من نوع آخر نشأت من قيام الدنمرك بنفقات الاحتلال الألماني لبلادها، وقد بلغت هذه النفقات حتى ٣١ ديسمبر ١٩٤١ حوالي ٩٠٧ ملايين؛ أي إن الاحتلال الألماني كلف هذه البلاد مدة عام ونصف ما يزيد على ١٧٠٠ مليون كرونر. وفي أول يناير ١٩٤٢ بلغ دين الدانمرك على ألمانيا ٢٠٠٠ مليون كرونر.
ومع هذا، فقد منع الألمان تلك الدول «المصدرة» التي ظلت دائنة للريخ بأموال طائلة من أن تستورد من دولة أدولف هتلر شيئًا من تلك السلع والمتاجر اللازمة لها، والتي كان لا غنى عن استيرادها؛ حتى تتعادل كفتا الميزان التجاري بين الريخ وهذه الدول المغلوبة على أمرها من جهة؛ وحتى تستخلص هذه الدول ما كان لها من ديون جسيمة على ألمانيا من جهة أخرى. وقد ابتكر شيطان النازي وسيلة أخرى للإمعان في نهب الأمم المقهورة؛ إذ صار الريخ يمتنع عن دفع أثمان السلع المصدرة إليه بدعوى عدم إخراج العملة الألمانية من الريخ، واعتاض عن ذلك بأن صار يطلب إلى البنوك المركزية في البلدان المفتتحة أن تقوم بسداد المطلوب من الريخ لحساب تلك البلاد على شريطة أن يكون الدفع بالعملة المحلية الوطنية نفسها؛ فلا يكون السداد بالريخمارك الألماني. ولما كانت قيمة الريخمارك تزيد كثيرًا على قيمة العملة المحلية حسب السعر الحكومي في البلدان المنهوبة فقد ترتب على ذلك أن أضحت الأثمان التي يدفعها النازيون للسلع والمتاجر المصدرة إليهم بخسة ضئيلة، وعلاوة على ذلك كان معنى تكليف البنوك المركزية بالدفع من الناحية العملية خصم هذه الأثمان من حساب نفقات الاحتلال الألماني التي فرضوها على البلدان المختلفة. وبفضل هذه الأساليب الملتوية صار الألمان يستولون على منتجات البلاد المقهورة، دون أن يدفعوا شيئًا من أثمانها. ولا جدال في أن هذا العمل كان ضربًا من السرقة يستره قناع قانوني زائف.
وكان من خطط النازيين عند فرض السيطرة الجرمانية الاقتصادية على أوروبا اتخاذ برلين مركزًا للتجارة الأجنبية في هذه القارة؛ حتى تحتل برلين ذلك المركز الممتاز الذي استمتعت به لندن في عالم الاقتصاد والمال قبيل الحرب الأخيرة، فأصروا على أن تجري المعاملات التجارية والمالية بين أية دولة وأخرى عن طريق برلين دائمًا؛ مثال ذلك أنه إذا كان أحد الهولنديين مدينًا بمبلغ من المال لشركة بلجيكية، فإنه يستحيل عليه أن يسدد حسابه بالدفع رأسًا إلى الشركة البلجيكية، بل صار حتمًا عليه أن يدفع هذا الدين بالريخمارك إلى مؤسسة معينة أنشأها الألمان في برلين لمباشرة جميع العمليات التجارية والمالية الخاصة ببلجيكا، فتتولى هذه المؤسسة الدفع بالريخمارك إلى الشركة البلجيكية. أما ما كان يحدث فعلًا فهو أن تكلف هذه المؤسسة «البنك المركزي» في بلجيكا بأن يقوم هذا البنك بعملية الدفع من حساب نفقات الاحتلال بالطريقة التي سبق بيانها، أضف إلى ذلك أن الألمان كانوا يحتمون على الدول المحتلة التي تتبادل التجارة فيما بينها أن تودع برلين مبلغًا من الريخمارك يُرصد لحسابها، ويُستخدم في أعمال التصفية التجارية. ويتكون هذا الرصيد بسبب إرغام هذه الدول على تصدير منتجاتها إلى الريخ ومطالبتها بتأدية خدمات مالية معينة وإجبارها على إعطاء ضمانات من الذهب والسندات وما إلى ذلك من وسائل أخرى. بيد أن هذه الدول ما كانت تحصل على شيء من الريخ في مقابل إنشاء هذا الرصيد، ذلك بأن الريخ درج دائمًا على الدفع عن طريق البنوك المركزية بالأساليب التي سبق ذكرها. على أن الريخ إلى جانب ذلك كله كان يحصل على عمولة كبيرة في نظير قيامه بهذه العمليات المالية والتجارية بين الدول. فكان من نتائج ذلك كله أنه أصبح من المتعذر على أية دولة من الدول التي خضعت لسلطان النازيين أن تنظم شئون حياتها الاقتصادية على النحو الذي كانت تقتضيه مصلحتها أو بما يمكنها على الأقل من مواجهة مطالب الألمان الاقتصادية والمالية المرهقة.
