الفصل السادس
حكومة هتلر
تقدم القول عند بحث رغبة النازيين في بسط سيطرتهم العالمية، بأنه كان من الضروري لتحقيق
هذه السيطرة العالمية، أن يجعلوا من ألمانيا ذاتها كتلة متماسكة، يستحيل أن يتطرق الضعف
إليها؛ حتى يتخذها النازيون مركزًا «للدوائر» التي يطمعون في «جرمنتها» في القارة
الأوروبية. ومعنى هذا أن يجمع الحزب النازي في داخل ألمانيا كل أسباب السلطة، ويتغلغل
أعضاء
الحزب في نواحي الحياة الألمانية جميعها، حتى يتمكنوا من إرغام الدولة على الاندماج في
الحزب في النهاية، فيصبح الحزب هو الدولة. ولم يكن غريبًا أن يطمع النازيون في ذلك؛ لأنه
من
عادة الدول التي يقبض على زمام الأمور فيها حزب واحد — وهي الدول التي تسيطر عليها
الدكتاتورية سيطرة تامة — أن يجِدَّ هذا الحزب في القضاء على جميع التقاليد والنظم القديمة
ويعمل في الوقت ذاته على إنشاء أنظمة جديدة، قد يحدث إنشاؤها عقب ثورة جامحة تكتسح معالم
الحياة القديمة اكتساحًا، على غرار ما حدث في الروسيا، أو تظهر إلى عالم الوجود شيئًا
فشيئًا دون التجاء إلى الثورة كما فعل النازيون في ألمانيا، فإن هؤلاء — وهم الذين اشتدت
حملتهم على الشيوعيين منذ قيام حركتهم — ما كانوا يريدون أن يعرف عنهم سواد الشعب أنهم
من
أنصار الانقلاب والثورة؛ ولذلك اتبعوا في مبدأ الأمر أساليب مغايرة لأساليب جيرانهم
الشرقيين، وبدءوا يقوضون أركان المقاومة في داخل الريخ بالتغلب على الأحزاب المنافسة
لهم.
وكان من عوامل نجاح النازيين أنهم استغلوا الفوضى التي تغلغلت في جميع نواحي الحياة
الألمانية عقب هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، وتذمر طبقات الشعب المختلفة من هذه
الفوضى، فطفقوا يبذلون كل جهد حتى يستميلوا إليهم هؤلاء المتذمرين الراغبين في إزالة
الآثار
التي اعتقدوا أنها من نتائج هزيمة الدولة القيصرية. ولذلك كان أول ما عنى به «حزب العمال
الألمان الوطني الاشتراكي»، وضع برنامج شامل صدر في ميونخ في ٢٤ فبراير ١٩٢٠، وكان يتألف
من
خمس وعشرين مادة، وأهم ما يلاحظ عليه أنه كان — كما جاء في مقدمته — برنامجًا أملته ظروف
الحال Zeitprogramm، وقد يعني هذا الوصف أنه كان برنامجًا
مؤقتًا، أو نهائيًّا، والغرض من اختيار هذا الوصف بالذات عدم التقيد في الحقيقة بمحتويات
البرنامج تقيدًا حرفيًّا إذا أثبتت الظروف في المستقبل أن من المصلحة عدم التمسك بحرفيته.
ومع أن النازيين في الاجتماع الكبير الذي عقده أعضاء الحزب في ٢٢ مايو ١٩٢٦، اتخذوا بعد
بحثٍ وتمحيص، قرارًا بأن هذا البرنامج لا يمكن تغييره بأي حال من الأحوال. فقد درجوا
على
تفسير مواده وفق رغباتهم، ثم سلكوا في تطبيق هذه المواد من الوجهة العملية، المسلك الذي
أملته عليهم مصالحهم، أي ما يمكنهم من القبض على أزمة السلطة في ألمانيا بأسرها، وإزالة
جميع العناصر المعارضة لهم، وزيادة على هذا، تضمن البرنامج مجموعة من الآراء والمبادئ
المتضاربة، التي نجمت في الواقع عن السخط المنتشر بين جميع الطبقات المختلفة من جراء
ما
خلفته الحرب العالمية الأولى من آثار سيئة، وبسبب ما حدث من مشكلات اقتصادية واجتماعية
خطيرة، في الفترة التي تلت انتهاء الحرب مباشرة. أضف إلى ذلك أن البرنامج كان يتضمن مبادئ
اقتصادية حرص النازيون عند إثباتها على أن تكون من النوع الذي يقتضي تحقيقه كفايات غير
تلك
التي يتمتع بها أعضاء الحزب — من زعماء وموظفين — ممن يشرفون على تطبيق هذه المبادئ من
أجل
تحويل ألمانيا إلى دولة وطنية اشتراكية خالصة.
ثم عمل النازيون على أن يشتمل برنامجهم على مطالب اقتصادية تجلب رضاء أصحاب رءوس الأموال،
مثل كبار الصناع والمنتجين وكبار الزراع ومن إليهم كما تجلب رضاء الطبقة العمالية. وقد
ترتب
على المحاولة التي قام بها النازيون للتوفيق بين هذه المصالح المتعارضة، وخصوصًا عندما
هيمنوا على شئون الدولة وطفقوا ينفذون برنامجهم الاقتصادي، أن صار يختلف الناس في تفسير
الوطنية الاشتراكية. فهناك من وصفها بأنها من ضروب الاحتيال المالي لمساعدة الزعماء
النازيين على جمع الثروة الطائلة. وهناك من وصفها بأنها بلشفية صحيحة وإن اتخذت لها لونًا
مغايرًا للون البلشفية الأحمر، أو أنها من النظم التي وضعت خصيصًا لحماية الرأسمالية،
وهكذا. ولو أن التفسير الحقيقي للوطنية الاشتراكية، على ضوء ما أسفر عنه تطبيق مبادئها
في
السنوات التي سبقت نشوب الحرب العالمية الثانية وفي السنوات القليلة التالية، هو أنها
الخطة
والنظام الذي يؤدي إلى تحقيق أطماع جماعة من الناس يسيطرون فعلًا على مصير ألمانيا. أما
هذه
الأطماع ذاتها فإنها تُلخص في رغبة النازيين في الاستئثار بكل سيطرة سياسية مطلقة
فحسب.
على أن برنامج النازيين «في عام ١٩٢٠» كان يتضمن فكرة إفناء الفرد في الدولة، على
غرار ما
يحدث في كل نظام اشتراكي؛ ولذلك فإنه لما كانت الدولة ذات شخصية يجب أن تتلاشى بسببها
ومن
أجل دعم كيانها حرية الفرد وجميع حقوقه، فقد أصبح من حق الدولة وحدها الهيمنة على حياة
الفرد وتدبير شئونه على النحو الذي تراه مؤيدًا لمصلحتها العليا وحدها، وترتب على إفناء
الفرد في الدولة أن صارت هذه تجمع في خصائصها ومميزاتها السيطرة على شئون التربية والتعليم
والصحة العامة والجيش والصحافة، وتقرير مصير مواطنيها، وهكذا. ولذلك فإنه لم يغب عن
النازيين النص على هذه الحقوق جميعها في برنامج حزبهم. وكان من المنتظر — بوصف أنهم الأداة
التي تتولى عن الدولة إدارة هذه الشئون عند استلام أزِمَّة الحكم في ألمانيا — أن يجمع
النازيون في أيديهم السلطة المطلقة. ثم كان من المنتظر أيضًا — بفضل ما نص عليه برنامج
حزبهم من أن من شروط المواطن أن يكون آريًّا، وأن يكون جرمانيًّا ينحدر من سلالة عاشت
في
ألمانيا أو في البلدان الجرمانية الصحيحة منذ أمد طويل — أن تتعقب دولة الريخ الثالث
غير
الآريين كاليهود وغيرهم من اللاجئين من البلدان المجاورة، والذين دخلوا ألمانيا ابتداء
من ٢
أغسطس ١٩١٤، بالتشريد والإفناء في غير رحمة أو شفقة.
ولما كان الحزب الوطني الاشتراكي في بدء تكوينه يريد كعادته جمع أصحاب المذاهب والمشارب
المنوعة حوله، فقد ذكر في المادة الرابعة والعشرين من برنامجه، أن الدولة مكلفة بالدفاع
عن
«المسيحية الواقعية»؛ ولإدخالها الطمأنينة على النفوس، جاء في هذه المادة نفسها ما معناه
أن
الحزب يطلب التسامح مع الآراء الحديثة المختلفة في الدولة، ما دامت لا تعرِّض كيان الدولة
للخطر، وما دامت لا تتنافى مع عادات الجنس الجرماني وتقاليده، وقد استُثنيت اليهودية
من هذا
التسامح. ومع هذا فإن النص على ضرورة قيام الدولة بمهمة الدفاع عن «المسيحية الواقعية»
كان
معناه — كما شهد الكاثوليك والبروتستنت على السواء بعد ذلك — أن النازيين عند وصولهم
إلى
الحكم سوف يتدخلون في شئون العبادة، من أجل إخضاع الكنيسة لسيطرتهم، وأن المسيحية الواقعية
سوف تتخذ لذلك معنًى غير المعنى الذي عرفه بها سواد الشعب فيما مضى. فقد ظن الأهلون أن
انحياز الوطنيين الاشتراكيين إلى معاضدة المسيحية الواقعية، يعني أن الريخ الثالث سوف
يضمن
للدين المسيحي الحرية الكاملة وزيادة الانتشار، هذا إلى جانب السهر على صيانتها والذود
عنها. ولم يشأ النازيون أن يزعزعوا هذا الاعتقاد في بادئ الأمر، ولكنهم عندما ثبتت أقدامهم
في الريخ الجديد طفقوا يفسرون «المسيحية الواقعية» بما يتفق مع أهوائهم ويتمشى مع مصلحتهم.
ويُلخص هذا التفسير في أن المسيحية الواقعية تعني مجرد «الفعال الإنسانية».
•••
وإنه لمن الحقائق المعروفة أن النازيين ما استطاعوا الوصول إلى الحكم إلا بفضل الانقسامات
الكثيرة في الطبقات الرأسمالية والعمالية. فقد وجِد من بين الرأسماليين عدد من زعماء
الصناعة المحافظين الذين كانت بغيتهم حل المشكلة الاقتصادية في ألمانيا دون الالتجاء
إلى
مغامرات أجنبية. وكان هناك فريق آخر من زعماء الصناعة الذين يئسوا من إمكان اجتياز أزمة
الاقتصاد الألماني بالطرق والأساليب العادية، فصاروا يدعون إلى الحرب كعلاج حاسم لهذه
الأزمة المستحكمة. ومما يُذكر أن الفريقين سرعان ما صارا يجدان في دعاوى الوطنيين
الاشتراكيين ووعود زعمائهم، وعلى الخصوص الهر هتلر نفسه، ما حملهما على تأييد النازية
وهي
ما تزال في دور النشوء، ومدها بالأموال اللازمة لتنظيم الحزب، وخوض غمار الانتخابات.
وكذلك
وجِد من بين كبار أصحاب الأرض والملاك، فريق اعتقد أن الوطنية الاشتراكية عنوان الفوضى
الاقتصادية، ومن المنتظر أن يؤدي انتصارها إلى الخراب والدمار. وفريق آخر يخشى البلشفية
شأنه في ذلك شأن الطبقات الرأسمالية الأخرى، والطبقات المتوسطة «أو البرجوازي»، وقد أقبل
هذا الفريق على الهر هتلر يؤازره على أمل أن يصون نجاحه مصالح كبار الزراع وأصحاب الأراضي؛
لأن النازيين كانوا في نظرهم من لا يجسرون على القيام بتجارب جريئة، بل يتصفون قبل كل
شيء
بالولاء الكامل للطبقة التي ينتمون إليها، وهي الطبقة المتوسطة التي تستمد قوتها من الأرض،
وتدين لها بوجودها. وقد اقتضى هذا التفكير أن يطمئن كبار الرأسماليين المحافظين من جهة،
ثم
أصحاب الأراضي الواسعة من جهة أخرى، إلى أن مصلحة النازيين ألا يدفعوا بالأمة الألمانية
إلى
حروب جديدة. ومع هذا، فإن هذه الطبقة المتوسطة نفسها، وهي الطبقة التي يستمد منها النازيون
أنصارهم ومؤيديهم، كانت أيضًا الطبقة التي ينتمي إليها المحاربون القدماء في ألمانيا،
وأصحاب الخوذ الفولاذية برئاسة «سلدت Seldte» وهم من
العسكريين الرجعيين، وكانوا تحت زعامة «ألفرد
هوجنبرج Hugenberg»، وكان من كبار أصحاب رءوس الأموال، ويملك نحو الأربعين صحيفة
وعددًا من الشركات، منها شركة «أوفا UFA» السنيمائية ذات
الشهرة الذائعة. وهؤلاء جميعًا كانوا يريدون الحرب حتى يثأروا لألمانيا وهزيمتها في الحرب
العالمية الأولى.
أما الطبقة العمالية، فكانت لا تقل في انقسامها عن الرأسمالية، فهناك أحزاب الشيوعيين
والاشتراكيين الديموقراطيين، والأحرار. ومن الغريب أن بعض أحزاب اليسار — كالاشتراكيين
الديموقراطيين — ظلوا فترة يعتقدون أن ظفر الحزب النازي لا يكون إلا على حساب العناصر
الرجعية، الرأسمالية، وأن هذا الظفر غالي الثمن لا بد أن يفضي إلى تفكك طبقة الناخبين
وضعفها، أي الطبقة المتوسطة وجماعة الرأسماليين، وأن العماليين هم الذين يفيدون من انحلال
هذه الجماعة في النهاية؛ ولذلك لم يحجموا عن مؤازرة النازيين، وكانوا بموقفهم هذا من
العوامل التي يسرت على هؤلاء الظفر بالسلطة المطلقة في ألمانيا.
وفضلًا عن ذلك فإن الشيوعيين في ألمانيا، كبقية زملائهم في أرجاء العالم في ذلك الحين،
كانوا يتلقون أوامرهم من مركز الشيوعية الدولية في موسكو؛ ولذلك ظلوا «مستقلين» في نشاطهم
عن سائر أحزاب اليسار. وكان الشيوعيون والاشتراكيون الديموقراطيون يجمعون حولهم وفيما
بينهم
اثني عشر مليونًا من الأصوات، للشيوعيين وحدهم منها خمسة ملايين. وفي عهد جمهورية «ويمار»
كان زعيم الاشتراكيين الديموقراطيين رجلًا من العمال، هو «إرنست ثلمان Thälmann» صار فيما بعد من مؤسسي الحزب الاشتراكي المستقل، ثم اشترك
بعد هذا في تأسيس الحزب الشيوعي، ومنذ عام ١٩٢٤ ظل يمثل الشيوعيين في الريخستاج حتى مجيء
هتلر. وفي عام ١٩٣٢ رشح «ثلمان» نفسه في انتخابات رئاسة الجمهورية فنال من الأصوات خمسة
ملايين، ومع هذا فإنه لم يكن متمتعًا بالصفات التي تيسر له جمع كلمة الاشتراكيين الصميمين،
فكانت النتيجة أن صار الشيوعيون أنفسهم يعتبرون وجود الاشتراكية الديموقراطية من الموانع
التي تحول دون انتشار الروح الاشتراكية الخالصة بين الطبقات العمالية؛ ولذلك أصبحوا يخشون
من الاشتراكيين الديموقراطيين، أكثر مما يخافون النازية.
•••
وإلى جانب هذا الانقسام الواضح في الطبقات الرأسمالية والعمالية على حد سواء، ساعد
سوء
الحالة الاقتصادية في ألمانيا، على وصول النازيين إلى الحكم. فمن الظواهر التي لا يمكن
نكرانها أن إخفاق الوطنية الاشتراكية أو نجاحها بعد الحرب العالمية الأولى كان يرتبط
ارتباطًا وثيقًا بالحالة الاقتصادية في ألمانيا في عهد جمهورية «ويمار» التي أُنشئت على
أنقاض القيصرية. فإنه حتى آخر عام ١٩٢٤ كان «حزب العمال الألمان الوطني الاشتراكي» محرومًا
من الاجتماع أو النشاط قانونًا، ولو أن هذا لم يكن معناه أن الحزب قد اختفى من الوجود؛
لأن
«لودندورف» لم يلبث أن بسط عليه جناحه، فصار يُعرف باسم «حزب الحرية الشعبي» واستطاع
أن
ينال في انتخابات مايو ١٩٢٤ — أي في وقت الفوضى الاقتصادية — حوالي ١٩٢٠٠٠٠ صوت، وأرسل
إلى
الريخستاج اثنين وثلاثين نائبًا. ومع هذا فإنه عقب البدء في تنفيذ «مشروع داوز Dawes» لتنظيم مسألة دفع التعويضات الألمانية، وانتعاش حال
ألمانيا المعنوية والاقتصادية نوعًا ما، فقدت جماعة هتلر حوالي عشرين مقعدًا. ثم حدث
عند
وفاة «فردريك إيبرت Ebert» رئيس جمهورية ويمار الأول ١٩٢٥
وإجراء انتخابات الرياسة، أن انهزم «لودندورف» مرشح الوطنيين الاشتركيين أو الهتلريين،
فلم
ينل سوى ٢١٠٩٦٨ صوتًا. ولما لم تكن هذه الانتخابات حاسمة، أُعيد الانتخاب مرة ثانية،
ولكن
هتلر في هذه المرة فضَّل إعطاء أصوات حزبه إلى الماريشال الكهل «فون هندنبرج»، ففاز بمنصب
رياسة الجمهورية. أما الحزب النازي فقد تدهور شأنه كثيرًا عقب ذلك.
وفي مايو ١٩٢٨ أسفرت الانتخابات العامة لمجلس الريخستاج عن إرسال اثني عشر نائبًا
نازيًا
ليس غير. وقد أدرك أدولف هتلر خطر الأزمة التي هددت باجتياح حزبه؛ ولذلك طفق يستميل إليه
الوطنيين والرأسماليين وكبار زعماء الصناعة، ومن إليهم. وكان التناقض البيِّن في برنامج
الحزب — على نحو ما تقدم ذكره — من أقوى العوامل التي ساعدت الزعيم النازي على استمالتهم.
ومع هذا فإن السنوات المنقضية بين عامي ١٩٢٥ و١٩٢٩ — وهي الفترة التي استطاعت ألمانيا
في
أثنائها أن تفيد من التسويات التي وضعت لمسألة التعويضات، ومنها مشروع «يونج Young» الذي وضِع في عام ١٩٢٩ وقبلته ألمانيا في العام التالي
— كانت فترة التنظيم الاقتصادي الذي أوجد حالة من الرخاء، ولو أنه كان رخاء زائفًا، فقلت
البطالة، ونقص عدد المتعطلين حتى صار لا يزيد على المليونين إلا قليلًا، وشرع الريخ يشيد
المصانع ويستقدم إليها الآلات والأدوات الجديدة، ويبني الكتدرائيات الفخمة، والمباني
الصحية
لسكنى العمال، والمتنزهات، ودور السينما والمسارح وهكذا. ووسط هذا الانتعاش، كان من المتعذر
على الهر هتلر وحزبه النازي إدراك أي نجاح، على الرغم من الأموال التي أخذت تتدفق على
حزبه
من أصحاب رءوس الأموال وزعماء الصناعة أمثال «فريتز
ثيسن Fritz Thyssen» وغيره.
بيد أن النجاح كان من نصيب النازيين في النهاية لعدة أسباب، منها عدا ما تقدم: أن
الأزمة
الاقتصادية الكبرى كانت على وشك اجتياح العالم، ويحدد عام ١٩٢٩ بداية هذه الأزمة الدولية،
وكان من أخطر أسبابها: التوسع في الإنتاج الصناعي. وفي ألمانيا ذاتها حدث هذا التوسع
بسرعة
عظيمة، وبدرجة تكفي لسد مطالب جزء كبير من أسواق العالم قاطبة، ولكنه كما قال أحد زعماء
الصناعة الألمان «كروب فون بوهلن Krupp von Bohlen»: «إن
الصناعة شيء، والقدرة على بيع المصنوعات شيء آخر!» ولم تستطع السوق الألمانية الداخلية
بطبيعة الحال استهلاك كل هذه المنتجات، وكان من الضروري إيجاد أسواق خارجية ولكنه، كما
قال
«كروب» أيضًا: «كانت أسواق العالم مغلقة دوننا مع حاجتنا إلى هذه الأسواق؛ فقد أقامت
بريطانيا العظمى حواجز جمركية، كما كانت تعترض التجارة الألمانية في فرنسا وإيطاليا والسويد
والبلقان، وفي كل مكان عراقيل من المنتظر أن يصبح التغلب عليها متعذرًا من جراء ازدياد
هذه
العراقيل زيادة مطردة»؛ ولذلك فلم يكد يحل عام ١٩٣٠، حتى كان العمال الألمان يواجهون
أزمة
شديدة، فقد تعطل منهم في الأسبوعين الأولين من شهر يناير حوالي الأربعمائة ألف عامل،
وهذا
بينما زاد عدد المتعطلين في منتصف العام نفسه من حوالي المليونين إلى ستة ملايين. أما
الصادرات الألمانية التي بلغت في عام ١٩٢٩ حوالي الثلاثة عشر ألف مليون ريشمارك، فقد
نقصت
في عام ١٩٣٣ إلى خمسة آلاف مليون ريشمارك فحسب. وإلى جانب هذا الجيش الجرار من المتعطلين،
وجد عدد عظيم من الرجال والنساء الذين نقصت أوقات عملهم في اليوم إلى ساعات محدودة،
وبالتالي نقصت قيمة الأجور التي يقبضونها، ويعيشون عليها. وهكذا أضحت ألمانيا في عام
١٩٣٠
«بلد الشحاذين!» أي إنها رجعت إلى الحال التي كانت عليها في سنوات التضخم النقدي عقب
الهدنة
التي عُقدت في نهاية الحرب العالمية الأولى. فإذا قدرنا أن كل رجل متعطل يعول في المتوسط
أسرة مؤلفة من شخصين اثنين فحسب على أقل تقدير، لوجدنا أن عدد من صاروا يعيشون في بؤس
وتعاسة ويعتمدون في قوتهم اليومي على إعانات الدولة وحسنات المتصدقين قد بلغ ثمانية عشر
مليونًا، هذا عدا حوالي عشرين مليونًا آخرين يعيشون على أجورهم المخفضة.
وكان من نتائج سوء الحالة الاقتصادية، أن طُرد الاشتراكيون الديموقراطيون من الحكم،
وألَّف الوزارةَ رجالُ «الوسط» وعلى رأسهم «هنريك
بروننج Brüning»، وأما النتيجة الهامة فكانت القضاء على أي أمل في بعث الطبقة
المتوسطة الألمانية من جديد، وهي دائمًا عماد الجمهورية الديموقراطية أو الملكية
البرلمانية. فقد قضى التضخم النقدي على هذه الطبقة، ثم لم يمكن إحياؤها في فترة الرخاء
الصناعي المفتعل بين عامي ١٩٢٥–١٩٢٩، وكان الاشتراكيون الديموقراطيون وحدهم الذين أفادوا
من
هذا الرخاء، وعندما وقعت الأزمة كان «هرمان مولر Müller»
الوزير الاشتراكي على رأس الحكومة «منذ يولية ١٩٢٨»، فلم تلبث أن سقطت حكومته بسبب الأزمة
في مارس ١٩٣٠، وبسقوط هذه الحكومة اختفى كل أمل في إمكان إحياء الجمهورية الألمانية.
وأعطى هذا الاضطراب الاقتصادي والسياسي الفرص للوطنيين الاشتراكيين، حتى يعودوا إلى
مسرح
السياسة بعد أن ظلوا محتجين طوال السنوات الأربع الماضية، وهكذا فاز النازيون في انتخابات
١٤ سبتمبر ١٩٣٠ بعدد من المقاعد في مجلس الريخستاج بلغ ١٠٧ (بعد أن كان لهم ١٢ مقعدًا
ليس
غير). وكان لهذا الانتصار مغزى كبير، فإن النازيين عندما بلغ عدد المتعطلين حوالي المليون،
كان كل ما أحرزوه من أصوات يقل عن المليون، حتى إذا ارتفع عدد المتعطلين إلى ستة ملايين،
ظفروا بستة ملايين صوت، ثم استغل النازيون هذا الانتصار إلى درجة بعيدة، فنشطت دعاوتهم
تستميل إليهم الأنصار والمؤيدين، وتخفف الأسى عن المتعطلين المنكوبين، ذلك بأنها صارت
تلصق
مسئولية النكبات الاقتصادية التي حلت بالشعب الألماني، بالساسة الذين وضعوا شروط الصلح
في
فرساي، وفرضوا على ألمانيا التعويضات، وهذا كله — كما ادعوا — بتحريض من فرنسا عدو الألمان
التاريخي. وهكذا ظفر النازيون بأصوات الناخبين الذين انصرفوا أيضًا عن تأييد الشيوعيين؛
لخوفهم من أن يدفع هؤلاء بالأمة إلى خوض غمار حرب جديدة، فلم ينل الشيوعيون في هذه
الانتخابات سوى ٧٧ مقعدًا. وفي الريخستاج، منذ أن خرج الاشتراكيون الديموقراطيون وأنصارهم،
أصبح الحكم البرلماني مستحيلًا بسبب العداء المستحكم بين الوطنيين الاشتراكيين، وبين
الشيوعيين الذين سيطروا فيما بينهم على الحياة السياسية. وكان هذا النضال مؤذنًا بنهاية
جمهورية ويمار، وممهدًا في الحقيقة لاستئثار النازيين بالسلطان الكامل في الدولة.