وكانت «نفقات الاحتلال الألماني» من وسائل السلب والنهب التي تفتقت عنها أذهان النازيين؛ فقد استغلت الدعاية النازية في البلدان المحتلة مسألة تعويضات الحرب التي فرضها الحلفاء على ألمانيا المهزومة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وطفق دعاتهم يتحدثون عن تلك الأضرار البليغة التي أصابت بلادهم بسبب هذه التعويضات، ثم أخذوا يطمئنون الدول المقهورة بأنهم بالرغم من انتصارهم لا يريدون أن يفرضوا أية تعويضات من ذلك النوع عليها، بل يكتفون عوضًا عن ذلك بتحصيل النفقات التي يسببها احتلال الجنود الألمان لبلادهم حتى إذا وضعت الحرب أوزارها لم يعد للريخ وجه للمطالبة — كما فعل الحلفاء في الحرب السابقة — بأية تعويضات عند عقد الصلح النهائي. ولم يكن ذلك كله إلا وعودًا كاذبة؛ لأن الغرض من نفقات الاحتلال كما فرضها الألمان على البلدان المحتلة إنما كان مجرد السلب والنهب، ذلك بأن النازيين لم يقدروا قيمة نفقات الاحتلال على أساس ما كانت تستطيع أن تدفعه البلدان المفتتحة دون إرهاق لمواردها أو تعطيل لمرافقها وإنتاجها؛ بل إنهم لم يحاولوا اتخاذ ما يتكلفه جند الاحتلال الألماني من نفقات — معتدلة كانت أم فادحة — أساسًا لتقديرهم، وإنما قدَّر النازيون نفقات الاحتلال على أساس ما كانت الدول قبيل انهيارها قد خصصته من أموال في ميزانياتها للدفاع عن سلامتها في أثناء الحرب، مع العلم بأن النفقات المخصصة للدفاع في أوقات الحروب إنما هي نفقات غير عادية، ويستلزم تقديرها تقليل المصروفات في أبواب الميزانية الأخرى. وعلى ذلك كانت نفقات الاحتلال التي طلبها النازيون جسيمة مرهقة بلغت نسبتها في فرنسا مثلًا ١٤٠٪ من مجموع ميزانية الحرب في عام ١٩٣٩، وفي بوهيميا ومورافيا حوالي ١١٤٪ من مجموع ميزانية الحرب في تشيكوسلوفاكيا للعام نفسه، وهكذا كان الحال في سائر البلدان المحتلة. ويتبين جسامة ما نهبه الألمان بسبب نفقات الاحتلال هذه إذا وقفنا على حقيقة التعويضات التي أُرغمت ألمانيا على دفعها بعد صلح فرساي، فقد بلغ ما دفعته إلى الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى ١٠ بلايين مارك تقريبًا في مدة سبع سنوات بين عام ١٩٢٤–١٩٣١، وذلك عندما كان الاتفاق الخاص بالتعويضات ما يزال ساريًا، ولكن الألمان استطاعوا أن يجمعوا من فرنسا وبلجيكا وهولندة والدانمرك والنرويج وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا في سنة واحدة من سنوات سيطرتهم على أوروبا حوالي ٧ أو ٨ بلايين مارك، أي إنهم جمعوا في عام واحد حوالي ٨٠٪ مما دفعه الألمان من «تعويضات» كانت موزعة على سبع سنوات، بل إن التعويضات التي دفعتها ألمانيا إلى فرنسا في خلال هذه السنوات السبع كانت أقل من ٤ بلايين مارك. أما النازيون فقد استمروا حتى نهاية الحرب يحصلون مثل هذا المبلغ من فرنسا كل ستة شهور كنفقات احتلال. ومما يجدر ذكره أن ألمانيا في سنوات التعويضات السابقة (١٩٢٤–١٩٣١) استطاعت أن تعقد قروضًا خارجية بلغت ٢٥ بليون مارك، أي ما يزيد على ما دفعته هي من تعويضات مرتين ونصف مرة. من المعروف أن ألمانيا لم تسدد معظم هذا الدين، بل رفضت أن تدفع التعويضات بعد عام ١٩٣١، وزيادة على ذلك منع النازيون في ظل نظامهم الجديد الدول المحتلة من أن تعقد أية قروض، وظلت ألمانيا متمسكة بنفقات الاحتلال حتى وقت انهيارها.