وفي الشهور التالية ازدادت الأحوال الاقتصادية سوءًا، وأفاد النازيون من ذلك كل فائدة؛
لأن الأهلين الذين تذوقوا طعم الفاقة، وأحسوا بالضنك ومرارة العيش، سرعان ما صاروا يتوقون
إلى حدوث تغيير أو تبديل جوهري من شأنه إفساح المجال لجماعة جدد من السياسيين الذين قد
يستطيعون انتشالهم من وهدة البؤس والعوز. ولما كانوا قليلي الثقة بالشيوعيين، فقد عقدوا
آمالهم على الوطنيين الاشتراكيين، واستطاع الهر هتلر بفضل مؤازرتهم أن ينال في الانتخابات
التي أُجريت لرياسة الجمهورية في التصويت الأول «في مارس ١٩٣٢» ١١٣٤٤١١٩ صوتًا أو أما
يزيد
على ٣٠٪، ونال في التصويت الثاني «في ١٠ أبريل ١٩٣٢» ١٣٤١٧٤٦٠ صوتًا أو حوالي ٣٧٪، بينما
فاز «هندنبرج» بنحو سبعة عشر مليونًا ونصف من الأصوات، وفي الانتخابات التالية لمجلس
الريخستاج في «٣١ يولية ١٩٣٢» أحرز النازيون ١٣٧٣٣٠٠٠ صوت أو ما يزيد على حوالي ٣٧٪ وظفروا
بمائتين وثلاثين مقعدًا.
•••
ومع هذا، فإنه من الحقائق المعروفة أن الهر هتلر ما كان يستطيع الوصول إلى منصب
المستشارية، أي رئاسة الحكومة في الريخ الألماني، لو أن «البطانة» المقربة من رئيس
الجمهورية «هندنبرج» ظلت متحدة، ولم يعمد بعض أعضائها إلى المناورات السياسية للتخلص
من
منافسيهم، والاستئثار بالسيطرة على رجل تقدمت به السن كثيرًا، حتى يخلص لهم الحكم في
ألمانيا. فمن الثابت أن هندنبرج عقب انتخابات ٣١ يولية ١٩٣٢ رفض أن يولي الهر هتلر منصب
المستشارية عندما زين فرانز فون بابن Franz Von Papen أحد
أفراد البطانة لهتلر، أن يطلب إلى الماريشال الكهل إعطاءه مركزًا مشابهًا للمركز الذي
ظفر
به موسوليني عقب زحفه المشهور على رومة، فغضب هندنبرج وقال كلمته المأثورة: «أيتوقع مثل
هذا
الرجل أن يصبح مستشارًا لدولة الريخ! إن كل ما يستطيع أن يظفر به هو منصب ساعي بريد!»
ومن
الثابت كذلك أن النازيين في انتخابات ٦ نوفمبر ١٩٣٢، لم يلبثوا أن فقدوا عددًا كبيرًا
من
الأصوات، فلم يزد ما أحرزوه على ١١٧٠٠٠٠٠ صوت تقريبًا، ولكن المناورات السياسية وحدها
هي
التي مهدت الطريق لوصول الهر هتلر إلى منصب المستشارية في النهاية.
فقد التفت حول الماريشال الكهل — كان يناهز الخامسة والثمانين — بطانة، كان من أهم
أعضائها ابنه «أوسكار Oskar»، وهو ضابط عامل في الجيش،
و«أوتو ميسنر Otto Messiner» مستشار الرئيس وأحد وزراء
الحكومة، وفرانز فون بابن، أحد مستشاري الريخ في هذا العهد، والجنرال «كيرت فون شليخر Kurt von Schleicher» من وزراء الحربية ومن زملاء
هندنبرج القدماء، وصاحب أكبر نفوذ في ألمانيا الجمهورية، وغير هؤلاء. وكان غرض هذه البطانة
الأساسي بعد أن تبينوا خطر المركز الذي صار يتمتع به النازيون — وعلى رأسهم الهر هتلر
— أن
ينفض ملايين الناخبين الذين أعطوا أصواتهم للنازيين من حول الهر هتلر، وأن ينصرف اهتمامهم
إلى تحقيق أغراض أخرى، كما أنهم صاروا يعنون بضرورة تأييد الرأسماليين وتعزيز مراكزهم
حيال
أية محاولة اشتراكية ضدهم في المستقبل، كما أرادوا أن يعيدوا تشييد صرح الدولة الألمانية
على أساس المسيحية القديم، وهو الأساس الذي كان قد أخذ يتداعى منذ مدة طويلة حتى أشرف
على
الانهيار، وكانوا يرغبون كذلك في إعادة البحث في الدستور الألماني، وتنظيم كيان الدولة
على
نحو يضمن استمرار الحكم في أيدي أحزاب «الوطنيين» من أصحاب الإرادة القوية والفكر الناضج،
وكانوا يعنون أنفسهم بهذا الوصف؛ لأنهم اعتقدوا أن خلاص ألمانيا — كما أرادوها — لا يمكن
أن
يحدث إلا إذا حُرم الأهلون كافة الحقوق عدا حق واحد يخول لهم انتخاب دكتاتور يهيمن على
شئون
البلاد، وهو حق لا يستطيع الناخبون ممارسته إلا في فترات متقطعة.
وكان موقف هذه «البطانة» من الوطنية الاشتراكية موقفًا غريبًا حقًّا؛ فلم يكن يضيرهم
وجود
النازيين؛ لأنهم كانوا يُدخلون الرعب إلى قلوب الاشتراكيين، ولكنهم كانوا بوصفهم من قواد
الجيش يكرهون الفوضى والأحزاب السياسية قاطبة، وبوصفهم من أصحاب الأراضي الزراعية الواسعة
يسوءهم رؤية ضياعهم العظيمة، «المفلسة» غنيمة يقتسمها الفلاحون فيما بينهم، كما أنهم
كانوا
لا يرضون — كرجال أعمال — عن «الأوتاركية» أو «الاكتفاء الذاتي»، وما كانوا يوافقون قط
على
أن تمتد يد الاشتراكية إلى ممتلكاتهم وثرواتهم، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يكرهون الهر
هتلر على اعتبار أنه من قادة الجماهير، وقد ظل مغمورًا حتى أتاحت له الظروف الطارئة أن
يظهر
على مسرح السياسة؛ ولذلك وجدوا أن خير وسيلة لتحقيق أغراضهم أن يحصروا حركة الطبقة المتوسطة
التي يتزعمها هتلر — وهي حركة ثورية — وأن يحدوا من انتشارها، حتى يستطيع الرأسماليون
استئناف أعمالهم.
وغنيٌّ عن البيان أن «بطانة» بلغت آراء أعضائها إزاء الوطنية الاشتراكية من التضارب
هذا
المبلغ، واعتمدت في وجودها على صداقة رئيس الجمهورية لها وعطفه عليها، ما كان في استطاعتها
أن تحقق أغراضها إلا بالالتجاء إلى المناورات السياسية واستصدار المراسيم والقرارات
الحكومية، وتعطيل مواد الدستور، حتى يتسنى لها الفوز بالحكم دون إشراك مجلس الريخستاج،
«أو
الأمة» وبخاصة عندما ظفر الوطنيون الاشتراكيون «النازيون» بمقاعد كثيرة في هذا المجلس،
وهذا
ما حدث فعلًا. فقد ظل مستشار الريخ في تلك الآونة الدكتور بروننج يحكم بمقتضى قرارات
استثنائية، وحاول كبح جماح هتلر وأنصاره بتنفيذ مطالب حزبهم المعتدلة. ولكنه ما كاد يشرع
في
تجزئة «الجفالك» الواسعة في بروسيا الشرقية إلى ملكيات صغيرة حتى ثار عليه أصحاب هذه
الأراضي المعروفون باسم «يونكر Junkers»، واتخذ منافسوه من
بين رجال «البطانة» من هذه المحاولة ذريعة لإيغار صدر الماريشال هندنبرج عليه، فطُرد
«بروننج» من المستشارية في مايو ١٩٣٢. أما هؤلاء المنافسون فكانوا «هوجنبرج»، زعيم الوطنيين
وأصحاب الخوذ الفولاذية، وفون بابن، والدكتور شاخت Schacht
(وكان محافظًا لبنك الريخ بين عامي ١٩٢٣–١٩٢٩، ثم غادر صفوف الديموقراطيين وانحاز إلى
اليمين، ثم اتصل بالنازيين منذ عام ١٩٣١)، كما انضم إلى هؤلاء المتآمرين في بطانة الرئيس،
الوطنيون الاشتراكيون، وكانوا جميعًا قد استطاعوا منذ مدة أن يؤلفوا من بينهم جبهة قوية
عُرفت باسم «محالفة هارتزبرج»، وكان من أول أعمال هذا التحالف تأييد ترشيح أدولف هتلر
لرياسة الجمهورية ضد الماريشال هندنبرج نفسه في انتخابات ١٠ أبريل ١٩٣٢. ولم يكفل النجاح
للماريشال وقتذاك سوى انحياز الاشتراكيين الديموقراطيين إلى جانبه.
أما هندنبرج، فإنه لم يلبث أن عهد بالمستشارية بعد طرد «بروننج» إلى «فون بابن» على
الرغم
من أن بابن ما كان يستطيع الحصول على عدد من الأصوات في داخل مجلس الريخستاج يزيد على
أصوات
حزب «هوجنبرج»؛ ولذلك صار يعتمد الاعتماد كله على صداقة رئيس الجمهورية فحسب. ولما كان
غرض
«فون بابن» إقصاء الاشتراكيين الديموقراطيين عن حكومة بروسيا إقصاءً تامًّا، فقد قرر
الاستناد إلى تأييد الجيش الألماني النظامي الذي تألف بعد الحرب العالمية الأولى وهو
«الريشفهر Reichswehr» وعلى ذلك عين رئيس هذا الجيش
الجنرال «كيرت فون شليخر» وزيرًا للحربية، واستطاع فون بابن تنفيذ مآربه.
ومنذ أُنشئت جمهورية ويمار الاتحادية، واتسعت اختصاصات حكومة بروسيا حتى شملت ما
تزيد
مساحته على ثلاثة أرباع دولة الريخ، كان الاشتراكيون الديموقراطيون والكاثوليك
والديموقراطيون هم الذين يؤلفون الأكثرية المطلقة في المجلس البروسياني «لاندتاج Landtag» كما كانت الحكومة البروسيانية للسبب نفسه تتألف
من ممثلي هذه الأحزاب الثلاثة، وكان يرأسها رجل من الحزب الاشتراكي الديموقراطي هو
«أوتو برون Otto Braun»، وقد ازدادت صعوبات «أوتو
برون» عندما أسفرت انتخابات هذا الدياط البروسياني في ٢٤ أبريل ١٩٣٢ عن عدم فوز حزب من
هذه
الأحزاب الثلاثة فوزًا يمكِّن أحدها من تأليف الوزارة أو يجعل من الميسور إنشاء حكومة
ائتلافية قوية، فظل «أوتو برون» والاشتراكيون في الحكم «مؤقتًا»، ونجم عن ذلك تعذر التعاون
بين هذه الحكومة البروسيانية التي تغلب عليها الصبغة «الماركسية» أو الاشتراكية وحكومة
الريخ المركزية التي يرأسها «فون بابن»، والتي أُطلق عليها اسم «حكومة البارونات»، فأصدر
«بابن» — بموافقة هندبرج — مرسومًا في ٢٠ يولية ١٩٣٢ يقضي بتعيينه — أي «فون بابن» —
قوميسيرًا للريخ في بروسيا، وعُين نائب له. وكان هذا المرسوم يقضي إلى جانب هذا، بمنع
حكومة
بروسيا من مباشرة أعمالها. وبهذا حقق «فون بابن» غرضه الأول، وكان هذا العمل تحديًا
للاشتراكية التي اعتبرت بروسيا حصنها المنيع منذ مدة طويلة، وكاد طرد الاشتراكيين يفضي
إلى
ملاحم عنيفة، ولكن «شليخر» أسرع في إظهار استعداده الكامل لمؤازرة «فون بابن»، بينما
تفرقت
كلمة الاشتراكيين الديموقراطيين والشيوعيين، مما أدى إلى تضعضع الطبقة العمالية؛ لذلك
لم
يلبث سواد الشعب في الانتخابات التالية لمجلس الريخستاج «٣١ يولية ١٩٣٢» أن أظهر سخطه
على
هذا الانقسام، فكان النصر في تلك الانتخابات حليف النازيين والشيوعيين، ففاز النازيون
بما
يزيد على ٣٧٪ من عدد الأصوات، وظفروا بمائتين وثلاثين مقعدًا، بينما نال الشيوعيون ٨٩
مقعدًا، واختفت أحزاب الطبقة المتوسطة تمامًا، ورجع الاشتراكيون الديموقراطيون إلى حالهم
السابقة القديمة في عام ١٩٢٤.
وثمل جنود الهجوم النازي بخمر الظفر، فاجتاحت الريخ موجة من الإرهاب النازي عنيفة،
وطفق
النازيون من ذلك الحين ينتقمون من معارضيهم وأعدائهم السياسيين انتقامًا بلغ الغاية في
قسوته ووحشيته، حتى اضطر «فون بابن» إلى إعلان الأحكام العرفية، كما هدد «شليخر» باستخدام
الجيش النظامي ضد «جنود الهجوم» النازيين، وأصدر «فون بابن» تصريحًا أنحى فيه باللائمة
على
هتلر، وأعلن استعداده لتأييد حكم القانون والقضاء على الفوضى التي أثارها النازيون بمسلكهم.