ولم يكن هذا كل ما نهبه النازيون من البلدان المحتلة؛ فقد استولى الألمان بمقتضى اتفاقات الهدنة التي عقدوها مع البلدان المغلوبة على أسلاب كثيرة، كما أنهم ما لبثوا حتى صادروا الذهب المودع بالبنوك؛ فبلغ مقدار ما جمعوه حتى أواخر عام ١٩٤١ حوالي ٩٠ بليون مارك أو ٣٦ بليون دولار أو ٩٠٠٠ مليون جنيه إنجليزي، وهذا المبلغ بالذات — على حد قول الهر هتلر في سبتمبر ١٩٣٩ — يساوي كل ما أُنفق على التسليح في ألمانيا منذ أن وصل النازيون إلى الحكم في بداية عام ١٩٣٣ إلى وقت سيطرتهم على أوروبا.
•••
وقد ذكرت الإحصاءات الرسمية الألمانية أن عدد العمال الأجانب في ألمانيا حتى ٢٧ أكتوبر ١٩٤٠ بلغ ١٦٠٠٠٠٠ منهم حوالي ٥٠٠٠٠٠ من أسرى الحرب، وفي يناير ١٩٤١ بلغ عددهم ٢٠٠٠٠٠٠، وكان لا يدخل في عدادهم التشيك؛ لأن العمال من التشيك صاروا لا يعدون من الأجانب بعد إدماج «حماية بوهيميا ومورافيا» في الريخ الألماني منذ أول أكتوبر ١٩٤٠، ثم زاد عدد العمال الأجانب في الريخ بعد أن وافقت إيطاليا في فبراير ١٩٤١ على إرسال ٣٢٠٠٠٠ عامل إلى ألمانيا. وكان من أثر حملة الألمان في بلاد البلقان أن أسر الألمان حوالي ٥٠٠٠٠٠ من يوغوسلافيا أرسلوا منهم للعمل في الريخ ٢٥٠٠٠٠؛ وكذلك جمع النازيون من مملكة كرواتيا الجديدة ٥٠٠٠٠ عامل، وبلغ عدد الأسرى من البريطانيين واليونانيين الذين أُرسلوا للعمل في ألمانيا ٢٣٠٠٠٠، فكان عدد الأجانب المشتغلين في ألمانيا حتى صيف ١٩٤١ بين ٢٧٠٠٠٠٠ و٣٠٠٠٠٠٠ رجل، يضاف إليهم عدد من التشيك وأسرى الحرب الذين كانوا يشتغلون بعض الوقت فقط.
وكان هؤلاء جميعًا يعملون في ظروف قاسية مرهقة؛ إذ إن متوسط ساعات العمل في الأسبوع الواحد بلغت حوالي ستين ساعة على أقل تقدير، وكان العمال يقيمون في ثكنات ثم طُلب إليهم أن يدفعوا من أجورهم الضئيلة نفقات السكن والطعام عدا بعض الضرائب المحلية والتأمين ضد المرض والحوادث وما إلى ذلك. وأما إذا استطاع العامل بعد هذا كله أن يرسل شيئًا من المال لمساعدة أسرته فإن حكومة الريخ كانت تستولي على ما يرسله، ثم تكلف بنوك الدول المحتلة بدفع ما تساويه هذه المبالغ من العملة المحلية.
ولعل أقسى ما في هذه المسألة أن الألمان كانوا يرسلون هؤلاء العمال الأجانب إلى المناطق المعرضة لغارات الطائرات البريطانية، وقد ذاق العمال الدانمركيون الأمرَّين بسبب اشتغالهم في مصانع وأحواض «لوبيك» و«همبورج» وغيرها، بل إن الألمان ما كانوا يسمحون بوقف العمل حتى في أثناء الغارات، وهلك بسبب ذلك عدد عظيم من العمال الهولنديين بميناء «همبورج» في إحدى الغارات الشديدة في نوفمبر ١٩٤١، أما النازيون فقد فسروا هذه الكارثة بقولهم: «إن هؤلاء العمال كانوا متعبين إلى حد لم يدع لأحد منهم فرصة لمغادرة المكان والالتجاء إلى المخابئ.»