وإزاء هذا التهديد لجأ هتلر إلى المفاوضة، مهددًا تارة ومسترضيًا تارة أخرى، فجمع جند
الهجوم بالقرب من برلين، ووعد بتأييد وزارة فون بابن إذا وافقت أخيرًا على إطلاق يد هؤلاء
مدة ثلاثة أيام فحسب، ولكن بابن رفض هذا العرض بطبيعة الحال، وزاد حنق هندنبرج عندما
طلب
هتلر منصب المستشارية لنفسه، فأبقى الرئيس فون بابن في الحكم، وانقلب هتلر وأعوانه منذ
ذلك
الحين يدبرون المكايد ضد هندنبرج ووزيره، وعمت الفوضى من جراء ذلك كله مجلس الريخستاج
حتى
اضطر «فون بابن» إلى حله. ثم أجريت انتخابات جديدة في ٦ نوفمبر ١٩٣٢، نال فيها هتلر
١١٧٠٥٦٢٥ صوتًا، هذا بينما زاد عدد أنصار الشيوعيين وأنصار «هوجنبرج». وكان من الواضح
أن
الشيوعيين هم الذين أفادوا من هذه المناورات السياسية.
ولما كان الخوف من نجاح الشيوعيين ما يزال من العوامل الحاسمة في جمع أحزاب اليمين
عامة،
فقد أدى هذا الخوف إلى عودة الائتلاف بين أنصار «بابن» و«هوجنبرج» و«شاخت» و«الهر هتلر»،
فتعززت من ثم جبهة هارتزبرج السابقة. وفي ٢ ديسمبر من العام نفسه أُخرج «فون بابن» من
مستشارية الريخ، وعهد هندنبرج بهذا المنصب إلى رئيس «الريشفهر» الجنرال «فون شليخر»،
وكان
من الواضح أن سبب سقوط «بابن» هو أنه صار من المتعذر عليه أن يظل في الحكم بعد أن أثار
الأمة بأجمعها ضده، وأقنعت «البطانة» القديمة الماريشال هندنبرج بضرورة إعطاء منصب
المستشارية إلى رجل قوي. ولما كان «شليخر» في هذه الآونة زعيم الجيش، فقد اعتُبر أقوى
رجل
في ألمانيا، وساعده على تحقيق مطامعه أنه كان من أصدقاء «أوسكار فون هندنبرج» والمقربين
إليه، كما أنه كان صديقًا لأفراد «البطانة» التي كانت تتمتع بنفوذ كبير لدى
الماريشال.
ومنذ أن وصل «شليخر» إلى الحكم طفق يعمل للقضاء على هتلر وجماعته، ولما كان يُعِد
برنامجًا شاملًا للإصلاح، وكان يميل في إصلاحه الاجتماعي إلى إدخال تغييرات جريئة من
أجل
«خلاص ألمانيا» على حد قوله؛ فقد أصبح من السهل عليه لتنفيذ هذه الإصلاحات من جهة، ولإضعاف
هتلر من جهة أخرى، أن يوطد الصلة بينه وبين جناح اليسار من حزب هتلر نفسه، وهو الجناح
الذي
كان يتزعمه «جريجور ستراسر Strasser»، فعرض عليه منصب نائب
المستشارية، كما أنه دعا زعيم «اتحادات التجارة الحرة» ويُدعى «ثيودور ليبارت Leipart» للاشتراك معه في تأليف الحكومة التي أراد أن تقوم على
أساس اشتراكي واسع، ولكن هذه الميول الاشتراكية لم تلبث أن أثارت عليه حفيظة أصحاب الأراضي
الواسعة Junkers، كما أغضبت رجال البطانة وشرعوا يدبرون
المكائد لإسقاطه، واستطاع «فون بابن» في هذه الظروف أن يجذب الهر هتلر إلى معاونتهم عندما
وعد بأن يسدد ديون الحزب النازي التي بلغت في هذه الآونة ١٢٠٠٠٠٠٠ ريشمارك تقريبًا. وحدث
في
بداية شهر يناير من العام التالي ١٩٣٣ أن عُقد اجتماع في «كولون» في بيت «شرودر Schroeder» أحد رجال المال المعروفين، وفي هذا الاجتماع
تقابل هتلر مع فون بابن ومع «شرودر» بفضل وساطة أحد الوكلاء التجاريين وهو «فون ريبنتروب Ribbentrop» وسويت مالية الحزب النازي، وأسفرت هذه
التسوية عن اتفاق كل من هتلر، وشاخب وبابن، وهوجنبرج ورجال بطانة الرئيس هندبرج على ضرورة
عزل «شليخر» من منصب المستشارية، ولما عجز «شليخر» عن المقاومة، فكَّر جديًّا في تأليف
حكومة تستند إلى مؤازرة «الاتحادات Unions»، وفاوض بالفعل
في ذلك كلًّا من «جزيجور ستراسر» و«تيودور ليبارت»، ثم فاوض زعيم الاشتراكيين الديموقراطيين
في الريخستاج فيما إذا كان رجال حزبه على استعداد لتأييده، ولكنه أخفق في محاولته، وازداد
موقفه حرجًا عندما اقترب موعد افتتاح الريخستاج في ٣١ يناير ١٩٣٣، وكان من رأيه حل هذا
المجلس قبل اجتماعه، ولكن كان لا بد من حصوله على موافقة هندنبرج ولكنه لم يوفق واستأنف
شليخر المفاوضة من جديد. وعلى غير طائل ومن جانب آخر دخل الزعماء المعارضون في مفاوضات
مع
هتلر، ولكن هتلر أصرَّ على أن تكون المستشارية في هذه المرة من نصيبه، وظل الحال على
كذلك،
حتى استطاع «فون باين» في إحدى مناوراته السياسية البارعة، أن يجمع كلمة المعارضين على
ضرورة إعطاء منصب المستشارية للهر هتلر.
وكان مما اعتمد عليه «بابن» في حبك خيوط المؤامرة، الإشاعات التي انطلقت في ذلك الحين
تروِّج خبرًا مفاده: أن شليخر صار يعد العدة لإحداث «انقلاب» بمؤازرة «الريشفهر»، وبفضل
هذا
الخوف المصطنع أمكن التأثير في هندنبرج حتى قبل أخيرًا أن يعهد بمنصب المستشارية إلى
الهر
هتلر، فأصبح هتلر مستشار الريخ الجديد. وفي مساء ٣٠ يناير ١٩٣٣ دبر الهتلريون مظاهرة
عظيمة
اشترك فيها خمسة عشر ألفًا من النازيين حملوا المشاعل في حضرة أدولف هتلر، وكان إلى جانبه
الماريشال هندنبرج، فقضت المظاهرة على «آمال» المعارضة، حتى إنها لم تجد مناصًا عقب ذلك،
من
التسليم بدون إبداء أية مقاومة، وعلى إثر تعيين أدولف هتلر مستشارًا للريخ الألماني،
طفق
يتخذ التدابير لمنع «بطانة» الرئيس من تمثيل الدور الذي أفضى إلى إقصاء كل من بروننج،
وبابن، وشليخر من الحكم، فعين «هرمان جورنج» وزيرًا للريخ، وقوميسيرًا للطيران، ووزيرًا
للداخلية في حكومة بروسيا، وقد خطب «جورنج» رجال الشرطة، فقال: «إن الشرطة لم توجد من
أجل
العناية بأمر ثمانين أو مائة ألف مجرم في السجون، فجدير بنا أن نضع حدًّا لهذه الإنسانية
المزيفة؛ لأن من واجب الشرطة أن تقوم بأعمال قد تبدو قاسية للغاية، ولكنها في الواقع
ضرورية
ولا غنى عنها البتة.» وأما هذه الأعمال التي يشير إليها فهي القضاء على أعداء النازيين
ومعارضيهم. ولما كان رجال الشرطة النظاميون مائة ألف — وهو عدد لا يكفي لتحقيق هذه الأغراض
— فقد شكل «جورنج» قوة إضافية من النازيين تبلغ ثمانين ألفًا، وبذلك بدأ عهد الإرهاب
النازي
في ألمانيا، وسرعان ما تبين لمدبري المكائد السابقين من «بطانة» الرئيس أن هتلر والنازيين
إنما يريدون أن يقبضوا على أزِمَّة الحكم بيد من حديد، وأن من العبث أن يتوقعوا الاستمتاع
بالمزايا التي ألفوها في العهود الماضية. ثم عظمت مخاوفهم عندما وجدوا المستشار النازي
مصممًا على إجراء انتخابات جديدة حتى يفوز بأغلبية مطلقة تمكنه من إنشاء حكومة مؤيدة
له،
واستطاع بالفعل أن ينال من هندنبرج أمرًا بحل الريخستاج وإجراء هذه الانتخابات الجديدة
في
يوم ٥ مارس ١٩٣٣.
على أن موقف النازيين في أول الأمر لم يزعج كلًّا من بابن وهوجنبرج وأوسكار فون هندنبرج
إلى حد كبير، ولم يقض مضاجعهم تهديدُ هتلر وأنصاره بأنهم مصممون على البقاء في الحكم
مهما
كانت نتيجة الانتخابات المقبلة؛ ذلك بأن النازيين كانوا قد اتفقوا معهم وقت المفاوضات
التي
سبقت تعيين هتلر في منصب المستشارية، على أن يظل الائتلاف قائمًا لمدة أربعة أعوام على
الأقل، ولو اقتضى الأمر مخالفة رغبات الأمة، ولكنهم أدركوا في النهاية أن النازيين سوف
يتحينون الفرص لطردهم من الحكومة، وانعدمت من ثم ثقتهم في الهر هتلر، وطفقوا يدبرون المكائد
ضده، وانضم إليهم «شليخر» في ذلك. بيد أن هذه المكائد لم تكن خافية على الهر هتلر. والواقع
أن الهتلريين أنفسهم لم يكونوا يتوقعون إحراز نصر حاسم في الانتخابات المقبلة؛ ولذلك
شرعوا
من جانبهم يدبرون «انقلابًا سياسيًّا» يضمن لهم الغلبة والفوز في يوم ٥ مارس. ومن هذه
الجهود الخفية جميعها، نشأت جميع الحوادث التي كفلت الفوز للنازيين في النهاية.
•••
فقد حدث في الأسبوع الثاني من شهر فبراير عام ١٩٣٣، أن راجت إشاعة فحواها: أن النازيين
يريدون إخراج أعضاء «الائتلاف» المتعاونين معهم من الحكومة يوم الانتخابات نفسه، ويطلبون
إجراء «استفتاء عام» من أجل انتخاب الهر هتلر لمنصب رئاسة الدولة. ووجد «بابن» في هذه
الإشاعة مسوغًا لحبك خيوط مؤامراته من أجل الخلاص من هتلر، وقابل في ذلك «هوجنبرج» وحضر
المقابلة أيضًا زعماء «أصحاب الخوذات الفولاذية»، ثم تباحث «بابن» مع الجنرال «شليخر»
ومع
الرئيس هندنبرج ومع ابنه «أوسكار»، وأسفرت هذه المؤامرة عن وضع خطة نالت موافقة الجميع،
وترمي هذه الخطة إلى حشد جند «الخوذات الفولاذية» في برلين في يوم الانتخابات نفسه، على
أن
يحتلوا قلب المدينة ويسهروا على حراسة «الولهلمستراس»، بينما تحتشد عدة فرق من الجيش
النظامي «الريشفهر» في «دوبربتز Döberitz» التي تبعد نحو
العشرين ميلًا عن برلين، على أن يغادر هندنبرج العاصمة في هذا اليوم إلى «دوبريتز» بحجة
الإشراف على استعراض يقوم به جيش «الريشفهر» هناك، حتى إذا وقعت في يوم ٥ مارس أية محاولة
من جانب الهتلريين لإحداث «انقلاب سياسي» استطاع عشرة آلاف جندي من أصحاب الخوذات الفولاذية
مقاومة جنود الهجوم النازيين S. A. والدفاع عن قلب المدينة
حتى تأتي إليهم نجدة «الريشفهر» من «دوبريتز».
بيد أن هتلر لم يلبث أن عرف أمر هذا التدبير، فأرسل بدوره «هرمان جورنج» يحمل تهديدًا
إلى
«سلدت Seldte» زعيم جند أصحاب الخوذات الفولاذية، بأنه
إذا أبدى هؤلاء أي حراك، فإن هتلر لن يرى مندوحة عن تعبئة قوات جند الهجوم النازيين تعبئة
كاملة. وقد أحدث هذا التهديد أثره في نفوس المتآمرين الذين أزعجهم انكشاف أمرهم، وصاروا
يخشون عواقب حدوث الاصطدام بين قوات الحكومة، فنكصوا على أعقابهم، وفشلت مؤامرتهم، واستطاع
النازيون أن يتفرغوا لمكافحة أعدائهم الآخرين، وهم الجمهوريون والشيوعيون، فأشرف «هرمان
جورنج» نفسه على تعقبهم، وفي إحدى الهجمات الفجائية التي قام بها الشرطة على مراكزهم
الرئيسية، استطاع جورنج أن يعثر في مقر الحزب الشيوعي «بيت
كارل ليبكنخت Lïebknecht» على خطط مفصلة، قال جورنج إن الشيوعيين وضعوها لتنظيم إشعال
الثورة في ألمانيا وأخفوها في أقبية سرية عتيقة. وكان هذا الكشف انتصارًا عظيمًا للنازيين
الذين صمموا على استغلال هذا الحادث بشكل يقضي على أعدائهم الشيوعيين قضاءً مبرمًا في
الانتخابات المقبلة، ويُدخل الذعر والرعب في نفوس الأهلين. وكان أخشى ما يخشاه سواد الشعب
في تلك الآونة أن يشعل المتطرفون من أحزاب اليسار نار الثورة في ألمانيا، هذا إلى أنه
يقضي
على كل أمل لدى «بطانة» الرئيس في إمكان الفوز على الهر هتلر وأعوانه بتدبير أية مؤامرة
جديدة.
وعقب ذلك حدث في مساء ٢٧ فبراير ١٩٣٣ في الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة والأربعين
أن
شهد أهل برلين فجأة ألسنة النيران تصل إلى عنان السماء، واللهب يُضيء المدينة، ثم تطاير
الخبر بسرعة البرق، بأن الريخستاج يحترق! وكان حريق الريخستاج من العوامل الحاسمة التي
ساعدت النازيين على أن يقبضوا بأيد من حديد على أزمة الحكم في ألمانيا، ويفرضوا على دولة
الريخ تلك السيطرة التامة التي طمعوا فيها منذ مدة طويلة، حتى يبسطوا سيطرتهم على القارة
الأوروبية، ثم على العالم أجمع في النهاية.
والواقع أن الزعماء النازيين كانوا في تلك الليلة أول من خف إلى مكان الحريق، ونقل
الناس
عن الهر هتلر قوله في وصف هذا الحادث: «إنه
نعمة من السماء Ein Zeichen-vom Himm el»، وأعلنت الحكومة في التو والساعة أن الحريق من صنع
الشيوعيين وحدهم. وفي الليلة نفسها صادر النازيون الصحف الشيوعية وجميع منشورات الشيوعيين
وإعلاناتهم الانتخابية، ومنعوا الاجتماعات السياسية، سواء أكانت في الهواء الطلق أم في
منازل أفراد الحزب. وفي اليوم التالي وقَّع هندنبرج قرارًا ألغى الدستور بمقتضاه. وفي
أول
مارس صدر قرار آخر يفرض «الرقابة» على البريد والتليفون والبرق في أنحاء الريخ، فتحقق
بكل
هذا ظفر النازيين واطمأنوا إلى الدخول في المعركة الانتخابية من غير منافس! والحقيقة
أن هذه
التدابير الصارمة لم تقضِ على الشيوعيين وحدهم، بل إنها أوجدت الارتباك والفوضى في صفوف
الأحزاب الأخرى، ثم رفعت في ساعات معدودة مستشار الريخ إلى مركز الديكتاتور المطلق. ولم
تكن
التدابير التي اتخذها النازيون من أجل محاربة أعدائهم ومنافسيهم بنت ساعتها، بل دل صدورها
وتنفيذها بالسرعة المتقدمة على أنها كانت معدة منذ مدة سابقة، وما زال التاريخ يلصق تهمة
إشعال النار في مبنى الريخستاج بالنازيين وحدهم؛ إذ إنه حتى الآن ما يزال من المستحيل
على
أي إنسان أن يقف على كنه العلاقة التي ربطت بين النازيين وفان دير لوب هذا الشخص الأبله
الذي ثبتت إدانته وحده ثم أُعدم. ومن المحتمل أن تظل حقيقة هذه العلاقة مجهولة إلى
الأبد.
والمعروف أن «مارينوس فان ديرلوب Marinus Van Der Lubbe»
وهو من الرعايا الهولنديين، لم يكن في يوم من الأيام منتميًا إلى الحزب الشيوعي، بل كان
هذا
الرجل متعطلًا، لا مأوى له ومن المخبولين المنغمسين في حمأة الرذيلة ومن ذوي الشذوذ الجنسي.
وقد قبض عليه رجال الشرطة في ليل الحادث عند أحد أبواب الريخستاج، وليس عليه من الملابس
غير
سراويله؛ لأنه كما يظهر كان قد استخدم قميصه وبقية ملابسه المهلهلة في إشعال الحريق،
ومع أن
«جورنج» ادعى في ذلك الحين أن «لوب» كان يحمل بطاقة الحزب الشيوعي هذا إلى جانب بضعة
أوراق
أخرى تلصق التهمة بالشيوعيين والاشتراكيين الديموقراطيين، فإن هذا الادعاء كان كاذبًا،
كما
أن «فان دير لوب» من ناحية أخرى لم يكن من الوكلاء النازيين أصلًا.
على أنه مما تجدر ملاحظته أن «فان دير لوب» ما كان يستطيع وحده وبمفرده إشعال الحريق
الذي
التهم جزءًا كبيرًا من مبنى الريخستاج في تلك الليلة، فقد أثبت البحث أن مقدارًا كبيرًا
من
المواد القابلة للاشتعال، ومنها البترول، قد استخدم فعلًا في الحرائق التي نشبت في عدة
أماكن مختلفة من هذا المبنى وفي وقت واحد، ولم يكن لدى «لوب» من الملابس ما يكفي لإشعال
حريق عظيم يلتهم بهو الريخستاج الكبير بأجمعه قبل وصول رجال المطافئ، وزيادة على ذلك
فقد
أثبت التحقيق أن وسط هذا المبنى كان شعلة من النيران عقب دخول «فان ديرلوب» إليه بدقيقتين
وخمس ثوانٍ فحسب؛ ولذلك فلابد من أن يكون هناك غيره اشتركوا معه، وعلى غير علم منه على
ما
يبدو في إشعال هذا الحريق الكبير. ولكن أحدًا لم يقف على أثر لهؤلاء المساهمين؛ إذ استطاعوا
الخروج من المبنى دون أن يراهم أحد. ولما كان هناك قبو سفلي يوضع به جهاز التدفئة، ويمتد
منه ممر يربط بين أقبية الريخستاج، والمبنى الذي يقيم به رئيسه، فإن القرائن تدل على
أن
محدثي الحريق استخدموا هذا الممر الخفي أولًا في نقل المواد الملتهبة والبترول إلى
الريخستاج، ثم استخدموه في الفرار والنجاة بأنفسهم بعد إشعال الحريق، وكان رئيس الريخستاج
الهر هرمان جورنح!
ومع هذا فقد اعتقل النازيون ثلاثة من زعماء الشيوعيين — البلغاريين كانوا يعيشون
في برلين
في تلك الآونة، وهم «ديمتروف Dimitroff» و«تانيف Taneff» و«بوبوف Popoff»
بتهمة إشعال الحريق، كما ألقوا القبض على الغائب الشيوعي الألماني «تورجلر Torgler»، ثم قدموا الجميع إلى المحاكمة أمام المحكمة
العليا الألمانية في ليبزج. وفي هذه المحاكمة اعترف «فان ديرلوب» بجرمه ثم أُعدم، وأما
«ديمتروف» فقد دافع دفاعًا مجيدًا وحمل حملة شعواء على الهر جورنج نفسه وعلى النظام النازي
بأجمعه، وانتهى الأمر بالحكم ببراءته وبراءة زملائه الآخرين. وقد سافر «ديمتروف» إلى
موسكو،
أما «تورجلر» الألماني فقد أُرسل إلى أحد معسكرات الاعتقال النازية.
ولكن تبرئة الشيوعيين جاءت متأخرة؛ إذ إن النازيين كانوا قد حققوا أغراضهم، فنشروا
الإرهاب والرعب في أنحاء البلاد وقام الشرطة بتلك الأعمال التي قال عنها جورنج: «إنها
قد
تبدو قاسية للغاية ولكنها في الواقع ضرورية ولا غنى عنها البتة.» وعبثًا حاول أعضاء الحكومة
— من «بطانة» الرئيس هندنبرج — الاحتجاج على هذه الحملة الإرهابية، فقد أجاب جورنج على
ذلك
بقوله: «إنه يشعر بقوة مركزه إلى حد يسوِّغ له الاضطلاع بكل مسئولية!» وعمل النازيون
على
قمع كل معارضة، دون أن يترددوا في ارتكاب أية جريمة حتى صار الأهلون يعثرون في القنوات
ومجاري المياه على جثث أفراد عديدين من «العمال» الذين عُرفوا بقوة المراس والشكيمة وشدة
معارضتهم للحزب النازي. وفي يوم الانتخاب قام بالمحافظة على النظام ثمانون ألفًا من أصحاب
القمصان السمر النازيين!
ولكن على الرغم من هذا الإرهاب العظيم، لم يظفر النازيون في يوم ٥ مارس ١٩٣٣ بالأغلبية
المطلقة؛ فحصلوا على ٤٣٫٩٪ من الأصوات فحسب، فإذا كانت هذه هي النتيجة التي بلغها النازيون
وهم في أوج سطوتهم، ولا أثر للمعارضة أو المنافسة يعكر عليهم صفوهم، فماذا كان يحدث لو
أن
الريخستاج لم يحرق؟ ولو أن الأحزاب الشيوعية والاشتراكية الديموقراطية على وجه الخصوص
ظلت
حرة طليقة، تمارس حقوقها الانتخابية في أمان إلى جانب النازيين والضالعين معهم من أحزاب
الوطنيين؟ لا شك في أن انتخابات ٥ مارس ١٩٣٣ كانت هزيمة للنازيين لا تقل عن هزيمتهم القديمة
في انتخابات ٦ نوفمبر من العام السابق.
ومع هذا، فقد جدَّ النازيون حتى يوطدوا أقدامهم بكل وسيلة، فأعلن أدولف هتلر في خطاب
ألقاه في مبنى «تمبلهوف» في أول أبريل أن الثورة الوطنية قد بدأت، وفي اليوم نفسه نظمت
مقاطعة اليهود، وفي ٢ مايو وبناء على أوامر الحكومة، صادر جنود هتلر جميع ممتلكات الأحزاب
والمؤسسات العمالية في أنحاء الريخ، ولم يقاومهم أحد، وقبض النازيون على زعماء الاتحادات
التجارية الحرة أمثال «ليبارت Leipart» و«جراسمان Grassman» وغيرهما من صغار الزعماء وألقوا بهم في غياهب
السجون. وفي ١٨ مايو صادر الهتلريون جميع مباني وأملاك الجمعيات التعاونية — فخر الاشتراكية
الألمانية — كما صادروا جميع مباني الاشتراكيين الديموقراطيين وممتلكاتهم وأموالهم
ومطابعهم. وهكذا قضى الهر هتلر على كل منافسيه وأعدائه وهم: «الشيوعيون، النقابات العمالية،
الاشتراكيون الديموقراطيون»، وبلغ الإرهاب النازي ذروته؛ إذ كان عدد الذين أرسلوا إلى
السجون أو معسكرات الاعتقال نحو ٢٠٠٠٠٠٠ ألماني، وانفسح المجال أمام «جند الهجوم» الهتلري،
ووقع تحت رحمتهم اليهود والاشتراكيون الديموقراطيون والأحرار، ولم ينج من أيديهم الشيخ
الكبير أو الصبي الصغير في غير تمييز بين الذكر والأنثى.
ولم يكد ينتهي أمر أحزاب اليسار حتى وجه الهر هتلر عنايته للقضاء على أحزاب اليمين،
وكان
من السهل عليه بلوغ مقاصده؛ لأن طرد النواب الشيوعيين من الريخستاج أكسب الوطنية الاشتراكية
— أو النازية — والبرلمان قوة كبيرة، وبفضل هذه القوة الجديدة، استطاع الهر هتلر أن يقنع
حزب الوسط الكاثوليكي في الريخستاج بأن من مصلحة هذا الحزب ومن مصلحة الكنيسة أيضًا أن
يظفر
الهتلريون بالأغلبية المطلقة في الريخستاج، وأن حزب الوسط الكاثوليكي والكنيسة سوف يكون
من
نصيبهما حتمًا الانتعاش والنجاح في دولة الريخ الثالث، فقبل الحزب الانحياز إلى النازيين
عند التصويت من أجل الموافقة على القانون الذي أعطى الهر هتلر سلطات واسعة استثنائية
تمكنه
من إصلاح «الدستور» ومن التشريع عن طريق إصدار المراسيم في مدة الأعوام الأربعة التالية،
وعندئذ لم يتردد الهر هتلر لحظة واحدة في تطهير الحكومة من «بطانة» الرئيس هندنبرج، والذين
تألفت من بينهم وبفضل مساعيهم «جبهة هارنزبرج» القديمة، فطرد في ٢٧ يونية ١٩٣٣ ألفريد
هوجنبرج من الحكومة، وولى مكانه رجلًا من جماعة الرأسماليين والصناعيين الذين كانوا يريدون
الحرب ويجدون فيها علاجًا حاسمًا لأزمة البلاد الاقتصادية المستحكمة وهو «الدكتور شميدت Schmidt». ثم عظم تهديد الهتلريين لأحزاب المحافظين
من الكاثوليك والألمان الوطنيين، وحل الاضطهاد بزعمائهم، وقادتهم، كما لو كانوا من
الاشتراكيين الديموقراطيين سواء بسواء. وفي آخر الأمر اضطر المحافظون إلى «تصفية» أحزابهم
وجماعاتهم. وفي ١٤ يولية ١٩٣٣ أعلن الهر هتلر أن الوطنية الاشتراكية هي الحزب القانوني
الوحيد في ألمانيا بأسرها. وبهذا تكون قد بدأت حياة الريخ الثالث الجديدة … ويكون قد
تمهد
الطريق لخوض غمار الحرب العالمية الثانية!
•••
تلك كانت الظروف التي لابست وصول الهتلريين إلى الحكم في ألمانيا، وجمعت أسباب السلطة
المطلقة في أيديهم، ومع هذا فإنه ما كان من المستطاع أن يصل النازيون إلى ما وصلوا إليه،
وأن يتمكنوا من بسط سلطانهم بشكل يقضي على كل معارضة، لو أنهم لم يعنوا من بادئ الأمر
بتنظيم حزبهم وتنسيق جهودهم في نظام من شأنه أن ينشر خلايا الحزب ومؤسساته وهيئاته في
كل
ركن من أركان الدولة، ويفرض الطاعة العمياء على كل عضو من أعضاء الحزب لزعيمه «الفوهرر»
أدولف هتلر. ولذلك فإن تنظيم الحزب النازي نفسه كان من أهم العوامل التي كفلت للهتلريين
الفوز، ووضعت مصير البلاد في أيديهم.
فقد جعلت دقة تنظيم الحزب الوطني الاشتراكي من الممكن أن تتغلغل أنظمة الوطنية الاشتراكية
في كيان ألمانيا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، حتى هيمن النازيون في النهاية على حياة
الأهلين هيمنة تامة تحت ستار إنشاء «الدولة الجديدة ذات الخدمة الموحدة»، ومعنى هذا أن
ينظم
نشاط أفراد الدولة في فروع المصالح — أو الخدمات — المختلفة في نطاق واحد تحت إشراف الدولة
وبتوجيه منها، ولحمة هذا النظام وسداه الطاعة العمياء لزعيم الدولة. ويشبه الحزب الوطني
الاشتراكي في نظامه «نظام المجموعة الشمسية»، بمعنى أن الفوهرر أو الزعيم، وهو أدولف
هتلر،
يتوسط مجموعة الزعماء الآخرين الذين يشرفون على كل فرع من فروع الحزب وهي كثيرة. ولما
كان
غرض النازيين إحراز السيطرة السياسية وإحكام الرقابة الدقيقة على حياة الأفراد الذين
تتألف
منهم دولة الريخ، نظمت إدارة الحزب على نحو يضمن هذه السيطرة وتلك الرقابة. ولذلك صارت
هناك
تنظيمات إقليمية ووظائفية واستشارية، استطاع النازيون بفضلها جميعًا منذ عام ١٩٣٢ أن
يتوغلوا في كل ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ويتدخلوا في معيشة كل فرد
من
أفراد المجتمع الألماني.
وينقسم تنظيم الحزب الوطني الاشتراكي قسمين رئيسيين: يُعرف أولهما باسم «هيئات الخدمة Dienstordnungen»، ومن هذه الهيئات نظام الشبيبة
الهتلرية، وخدمة العمل والخدمة العسكرية، والخدمة المدنية، والمهن الحرة، أو وظائف الأعمال
الكبرى. وبفضل الالتحاق بإحدى هذه الهيئات يتسنى إعداد الفرد وتهيئته لأن يشغل إحدى الوظائف
أو يمارس عملًا من الأعمال من أجل خدمة الدولة، على شريطة أن يحدث هذا الإعداد تحت إشراف
النازيين ووفق أساليبهم، حتى إذا كملت «تربيته» صار انتخابه كمواطن صالح لخدمة الريخ
من بين
أعضاء هذه الهيئات المختلفة التي يتكون من مجموعها في الحقيقة هيكل الدولة الاقتصادي
والاجتماعي في ألمانيا النازية.
أما القسم الثاني: فيتألف من اندماج هذه الهيئات نظريًّا وعمليًّا فيما يُعرف باسم
المصالح أو الدوائر Staende، ومن مجموعها يتألف ما يُعرف
عادة بالنظام الوطني الاقتصادي، ومن هذه المصالح أو الدوائر مصلحة أو دائرة الزراعة،
ودائرة
الصناعة والتجارة، ودائرة الحرف «والمهن اليدوية»، وجبهة العمل، ودائرة الثقافة، وهذه
الدائرة الأخيرة تخرج في الحقيقة عن محيط الحياة الاقتصادية. وقد أُنشئت جميع هذه الدوائر
بمقتضى قرارات ومراسيم صدرت في عامي ١٩٣٣-١٩٣٤، ثم أتيحت لها الفرصة حتى تثبت أركانها
في
خلال الأعوام السابقة على إعلان الحرب العالمية الثانية. وهكذا عندما نشبت الحرب ورغب
النازيون في تعبئة مرافق الدولة في خدمة الحرب، أصبح من السهل عليهم أن يدمجوا هذه الدوائر
جميعها في «المجلس العام لاقتصاد الحرب» الذي أنشئوه في يناير ١٩٤٠، ووضعوه تحت رئاسة
«جورنج».
ولهذا القسم الثاني في التنظيم النازي أهمية كبيرة؛ لأن «الدوائر Staende» كما أعلن النازيون أنفسهم إنما تمثل الكيفية التي تجري بها
إدارة المصالح المختلفة في الاقتصاد القومي على أساس المبادئ والتعاليم النازية الرئيسية
الصحيحة. ومن المعروف أن الوطنية الاشتراكية تعتبر أن «المجتمع الإنتاجي» إنما يقوم على
دعامات ثلاث، أولاها: «العمل»، وللعمل قيمة اجتماعية عظمى في هذا النظام الوطني الاشتراكي،
وتهيمن «جبهة العمل» على كل ما يتصل به من شئون، وثانيتها: «الأرض» أو التربة التي ينشأ
عليها الزراع، وترتبط بها حياتهم ومصالحهم، وتشرف «دائرة الزراعة» على هذا كله، وثالثتها:
«الإنتاج»؛ أي إنتاج السلع التي لا بد من استخدام رءوس الأموال في صنعها، وتشرف عليه
«دائرة
الصناعة والتجارة». والواقع أن الروابط التي تربط بين هذه الدعامات الثلاث، وما ينجم
عن
تأثير كل منها في الأخرى، تحت إشراف الدولة، هو ما يُطلق عليه النازيون اسم «الاشتراكية
الوطنية»، على شريطة أن يتحرر «رأس المال» من خاصية العمل دائمًا على الزيادة والنمو
بطريق
الربح والامتلاك والاستئثار.
وقد أفاد النازيون من هذا التنظيم الحزبي الدقيق؛ إذ إنه جعل في مقدورهم، بعد أن دانت
لهم
السلطة، أن ينظموا الاقتصاد القومي في ألمانيا على نحو حقق مآربهم من السيطرة التي ظفروا
بها، فاجتاز الاقتصاد النازي في نموه ثلاث مراحل: الأولى مرحلة الكفاح ضد التعطل من العمل،
وقد عرَّف الهر هتلر نفسه هذه المرحلة؛ إذ قال في ٣ فبراير ١٩٣٣ ما معناه: «سوف تقوم
الحكومة الوطنية بوضع حل المشكلة الكبرى؛ مشكلة إعادة تنظيم الاقتصاد الشعبي وفق برنامجين
يستغرق العمل بكل منهما أربعة أعوام، هما: تحرير الفلاح الألماني حتى يتمكن من الاحتفاظ
بالأسس التي تكفل إمدادنا بمورد لا ينقطع من الطعام والأغذية، تلك الأسس التي تستند إليها
حياتنا، وتحرير العامل الألماني بإعداد هجوم عظيم واسع النطاق على مسألة التعطل من العمل؛
ولذلك فإنه في خلال الأعوام الأربعة المقبلة ينبغي أن يتحقق انتزاع الفلاح الألماني من
حيرته وكربه، كما ينبغي في بحر هذه المدة نفسها أن يتم القضاء على التعطل عن العمل قضاءً
مبرمًا.»
أما المرحلة الثانية فقد خُصصت للعودة إلى التسلح من جديد، وتحقيق مبدأ «الاكتفاء
الذاتي»
في الريخ الألماني. وقد أعلن الهر هتلر أيضًا عن بدء هذه المرحلة حين قال في ٩ سبتمبر
١٩٣٦
ما معناه: «واليوم أُعلن البرنامج الجديد للسنوات الأربع، وهو على الوجه التالي: ينبغي
في
خلال أربعة أعوام من تاريخ هذا اليوم أن تصبح ألمانيا مستقلة عن الأجانب في كل ما يلزمها
من
مواد لا بد أن تمد بها العبقرية الجرمانية صناعتنا الكيمائية والصناعة المخصصة لإنتاج
الآلات وكذلك صناعة التعدين؛ وسوف يكون من شأن إقامة هذه الصناعات الجرمانية العظيمة،
استخدام سواد الشعب بعد أن يتم تسليحه من جديد، بطرائق تكفل خدمة الاقتصاد القومي على
خير
وجه.»
أما آخر المراحل فكانت تعبئة الاقتصاد القومي من أجل المضي في الحرب وكسبها. وقد
بدأ تحول
الاقتصاد النازي إلى اقتصاد حربي قبل نشوب الحرب بمدة، عندما قسَّم النازيون البلاد إلى
ثماني عشرة منطقة دفاعية Wehr kreise بدعوى ضرورة الإشراف
على جميع الشئون الاقتصادية، والتأكد من أن القرارات التي تُتخذ في هذه الشئون موحدة
لا
تضارب بينها. وقد تبع هذا التقسيم تعطيل أداة الحكم الذاتي في جميع هذه المناطق. ومن
الممكن
القول بأن «الاقتصاد الحربي» ظهر إلى الوجود في شكله النهائي في يناير ١٩٤٠ عندما أُنشئ
«المجلس العام لاقتصاد الحرب» الذي مرَّ ذكره.
•••
ومما يدل على دقة التنظيم الحزبي، تلك الشدة التي اصطنعها الهتلريون في القضاء على
العناصر التي بدأت تُظهر شيئًا من المخالفة أو المعارضة في داخل الصفوف النازية ذاتها؛
إذ
كان ظهور الاختلاف في الرأي والانقسام بين النازيين عقب استتباب الأمر لهم في الحكومة،
أمرًا لا مندوحة عنه، لا سيما وأن أدولف هتلر الذي دعا إلى الثورة وبذل الوعود السخية
من
أجل إرضاء الشعب الألماني، لم ينفذ شيئًا مما دعا إليه ووعد به خلال الشهور التي تلت
بلوغه
منصب المستشارية، الأمر الذي أثار التذمر ضده وضد حكومته في طول البلاد وعرضها. فالطبقة
العمالية كانت ما تزال ترزح تحت ضغط شديد، ثم صارت في العهد الجديد في حال أشبه بحال
الرقيق، يعيش أفرادها في ظل إرهاب دائم ولا يستطيعون التفكير في أية مقاومة. ومثل الطبقة
العمالية في ذلك سواد الشعب الألماني. ولكن عنصرًا له خطره كان يهدد بإضعاف الحركة النازية
لو تُرك وشأنه وسُمح له بالنمو حتى يستفحل أمره، هذا العنصر هو جماعة الراديكاليين النازيين
الذين لم يستطيعوا الموافقة على سياسة الهر هتلر الرجعية، وكانوا يعدون الزعيم بمثابة
الأداة التي يحركها «كروب» وأمثاله من كبار رجال الصناعة وأصحاب رءوس الأموال المؤيدين
للنازية، كما يحركها الجيش النظامي «الريشفهر»، وكانوا يعتقدون أن من حقهم أن يستمع الزعيم
لآرائهم لا لآراء القواد الرجعيين. كما ركز في أذهانهم، بعد التمعن في معنى المبادئ التي
تضمنها البرنامج النازي القديم ١٩٢٠ أن شيئًا من هذه المبادئ لم يتحقق، وأن الوطنية
الاشتراكية لم يكن نصيبها سوى الغدر والخيانة! وكان من بين الوطنيين الاشتراكيين الذين
اتجهوا صوب الاشتراكية الصحيحة، محبذين التعاون مع الاشتراكيين الخلص رجال مثل «ليبارت»
وصحبه، كما كان من بينهم «جريجور ستراسر Gregor Strasser»،
وكان هذا الكيمائي البافاري ممن قام على أكتافهم جمع شتات الحزب النازي وتنظيمه عقب حركة
الانقلاب المشهورة التي فشلت، والتي حوكم بسببها الهر هتلر وأودع في قلعة «لندسبرج»،
أي في
الفترة الواقعة بين عام ١٩٢٣–١٩٢٦. وقد طلب إليه الراديكاليون النازيون أن يتزعم
حركتهم، وكان الزعماء النازيون أنفسهم في تلك الآونة في نضال مستمر فيما بينهم من أجل
الحصول على السلطة في داخل الحزب والدولة؛ «فجورنج» ينازع «هيملر» السيطرة على قوة الجستابو
و«جوبلز» يخشى «جورنج»، و«هيملر» لا يثق بالكابتن «روم» صاحب السمعة السيئة، و«روم» نفسه
يساوره الشك من ناحية «جورنج»، و«جورنج» يحتقر «جوبلز» وهكذا. ولعل أخطر مشاكل تلك الآونة
أن الجيش النظامي «الريشفهر» كان لا يرضى عن وجود «جند الهجوم النازيين Sturm Abteilung (S.
A.)»،
وقد اتخذت تشكيلاتهم صبغة رسمية منذ أصبح الفوهرر مستشار الريخ الألماني، هذا بينما كان
جنود الهجوم أنفسهم لا يثقون «بجند
الحرس Schutz Stafiel (S. S.)» الذين اختارهم الهر هتلر خصيصًا من طبقات أرقى؛ حتى يكونوا حرسًا
له «منذ ١٩٢٨».
أما أدولف هتلر، فقد أزعجته هذه الفوضى المنتشرة في صفوف حزبه ومؤيديه، وزادت حيرته
عندما
تدفقت عليه الآراء والنصائح من كل جانب فيما ينبغي عليه فعله حتى يقضي على الانقسام
الداخلي، وكان «الريشفهر» في مقدمة المطالبين بضرورة القضاء على هذه الفوضى. وفي ١٧ يونية
١٩٣٤ خطب «فون بابن» في «ماربورج» متحدثًا باسم كبار الصناع والرأسماليين وأصحاب الأراضي
الواسعة «اليونكر»، فحمل بشدة على أولئك النظريين المتعصبين الذين أحدثوا الفوضى وأرادوا
أن
تبقى ألمانيا متردية في أحضان الاضطراب والثورة. وحدث قبل ذلك بيومين، في ١٤-١٥ يونية
أن
نصح السنيور موسوليني الهر هتلر عند اجتماعهما في البندقية، بأن يقبض على أزِمَّة الأمور
بيدٍ من حديد، ويسلك في سياسته الداخلية والحزبية طريقًا لا يعرف الهوادة أو الشفقة؛
لذلك
لم يأتِ يوم ٢٠ يونية سنة ١٩٣٤ حتى كان اليونكر، وكبار الصناع والممولين، والريشفهر،
والنازيون الرجعيون قد انتهوا فيما بينهم من تأليف جبهة متحدة على استعداد تام ومهاجمة
العناصر المعارضة في داخل الحزب النازي نفسه، وما هي إلا عشرة أيام حتى قامت حركة التطهير
الأولى بين النازيين في حادث «حمام الدم» المشهور في ٣٠ يونية ١٩٣٤.
•••
ذلك بأن النازيين كانوا معتمدين في دعم سلطانهم في العام الأول من حكمهم على جند
الهجوم S. A. أصحاب الأردية السمراء، وكان عددهم يبلغ
المليونين أو الثلاثة ملايين. وقد قام جنود الهجوم بما كُلفوا به على خير وجه حتى غصت
السجون ومعسكرات الاعتقال بأعداء النازيين والمشتبه في ولائهم ومن إليهم، واستمر هذا
الإرهاب عامًا كاملًا، ولكن سرعان ما تبين بعد هذا النجاح أنه لم يصبح لدى جنود الهجوم
واجبات معينة يكلَّفون بأدائها، هذا إلى أن الهر هتلر كان يجد قوة كبيرة أخرى يستند إليها
في جماعة جند الحرس S. S. وفي قوة الجستابو ذات الخطر، كما
أصبح في استطاعة «الفوهرر» أن يعتمد الاعتماد كله على تأييد «الريشفهر» بنوع خاص؛ لأن
وزير
الحربية الجنرال فون بلومبرج Blomberg كان من كبار
المعجبين به، فانتفى لذلك كل سبب يدعو إلى بقاء جنود الهجوم، وأصبح من الضروري تسريح
هذه
القوة. ولكن هذا لم يرُق في عين رئيس جنود الهجوم، الكابتن «إرنست
روم Roehm»؛ لذلك تقدم إلى مجلس الوزراء باقتراح يقضي بإدماج جنود الهجوم في
الجيش النظامي «الريشفهر» لتأليف جيش وطني ألماني كبير برئاسته، فعارض هذا الرأي كل من
«فون
بلومبرج» وزير الحربية و«فون فريتش Fritsch» القائد العام،
بدعوى أن هذا الإدماج من شأنه القضاء قضاءً مبرمًا على الجيش النظامي، فاتخذ «روم» من
هذه
الدعوى وسيلة لمهاجمة القواد الذين أيدهم جميع الوزراء الرجعيين أمثال جورنج وهيملر «رئيس
جند الحرس S. S.»، وكبار الصناع والممولين واليونكر،
ثم طلب هؤلاء جميعًا إلى هتلر أن يسرح جند الهجوم.
ولما كان النظام النازي بعد أن مضى عليه عام بطوله لم يفلح في تخفيف وطأة الأزمة
الاقتصادية، بل كان من نتائج السياسة التي انتهجها الريخ في هذا العهد إقامة الحواجز
الجمركية والتقليل من استيراد المواد الغذائية بكل وسيلة؛ حتى يتسنى للدولة جلب المواد
الضرورية لصنع الأسلحة وما إليها، فقد ساء عيش الشعب الألماني، كما حدث لأول مرة منذ
سنوات
عدة عجز في ميزان ألمانيا التجاري، وتوترت من جراء ذلك كله الأعصاب، وكثر التذمر والاحتجاج
في كل مناسبة ومن كل جانب. وساء هتلر أن يشهد في الوقت نفسه انقسامًا في صفوف حزبه، وكانت
ريح هذا الانقسام تهب من ناحيتين: ناحية «روم» وأنصاره من جند الهجوم وكانوا في الحقيقة
شراذم مجندة من عامة الشعب والسوقة، وعنصر اضطراب وفوضى، لا يعرفون قانونًا، ولا يردعهم
رداع، وناحية الراديكاليين من أنصار «جريجور ستراسر» وقد سبق الحديث عنهم. إزاء ذلك قرر
«الفوهرر» أن يطهِّر الحزب من كل هؤلاء بضربة قاصمة مروعة تنشر الذعر والهلع في قلوب
النازيين جميعًا، وتجعلهم يتذوقون طعم الإرهاب الذي طالما أذاقوه غيرهم.
لذلك أجاب هتلر طلب «الريشفهر»، ووقع اختياره على اليوم الأول من شهر يولية تاريخًا
للبدء
في فض تشكيلات جند الهجوم — في مدى شهرين فحسب! — على ألا يصرح لهؤلاء الجند في أثناء
هذه
المدة بارتداء قمصانهم السمراء، وقد أثار هذا القرار موجة من الاستياء عظيمة في صفوف
هذه
القوة التي كانت تعتبر «الفوهرر» مدينًا لها بكل نجاح أحرزه منذ بُدئ في تكوين الحزب.
ومع
هذا فلم يكن هناك ما يدل على أن «روم» نفسه أو غيره من قواد الهجوم الآخرين يعتزمون معارضة
هذا القرار أو مقاومة الهر هتلر، ولكن موجة التذمر كانت من الشدة بحيث أقضت مضاجع زعماء
«الريشفهر»؛ فشرع الجيش النظامي يستعد لمواجهة نضال مرير توقع حدوثه قريبًا مع جنود الهجوم،
ويبدو أنه كان لا بد من حدوث انقسام داخلي كبير أو حرب أهلية مروعة تفضي إلى تدهور الحزب
النازي وفنائه في النهاية إذا ترك «جنود الهجوم» وشأنهم. لذلك رأى هتلر أن الساعة قد
أزفت
للقيام بعمل حاسم.
عندئذ أصدر الفوهرر أوامره المشددة إلى كل من جورنج وهيملر، بشأن ما يجب عليهما القيام
به
في برلين. وفي مساء ٢٩ يونية استقل طيارة مع «جوبلز» إلى ألمانيا الجنوبية، فبلغ ميونخ
في
الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي «٣٠ يونية»، وكان هتلر في المساء السابق قد طلب
إلى
«واجنر Wagner» حاكم ميونخ تليفونيًّا أن تُتخذ
التدابير الكفيلة بالقضاء على زعماء جند الهجوم، وصدع الحاكم بأمره، ولقي كثيرون من هؤلاء
حتفهم، واستطاع هتلر عقب وصوله إلى ميونخ أن يقف من «واجنر» على نتيجة هذا التطهير الأول،
ثم استقل سيارة مع فريق من حرسه الخاص إلى ضاحية «فايسي Weissee» على مسافة عشرين ميلًا من ميونخ، حيث كان يقيم «إرنست روم» وغيره
من زعماء «الهجوم» يقضون عطلتهم ويستعدون في الوقت ذاته لحضور اجتماع كان من المزمع عقده
في
اليوم التالي بحضور «الفوهرر» نفسه. وفي الساعة السادسة صباحًا بلغ هتلر وجماعته المكان
الذي كان فيه «روم»، فأيقظوه من نومه وقبضوا عليه بحضور هتلر، ثم اقتحموا في جناح آخر
غرفة
أخرى كان يقيم بها «أدموند هاينس Heines» مع رفيق له، هو
سائق سيارته، وقد وجدا معًا في فراش واحد، فأطلق المقتحمون عليهما الرصاص. وفي ميونخ
نفسها
استولى «ردولف هيس Hess» على «البيت الأسمر» مقر النازيين
في هذه المدينة، ووضع به حراسًا من جند الحرس S. S.، كما
ألقي القبض في ذلك اليوم على عدد آخر من زعماء جند الهجوم في ميونخ وفي «فايسي»، أما
«روم»
فقد أُلقي في السجن وأُعطي مسدسًا ينتحر به، ولكنه رفض مصممًا على أن يكون موته على يد
هتلر
نفسه، وعندئذ أطلق عليه جند الحرس الرصاص وقتلوه في عصر اليوم التالي «أول يولية
١٩٣٤».
وأما بقية فصول هذه المأساة؛ فقد تولى كل من جورنج وهيملر تمثيلها في برلين العاصمة؛
إذ
انتهز الرجلان هذه الفرصة لاغتيال أعدائهما القدماء وكل من رغبا في التخلص منه لسبب شخصي.
وعلى هذا قتل جند الحرس عددًا كبيرًا من زعماء الكاثوليك والقواد والوزراء السابقين ورجال
الأكليروس وغيرهم، كما قبض الجستابو في يوم ٣٠ يونية على «كارل إرنست» من زعماء جند الهجوم
ومن أقرب المقربين إلى «روم»، وكان «كارل إرنست» في بريمن في طريقه إلى الآزورا لتمضية
شهر
العسل مع عروسه، فحملوه بالطائرة إلى برلين وأعدموه رميًا بالرصاص. ومما هو جدير بالذكر
أن
هؤلاء جميعًا لقوا حتفهم وهم ينادون: «يحيا هتلر!» مما يدل على أنهم ما كانوا قط يتوقعون
الغدر من جانبه، ومما يدحض مفتريات الفوهرر حين ادعى فيما بعد أن جميع هؤلاء كانوا يدبرون
ثورة داخلية حددوا لإشعالها اليوم نفسه الذي أوقع فيه الفوهرر هذه المجزرة الدموية بهم.
وكان من بين ضحايا هذا التطهير الدموي، رئيس حكومة بفاريا القديم «جوستاف فون كار Kahr» الذي كان من بين المتسببين في إخفاق «حركة الانقلاب»
التي قام بها الهتلريون في ميونخ في ٩ نوفمبر ١٩٢٣، فرغم سنه المتقدمة «٦٣ عامًا» أرسله
النازيون إلى معسكر الاعتقال في «داشو Dachau» حيث لقي
حتفه بعد تعذيب أليم، وكذلك لقي «جريجور ستراسر» مصرعه في منزله، كما قُتل الأب ستامبفل Stampfle، وهو القسيس الذي ساعد الهر هتلر في تدوين كتابه
«كفاحي»، والجنرال فون شليخر، قتله الجستابو الذين هاجموه في منزله كما قتلوا زوجه التي
أرادت حمايته. وكان عدد الذين أُعدموا في «حمام الدم» المشئوم يزيد على الألف، وهكذا
قضى
الهر هتلر على جنود الهجوم وحل تنظيماتهم.
•••
وكان من عوامل نجاح الهر هتلر في التغلب على جنود الهجوم ونشر الرعب والإرهاب في
ألمانيا
— وبخاصة في أثناء أزمة حمام الدم السابقة — أنه استطاع منذ وصوله إلى منصب المستشارية
إعداد بوليس الدولة السري الألماني المعروف باسم الجستابو Gestapo —مختصر Geheime Staatspolizei —
على أن تكون مهمته القضاء على جميع المعارضين لشخص الفوهرر ولنظام الديكتاتورية
النازية.
وكان تأسيس الجستابو على يد هرمان جورنج في أبريل ١٩٣٣، على أن يكون نشاط رجاله مقصورًا
على بروسيا وحدها، وكان جورنج في ذلك الحين يتولى رئاسة الوزارة بها إلى جانب وظائفه
الأخرى
المنوعة، هذا بينما كُلفت قوات البوليس السياسي في «ولايات» الاتحاد الألماني الأخرى
بتأدية
أعمال وواجبات البوليس الوطني الاشتراكي السري. بيد أن المدة التي ظل الجستابو في أثنائها
مخصصًا للعمل في بروسيا كانت قصيرة. وقد أصدر النازيون عدة قوانين لتنظيم شئون التوظف
في
الاتحاد الألماني أُقصي بمقتضاها غير الآريين والمعروفون بعدائهم أو معارضتهم للنازية
وجميع
المشتبه في أمرهم من الوظائف التي يشغلونها، كما أوجدت هذه القوانين نوعًا من التنسيق
الدقيق بين المؤسسات العامة والخاصة مطابقًا لما تدعو إليه تعاليم الوطنية الاشتراكية
والفلسفة النازية، ثم عُين بمقتضى أحد هذه القوانين ويُسمى قانون الوصاية Statthaltergesetz حكام أو «أوصياء Reichsstatt halter» يتراوح عددهم بين اثني عشر وأربعة عشر
حاكمًا مسئولين أمام الزعيم أدولف هتلر نفسه. وقد ضمن وجودهم في الحكومات الإقليمية —
أي
حكومات ولايات الاتحاد — استخدام الشرطة لمصلحة النازيين. ومما ينبغي ذكره أن هؤلاء الحكام،
أو الأوصياء، كانوا غير القادة أو الزعماء الذين كان الحزب النازي نفسه يختارهم للإشراف
على
نشاط الحزب وإدارته في «المناطق الحزبية» التي أوجدها الهتلريون في ألمانيا، ويُسمى هؤلاء
«بزعماء الأقاليم Gauleiter».
ومع وجود هذه التنظيمات أدرك النازيون أهمية تعزيز السلطة المركزية الداخلية، فانتهزوا
فرصة مرور عام على وصول أدولف هتلر إلى منصب المستشارية وأنشئوا نظامًا جديدًا في ٣٠
يناير
سنة ١٩٣٤، وضع «البوليس» بمقتضاه تحت إشراف الريخ، وجعل الإشراف على إدارته من نصيب ولايات
الاتحاد الألماني، وهي التي أصبحت منذ صدور «قانون الوصاية» السابق عبارة عن مقاطعات
إدارية
ليس غير. ثم ظل «بوليس» الريخ الألماني الجديد مفتقرًا إلى زعيم يستقل بالهيمنة على شئونه،
غير وزير الريخ للشئون الداخلية الذي يُعد بحكم منصبه مسئولًا عن هذه القوة، حتى عُين
«هنريك هيملر» في أبريل ١٩٣٤ رئيسًا لأهم فروع هذا «البوليس» وهو الجستابو، وكان هيملر
ممن
اشتركوا في تنظيم «جنود الحرس S. S.»، ثم عُين زعيمًا لهم
في عام ١٩٢٩، كما أنه كان من كبار النازيين الذين قاموا بتنظيم المخابرات السرية في داخل
ألمانيا وفي البلدان الأجنبية، ثم لم يلبث أن عُهد إليه بسبب هذه الخبرة الواسعة برئاسة
البوليس السياسي في نوفمبر ١٩٣٣ أولًا في همبرج ثم في مكلنبرج ولوبك، وثورينجيا، وهيس،
وبادن، وسكسونيا، ثم عيَّنه «جورنج» رئيسًا للبوليس السري في حكومة بروسيا. وهكذا بعد
مضي
أقل من ثلاثة شهور على وضع «البوليس» تحت إشراف الريخ، عُين هنريك هيملر رئيسًا «للبوليس
السري» في دولة الريخ قاطبةً. وفي أثناء حوادث «حمام الدم» المعروفة، كان هيملر رئيس
قوة
الجستابو الرهيبة.
وظل الجستابو يعمل دون أن يحدد القانون وظائف رجاله؛ بل كان كل ما حدث في هذه الناحية،
أن
صدرت قرارات أو مراسيم بالموافقة على إجراءات ما يُعرف باسم «الحبس الوقائي» في ٢٨ فبراير
١٩٣٣ و٨ مارس ١٩٣٤، كما قررت محكمة الإدارة البروسيانية في ٢ مايو ١٩٣٥ أن «البوليس السري»
لا يخضع للرقابة القضائية، ثم لم يلبث أن تأيد هذا الحكم بصدور قانون بروسياني جديد في
١٠
فبراير ١٩٣٦، جاء فيه:
أن أوامر وأعمال البوليس السري لا تدخل تحت إشراف المحاكم الإدارية، أو في دائرة
بحثها.
هكذا ظلت جميع الشئون المتعلقة بنشاط الجستابو لا يوضح معالمها أو يبين حدودها قانون
في
دولة الريخ الثالث، بل إن كل ما صدر في هذا الموضوع كان لا يخرج عن تحديد مركز هيملر
إزاء
وزير داخلية الريخ من حيث مسئولية رئيس الجستابو أمامه، وتعيينه نائبًا له في حالة غياب
الوزير، وزيادة على ذلك، أعطى هيملر مقعدًا في مجلس الوزارة كلما اجتمع الوزراء لبحث
المسائل المتعلقة بأعمال «البوليس».
ولعل أهم ما يُلاحظ في ذلك كله، أن الجستابو كان مستقلًّا كل الاستقلال عن الرقابة
القضائية. وقد تقدم كيف قضت المحكمة الإدارية البروسيانية في ٢ مايو ١٩٣٥ بعدم خضوع البوليس
السري لهذه الرقابة، وجاء في هذا الحكم أيضًا أن أي أمر يصدره الجستابو بسجن الأفراد
في
«الحبس الوقائي» لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون موضع معارضة في المحاكم القانونية،
ثم
تأيد هذا الحكم في الفترة التالية، عندما صدرت أحكام أخرى بهذا المعنى أيضًا في عام ١٩٣٦،
وفي نفس العام صدر قانون مشهور وضح أعمال الجستابو ومدى نشاطه، فجاء في هذا القانون ما
معناه: «أن من واجب بوليس الدولة السري أن يكشف أمر جميع القوى المتضامنة التي يعتبر
وجودها
خطرًا على الدولة وأن يقاومها، ومن واجبه كذلك أن يجمع ويقدر النتائج التي يسفر عنها
هذا
البحث، على أن يخبر الحكومة بهذه النتائج، وأن يضع تحت تصرفها كل ما يجمعه من أدلة وبراهين،
ثم يفصل رئيس بوليس الدولة السري بالاتفاق مع وزير الداخلية في المسائل التي ينبغي أن
تكون
العناية بها من نصيب بوليس الدولة السري، وعلى أن يجري الفصل في كل مسألة على حدة.»
ووسائل الجستابو في أعماله ثلاث: الإنذار أو التحذير، والحبس الوقائي، والإرسال إلى
معسكرات الاعتقال. وقد جرت العادة عند الرغبة في التحذير، أن يُستدعى الشخص المراد إنذاره
إلى أقرب مركز للبوليس السري، ويتلو الجستابو عليه بعض الحقائق المتعلقة بحياته الخاصة،
وما
يكون قد تفوه به من أقوال لا يرضى الجستابو عنها، ثم يحذره من العودة إلى ذلك وإلا أُرسل
إلى معسكر للاعتقال، أما مسألة «الحبس الوقائي» — فهي بحاجة إلى شيء من البيان والتفسير.
والأصل في الحبس الوقائي أنه كان مخصصًا لوقاية الأفراد الذين لم يرتكبوا جرمًا معينًا،
وإنما توصلوا بسبب مسلكهم إلى إثارة كراهية الجماهير ضدهم إلى حد يخشى معه أن يلحق بهم
مكروه على أيدي الجماهير لو أنهم تُركوا وشأنهم، فلا تجد الشرطة مناصًا في هذه الحالة
من
حجزهم في مركز «البوليس» لوقايتهم من سخط الجماهير عليهم. غير أنه عندما وصل الوطنيون
الاشتراكيون إلى الحكم قبض رجال الشرطة على عدد عظيم من الأفراد وأودعوهم الحبس الوقائي
من
غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ومن غير أن تتحقق الشروط المتقدمة في أحوال المقبوض عليهم. وعلى
هذا خرج الحبس الوقائي عن كونه إجراء تقتضيه حماية الأفراد من بطش الجماهير، إلى إجراء
صار
الغرض منه مجرد «حماية» الدولة من نشاط أفراد اعتبرهم النازيون أعداءً لهم. أما معسكرات
الاعتقال فكانت أشد الوسائل خطرًا، وكثيرًا ما لجأ إليها الجستابو للقضاء على أعداء النظام
النازي في ألمانيا، ومع أنه كان من المتعذر وقتئذ معرفة عدد هذه المعسكرات بالدقة، فقد
اكتسبت بعضها شهرة سيئة كبيرة حتى أصبحت أماكنها معروفة، ومن بينها معسكر الاعتقال في
«أرانينبرج Oranienburg» ثم في «بوشنفلد Buchenweld» و«داشو Dachau» و«ساشسنهاوسن Sachsenhausen»
وغيرها. وكان من بين هذه المعسكرات ما هو مخصص لاعتقال النساء.
ومع أن نظام الجستابو كان من الأسرار التي حرص النازيون على عدم إفشائها بحيث لم يكن
يعرف
دخائله سوى عدد قليل من كبار الزعماء النازيين أنفسهم، فقد استطاع أنصار المقاومة الخفية
في
أوروبا النازية الوقوف على حقيقة هذا النظام الذي كان من نتائجه انتشار وكلاء الجستابو
للتجسس على حياة الأفراد الخاصة والعامة في كل ركن وزاوية.
وكانت قوة الجستابو موزعة على دوائر Kreise ثلاث:
الدائرة الأولى Kreis I: كان مقرها شارع البرنس ألبرت
في برلين، وكانت فروعها منتشرة في أرجاء ألمانيا، وهي الهيئة التنفيذية لقوة البوليس
السري
المخصصة للتجسس على الشئون الداخلية، وكان رجالها ينبثون في كل قرية، ويشرفون على أعمال
البوليس العادي — أي رجال الأمن المحلي — كما كان من اختصاص هذه الدائرة الهيمنة على
معسكرات الاعتقال.
أما الدائرة الثانية Kreis II: فكان مقرها في ميدان
إسكندر، وكانت تختص بالإشراف على أعمال ونشاط الدائرة الأولى، وتتولى «مراقبة» البريد
والتليفون والبرق، وينتشر رجالها على حدود الريخ، وفي مكاتب السياحة والسفر، وفي المطارات
المدنية، والفنادق الكبيرة. وزيادة على ذلك كانت هذه الدائرة تتولى الإشراف على جميع
الوكلاء وأعضاء الهيئات النازية في الخارج، كما تقوم بتوجيه نشاطهم، فكان يذهب في كل
ثلاثة
شهور مفتشون يمثلون هذه الدائرة لزيارة المراكز الفرعية الموزعة في أنحاء العالم، وكان
«الجستابو الأجنبي» منفصلًا كل الانفصال عن البعوث والهيئات الدبلوماسية العادية، ولو
أن كل
سفارة أو مفوضية أو قنصلية في البلدان الأجنبية لم تكن تخلو من وجود رجل من الجستابو
يعمل
ضمن موظفيها.
وفي الدائرة الثالثة Kreis III: كانت تتركز سلطة الإشراف
التام على نشاط الجستابو في الدائرتين السابقتين، وكانت هذه السلطة في أيدي جماعة من
ذوي
الشخصيات المجهولة، ومن المعتقد أنهم كانوا يتلقون تعليماتهم من مكتب هنريك هيملر نفسه،
وهو
مقر جنود الحرس S. S. المخصصين لحراسة مستشار الريخ —
ورئيس الدولة — بعد أن توفي هندنبرج في ٢ أغسطس ١٩٣٤. وكانت مهمة أعضاء الدائرة الثالثة
إلى
جانب الإشراف على أعمال الدائرتين الأولى والثانية ملاحظة سلوك موظفي الحكومة قاطبة،
بما في
ذلك المبعوثون السياسيون والعسكريون في الخارج، ومراقبة نشاط الهيئات الدبلوماسية والقنصلية
في البلدان الأجنبية.
وإلى جانب هذه الدوائر، كانت هناك دائرة رابعة Kreis IV:
تعمل على توجيه نشاط وكلاء الطابور الخامس في أنحاء العالم، على أن تتعاون في ذلك مع
قسم
الجاسوسية العسكرية برآسة الكولونيل نيكولاي Nicolai وكان
من ذوي السمعة السيئة.